بالأمس(140) نحن رجعنا من الحرب، من حرب ومعركة مع الهراطقة، وتلطخت أسلحتنا بالدماء، (إذ) سيف حديثي كان أحمر ومتخضبًا بالدم. نحن لم نضرب أجسادهم بل فندنا حججهم وهدمنا "ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله" (2كو 10: 5). لأن مثل هذا هو نوع المعركة ولذلك طبيعة الأسلحة هي هكذا. إن بولس علّمنا عن هاتين النقطتين عندما قال "إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون. هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله" (2كو 10: 4-5).
من المناسب أن نذكر أيضًا الأسلاب ونكبات الحرب التي حدثت بالأمس. على الأقل سيفيد من كانوا غير حاضرين هنا، لو أعطينا تقريرًا عن خطوط المعركة والصراع والنصر وهزيمة العدو. لكني لا أرغب في أن أجعلكم أكثر تراخيًا، لذلك سأعبر على هذا التقرير على رجاء أن من لم يحضروا بالأمس يشعروا بهذه الخسارة ويصيروا أكثر اشتياقًا أيضًا لسماع ما سأتحدث فيه اليوم. لو أي شخص ممن كانوا غائبين بالأمس متلهفًا ويقظًا، يمكنه أن يعرف ما قلته ممن كانوا حاضرين بالأمس. بالتأكيد أن الذين سمعوني أظهروا مثل هذا الحماس ولم يمضوا إلى بيوتهم إلا بعد أن أصغوا لكل كلمة أقولها ولم يدعوا شيئًا مما قلته يفلت منهم. لذلك ستعرفون منهم ما قد قلته، أما ما سأقوله اليوم سأخبركم به بنفسي وسأضع أمامكم الاعتراض الذي قدمه ضدي أبناء الهراطقة. فما هو هذا الاعتراض؟

بالأمس كنت أناقش قوة الابن الوحيد وأظهرت أنه قوته مساوية لقوة الآب الذي ولده وقلت لكم كلمات كثيرة على هذا الموضوع. ومع أنهم كانوا مذهولين ومُفحمين بالحجج التي قدمتها، فإنهم قدموا لي الآن نص إنجيلي في موضع آخر، نص يظنون فيه أيضًا أن المسيح تكلم بمعنى مناقض، ورفعوا اعتراضهم بقولهم: في الواقع إنه مكتوب: "وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعدَّ لهم من أبي" (مت 20: 23).
مرة أخرى أُعطي اجتماعكم الحبيب نفس النصيحة التي أعطيها دائمًا. اليوم أنا أحذركم وأنصحكم ألا تمضوا فقط لما هو مكتوب بل تفتشوا عن معنى ما قيل. لو أن إنسانًا شغل نفسه فقط بالكلمات، لو لم يفتش فيما كتُب سيقع في أخطاء كثيرة. الكلمات المكتوبة تقول أن الله له جناحين عندما يقول النبي: "بظل جناحيك استرني" (مز 17: 8). لكن لن نقول لأجل هذا أن جوهر الله الروحي غير الفاني له أجنحة. إن كان لا يمكننا أن نقول هذا عن البشر، فكم بالأولى لا يمكننا أن نقول هذا عن طبيعة الله غير المدركة وغير المرئية والنقية. فبماذا نفهم الأجنحة؟ هي المعونة، الأمن، المأوى، الدفاع، المعونة غير المقهورة التي يعطيها الله لنا.
أيضًا يتكلم الكتاب عن الله كنائم عندما يقول المزمور: "استيقظ لماذا تتغافى (أي تنام) يا رب" (مز 44: 23). إنه لا يقول هذا لكي يجعلنا نظن أن الله ينام، فهذا سيكون منتهى الجنون. بكلمة "تتغافى" يظهر المزمور صبر الله واحتماله من نحونا. وقال نبي آخر: "لن تكون كإنسان نائم. هل تكون؟" [(ار 14: 9) بحسب السبعينية](141)
![]() |
ألا ترى إننا نحتاج لمعونة عظيمة لفهمنا وعقلنا عندما نفتش في خزانة الأسفار المقدسة؟ لو أصغينا للكلمات فقط، إن لم نفكر في الكلمات إلا على ما هي فيه (أي حرفيًا) ليس فقط ستنشأ تلك السخافات، بل أيضًا سنرى تضاربًا كثيرًا فيما قيل. واحد يقول أن الله ينام وغيره يقول إنه لا ينام. مع ذلك فكلا المقولتان صحيح لو فهمنا الكلمات بطريقة مضبوطة. الذي يقول أن الله ينام يشير إلى صبر الله واحتماله والذي يقول إن الله لا ينام يوضح أن طبيعة الله طاهرة ونقية. حيث أننا نحتاج لمعونة كثيرة من ذهننا وفهمنا، ليتنا لا نأخذ ببساطة بمعنى واحد (حرفي) هذا القول: "ليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعدّ لهم من أبي" (مت 20: 23). هذا القول لا ينزع قوة المسيح ولا يزيل سلطانه، بل يظهر عنايته العظيمة وحكمته وبصيرته من جهة جنسنا البشري.
لبرهان أنه رب ويمكنه تحديد عقوبة أو إكرام، اسمع لما قاله هو نفسه عندما فاه هذه الكلمات: "متى جاء ابن الإنسان في مجده، يقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. ثم يقول أيضًا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين على النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته. لأني جعت فلم تطعموني. عطشت فلم تسقوني. كنت غريبًا فلم تأووني" (انظر مت 25: 31-43). هل رأيت دينونته الكاملة وكيف يعطي الإكرام والدينونة؟ هو يستطيع أن يكافئ بالأكاليل ويستطيع أن يفتقد بالانتقام. البعض يقودهم إلى الملكوت والبعض الآخر يرسلهم على جهنم.
لكن لاحظ العناية العظيمة التي يظهرها لنا هنا. عندما كان يتحدث لمن سينالون الأكاليل قال: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد منذ تأسيس العالم" (مت 25: 31)، لكنه لم يقل لمن سيتم معاقبتهم "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لكم" بل قال "المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41). ما يقوله هو هذا: إنني أعددت الملكوت للبشر، لكن لم يكن للبشر أنني أعددت جهنم، بل أعددتها لإبليس وملائكته. لو أظهرتم بحياتكم التي تحيونها أنكم تستحقون العقوبة والانتقام سيكون من العدل أن تطبقوا هذه العبارة على أنفسكم. وانظر كم عظيم هو ميله لإظهار حبه للبشر. فمع أنهم لم يدخلوا بعد حلبة الصراع، فإن الأكاليل أُعدت مقدمًا والجوائز جُهزت للفائزين. لأنه قال "رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34).

ويمكنك أن ترى شيئًا ما مثل هذا في مثل العشر عذارى. عندما أوشك العريس على الوصول قالت الجاهلات للحكيمات "أعطيننا من زيتكن" (مت 25: 8)، لكن الحكيمات قالت "لعلّه لا يكفي لنا ولكنْ" (مت 25: 9). لكن الكتاب هنا لا يتكلم عن الزيت أو لهيب المصباح، بل هو يتكلم عن البتولية والمحبة لرفيقنا (في العبودية). إنه يضع البتولية في موضع لهيب المصباح والصدقة في موضع الزيت. إن الكتاب يفعل هذا ليبين أن البتولية لها احتياج شديد لمحبة رفيقنا (في العبودية) ولا يمكنها أن تدرك الخلاص بدونها.
لكن مَن هم الذين يبيعون الزيت؟ لا أحد سوى الفقراء، لأنهم يعطون أكثر مما يأخذون. بالتأكيد يلزمك ألا تظن أن إعطاء الصدقة للفقراء هو إنفاق (وتبذير) بل هو مصدر للدخل (للربح). ليست الصدقة هي تبديد للمال بل هي عمل مفيد. لأنك تسترد أكثر مما تأخذ. أنت أعطيت خبزًا وأخذت حياة أبدية. أنت أعطيت رداءً (مادي - فاني) وأخذت رداء الخلود. أنت أعطيت الفقير أن يشاركك بيتك وأخذت ملكوت السموات. أنت منحت أشياء تفنى ونلت أشياء تبقى إلى الأبد.
لكن ربما من يقول: كيف أعطي صدقة وأنا فقير؟ عندما تكون فقيرًا فأنت أكثر من أي شخص آخر يمكنك أن تعطي صدقة. لأن الغني سكران بفيض ثروته، لأنه مريض بحمى شديدة جدًا، لأنه ممسوك برغبة لا تشبع فهو دائمًا يريد أن يزيد مقتنياته. أما الفقير هو خالٍ من هذا المرض وطاهر من هذا الداء. لذلك سيعطي بسخاء أكثر مما له.
إن كم المال لا يسبب من ذاته إعطاء صدقة، لكن كم النية الحسنة يفعل. عندما ألقت الأرملة التي نعرفها جيدًا الفلسين في بيت الخزانة، فهي فاقت (في عطائها) كل الذين كانوا يفتخرون بثروتهم. والأرملة الأخرى استضافت تلك النفس السامية (إيليا) بقبضة دقيق وقليل زيت (1مل 17: 8-17). إن الفقر لم يثبت جدارته كعائق في حالة هاتين الأرملتين. فلا تصنعوا حججًا فارغة وباطلة. الله لا يطلب المساهمة بمبلغ كبير بل يطلب ثروة النية الحسنة (وهي أمر في مقدور كل إنسان). إن روح الصدقة لا تظهر بقدر ما أُعطي، بل برغبة (استعداد) من يعطوا(142).
هل أنت فقير وأحنى الدهر عليك أكثر من أي إنسان آخر؟ بالتأكيد أنت لست معوزًا أكثر من الأرملة التي فاقت الأغنياء وتفوقت عليهم جدًا. هل أنت في عوز إلى الخبز الضروري للأكل؟ بالتأكيد أنت لست في احتياج أعظم من أرملة صرفة صيدا. لقد سقطت في أقصى أعماق الجوع وكانت تتوقع أن تموت حالًا (1مل 17: 12). إن جمع أولادها وقفوا حولها(143)، لكن ولا حتى في هذه الظروف ترددت في إعطاء ما تملك. ومع هذا فبفقرها المدقع اشترت ثروة عظيمة. فهي حوّلت قبضة الدقيق إلى بيدر دقيق وقليل الزيت إلى خزانة زيت، والقليل الذي لها جعلته يتدفق بفيض.

لكن لنوقف استطرادنا المتواصل ونعود إلى موضوعنا. عندما أوشك العريس على المجئ، كانت العذارى تتكلم مع بعضهن البعض، وأرسلت العذارى الحكيمات الجاهلات لباعة الزيت، لكن الوقت كان متأخرًا جدًا لابتياع زيت. وهذا شيء معقول جدًا. فالباعة موجودين فقط في الحياة الحاضرة. بعد رحيل الإنسان من هذه الحياة وتفرق رواد المسرح، لا يمكن للمرء أن يجد علاجًا لما قد حدث (في حياته الأرضية). لا يوجد هناك عفو أو تبرير لأي شيء حدث، بل على كل مدى الحياة الآتية يلزم للإنسان (المخطئ) أن يدفع العقوبة.
وهذا ما حدث في وقت العرس. عندما أتى العريس دخلت العذارى الحكيمات لأن مصابيحهن كانت مضاءة، أما الجاهلات فأتين متأخرات. وعندما أُغلقت أبواب حجرة العرس سمعن تلك الكلمات الرهيبة: "اذهبن بعيدًا عني، إني ما أعرفكن" (انظر مت 25: 12). ألا ترون هنا أيضًا أنه يكافئ بالإكرام ويحدد العقوبة، إنه يعطي أكاليلًا وينتقم، إنه يرحب أو يرسل بعيدًا إذ أنه سيد كلا النوعين من الدينونة؟ يمكنك أن ترى هذا أيضًا في مثل الكرم (مر 12: 1-9) وفي مثل الوزنات. العبدان اللذين ربحا خمس وزنات ووزنتين، رحب بهما سيدهما وأقامها على أشياء أكثر أهمية، لكنه أمر أن يلقى العبد -الذي أخفى وزنته في الأرض- إلى الظلمة الخارجية بعد أن يُربط.

لكن ما هذه الملاججة الماكرة لأولئك الهراطقة؟ بل ما هذه الملاججة التي هي ممتلئة بالجنون؟ الهراطقة يقرّوا أن المسيح يقول إن لديه القوة لمنح الأكاليل والمعاقبة والانتقام وإعطاء المكافآت. لكن بعد ذلك يضيفوا أن المسيح قال أيضًا أنه لم يكن بمقدوره أن يعطي أعلى موضع للكرامة وأسمى مجد. لكن لو تعرفون أيها الهراطقة أن شيئًا لم ينتقص من قوته على الدينونة، فلماذا لا تضعوا جانبًا العناد غير اللائق الذي لكم؟
أنصتوا للمسيح أيضًا عندما يقول: "الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن" (يو 5: 22). لذلك لو كان له كل الدينونة، فلا شيء قد أُنتقص من قوته على الدينونة. الذي له كل الدينونة له كل القوة لإعطاء الأكاليل لكل من يستحقون الأكاليل ومعاقبة كل من يستحقون العقاب. لا ينبغي لاجتماعكم الحبيب أن يفهم الكلمات "قد أعطي" (يو 5: 22) بأي معنى بشري. الآب لم يُعط الابن ما لم يكن له بالفعل، فالآب لم يلد ابنًا غير كامل، والابن لم يُضاف إليه شيء بعد ولادته (من الآب). إن الكلمات "قد أعطى" تعني هذا: الآب ولد الابن مثله تمامًا، أي كاملًا وتامًا.
إن الإنجيلي قد استخدم هذا التعبير حتى لا تظنوا أن إلهين قد ولدا بل لكيما تروا كلًا من الأصل والثمرة، ولكي لا تظنوا أن قوة الدينونة قد أُضيفت للابن بعد ولادته. عندما سُئل الابن في موضع آخر: "أفأنت ملك" (انظر يو 18: 33)، لم يجب: "أنا نلت مملكة"، لم يقل أن المملكة أُعطيت له بعد ولادته، بل قال: "لهذا قد ولدت أنا" (يو 18: 37). لو هو ولد ملك كاملًا وتامًا، من الواضح أيضًا أنه قاضي وديان. لأنه من العلامة الخاصة للملك أنه يتخذ قرارات وأحكام سواء للعقوبة أو الإكرام.

و(هناك) مصدر آخر يمكن أن يساعدكم على رؤية أن لديه القدرة على منح الكرامات السماوية. لذلك سنقدم الإنسان الذي هو أفضل كل البشر، وسنظهر أن المسيح منح هذا الإنسان إكليلًا.حينئذ أي عذر سيكون لكم أيها الهراطقة لتنكروا مستقبلًا أن المسيح له هذه القدرة على المكافأة؟
من هو الذي أفضل(144) من كل البشر؟ من هو سوى صانع الخيام ذاك، معلّم كل المسكونة، الذي جال عبر البحر والأرض كما لو كان له أجنحة، الإناء المختار، خادم المسيح العريس، من غرس الكنيسة، البّناء الحكيم، الكارز، الذي أكمل السعي وجاهد الجهاد الحسن، الجندي، مدرب المصارعين، الذي ترك تذكارات لفضيلته ذاتها في كل موضع في العالم، الذي اُختطف إلى السماء الثالثة قبل قيامته (في اليوم الأخير)، اُختطف إلى الفردوس وشارك في أسرار الله التي لا يُنطق بها وسمع وتكلم بمثل الأشياء التي لا يمكن للطبيعة البشرية أن تفوه بها واستمتع بنعمة أغنى وأظهرها في أتعاب كثيرة جدًا. ولكي تعلم أنه تعب أكثر من كل الباقين اسمعه عندما يقول: "أنا تعبت أكثر منهم جميعهم" (1كو 15: 10). لكن لو هو قاسى أتعاب أكثر من الكل، سينال إكليل أعظم. "كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه" (1كو 3: 8). إن كان سينال إكليل أعظم من الرسل الآخرين، فمن الواضح أنه سيستمتع بأسمى شرف وامتياز. ومن الذي سيكلله؟ اسمعه عندما يقول: "قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان وأخيرًا قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل" (2تي 4: 7-8). و"الآب لا يدين أحدًا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن" (يو 5: 22). ومن الواضح أن الابن سيكلله ليس فقط من هذا النص، بل من النص الذي ذكرته قبله "وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا" [تابع (2تي 4: 8)] ومن هذا الذي يأتي؟ اسمعه عندما يقول: "قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس. معلّمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر. منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح" (تي 2: 11-13).

إن معركتنا ضد الهراطقة قد أتت إلى نهايتها. لقد رفعنا تذكار انتصارنا لهزيمتهم وقد أحرزنا الفوز. لقد أثبتنا من كل ما قلنا أن المسيح له القدرة على الثواب والعقاب، لأن له كل الدينونة، لأنه كلل الإنسان الذي هو أفضل من كل الآخرين، لأنه صرّح بأن بولس منتصر. وهو أيضًا أعطى كرامات وحدد العقوبات في تلك الأمثلة التي أشرت إليها.
الآن يلزمنا أن نطرد كل الانزعاج والشك من أذهان إخوتنا ونعلّمهم لماذا كان أن المسيح قال: "ليس لي أن أعطيه" (مت 20: 23) لأني أظن أن كثير منكم يجدون صعوبة في هذه الكلمات. لذلك لإزالة مصاعبكم ولتهدئة الاضطراب (الحادث) في نفوسكم، اجعلوا أذهانكم مستعدة وانتبهوا لما أقوله. وأنا أيضًا يلزم أن أعمل باجتهاد أكثر. لأن شن الحرب والتعليم ليسا متشابهين ولا هو سهل أن يقوّم الإنسان أخيه كسهولة جرح العدو (بالسيف). في مهمة التعليم والتقويم يلزمني أن اجتهد بالأكثر حتى لا أغفل العضو الذي هو أعرج ولا اعبر (دون انتباه) على القلب المضطرب. إنني أخبركم ألا تنزعجوا أو تضطربوا لما أقوله، لأنني مزمع أن أؤكد أن إعطاء موضع في الملكوت ليس هو امتياز (موقوف على) الابن ولا هو امتياز للآب.
وأنا أُصرّح بصوت أعلى وأوضح من صوت البوق أنه ليس للابن أن يعطي ولا للآب. لأنه لو كان للابن سيكون أيضًا للآب أن يعطي. لهذا السبب لم يقل المسيح فقط: "ليس لي أن أعطيه" بل ماذا قال؟ "ليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعدّ لهم" (يو 20: 23). إنه يظهر أنه أمر لا يختص بالابن ولا بالآب بل لآخرين.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

فماذا تعني الكلمات؟ أظن أن انزعاجكم قد زاد ونفوسكم لا تزال أكثر اضطرابًا وضيقًا. لكن لا تخافوا، لأنني لن أتوقف حتى أعطيكم الحل. لذلك اصبروا معي بينما أرجع (إلى الوراء) قليلًا في نقاشي. إن لم افعل هذا لا يمكنني تثبيت كل شيء بوضوح في أذهانكم. فماذا تعني الكلمات؟
إن أم ابني زبدي تقدمت مع ابنيها يعقوب ويوحنا عند اقترابه من أورشليم وقالت له: قل أن يجلس أبناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار (في ملكوتك)" (مت 20: 21). وإنجيلي آخر قال إن الابنين أنفسهما طلبا من المسيح هذا الطلب (مر 10: 35-40). لكن لا يوجد أدنى تناقض بين الروايتين مع أنه يلزمنا ألا نعبر (دون انتباه) حتى لهذه الأشياء البسيطة. إن الأخوين أرسلا أمهما قبلهما، وبعد أن فتحت الأبواب ومهدت الطريق وتكلمت لأجلهم، حينئذ قدما طلبتهما وقالا هذه الكلمات ولو أنهما لم يفهما ماذا يعني طلبهما.
إنهما كانا رسولين ولكنهما لا يزالان آنذاك بعيدين عن الكمال. إنهما كانا مثل صغار الفراخ في عش والتي لم ينبت ريشها ويتقوى بعد. ويلزمكم أن تفهموا أنه قبل الصلب كان يوجد الكثير الذي لا يعرفانه. لهذا السبب وبخ المسيح تلاميذه (عمومًا) قائلًا: هل أنتم أيضًا حتى الآن غير فاهمين؟ كيف لا تفهمون أني لست عن الخبز قلت لكم أن تتحرزوا من خمير الفريسين؟(145) وفي وقت غيره قال: "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن" (يو 16: 12).
ليس فقط هم أخفقوا في فهم الأمور السامية بل مرارًا بسبب خوفهم وجبنهم نسوا ما سمعوه. إنه وبخهم لأجل هذا عندما قال: "ليس أحد منكم يسألني أين تمضي. لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم" (يو 16: 5-6) وأيضًا عندما كان يكلمهم عن المعين (الروح القدس) قال: "يعلّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو 14: 26). وما كان سيقول لهم "يذكركم بكل ما قلته لكم" ما لم يكونوا قد نسوا كثيرًا مما قاله.
لست أقول هذه الأشياء اعتباطًا. إنني أقولها لأن بطرس ذات مرة صرح بوضوح بإيمان تام، لكن أيضًا في وقت آخر بنفس الوضوح نسى كل شيء. مرة قال: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت 16: 16) ودُعيّ مطوبًا لأجل هذه الكلمات. بعد ذلك بقليل اقترف الخطية التي دُعي لأجلها شيطانًا. لأن المسيح قال (له): "اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مت 16: 23). من لا يكون أقل كمالًا من الذي لا يحكم بحسب مقاييس الله بل بحسب مقاييس البشر؟ كان المسيح يكلم بطرس عن الصليب والقيامة، لكن بطرس أخفق في فهم عمق كلمات المسيح وسر تعاليمه والخلاص الذي سيأتي إلى العالم. لذلك أخذ المسيح جانبًا وسرًا قال له: "حاشاك يا رب. لا يكون لك هذا!" (مت 16: 22).
هل ترون كيف أنهم بمنتهى الوضوح لم يفهموا شيئًا عن القيامة؟ إن الإنجيلي أشار إلى هذا الأمر عينه عندما قال: "لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون أنه ينبغي أن يقوم من الأموات" (يو 20: 9). حتى إن أخفقوا في فهم هذا، فهم كانوا في جهل أعمق كثيرًا في أشياء أخرى مثل ملكوت السموات التي تم اختيارهم كباكورة (انظر 2تس 2: 13) وصعوده إلى السموات. إنهم كانوا لا يزالون قابعين على الأرض وعاجزين بعد عن التحليق في الأعالي.
كان هذا هو الفهم الذي لهم. إنهم توقعوا أن الملكوت سيأتي له في الحال في أورشليم، لأنه لم يكن لديهم إدراك أفضل عما يكون ملكوت السموات في حقيقته. وإنجيلي آخر أشار إلى هذا عندما قال أنهم ظنوه كملكوت أرضي. إنهم كانوا يتوقعونه أن يدخل ملكوته وليس أن يمضي إلى الصليب والموت.
حيث أنهم لم يحصلوا بعد على معرفة واضحة ودقيقة على تعاليمه، لذلك ظنوا أنه كان ماضيًا إلى هذا الملكوت المرئي وسيملك ويحكم في أورشليم. لذلك قاطعاه ابني زبدي في الطريق، لأنهما ظنا أنهما وجدا اللحظة المناسبة فتقدما بطلبهما إليه. إنهما عرجا (وخرجا) عن جمع التلاميذ وكما لو أن كل الموقف قد تحول بالضبط كما يريدان، لذلك سألا عن امتياز المقاعد الأولى وأن يكونا الأولين بين الآخرين. إنهما سألا لأجل هذا، لأنهما ظنا أن كل شيء قد انتهى وأن العمل كله (المختص بفترة الإعداد) قد انتهى وتم. إنهما تقدما بطلبتهما لأنهما ظنا أن الوقت الآن هو للأكاليل والمكافآت.
لكن طلبهما أظهر كم أنهما كانا في غاية الجهل. هذا ليس تخمين من عندي، ولا حقيقته تتوقف على كم معقولية قولي له. لإظهار أن هذا حقيقي دعوني أقدم دليلًا من يسوع نفسه الذي يفهم ما هو سري وخفي.

اسمع لما قاله بعدما تقدما بطلبهما: "لستما تعلمان ما تطلبان" (مت 20: 22). أي دليل يمكن أن يكون أوضح من هذا؟ هل ترون كيف أنهما لم يفهما ما كانا يسألان لأجله عندما كانا يحادثانه عن الأكاليل والمكافآت وامتياز الكراسي الأولى والكرامات حتى قبل أن يبدأ النزال (الجهاد)؟
إن المسيح كان يشير إلى شيئين عندما قال: "لستما تعلمان ما تطلبان" (مت 20: 22) واحدة كانت أنهما كانا يتكلمان عن الملكوت (الأرضي) وأنه لم يقل شيئًا عن هذا. لم يكن هناك أي إعلان أو وعد عن هذا الملكوت المرئي على الأرض. الشيء الآخر كان أنه عندما طلبا في هذا الوقت امتياز الكراسي الأولى والكرامات السماوية، عندما رغبا أن يتم رؤيتهما أكثر شهرة وعظمة أكثر من الآخرين، لم يكونا يسألان عن هذه الأشياء في الوقت المناسب بل في وقت غير مناسب على الإطلاق. لأن هذا الوقت لم يكن الوقت المناسب للأكاليل والمكافآت، بل كان وقت الجهاد والأتعاب والعرق وحلقات المصارعة والمعارك (الروحية).
إذًا هذا هو معنى الكلمات "لستما تعلمان ما تطلبان". أنتما كنتما تتكلمان عن هذه المكافآت حتى قبل أن تعانيا أي أتعاب ولا تجردتم للجهادات. بينما العالم لا يزال في احتياج للتقويم، بينما الوثنية لا تزال في أوج قوتها، بينما كل البشر كانوا يتحطمون (من قبل الشياطين) فأنتما لم تبدأا بعد تلاحمكما من بوابة الانطلاق. إنكما لم تتجردا بعد لحلقة المصارعة.
"أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا؟" (مت 20: 22). هنا المسيح كان يدعو عملية صلبه وموته كأس وصبغة (معمودية). إنه دعا صليبه كأسًا، لأنه كان آتيًا إليه بمسرّة، ودعا موته صبغة (معمودية) لأن بواسطته سيطهّر العالم. ليس فقط لأجل هذا السبب أنه دعا موته صبغة، بل أيضًا بسبب السهولة التي سيقوم بها ثانية. لأنه كما أن من يعتمد في الماء بسهولة يقوم بسبب أن طبيعة الماء لا تضع أي عائق، كذلك أيضًا المسيح بسبب أنه مضى إلى الموت، قام بسهولة أعظم. وهذا هو السبب لماذا دعا موته معمودية (أو صبغة).
إن ما يعنيه المسيح بسؤاله هو هذا: "هل يمكنكما أن تُذبحا وتموتا؟ لأن الآن هو الوقت المناسب لهذه الأشياء، أي للموت والأخطار والأتعاب".
ماذا كان ردهما؟ إنهما أجابا "نستطيع" [تابع (مت 20: 22)] رغم أنهما لم يعرفا معنى سؤاله. مع ذلك فهما وعدا أنه يمكنهما أن يفعلا هذا بسبب أنهما كانا يأملان في المكافأة. قال لهما المسيح: "أما كأسي فتشربانها وبالصبغة التي اصطبغ بها أنا تصطبغان" (مت 20: 23). وهو بهذه الكلمات يقصد الموت. وهذا تحقق لأن يعقوب قُطعت رأسه بالسيف ويوحنا مات مرات كثيرة (بالعذابات والاضطهادات). لكن "الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعدّ لهم" (مت 20: 23).
ما يقوله هو هذا: ستموتان وتُذبحان وتفوزا بإكليل الاستشهاد، لكن لن تكونا في الكراسي الأولى، فليس لي أن أعطي هذا، فذاك شيء يخص من يجاهدوا باجتهاد أكثر ونشاط أعظم.

لكي أجعل ما أقصده أوضح، لنفترض أن إنسانًا ما حكم في المباريات. ولنفترض أن أمًا لها ابنان دخلا في المباريات. لنفترض أن الأم أخذت ابنيها للحكم وقال له: أآمر أن ابني ينالان الجائزة.
فبماذا يجيب الحكم؟ سيجيب نفس الإجابة وهي أنه ليس لي أن أعطي. وهو يقول (أيضًا): "أنا حكم ولا اتخذ قراراتي على سبيل المحاباة ولا لأن الناس تقدم أو تطلب مني (ما تريده). إنني أوزع الجوائز بحسب نتائج المباريات". وهذه فوق كل شيء علامة على أنه حكم صالح، فهو ليس فقط لا يوزع الجوائز عشوائيًا، بل يمنحها إكرامًا منه للشجاعة (التي يبديها المتسابقون في المباراة). وهذا هو ما يفعله المسيح. إنه لا يتكلم بهذه الطريقة لينتقص من جوهره، بل هو يتكلم كمن يوضح أنه ليس له فقط أن يعطي، بل هو (أمر يتوقف أيضًا) على (قدرة) المتسابقين في الأخذ. لو كان الأمر يتوقف عليه فقط، لكان كل البشر قد خلصوا وأقبلوا إلى معرفة الحق (انظر 1تي 2: 4). لو كان الأمر يتوقف عليه فقط، لما وجد هناك فرق في الإكرام. لأنه خلقنا ويشعر باهتمام متساوٍ للكل.
لكن هناك فروق في المجد. اسمع لما يقوله بولس وكيف هو يوضح هذا: "مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر. لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد" (1كو 15: 41). وأيضًا "إن كان أحد يبني على هذا الأساس ذهبًا، فضة، حجارة كريمة..." (1كو 3: 12). إن بولس يتحدث بهذه الطريقة ليوضح تنوع الفضيلة. وهو أيضًا قال هذا ليوضح أنه مستحيل لمن هم نيام وفي نعاس (عميق) أن يدخلوا ملكوت السموات. فتلك الجائزة ينبغي الفوز بها عن طريق أتعاب كثيرة.
لأن يعقوب ويوحنا كانا يستمتعا بحب فائض ودالة أمام الله، ظنًا أنهما سينالا كرامات أخرى إضافية. لأن المسيح رغب في منع البشر من أن يصيروا أكثر إهمالًا وتكاسلًا من حيث أنهم كانوا يتوقعون كرامات إضافية، فإنه قادهم بعيدًا عن هذا الظن الخاطئ عندما قال "ليس لي أن أعطيه" لكن لكم أن تأخذوا إذا أظهرتم الرغبة في التصرف هكذا. إنه قال هذا لكي تظهروا اجتهادًا أكثر وأتعابًا أوفر وحماسًا زائدًا. إنه كان يقول: أنا أمنح الأكاليل للأفعال وأعطي الأمجاد للأتعاب وأُكافئ من يعرق. إن أقوى دليل في نظري هو الذي يأتي من الأعمال.

هل ترون أنه لم يكن يتكلم عبثًا عندما قال أنه أمر لا يختص به ولا للآب بل لمن يتبارون في المسابقات، لمن كانوا يتعبون ويعانون المصاعب؟ لهذا السبب هو قال لأورشليم: "كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا؟ هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (لو 13: 34-35). هل ترون أنه مستحيل لمن هو كسول ومتراخي وبليد، لمن هو نائم ومستلقي على طهره أن يخلص أبدًا؟
من هذا نتعلم أيضًا حقيقة أخرى وسرية. الشهادة ليست كافية لإعطاء لأعلى إكرام أو أرفع مواضع الامتياز. أنتم ترون كيف أن المسيح أنبأ يعقوب ويوحنا أنهما سيشهدان له إنما لن يحصلا أبدًا على المواضع الأولى. لأنه بالتأكيد يوجد بعض ممن يمكنهم أن يظهروا أنهم صنعوا أشياء أعظم. إن المسيح أوضح هذا عندما قال: "أما كأسي فتشربانها وبالصبغة التي اصطبغ بها تصطبغان، وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه".
بالتأكيد المسيح ليس له بشر يجلسون بجانبه. وما يتحدث عنه هو الاستمتاع بالإكرام الأعظم، الحصول على المواضع الأولى، أن يكون الإنسان أعلى من كل الآخرين. إنه يتكلم عن الجلوس عن يمينه أو يساره، لأنه كان يتنازل ويكيف نفسه لما يظنوا أنه هو الحال (الموجود فيه). لأنهما كانا يسعيان للمواضع الأولى وأن يتم رؤيتهما أعظم من كل الآخرين. هذا هو نفس الشيء الذي يقوله المسيح. الشهادة بمفردها لا يمكنها أن تجعلكما تظهران أعظم من الباقين وفي موضع أعلى من كل الآخرين. ستموتان (لأجلي) لكن بالنسبة للاستمتاع بأعلى إكرام، فليس لي أن أعطيه، فهذا أمر يختص لمن قد أُعدَّ لهم.
أخبرني لمن أُعدَّ هذا؟ لنرى من يكون هؤلاء المطوبين جدًا. لنرى من هم الذين يستمتعون بهذه الأكاليل اللامعة. فمن يكونون هم ولأي أعمال صنعوها فظهروا في مثل هذا المجد البهي؟ لنسمع لما يقوله المسيح.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

إن التلاميذ العشرة قد اغتاظوا لأن يوحنا ويعقوب زاغا عن بقية المجموعة وطلبا أن يتوجا نفسيهما بأعلى الأمجاد. انظر الآن كيف صحح المسيح اغتياظ العشرة وطموح الاثنان. إنه دعاهم وقال: "رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. من أراد أن يكون فيكم أولًا فليكن آخر الكل" (انظر مت 20: 25-27). هل ترون أن هذا ما كان يعقوب ويوحنا يريدانه وهو أن يكونا في المركز الأول والأعلى والأعظم - وإن جاز لي أن أقول يسودان علي بقية التلاميذ؟ لهذا السبب أخذ المسيح موقفًا ضدهم وأظهر طموحهما الخفي عندما قال: "من أراد أن يكون فيكم أولًا فليكن لكم عبدًا" (مت 20: 27).
ما يريد أن يقوله هو هذا: إن رغبتما في امتياز الموضع الأول وأعلى مجد، اطلبا الموضع الأخير، أطلبا أن تكونا أقل أهمية عن الكل، أكثر أتضاعًا، وأقل جدارة، وأن تعدّا نفسيكما دون (تحت) الآخرين. هذه هي الفضيلة التي تعطي هذا الإكرام. ولنا أعظم مثال مفيد في العدد الذي يلي حيث يقول المسيح: "لأن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم، بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مر 10: 40؛ مت 20: 28). وما يقوله هو هذا؛ يمكنكما أن تريا أن ما يجعل الناس أكثر مجدًا وعظمة هو أن يتواضعوا. وإن تطلعتما إلى ما حدث لي فمع أنني لست بحاجة إلى الآلام والمجد (انظر عب 2: 7-8)، لكنني بتواضعي أتممت أعمالًا حسنة لا تُحصى. لأنه قبل أن يضع نفسه ويصير إنسانًا هلك كل شيء وباد، لكن بعد تواضعه، مجّد كل الأشياء (إذ أن التجسد وتدبير الفداء جدد وجه الأرض). إنه محا اللعنة وانتصر على الموت وفتح الفردوس وقتل الخطية وفتح قباب السماء على مصراعيها، ورفع باكورتنا إلى السماء وملأ العالم كله بالصلاح، وطرد الخطأ وأعاد الحق وجعل باكورتنا تصعد إلى العرش الملكي (الإلهي). وهو أتم أعمالًا حسنة كثيرة حتى أنه يستحيل عليّ أو على كل الناس أن يصفاها بالكلمات لكم. لكن قبل أن يضع نفسه (أي قبل التجسد)، فقط الملائكة عرفته، لكن بعد أن وضع نفسه عرفته كل البشرية. (ها) أنتم ترون كيف أن وضاعته لنفسه لم تجعله أقل (في القدر) بل أثمرت فوائد لا حصر لها وأعمالًا فاضلة بلا عدد وجعلت مجده يلمع ببهاء أعظم. الله لا يحتاج لشيء وليس في احتياج لشيء. لكن عندما وضع نفسه، أثمر مثل هذا الخير العظيم وزاد من (عدد) خاصته ووسع ملكوته.
فلماذا تخشى أنك ستصير أقل لو واضعت نفسك؟ لو واضعت نفسك ستصير أكثر مجدًا، ستصير عظيمًا وشهيرًا، ستصير ذا سمعة حميدة من كل جانب. لكن هذا سيتحقق فقط عندما تقنع بأن تصير أقل وتواجه الأخطار وأن تُسلّم للموت. ينبغي أولًا أن تسعى لأن تخدم وأن تعتني وتهتم بكل الناس. لو ستصير ممجدًا بتواضع نفسك، يلزمك أن تكون مستعدًا لعمل ومعاناة كل شيء.

تأملوا هذا يا أحبائي، وبعد ذلك لنعدّ أنفسنا تمامًا لملاحقة الاتضاع. عندما نهان ويُبصق علينا، عندما نتعرض لكل مذلة، عندما نُحتقر ويُزدرى بنا، لنحتمل كل هذا ونكون سعداء. لا شيء أبدًا يشابه فضيلة الاتضاع في جعلنا نتمجد ونفوز بالإكرام والشرف وإظهارنا كعظماء. ليته يحدث لنا أن نفلح في اقتناء هذه الفضيلة في كمالها حتى نحصل على البركات الموعودة بنعمة ورأفة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والإكرام والسجود مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
_____
(140) من الواضح أن هذه العظة أُلقيت ثاني يوم العظة السابقة.
(141) جاءت في النص البيروتي العبري: "لماذا تكون كإنسان قد تحير".
(142) ولنا دليل على هذا في قصة الغني ولعازر (لو 16: 19-31) فالغني لم يُدان لعظم ثروته بل لعدم رغبته في إشراك من هم في احتياج في هذه الثروة.
(144) بحسب الإنجيل ورأي الرب يسوع يكون يوحنا المعمدان هو أعظم مواليد النساء، ولكن من لا يعرف كم يهيم القديس يوحنا ذهبي الفم بشخصية بولس الرسول، والذي هو فعلًا شخص جدير بكل إعجاب وهيام.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/2arm4x3