St-Takla.org  >   books  >   fr-tadros-malaty  >   chrysostom
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

القديس يوحنا ذهبي الفم (سيرته، منهجه وأفكاره، كتاباته) - القمص تادرس يعقوب ملطي

6- الشماسَة أولِمبِياس

 

شركة عطاء الألم
سرّ الصداقة
1. محبته لها
2. إعجابه بها
3. ثقته فيها
الحواشي والمراجع

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

برزت سيرة القديسة أولمبياس كشماسة في تاريخ الكنيسة بفضل توجيهات أبيها الروحي الأسقف يوحنا، الذي التقي بها بعد رسامته أسقفًا، فرأى فيها مثالًا طيبًا لمحبة الفقراء والصلاة مع النسك، دعاها القديس غريغوريوس النزينزي "مجد الأرامل في الكنيسة الشرقية".

تنتمي أولمبياس إلى عائلة غنية، فقد استطاع جدها أبلافيوس Ablavius أن يصير مقربًا للملك ثيؤدوسيوس، لا بسبب غناه أو شرف عائلته، إنما بجهاده الشخصي(17)، فصار واليًا على القسطنطينية، أما والدها سيليكوس Seleucus فلا نعرف عنه شيئًا سوى أنه كان أحد الولاة.

ولدت أولمبياس حوالي عام 368 م.، وتيتمت وهى بعد صبية صغيرة، فتكفل برعايتها عمها بروكوبيوس Procopius، إنسان مسيحي تقي، صديق القديس غريغوريوس النزينزي(18).

نشأت أولمبياس في جوٍ من الترف والتدليل، لذا مدحها القديس يوحنا في إحدى رسائله لها(19)، قائلًا لها: إنه لم يكن سهلًا أن يخرج من هو مثلها تمارس منذ شبابها المبكر حياة التجرد والإماتة مع ما تملكه من غنى وجاه وارتباط عائلتها بالبلاط.

أما عن تعليمها، فقد كانت بحق سعيدة أن توضع بين يديّ ثيؤدوسيا Theodosia أخت القديس أمفلوكوس Amphilocus أسقف Iconium، سيدة تقية مثقفة شهد لها القديس غريغوريوس النزينزي في رسالة كتبها إلى أولمبياس يقول فيها: [لتكن مثلًا حيًا لك في كل قول وفي كل فعل(20).]

ولا يستبعد أن يكون القديس غريغوريوس نفسه قد ساهم في تربيتها الدينية أثناء أسقفيته على القسطنطينية. فهو يعلن سروره بدعوتها له "أباها"... ويكتب إليها قائلًا "ابنتي"، بل يدعوها "أولمبياستي My own Olympias".

St-Takla.org Image: Saint Jean Chrysostome with saint Grégoire of Nazianze, Russia, 18th century صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس يوحنا الذهبي الفم (جون كريسوستوم) مع القديس غريغوريوس النزينزى، روسيا، القرن الثامن عشر

St-Takla.org Image: Saint Jean Chrysostome with saint Grégoire of Nazianze, Russia, 18th century

صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس يوحنا الذهبي الفم (جون كريسوستوم) مع القديس غريغوريوس النزينزى، روسيا، القرن الثامن عشر

لقد تشربت أولمبياس بالكتاب المقدس، إذ جاء في حياتها [كنت خاضعة لتعاليم الكتب الإلهية في كل شيء(21).] ونستطيع أن ندرك مدى تعرفها على الكتاب المقدس من رسائل الأسقف لها، فقد جاءت تحمل الكثير من النصوص الكتابية يفهم منها أنها على دراية بالكتاب. كما أهداها القديس غريغوريوس النيسي كتابه في تفسير نشيد الأناشيد بكونها قادرة على تقدير قيمته.

ذكر أيضًا المؤرخ بالاديوس تأثرها بالأم ميلانية الكبرى Milania the Elder، التي يكتب عنها ممتدحًا إياها بصورة فائقة في كتابه التاريخ اللوزياكي (22) The Lausaic History. لقد كانت مُحبة للبتولية والرهبنة في نسكٍ عجيبٍ مع قدرة فائقة على الاطلاع، إذ يقول عنها(23): [حولت الليل نهارًا، تفتش كتابات المفسرين القدامى، قرأت ثلاثة ملايين سطرًا لأوريجينوس، ومليونين ونصف لإغريغوريوس وإستفانوس وبيروس وباسيليوس وغيرهم -من العظماء- لم تكن تقرأ هذه مرة واحدة فقط ولا في عجالة، إنما تدرس كل عمل في دقة سبع أو ثمان مرات. وهكذا استطاعت بفضل هذه الكتب، أن تتحول في رجاء صالح إلى طائر روحي منطلق نحو المسيح(24).]

على أي الأحوال كسبت أولمبياس عنها روح القراءة والحكمة، حتى قيل إن النساء الشريفات اللواتي كن يحطن بالإمبراطورة تميزن بالخفة والاهتمام الزائد بالملبس مع السلوك الشرير، أما أولمبياس فكانت تظهر بينهن الإنسانة التقية الحكيمة.

هذه صورة أولمبياس وهي بعد في السادسة عشر من عمرها، تحمل سمات طيبة مع غناها، كما اشتهرت بجمالها أيضًا، فتقدم لها نيبريديوس Nebridius والي القسطنطينية ليتزوجها عام 384م، وكان بين المدعوين القديس غريغوريوس النزينزي، الذي كتب إليهم يأسف لعدم حضوره مراسيم الزواج بسبب شدة مرضه، قائلًا لها [بالرغم من مرضي فإني أشارككم الاحتفال، إذ أربط يدي الشابة والشاب معًا في يد الله(25).]

كما أرسل للعروس قصيدة شعرية تحمل نصائح حكمية تدور حول أفكار ثلاث رئيسية تخص المرأة المسيحية. وملبسها، وسلوكها مع زوجها، وعملها المنزلي.

فمن جهة الملبس اعترض بشدة على استخدام التجميل الصناعي والمبالغة الزائدة في الملبس والتزين بالحلي الكثير الملفت للنظر دون أن يرفع من قيمة النفس. لقد قال لها [ليكن التواضع هو همك، فإنه يجذب أنظار الناس إليك، حتى إن كانوا مغمضي العين!]

أما عن سلوكها مع زوجها، فقد كشف عن الدور العظيم الذي تستطيع أن تقوم به المرأة في حياة زوجها، فهي تقدر أن تسكب عليه التعزية والسلام. فإن كان كالأسد تستطيع بلطفها أن تروضه، تقدر بوجهها الباش المملوء هدوءًا أن تخلصه من الهموم. إنها ملتزمة أن تشاركه أفراحه وأحزانه.

أما عن عملها المنزلي، فقد وضع لها برنامجًا للحياة المنزلية البسيطة، البعيدة عن الانشغال بالملاهي والمسارح والأندية وكثرة الزيارات والولائم، لتتفرغ للقراءة(26).

يقول بالاديوس(27) إنها لم تبقَ مع زوجها إلا أيام، وقد قيل أنها ماتت عذراء، إذ لم تكن زوجة لإنسان بل لـ "كلمة الحق" وحده. لكن البعض يقدر فترة بقائها مع زوجها بعامين(28). على أي الأحوال لقد أحست أولمبياس أن الله قد سمح لها بالترمل لكي لا ترتبك بعد في اهتمامات العالم، بل تكرس حياتها ومالها لخدمة الله. لذلك عندما أراد لها الإمبراطور ثيؤدوسيوس أن تتزوج من أحد أقربائه ألبيديس Alpidius الأسباني رفضت بشدة، قائلة: [لو كان الله يريدني أن أعيش زوجة لما أخذ مني تبريديوس!] وإذ ضغط عليها استمرت في الرفض، فأمر أن توضع ممتلكاتها تحت الوصاية حتى تبلغ الثلاثين من عمرها. أما والي المدينة، فأراد أن يشدد الضغط عليها لعلها ترضخ لطلب الإمبراطور، فمنعها من رؤية الأساقفة أو الاشتراك في العبادة الكنسية، أما هي فكما جاء في سيرتها "مثل غزال قفزت متخطية فخ الزواج الثاني(29)".

لقد كتبت إلى الإمبراطور ثيؤدؤسيوس تشكره أنه رفع عنها نير تدبير أموالها، وأنه بالأحرى يكمل سرورها بالأكثر لو أمر بتوزيع أموالها على الفقراء(30). كان لهذا الخطاب أثره على الإمبراطور خاصة وأنها انطلقت في الشرق تقضي أربعة أعوام لتعود بعدها تمارس الحياة النسكية في غيرة متقدة. دهش الإمبراطور فأعاد إليها ممتلكاتها سنة 391م، ورد لها حرية التصرف. أما هي فتقدمت للقديس نكتاريوس أسقف القسطنطينية تطلب تقديم كل حياتها لخدمة الله. فرسمها شماسة وهي بعد صغيرة في السن. فقامت بإنشاء بيت للعذارى يقع ما بين كنيسة السلام وكنيسة أجيا صوفيا، تجمع فيه العذارى والأرامل اللواتي يردن خدمة الله.

تلألأت حياة الشماسة أولمبياس، إذ فتحت قلبها لمحبة الفقراء بصورة أدهشت الكثيرين، فقيل في مديحها: "تسمع الإمبراطورة أفدوكسيا آيات الإكرام والتبجيل من كل بقاع العالم، أما أولمبياس فتسمع تنهدات العالم كله ودعواته!"

صارت محبوبة من الشعب ومُكرمة أيضًا من الأب البطريرك، فقد أخبرنا بلاديوس(31) أن الطوباوي نكتاريوس كان يكرمها جدًا ويستشيرها في بعض شئون الكنيسة رغم صغر سنها. ولقد لخص لنا حياتها بقوله [وزعت كل مقتنياتها على المحتاجين. صارعت من أجل الحق، هذبت نسوة كثيرات، تناقشت مع كهنةٍ في وقارٍ، كرمت أساقفة، واستحقت أن تكون "معترفة" في سبيل الحق، فإن الذين يعيشون في القسطنطينية يحسبونها ضمن المعترفات والمعترفين، إذ ماتت ورحلت إلى الرب في كفاحها من أجل الله(32).]

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

شركة عطاء الألم

ما أن تسلم القديس يوحنا رعاية شعبه حتى فتح قلبه كله بالحب نحو الفقراء، فالتقى خلال "محبة الفقراء" بأولمبياس بكونها "أمًا حنونًا للفقراء" ولعل هذا هو سرّ الارتباط القوي الذي توطد بينهما، وزادته الأيام قوة بانفتاح قلبها بالحب نحو المساكين والمتألمين. إن كان القديس يوحنا قد دعي "بالكارز العظيم للصدقة(33)"، الذي صمم إلا يكف عن ممارسة الصدقة والحث عليها كلما سنحت له الفرصة، فقد وجد في أولمبياس قلبًا لا يعرف للعطاء حدًا، حتى اضطر أن ينصحها بتقديم العطاء بحكمةٍ في اعتدال. فإنها إذ وضعت في قلبها أن كل ما تملكه هو للرب، يليق بها إلا تقوم بتوزيعه في غير حكمة. يقول لها: [على أي الأحوال، أنك تقدمين أموالك للقادرين، وهذا غير مفيد لهم، كأنما تلقين بها في البحر. أما تعلمين أنك بإرادتك قد كرستِ كل ما تملكين للفقراء من أجل الله؟ يليق بك إذًا أن تهتمي بثروتك بكونها ملك سيدك. اعلمي أنك تعطين حسابًا عن توزيعها!(34)]

كان الأسقف الجديد أبًا ومرشدًا لها، فأخذ يشجعها على توزيع ممتلكاتها على الفقراء، وإقامة مؤسسات خيرية بالقسطنطينية، كما أعطته أن ينفق بسعة في إرسال بعثات كرازية إلى الفينيقيين بتلال لبنان وسوريا وإلى بلاد القوط والروس.

لقد فاحت رائحة حياتها المقدسة، فاستراح لها الكثير من القديسين. قال عنها الأسقف بالاديوس [إنها امرأة عجيبة... تشبه إناءً ثمينًا مملوءًا بالروح القدس!]

حقًا كانت أولمبياس سندًا قويًا للقديس يوحنا في كثير من خدمته، خاصة بين العذارى والأرامل والنساء والفتيات، وبصورة أقوى في خدمة الفقراء. من خلال هذه الخدمة توثقت روابط المحبة والصداقة بينهما كأسقف مع شماسته، أو كشماسة مع أبيها الأسقف، لم يفصلهما شيء، حتى جاءت لحظات النفي ليفترقا بالقوة. التقى بها القديس مع زميلاتها قبل خروجه للنفي، وإذ أسلم حياته لسلسلة من الآلام، ذاقت هي أيضًا من أجله الكثير من الضيقات، فتلاقيا معًا من جديد خلال "شركتهما في الألم"، فصارت بينهما رسائل محبة متبادلة، مملوءة "تعزيات إيمانية حية".

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

سرّ الصداقة

تعرف عليها القديس يوحنا في الرب، التقى بها كأسقف، بشماسة تخدم إخوة الرب الأصاغر، لذا كان يهتم أن يكتب إليها بلقبها الكنسي في مقدمة رسائله، إذ يقول لها: "سيدتي الشماسة أولمبياس، جزيلة الاحترام، المحبوبة جدًا من الرب. من يوحنا الأسقف، سلام في الرب..."

وقد جاءت رسائله إليها من منفاه تكشف لنا سرّ هذه الصداقة القوية التي قامت بينهما خلال الخدمة في الرب. إنها تقوم على ثلاثة أسس(35): محبته لها، وإعجابه بها، وثقته فيها.

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

1. محبته لها

امتاز القديس يوحنا، مع شدته وحزمه الذي كان أحيانًا يصل إلى العنف، بمحبته العميقة لمن يلتقي بهم وبرقة مشاعره، واتساع قلبه. نستطيع أن نلتمس هذه الأحاسيس في أغلب رسائله التي يبعث بها إلى أساقفة وكهنة ورهبان وشمامسة وعلمانيين، فقد جاءت -وهو يُطحن في مرارة المُر- مملوءة حبًا ولطفًا. على سبيل المثال نقتطف مما كتبه لبعض الكهنة بإنطاكية(36):

"في المال، من يدفع يفتقر ومن يأخذ يغتني، أما في الطمع بالمحبة، فالأمر غير ذلك. فإن من يدفع (حبًا) لا يفتقده كما في المال بل يعود إلى معطيه! دفع الحب يجعل العاطي أكثر غنى عن ذي قبل!

إذ تعرفون هذه الأمور، أيها السادة المكرمون والورعون، لا تكفوا عن أن تقدموا لي هذا (الحب) على الدوام...

St-Takla.org Image: Three Holy Hierarchs (the Three Holy Fathers, Great Hierarchs and Ecumenical Teachers) Saints: St. Basil the Great (Basil of Caesarea), St. Gregory the Theologian (the Nazianzus), and St. John Chrysostom - an icon of 17th cent. from Lipie, Historic Museum in Sanok, Poland. photo: Przykuta, 2007 صورة في موقع الأنبا تكلا: الأقمار الثلاثة الآباء العظام الكواكب: القديس باسيليوس الكبير - القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس (إغريغوريوس اللاهوتي، النزينزي) - القديس يوحنا ذهبي الفم - أيقونة من القرن السابع عشر، من ليبي، في متحف التاريخ بـ: سانوك، بولاندا، تصوير برزيكوتا، 2007

St-Takla.org Image: Three Holy Hierarchs (the Three Holy Fathers, Great Hierarchs and Ecumenical Teachers) Saints: St. Basil the Great (Basil of Caesarea), St. Gregory the Theologian (the Nazianzus), and St. John Chrysostom - an icon of 17th cent. from Lipie, Historic Museum in Sanok, Poland. photo: Przykuta, 2007

صورة في موقع الأنبا تكلا: الأقمار الثلاثة الآباء العظام الكواكب: القديس باسيليوس الكبير - القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس (إغريغوريوس اللاهوتي، النزينزي) - القديس يوحنا ذهبي الفم - أيقونة من القرن السابع عشر، من ليبي، في متحف التاريخ بـ: سانوك، بولاندا، تصوير برزيكوتا، 2007

ومع إنكم لستم في حاجة إلى نصيحتي هذه، إنما أذكركم بها من أجل تعطشي الشديد إلى حبكم..."

هذه المشاعر ظهرت بصورة أعمق خلال علاقته المتبادلة مع شماسته أولمبياس، يظهر ذلك من تلهفهما على الاطمئنان على بعضهما البعض، كل منهما يود أن يعرف أخبار الآخر الروحية والنفسية والصحية بكل دقة.

يكتب إليها قائلًا:

[لا يمكن أن يضايقني إلا شيء واحد، هو أن أكون غير متأكد تمامًا أنكِ في حالة طيبة(37).]

[إذ لم استلم من سموك تألمت كثيرًا(38).]

[ابعثي إليَّ أخبار صحتك دائمًا، فإنك تعرفين بالحقيقة أن تعزيتي تكون كبيرة جدًا في وحدتي عندما أعرف عنك أنكِ دائمًا في أحسن حال.]

[إن أردت أن أكتب إليك رسائل مطولة اخبريني، لكنني أتوسل إليك إلا تخدعيني بالقول أنك قد ألقيتِ عنك كل قنوط، وأنك تتمتعين بفترة من الراحة، فإن الرسائل هي علاج مناسب يهبني فرحًا من جهتك.]

[سترين دومًا رسائل مستمرة من جهتي!]

[عندما تكتبين إليَّ ثانية لا تقولي "أني أجد راحة كثيرة في رسائلك"، فأنا أعلم هذا من نفسي، لكن أخبريني أنك تأخذين ما أتوقه لك: إلا ترتبكي بالحزن، ولا تقضي أوقاتك في البكاء، بل في هدوء وفرح(39).]

لم تقف هذه المحبة عند المشاعر المتبادلة، لكنها في جوهرها هي "تلاق معًا في شخص المسيح"، كل منهما يهتم بالآخر في المسيح يسوع ومن أجل الكنيسة!

كان القلبان مرتبطين معًا في انطلاقة نحو الأبدية. لكنها كإنسانة تخشى على "أبديتها" فوق كل اعتبار يبدو أنها أرسلت تسأله لئلا يكون حزنها على فراقه، واهتمامها بحالته الصحية والظروف المحيطة به، فيه ضعف روحي.

ربما سرّ هذا التساؤل الأقاويل الكثيرة التي أثارها بعض الأعداء ضدها بسبب التصاقها به، فأرسل إليها في شيء من الإطالة يقول(40):

[سيرونك شريكة في الميراث السعيد، مكللة، ومترنمة مع الملائكة، تملكين مع المسيح! أما هم فيصرخون كثيرًا ويولولون نادمين على كلام الطيش الذي أطلقوه ضدك. سيتضرعون إليكِ، ويلجأون إلى تقواكِ ومحبتكِ، لكن هذا كله يكون بلا جدوى...

أنا أعرف أنكِ تتألمين، لا بسبب هذا فحسب، بل لأنك انفصلت عن العدم الذي هو "أنا"، وأنكِ تنتحبين بغير توقف، قائلة للجميع: [لم نعد نسمع هذا الصوت، ولا ننعم بتعاليمه التي اعتدنا عليها، لقد أصابنا الجوع. ما هدد به الله العبرانيين قديمًا نحتمله نحن الآن، وهو الجوع لا إلى الخبز، والعطش لا إلى الماء... بل إلى التعاليم الإلهية.]

[بماذا أجيب؟ في إمكانك أن تعيشي مع كتبنا في غيابنا. وسأبذل كل الجهد إن وجدت فرصة أن أرسل لكِ رسائل كثيرة مطولة. أما إذا رغبتِ في سماع صوتنا، فربما يحين الوقت لتحقيق ذلك وتريننا أيضًا بمعونة الله...

إن كان الانتظار يؤلمك، فأعلمي أن هذا لا يكون بدون فائدة، بل يهبك مكافأة عظيمة إن احتملتيه بنفسٍ قويةٍ، إن كنتِ لا تتفوهين بكلمة قاسية بل تمجدين الله في ذلك الأمر.

حقًا إن النضال في احتمال فراق إنسان عزيز علينا ليس بالأمر الهيِّن، بل يتطلب نفسًا مملوءة شهامة، وفهمًا مملوء حكمة.

من يقول هذا؟ إن كان الإنسان يعرف كيف يحب حبًا عميقًا، إن وجد الإنسان الذي يعرف قوة الحب، مثل هذا يفهم ما أريد أن أقوله.

ولكي لا نتأخر في البحث عن أناس محبين بالحقيقة، إذ هم حقًا نادرون، فإنني أسرع إلى بولس الطوباوي، الذي يخبرنا ماهية هذا النضال، وما هو سمو النفس التي تتطلبه؟

بولس هذا العجيب، الذي بذل لحمه وأنكر جسده، الذي جال في كل الأرض يحمل نفسه وحدها (كأنها بلا جسد)، وقد ألقى عنه كل هوى، وامتثل بالقوات الروحية (العلوية) بإيمانه، وقطن في الأرض كما في السماء وارتفع مع الشاروبيم، واشترك معهم في التسبيح السماوي، واحتمل الآلام... تألم وكأنه يتألم في جسدٍ غير جسده، سُجن، وقُيد بالسلاسل، وقُبض عليه، وجُلد بالسياط، وهُدد بالموت، ورُجم، وأُلقي في البحر، وذاق كل أنواع العذابات، بولس هذا عندما ابتعد عن نفس عزيزة عليه اضطرب وتكدر، حتى هرب من المدينة التي لم يجد فيها من كان يتوقع أن يراه هناك... لقد عرفت ترواس هذا الأمر، فقد تركها لذات السبب، إذ لم تقدر أن تقدم له صديقه. "ولكن لما جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح، وفُتح لي باب في الرب، لم تكن لي راحة في روحي لأني لم أجد تيطس أخي، لكن ودعتهم فخرجت إلى مكدونية" (2 كو 2: 12).

ما هذا يا بولس؟ أنت الذي قُيدت... ودخلت السجن، وحملت آثار السياط، فكان ظهرك لا يزال ينزف دمًا... أنت الذي كنت تعمد وتقدم الذبيحة، أنت الذي لم تحتقر إنسانًا واحدًا يحب أن يخلص، عندما بلغت ترواس ورأيت الأرض صالحة للزرع، ومستعدة للبذر، والصيد سهل وكثير، ألقيت من بين يديك هذا المكسب الهام الذي من أجله أتيت!

تقول "لأجل إنجيل المسيح" بمعنى أنه لا يقف أحد في طريقك من أجل إنجيل المسيح، تقول "انفتح لي باب في الرب"، ومع هذا تهرب سريعًا؟

نعم، بالتأكيد لقد سقطتَ تحت سطوة الحزن، فإن غياب تيطس قد آلمني كثيرًا. غلبني الحزن وسيطر عليَّ حتى وجدت نفسي مضطرًا لهذا.

لقد شعر بذلك بسبب حزنه، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. لسنا نقول هذا توهمًا من أنفسنا، إنما هو يعلمنا ذلك، إذ كشف سرّ خروجه بقوله: "لم تكن لي راحة في روحي لأني لم أجد تيطس أخي، لكن ودعتهم فخرجت".

هل نظرت صعوبة التجربة حينما نضطر أن نحتمل بهدوء الانفصال عمن نحبهم...؟

هذا هو نضالك الحالي! لكن كلما اشتدت الحرب زادت المكافأة، وتلألأت الأكاليل! لتكن هذه هي تعزيتك في انتظارك...!

الذين يحبون بعضهم بعضًا لا يكفيهم الارتباط بالنفس لتعزيتهم، بل هم محتاجون إلى وجودهم معًا بالجسد. وإن لم يوهبوا ذلك ينقصهم الكثير من سعادتهم.

إن رجعنا إلى بولس الطوباوي لوجدنا ذلك (اللقاء الجسدي) أسمى غذاء يسند الإنسان أثناء المحن، إذ يقول في رسالته إلى أهل تسالونيكي: "وأما نحن أيها الإخوة إذ قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب، اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم. لذلك أردنا أن نأتي إليكم أنا بولس مرة ومرتين، وإنما عاقنا الشيطان... لذلك إذ لم نحتمل أيضًا استحسنا أن نُترك في أثينا وحدنا فأرسلنا تيموثاوس أخينا وخادم الله..." (1 تس 2: 17-18 ؛ 3: 1-2)

يا لقوة كل كلمة! فهي تظهر شعلة حب كانت تشرق في نفسه بقوة. فإنه لم يقل "انفصلنا" أو "انتزعنا" أو"تفرقنا" أو "تركنا" بل يقول: "قد فقدناكم". لقد وجد الكلمة الصحيحة ليشير إلى حزن نفسه (إنه في حالة يتم). فمع كونه يحمل أبوة للجميع، لكنه يستخدم لغة الإنسان اليتيم الصغير الذي فقد من وهبه الحياة مبكرًا، مشيرًا بذلك إلى فرط حزنه.

ليس أصعب على الأولاد من اليتم المبكر، إذ لا يقدرون أن يصنعوا شيئًا بمفردهم، ولا يجدون من يحميهم من المهاجمين لهم فإن جيشًا من الناس يهاجمونهم وينصبون لهم الفخاخ، فيصيرون كحملانٍ وسط ذئاب، تمزقهم من كل جهة، وتقطعهم إربًا. ليس من يقدر أن يصف بالكلام مقدار هذه الكارثة. لذلك تردد بولس باحثًا عن تعبير يعلن به عن الترك وشدة الآم، فاستخدم هذه الكلمة مظهرًا ما تألم به بانفصاله عمن يحبهم، وقد سند العبارة بقوله: "إذ قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب". فإن كنا لا نحتمل الألم الناجم عن ذلك، لكن لنا تعزية كافية أننا مرتبطون بالنفس، نحملكم في قلوبنا. لقد سبق أن رأيناكم عن قريب (زمان ساعة). لكن شيئًا من هذا لا يقدر أن ينقذنا من الألم.

لكن، ماذا تريد؟ ماذا تشتهي بشدة؟ رؤيتهم؟ "اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم"..

ماذا تقول، أنت الإنسان الكبير العظيم، أنت الذي صلب العالم لك وأنت للعالم (غل 9: 14). أنت الذي تركت كل ما هو جسدي، أنت الذي كمن بلا جسد. بلغت هذه الدرجة من العبودية في الحب حتى اندفعت بهذا الجسد الترابي -المصنوع من الطين- الذي تراه!

يجيب: نعم، إني لا أخجل من أن اَعترف بذلك، بل افتخر، إذ أحمل في داخلي محبة عظيمة، هي أم كل الفضائل.

هذا ما أبحث عنه، فهو لا يبحث عن اللقاء الجسدي فحسب، بل ويشتهي بالأكثر أن يرى وجوههم.

"اجتهدنا أكثر أن نرى وجوهكم..." نعم يقول هكذا، إذ فيه تتجمع أعضاء الحس، فالنفس وحدها إذا ما ارتبطت بنفسٍ أخرىٍ لا تقدر أن تنطق بشيءٍ ولا تسمع شيئًا. أما إذا تمتعت بالوجود الجسدي، فإني أتكلم بشيءٍ وأسمع من أحبهم. لهذا اَشتهي رؤية وجوههم. فباللسان ينقل الصوت الذي يعبر عن المشاعر الداخلية. والأذنان تستقبلان الكلمات، وبالعينين تترجم حركات النفس. بفضل هذا كله استطيع أن أتمتع بالنفس المحبوبة بطريقة أعظم باللقاء الجسدي..

ولكي يؤكد محبته أكثر من الآخرين عندما قال "اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم" انفصل عن الآخرين وتقدم بمفرده قائلًا "أنا بولس مرة ومرتين.." مشيرًا بهذا أنه أسرع من غيره.]

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

2. إعجابه بها

استطاعت أولمبياس أن تشد أنظار الكثيرين بجمال حياتها الروحية، وكان أول هؤلاء الأسقف يوحنا، الذي عرفها عن قرب كشماسة صريحة تتلمذت على يديه، وكانت تعينه في كثير من أعماله الرعوية.

لقد أُعجب بها أشد الإعجاب كما شهدت بذلك رسائله لها، خاصة رسالته الثامنة. فقد كتب إليها يمدحها، يتفجر كل سطر منها بالإعجاب الفائق بها، حتى ليكاد يضعها فوق كل مستوى بشري، ويرتفع بها إلى ملاك متشبه بالبشر.

أما سرّ مديحه لها فهو ظروفها القاسية، فقد ذاقت الاضطهادات المتلاحقة بسببه والإهانات والشتائم، كما حملت جسدًا امتلأ بالأمراض، أما ما أحزن نفسها وأسقطها في أنين مستمر مفرط كاد أن يهلكها، فهو إحساسها بالظلم الجائر المتزايد ضد أبيها القديس المنفي والمستبعد عن شعبه، كما انكشفت لها ضعفات أساقفة ورهبان وكهنة ورجال بلاط وعلمانيين، فأحست بهلاك كثيرين.

شعر القديس يوحنا بالالتزام الروحي والأدبي أن يكتب لها يحذرها من "الحزن المفرط" على الكنيسة وعليه وعلى هلاك الآخرين، مميزًا بين الحزن المفرط أو القنوط وبين "المخافة المقدسة المملوءة رجاء" كما اضطر أن يمدح فضائلها لكي يغير نظرتها ويوجهها نحو المكافاءات السماوية.

سجل لنا القديس يوحنا أعجب بها في بلاغته المعهودة، فجاءت حياتها الروحية مبالغًا فيها(41).

[هذا الحزن، علاوة على أنه باطل ومفرط فهو أيضًا ضار ومهلك. أما المخافة التي حدثتك عنها، فهي هامة ونافعة وبناءة، هي ينبوع فوائد كثيرة.

إني لم اكتفِ، فإن تيار الكلام قد جرفني، فقدمت لكِ نصائح لا تتناسب معكِ، فإن مثل هذا الحديث نافع لي ولغيري ممن جرفهم تيار الخطية... أما أنتِ فقد تزينتِ بأعمال الفضيلة العظيمة. لقد لمستِ قبة السموات، لذا فهذا الكلام ليس لكِ. أني سأُغير الحديث لأنطق بنغمةٍ جديدةٍ. فإن الخوف لا يمكن أن يصل إليك إلا بالقدر الذي يصل به إلى الملائكة.

إني أغير طريقة حديثي، وأنت أيضًا فلتغيري الموضوع. تذكري مكافاءات أعمال فضائلك العظيمة، والأكاليل المتلألئة، وصفوف العذارى، والقصور المقدسة، وجمال العروش في السماوات، والحياة مع الملائكة، وصحبة العريس، وموكب النور العظيم... الأمور التي تفوق اللغة والتفكير.

لست أخطئ التفكير إن أحصيتك في مصاف العذارى الحكيمات مع أنك أرملة... ليس من يقدر أن يمنعك عن المثول في مصاف العذارى، لا بل فقتيهن كثيرًا.]

[فقط أظهرت في مجالات أخرى حكمة عظيمة، لذلك عندما عرف بولس البتولية أطلق لقب "عذراء" لا على من لم تعرف الزواج وابتعدت عن العلاقة برجلٍ، بل على تلك التي يتركز حبها في أعمال الرب. وقد أشار السيد المسيح نفسه إلى أفضلية العطاء فوق البتولية، وها أنتِ تحملين لواء العطاء وتلبسين تاجه. لقد أخرج السيد نصف العذارى لأنهن لا يقدمن عطاء... إنه يقبل الذين غلبهم العطاء بمجدٍ عظيم، ويدعوهم "مباركي أبي"... إنه لا يتردد في أن يقول لهم أمام الملائكة وقدام الخليقة كلها أنهم أطعموه وآووه.

أنت أيضًا ستسمعين هذا القول المحيي، ستسعدين بهذه المكافأة التي توهب لك بوفرة...

يلزمك أن تبتهجي، تثبي فرحًا، ترقصي طربًا، لا أن تمزقي نفسكِ، لأن هذا قد أسلم نفسه لعملٍ جنوني وذاك اِندفع من العلو إلى الحضيض، لئلا بهذا تفتحي لروحك الطاهرة أن يدخل فيها الشيطان الذي لم تكُفي عن محاصرته حتى اليوم.

كيف أصف صبرك في أوجهه المختلفة، وأشكاله المتباينة، وصوره المتعددة؟

St-Takla.org Image: Three Holy Hierarchs (the Three Holy Fathers, Great Hierarchs and Ecumenical Teachers) Saints: St. Basil the Great (Basil of Caesarea), St. Gregory the Theologian (the Nazianzus), and St. John Chrysostom صورة في موقع الأنبا تكلا: الأقمار الثلاثة الآباء العظام الكواكب: القديس باسيليوس الكبير - القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس (إغريغوريوس اللاهوتي، النزينزي) - القديس يوحنا ذهبي الفم

St-Takla.org Image: Three Holy Hierarchs (the Three Holy Fathers, Great Hierarchs and Ecumenical Teachers) Saints: St. Basil the Great (Basil of Caesarea), St. Gregory the Theologian (the Nazianzus), and St. John Chrysostom

صورة في موقع الأنبا تكلا: الأقمار الثلاثة الآباء العظام الكواكب: القديس باسيليوس الكبير - القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس (إغريغوريوس اللاهوتي، النزينزي) - القديس يوحنا ذهبي الفم

أي مقال يمكن أن يكفي للحديث عن هذا كله؟ فإنه يطول بنا الحديث عن آلامك منذ نعومة أظافرك حتى الآن... آلام من الأقارب وآلام من الغرباء، آلام من الأعداء، آلام من الذين ترتبطين بهم منذ ميلادك، وآلام من الذين لم ترتبطي بهم، آلام من العظماء، وآلام من الفقراء، آلام من الحكام، وآلام من المسئولين، وآلام من رجال الإكليروس...

إن الحديث عن كل تجربة من هذه التجارب بالتفصيل يكفي لتسجيل تاريخ كامل.

إن أردنا، فلننظر إلى هذه الفضيلة "الصبر" من جانب آخر، وهو احتمال آلام فرضتيها على نفسك وليست من عمل الآخرين... لقد حاصرتِ جسدكِ الرقيق المشاعر، الذي تربي في يسر من كل جانب، بآلام مختلفة الأشكال، حتى لم يعد أكثر من جثة هامدة...

أية لغة يمكن أن يعبر بها من يود أن يسجل حزمكِ وسيطرتكِ على نفسكِ أمام المائدة والنوم... لقد بلغت بالسيطرة على ذاتك حد الإماتة. فلم يعد الترفه يحاربك ولا أنت تتعبين من السيطرة عليه بل لقد حطمتيه تمامًا... لقد دربتي معدتك على الاكتفاء في المأكل والمشرب بكمية تكاد تكون كافية لمجرد عدم موتك... فإني لا أدعو هذا نسكًا ولا سيطرة على النفس بل هو شيء أعظم.

هذا أيضًا ما نراه في سهرك المقدس، فقد أخضعتِ الرغبة في النوم بإخضاعك الرغبة في الطعام، لأن كثرة الطعام هي غذاء لكثرة النوم.

كذلك هدمتي الرغبة في النوم بطريق آخر، إذ تدربتي منذ البداية أن تكوني قاسية على الطبيعة، تمضين ليالٍ كثيرة بلا نوم وبالتمرين الطويل صارت هذه العادة (السهر) طبيعية. فكما أن النوم هو طبيعي بالنسبة للآخرين، هكذا السهر بالنسبة لك...

إني أود إلا اَنحرف عن الموضوع الذي وضعت على عانقي أن أبلغ إليه وأنا وسط بحر بلا حدود. فإنه لو لم أهدف إلى انتزاع الحزن من داخل نفسك من جذوره، لسعدت بالإطالة في الحديث عن فضائلك، أركب هذا البحر الذي لا يعرف حدودًا، حيث تتفتح لي طرق كثيرة لكل فضيلة، كل طريق يدخل بنا من جديد في بحر آخر... صبرك، تواضعك، صدقتك بأشكالها الكثيرة التي انبسطت إلى أقاصي الأرض، الرحمة التي أشعلتنها كألف أتون، الفهم المتناهي المملوء نعمة فائقة للطبيعة...

إذ اَختار بعض التفاصيل الخاصة بمظهرك وملابسك، فإنك تُظهرين بساطة بغير تأنق. هذه الفضيلة التي تبدو كأنها أقل من غيرها، لكن من يدقق في الأمر يجدها فضيلة عظيمة، تكشف عن نفس مملوءة حكمة قد وطأت تحت قدميها الأمور الزمنية جميعها، وتنطلق طائرة نحو السماء عينه...!

يعوزني ألف لسان لأنادي باسمك من أجل بساطة مظهرك، إذ تعيشين هكذا بيسرٍ وسهولةٍ.

إني أعجب بهذه البساطة، لا تحملين ما يلفت النظر، لا في ثيابك ولا في حذائك ولا في مشيتك... هنا تظهر كل ألوان الفضيلة التي عبرت إلى الخارج، تعلن عن الحكمة الكامنة في داخلك...

من أجل هذا ندعوك مطوبة -نعجب لابتعادك عن كل هذه الأمور (الزينة الخارجية)- صرتِ مثلًا للنسك بغير تزين...

كما سبق أن قلت أخاف أن أدخل بحر فضائلك غير المتناهي. لقد وضعت في نفسي لا أن أمدح نفسك المقدسة، إنما مجرد أقدم لك دواء التعزية. لنرجع إلى ما سبق أن قلناه قبلًا. ماذا قلت؟ امتنعي عن تساؤلاتك. ما هي خطية هذا؟ وما الذي اقترفه ذاك...؟ إنما اذكري دومًا فضائلك المستمرة... صبرك واعتدالك وصلواتك وسهراتك المقدسة وسيطرتك على ذاتك وعطفك وحسن ضيافتك وتجاربك المتنوعة. اذكري أنك منذ بدء شبابك حتى اليوم لم تكُفي عن تغذية السيد المسيح عندما يكون جائعًا، وإروائه عندما يكون ظمأنًا وكسوته عندما يكون عريانًا، واستقباله عندما يكون غريبًا، والسهر عليه عندما يكون مريضًا، والذهاب إليه عندما يكون مسجونًا.

تأملي عطفك الذي هو كالمحيط، انفتحت مصاريعه إلى أقاصي المسكونة، وانتشر بقوة عظيمة، فإنك لم تكتفي بفتح بيتك لكل آتٍ، بل في كل بقعة في الأرض والبحر تمتع كثيرون بكرمك...

إذ تجمعين مثل هذه الأفكار افرحي وتهللي في رجاء نوال هذه الأكاليل والمكافآت.]

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

3. ثقته فيها

كشفت رسائله عن مدي ثقته بشماسته أولمبياس أكثر من أفضل أصدقائه، فهو يتحدث معها في أدق أموره الشخصية، كما يوكل إليها بمهام متنوعة، لأنها قادرة أن تتحمل المسئولية.

لقد كتب إليها [اهتمي برسائلي بكل الطرق، وإن كان كاهن هيلاديوس ليس في مكانه، اعملي على إرسالها إلى أصدقائي بيد إنسانٍ حكيمٍ وواعٍ(42).] فإنه ليس سهلًا في مثل هذه الظروف أن يوجد الإنسان الشجاع والحكيم، والذي يعرض نفسه للكثير من المخاطر باستلام وتسليم رسائل إنسان منفي.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل نجده يوكل إليها أمرًا دقيقًا، أن تهتم بالنفوس التي تحطمت أو انحرفت بسبب الضيق والأعداء، فيقول لها في ذات الرسالة [لا تكُفي عن الاهتمام بالأسقف ماروتاس Marythas، كأنما تهتمين بنفسك. أنقذيه من الهاوية... ليكن هذا هو شغلك الشاغل(43).]

كما يتعهد إليها في ذات الرسائل أمرًا يراه في منتهي الخطورة، وهو أن الأسقف الذي سبق أن رسمه على بلاد القوط قد تنيح، وأن محاولات رسامة أسقف جديد كانت تسير بطريقة خاطئة، فكتب إليها يحدثها في هذا الأمر ببلاغته كصديق يحدث صديقه في أمر جاد وخطير حيث يستطيع الصديق أن يعمل الكثير، فيكتب لها عن تفاصيل كثيرة تخص شروط الأسقف الذي يسام للقوط، وخطورة سيامة أسقف غير مؤهل لهذا العمل، طالبًا منها أن تبذل كل جهدها أن ترجئ الرسامة بطريقة خفية لا يشعر بها أحد.

 لقد أظهر ثقته بما سجله لها من تفاصيل عن تصرفات أسقف القيصرية فارتريوس Pharetrius ورهبانه معه، وقسوتهم عليه، دون أن يخشى عليها من العثرة.

كتب إليها عن تصرفات بعض كهنة الأسقف، الذين أعلنوا ولاءهم للقديس يوحنا، الأمر الذي يعرض حياتهم للخطر، لذا يكتب إليها قائلًا "لا يعلم أحد غيرك هذا"، "احتفظي بهذا لك(44)".

 أخيرًا فإنه يطلب منها أن تتكشف نيات خصومه وحيلهم لإحباط خططهم حتى يعود إلى كرسيه، ولما فشلت طرقها في أمر عودته كتب إليها يشجعها أنها بذلت ما في وسعها، وأن الله يريد له ذلك لمضاعفة جزائه(45).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(17) Sources Chrétiennes, 13 bis, 1968, p 13.

(18) N & PNF. S. 2, vol 9, P 287.

(19) Epistle 8: 5.

(20) Idem: Carmen ad Olympiadem, v. 97-98 PG 37: 1549.

(21) مخطوط يوناني لا يعرف واضعه، ربما يكون بالاديوس.

(22) Chap, 46, 54.

(23) Chap. 55.

(24) عرض القديس بالاديوس في كتابه "التاريخ اللوزياكي" لسيرة القديسة ميلانية الكبرى والتي يمكن تلخيصها في الآتي:

كانت ميلانية إحدى شريفات روما، أسبانية المولد تزوجت بفاليربوس مكسيموس الذي يحتمل أنه كان واليا على روما عام 362م. وفى سن الثانية والعشرين ترملت حيث كان معها ابنها الوحيد Publicola، الذي لسبب أو لآخر تركته مع أهله في روما، وصار فيما بعد عضوا في مجلس الشيوخ وتزوج بألبانيا، فتاة مسيحية ابنة كاهن وثني اسمه البينيوس. أنجبت ابنة دعتها على اسم جدتها "ميلانية الصغيرة"، التي التهب قلبها بحب البتولية وتكريس حياتها للعبادة، لكن والديها ألزماها بالزواج في الرابعة عشر من عمرها لشاب في السابعة عشر... أنجبت طفلين في كل مرة كان يموت الطفل، غير أنه أثناء ولادتها للثاني تألمت جدًا بل قاربت الموت الأمر الذي جعل زوجها يقبل تكريس حياته معها أن عاشت، وفعلا أنقذت حياتها أما الطفل فمات، فعاشت مع زوجها في البتولية. وقد استراح قلب والدتها وقلب زوجها للحياة النسكية... وبعد وفاة زوجها انطلقت من روما لتنشئ في جبل الزيتون جماعة من المتبتلات.

أما جدتها، ميلانية الكبرى، فلا تعرف سر ترك ابنها الوحيد بروما... لكنها حملت الكثير من الأموال الخاصة بها وأبحرت إلى الإسكندرية، وهناك استبدلت زيها وذهبت إلى جبل نتريا تقابل الآباء مثل بامبو وأورسيسبوس وصرابيون الكبير وبفنوتيوس الاسقيطي واسيدور المعترف وديستورس (أحد الأخوة الطوال)، وبقيت تجول في البرية قرابة نصف عام تطلب اللقاء مع القديسين. وإذ نفي الوالي بعض الآباء مع أثني عشر أسقفا وكاهنا إلى فلسطين سافرت وراءهم وصارت تخدمهم من أموالهم الخاصة، وإذ لم يسمح لهم بدخول خادمها Hylas إليهم لكي يخدمهم تزين في شكل عبد وصارت تحضر لهم احتياجاتهم كل مساء. وإذ علم الوالي أن سيدة تفعل هكذا، دون أن يعرف شيئا عنها أراد تشويه سمعتها فألقي القبض عليها وأودعها في السجن. للحال أرسلت إليه تخبره عن أصلها ونسبها، فجل وأعتذر لها وأكرمها.

وإذ عاد الآباء إلى بلدهم شيدت لنفسها ديرًا في أورشليم عاشت فيه 37 هامًا أما لخمسين عذراء.

أما أعمالها الصالحة -فكما يقول بلاديوس (فصل 54)- شهد لها الشرق والغرب، الشمال والجنوب، مارست خدمة الغرباء كل أيام حياتها وقدمت بسخاء للكنائس والأديرة كما اهتمت بالمساجين.

إذ سمعت بأخبار حفيدتها أبحرت إليها، وهى في الستين من عمرها تقضي عشرين يوما لتبلغ روما... تشجع حفيدتها على التكريس الكامل الله، كما التقت بزوجة ابنها وكثيرات من الشريفات وأزواجهن، فكانت بركة في روما، تأثر بها كثيرون، تاب كثيرون، وانطلق البعض إلى حياة الوحدة...

جاء في حديثها معهم: "يا أولادي الصغار، لقد كتب منذ أربعمائة عام أنها الساعة الأخيرة، فكيف تشغفون بأباطيل الحياة؟ احذروا لئلا تلحقكم أيام "الضد للمسيح" فلا تنعمون بثروتكم ولا ممتلكاتكم الموروثة عن أسلافكم".

(25) Epis 193 PG 37: 316.

(26) Carmen ad Olympiadem v. 27-28, 38, 43 PG 37: 1544 fl.

(27) Laus: Hius, ch. 56.

(28) N & PNF, p 287.

(29) Vita III.

(30) Butler’s Lives of the Saints, Dc. 17.

(31) Dial. 17.

(32) Laus. His. 56.

(33) N & PNF. P 27.

(34) Soz 8: 11.

(35) Sources Chret, vol. 13 bis, Introd.

(36) كاستوس وفالبريوس وديوفانتوس وقرياقوس. N & PNF, s. 2, vol 9, p 309

(37) Ep 11: 1.

(38) Ep 10: 1.

(39) Ep 1: 5.

(40) Ep 2: 10. قامت الأخت المباركة عايدة حنا بسطا بترجمة النص الفرنسي

(41) Ep 8: 3-10.

(42) Ep. 14: 5.

(43) Ibid.

(44) Ep. 14: 1.

(45) Ep. 4: 1.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/chrysostom/olympias.html

تقصير الرابط:
tak.la/bnkm63r