St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   john-chrysostom-father-son-equality
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب مساواة الآب والابن في الجوهر: للقديس يوحنا ذهبي الفم - القمص أنجيلوس المقاري

2- العظة السابعة: المسيح ابن | يسوع يصلي | التجسد وحقيقته | أهمية الصلاة(134)

 

محتويات: (إظهار/إخفاء)

مقدمة
دعوة إلى الانتباه
موضوع العظة
الاعتراض الأول: تسمية السيد المسيح ابن
الاعتراض الثاني: صلاة يسوع
أول سبب: التجسد
السبب الثاني: ضعف سامعيه
الحاجة إلى لغة بسيطة
السبب الثالث: لتعليم الاتضاع
السبب الرابع: تمايز أقانيم الثالوث
عودة إلى التجسد
عودة إلى صلاة المسيح
عودة إلى النقاش على كلمة "الابن"
حقيقة التجسد
امتداح الصلاة

العظة السابعة

لأبينا الذي بين القديسين يوحنا ذهبي الفم عن الذين هجروا الاجتماع (القداس)... برهان أن الابن هو من نفس جوهر الآب وأن كلماته وأفعاله كانت لها صفة الوضاعة وهذا لم يكن بسبب نقص في القوة لديه وليس بسبب تدنيه (عن الآب) تمت هذه الأفعال والأقوال، بل لدوافع مختلفة. الحديث السابع من الأحاديث التي عالجت موضوع طبيعة الله غير المدركة وما يترتب عليها.

 

مقدمة

مرة ثانية بدأت سباقات الخيل ومن جديد بدأ اجتماعنا في التقلص. لكن طالما أنتم حاضرون فلا يمكن لاجتماعنا أن يتقلص. لو كان للفلاح أن يرى محصوله في قمة ازدهاره وجاهزًا للحصاد فإنه سيضع اعتبارًا طفيفًا لكون (بعض) الأوراق تتساقط. وحيث أنكم هنا كحصاد لي فلن أشعر بمثل هذا الضيق العظيم الآن إذ أرى أن الأوراق التي سقطت قد جُرفت بعيدًا. إنني حزين لرخاوة وتهاون من هم غير حاضرين هنا، لكن اجتهاد جمعكم الحبيب يا من أنتم حاضرون هنا أيضًا يعزيني (ويعوضني) عن الألم الذي أشعر له لمن هم غائبون. أحيانًا يأتي هؤلاء الغائبون لحضور الخدمات الإلهية التي نقدمها، إلا أنهم مع ذلك لا يكونوا بالفعل حاضرين، فأجسادهم هنا لكن أذهانهم شاردة بعيدًا. لكن بالنسبة لكم حتى لو كنتم متواجدين بعيدًا عن اجتماعنا، لكن ذهنكم موجود هنا. ربما تكون أجسادكم في موضع ما، لكن أذهانكم هنا في الكنيسة.

إنني كنت أرغب في إلقاء حديث مطوّل ضد من هم غائبون عنا، لكن ليس لي رغبة في توبيخ من هم غير حاضرين ولا ينصتوا لكلامي. أن أوبخهم فهذا يجعلني أبدو كمن يحارب أشباح. لذلك سأحتفظ بكلامي لحين تواجدهم هنا. أما الآن سأحاول أن أقود اجتماعكم الحبيب -بنعمة الله- إلى روضتكم المعتادة وإلى بحر الأسفار المقدسة.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

دعوة إلى الانتباه

لكن عليكم أن تنتبهوا وتظلوا يقظين. في حالة من هم في رحلة (بحرية) حتى لو كان كل إنسان آخر نائمًا، فطالما أن القبطان بمفرده يقظ ومتنبه فلا يوجد خطر، إذ أن يقظته ومهارته الملاحية كافيان أكثر من كل شيء لحفظ السفينة في آمان. لكن ليس الوضع مماثل هنا في الكنيسة، فحتى لو كان الواعظ منتبهًا وصاحيًا، لكن سامعيه اخفقوا في إظهار نفس اليقظة، فإن حديثه سيغوص في البحر ويتلاشى. لماذا؟ لأنه لم يجد ذهن أحد مستعد لسماع كلامه. لذلك يلزمنا أن نكون يقظين ومنتبهين. إن البضاعة والحمولة التي أتاجر بها تختص بأمور هامة جدًا. نحن لا نبحر سعيًا وراء الذهب والفضة وأشياء فانية. إن رحلتنا تتطلع إلى الحياة الآتية وكنوز السماء. والطرق التي تقود إليها سنجدها هنا في الكنيسة (وليس في الملاعب وسباقات الخيل والمسابقات والملاهي الدنيوية الأخرى). فضلًا عن هذا سنجد أنها طرق أكثر من الطرق التي على الأرض وفي البحر.

لكن لو ينقصنا المهارة والمعرفة لتتبع هذه الطرق سنعاني أسوأ الكوارث. لذلك لا ينبغي لمن يسافر معي أن يُظهر الخوف الذي يصدر من الركاب النائمين على ظهر السفينة، بل بالأحرى يلزم أن تظهروا نفس اليقظة والاهتمام الذي يبديه القبطان. فبينما كل الآخرين نيام فإن القبطان يجلس عند ذراع الدفة ويلاحظ بانتباه الطرق التي في المياه ويتطلع إلى السماء التي فوقه وكل الوقت يراقب مسار النجوم كأنها إصبع تشير له إلى الطريق حتى يقود سفينته بأمان.

من ليس له معرفة بالبحر لا يمكنه أن يبحر في وضح النهار بالثقة والسهولة التي يبحر بها القبطان المتمرس في نصف الليل عندما يكون البحر في قمة هياجه. لماذا؟ لأن القبطان يقظ تمامًا وفي منتهى الهدوء عندما يمارس مهارته في الإبحار. إنه يداوم على المراقبة الحريصة والحذرة، ليس فقط لطرق البحر ومسارات النجوم، بل أيضًا لهجمات الرياح. إن حكمة ومعرفة القبطان عظيمان، حتى أنه يحدث مرارًا أن هبة الريح الشديدة تضرب سفينته حتى توشك أن تغرقها، إلا أنه بحكمته يُجري تغيير سريع في زاوية الشراع التي لسفينته (فيتفادى الغرق). هو يسابق الريح ويسبقها فيضع نهاية لكل أخطار العاصفة، وباستنفار مهارته ضد عنف عواصف الريح، ينتشل سفينته من (وسط) الزوبعة.

يمكننا أن نرى ونسمع ونشعر بالبحارة الذين يسافرون عبر البحار. ومع أنهم يسعون إلى خيرات هذا العالم، فإنهم يجعلون أذهانهم باستمرار يقظة ومنتبهة، فكم بالأولى يلزمنا نحن أن نكون مستعدين بنفس الطريقة مثلهم. بالتأكيد إن الإنسان المهمل يواجه خطرًا أعظم بينما اليقظ في أمن أكثر. إن سفينتنا ليست مشيدة من أخشاب بل هي مرتبطة بشدة ببعضها البعض بالأسفار الإلهية. نجوم السماء لا تقودنا في طريقنا، بل شمس البر يقود سفينتنا في مسارها. وبينما نحن جالسون عند ذراع الدفة، نحن لا ننتظر هبوب الرياح، بل ننتظر النسمة الرقيقة للروح (القدس).

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

St-Takla.org Image: Baptism of Jesus Christ icon, and seen is the Holy Trinity: The Father (symbol), The Son (incarnated), The Holy Spirit (dove), private collection, Egypt, 1731 A.M. (2014-2015 - which corresponds with the year 6256 according to the ancient Egyptian calendar), Coptic art, used with permission - by Gerges Samir (Orthodox Iconographer) صورة في موقع الأنبا تكلا: أيقونة معمودية السيد المسيح، ويظهر بها الثلاثة أقانيم: الآب (رمز) والابن (في تجسده) والروح القدس (في شكل حمامة)، مقتنيات خاصة، مصر، 1731 ش. (2014-2015 م. - والذي يوافق سنة 6256 حسب التقويم المصري القديم)، فن قبطي، موضوعة بإذن - رسم الفنان جرجس سمير: كاتب الأيقونة الأرثوذكسية

St-Takla.org Image: Baptism of Jesus Christ icon، and seen is the Holy Trinity: The Father (symbol)، The Son (incarnated)، The Holy Spirit (dove)، private collection، Egypt، 1731 A.M. (2014-2015 - which corresponds with the year 6256 according to the ancient Egyptian calendar)، Coptic art، used with permission - by Gerges Samir (Orthodox Iconographer)

صورة في موقع الأنبا تكلا: أيقونة معمودية السيد المسيح، ويظهر بها الثلاثة أقانيم: الآب (رمز) والابن (في تجسده) والروح القدس (في شكل حمامة)، مقتنيات خاصة، مصر، 1731 ش. (2014-2015 م. - والذي يوافق سنة 6256 حسب التقويم المصري القديم)، فن قبطي، موضوعة بإذن - رسم الفنان جرجس سمير: كاتب الأيقونة الأرثوذكسية

موضوع العظة

لذلك يلزمنا أن نكون يقظين ونداوم المراقبة الحريصة للطرق التي يلزمنا أن نتبعها. أما بقية حديثي فسيختص بمجد الابن الوحيد (الجنس).

لقد برهنت حديثًا أن إدراك جوهر الله يقع خارج متناول حكمة البشر والملائكة ورؤساء الملائكة وفي كلمة واحدة كل الخليقة. وقد أوضحت أيضًا أن الجوهر الإلهي (للآب) معروف جيدًا ويدركه بوضوح كل من الابن الوحيد والروح القدس فقط. أما حديثي الآن فسيتجه إلى مرحلة ثانية في صراعي مع الهراطقة. الآن نحن نتساءل إن كان الآب والابن لهما نفس القوة والقدرة، إن كان لهما نفس الجوهر، بل هذا ليس سؤال نسأله، لأننا بنعمة المسيح وجدنا أن هذا حقيقة وتمسكنا بها بشدة، إنما نحن نعد الآن لنبرهن نفس هذا الشيء لمن يعارضون بوقاحة هذه الحقائق.

بالتأكيد أنا اشعر بخجل عظيم عندما استعد لمهاجمتهم بحججي. من لا يضحك عليّ لمحاولتي برهنة وإثبات حقائق في منتهى الوضوح؟ لكن أي نوع من الدينونة ينتظر من يتساءل إن كان الابن هو من نفس طبيعة وجوهر الآب؟ إن مثل هذا التساؤل يناقض ليس فقط الأسفار، بل أيضًا الرأي الشائع لدى كل الناس وهو مضاد لطبيعة الأشياء ذاتها. كون المولود هو من نفس جوهر من ولده، هو أمر حقيقي ليس فقط عند البشر، بل أيضًا عند الحيوانات. ويمكنك أن ترى صدق هذا حتى في حالة الأشجار (التي من نفس النوع).

أليس من السخافة أن هذا القانون يظل ثابتًا للنباتات والحيوانات والوحوش بينما يتغير ويتبدل في حالة الله؟ لكن حتى لا يبدو أنني أعمل هذه التأكيدات على برهان مأخوذ من أشياء في عالمنا ذاته، فلأجعل برهاني من الأسفار المقدسة ذاتها ولأبدأ حديثي على هذه المسألة من هذا المصدر. حينئذ نحن الذين نؤمن لن نجعل أنفسنا مثار سخرية، بل الذين يرفضون هذا الاعتقاد والتعليم سيكونون مثار احتقار وسخرية لأنهم قاوموا ما هو في غاية الوضوح حتى عندما يتطلعوا إلى الحقيقة في وجهها مباشرة.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الاعتراض الأول: تسمية السيد المسيح ابن

إنهم يعترضون قائلين: ما هو الذي في غاية الوضوح: إن كان من نفس جوهر الآب لأنه دُعي ابن، إذًا نحن أيضًا يمكننا أن نكون واحد مع الآب في الجوهر، لأننا نحن أيضًا يمكننا أن نكون واحد مع الآب في الجوهر، لأننا نحن أيضًا بالتأكيد دُعينا أبناؤه، إذ المزمور يقول: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العليّ كلكم" (مز 82: 6).

آه! كم أنهم وقحين! كم أن جنونهم مطبق! كيف يظهرون بوضوح جنونهم بهذه الطريقة! عندما كنا نبدأ أحاديثنا على عدم إدراك الله (في جوهره)، كانوا يسعون بعناد بالادعاء لأنفسهم بما يختص الابن الوحيد فقط ألا وهو أنهم يعرفون الله بالتمام كما يعرف هو ذاته. والآن عندما يختص حديثنا بمجد الابن الوحيد فإنهم يسعون باستماتة إلى إنزاله إلى تفاهة مستواهم ذاته عندما يقولون: نحن أيضًا دُعينا أبناء.

لكن هذه البنوة (بالنعمة) لا تجعلنا من نفس جوهر الله (الآب). لقد دُعيت ابنًا أما هو فإنه الابن. بالنسبة لك هي مجرد كلمة (لقب أُسبغ عليك)، بالنسبة له الأمر حقيقي. لقد دُعيت ابنًا، لكنك لم تُدع الابن الوحيد كما دُعي هو. أنت لا تحيا "في حضن الآب" (يو 1: 18)، أنت لست "بهاء مجده" (عب 1: 3)، أنت لست "رسم جوهره" (عب 1: 3). إذًا إن كان ما قلته في أحاديثي الأولى(135) لم يقنعك، فلتجعل هذه النصوص تقنعك وبنصوص أكثر منها. فهي تشهد للسمو والرفعة التي تخصه. عندما أراد أن يبين أن جوهره لا يفرق مطلقًا عن جوهر الآب قال: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9). عندما أراد أن يظهر أن قوته تختلف عن قوة الآخرين قال: "أنا والآب واحد". عندما أراد أن يظهر أن قوته معادلة لقوة الآب قال: "لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضًا يحيي من يشاء" (يو 5: 21). عندما أراد أن يظهر أنه يتلقى عبادة (وإكرام) مماثلة كما الآب قال: "لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" (يو 5: 23). عندما أراد أن يظهر أن له نفس السلطان على إصلاح وتقويم الناموس (الذي للطبيعة) قال: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17).

لكن الهراطقة يتجاهلون كل هذه النصوص. إنهم لا يفهموا لقب الابن في معناه الأصلي، لأنهم هم أيضًا قد تم إكرامهم بتحيتهم على أنهم أبناء. لذلك هم ينزلون الابن إلى نفس مستواهم الهزيل عند اقتباسهم كلمات المزمور: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6). بسبب حقيقة أنه تم تحيتكم (ومنادتكم) على أنكم أبناء، تقولون أن الابن ليس أعظم منكم ولهذا السبب لم يعد ابنًا حقيقيًا (لله الآب). إذًا لأنه تم المناداة بكم على أنكم آلهة ربما ستتقسون وتعاندوا على أن الآب (نفسه) ليس أعظم منكم. لأنه كما أن المزمور دعاكم أبناء، كذلك أيضًا دعاكم آلهة. لكن ولو أنكم دُعيتم آلهة مع ذلك لا تجرؤون على القول بأن الاسم في هذه الحالة ليس فيه اختلاف في المعنى بل توافقون على أن الآب هو إله حقيقي (بينما أنتم على سبيل المشابهة). بنفس الطريقة في حالة الابن، لا ينبغي لكم أن تكونوا من الوقاحة حتى يندفع الواحد منكم قائلًا: أنا أيضًا قد دُعيت ابنًا، وحيث أنني لست من جوهر الآب، فلا ينبغي للابن أن يكون من نفس جوهره.

لكن كل هذه النصوص التي عددتها تبين أنه ابن حقيقي ومن ذات جوهر الآب. عندما يقول الابن أنه نفس صورته ورسم جوهره (في 2: 6؛ عب 1: 3)، ما يريد أن يبرهنه لنا ليس ئ آخر سوى أن جوهره لا يختلف عن جوهر الآب، لأنه لا يوجد في الله صورة ولا وجه.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الاعتراض الثاني: صلاة يسوع

لكن الهراطقة سيقولون: لقد اقتبست هذه النصوص، والآن اقتبس النصوص التي تبين العكس. أي نصوص تبين العكس؟ نصوص مثل التي تبين أنه يصلي للآب. إن كان له نفس القدرة ومن نفس جوهره ويعمل كل شيء باقتدار فلماذا يصلي؟

ليس فقط سأقتبس تلك النصوص، بل أيضًا سأحرص على أن أعرض كذلك كل النصوص الأخرى والتي تحدث فيها بلغة متواضعة ومنخفضة (عما يليق به كإله). لكن يلزمني أن أخبركم أولًا أنه يمكنني أن أعطي أسبابًا كثيرة تبرر النصوص التي تحدث فيها بطريقة متواضعة (لا تنتظرونها من إله). أما أنتم فلا يمكنكم إعطاء تفسير للنصوص التي تبين سموه وعظمته سوى أنه أراد أن يبين سموه ورفعته. إن كان هذا هو الحال، فلن يوجد تناقض ولا تضارب بين الأسفار المقدسة.

إنه قال: "لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضًا يحيي من يشاء" (يو 5: 21)، وقال أقوال أخرى اقتبستها من قبل، بل وأيضًا هو صلى عندما كان عليه أن يصلي. وهناك ترون تناقض (في صلاته مع كونه إله)، لكن لو قدمت الأسباب (التي تبرر هذه التصرفات)، ستزول كل أسباب الشكوك.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

أول سبب: التجسد

ما هي الأسباب التي لأجلها قال هو عن نفسه وقال عنه تلاميذه أمور منخفضة ومتواضعة (لا تليق بالله)؟ أول سبب وأيضًا أكثرها أهمية هو أنه تسربل بالجسد وأراد أن كل البشر في تلك الأيام وما يليها من عصور أن يؤمنوا أن ما رأوه لم يكن مجرد خيال أو هيئة ظاهرية بل طبيعة حقيقية. والرسل قالوا عنه أشياء كثيرة بشرية خفيضة كما قال هو عن نفسه. وبالرغم من هذا استطاع إبليس أن يقنع بعض البشر التعساء والمستحقي الشفقة على إنكار تدبير الفداء والجسارة على قول أنه لم يأخذ جسدًا. وهم بهذا العمل قد جردوه من أساس بشريته بالكامل. (تُرى) لو أن السيد المسيح لم يقل عن نفسه هذه الأشياء البشرية والمتدنية كم كان كثيرون هم الذين يقعون فريسة لهذا الاعتقاد المهلك؟!

ألا تزال تسمع حتى اليوم أن ماركيان وماني وڤالنتيان وآخرين كثيرين أنكروا تدبير الفداء في الجسد؟ لهذا السبب قال السيد المسيح عن نفسه أشياء متواضعة وبشرية، أشياء أبعد ما تكون عن جوهره الفائق الوصف. إنه تصرف هكذا ليبرهن ويؤّمن على تدبير الفداء. إن إبليس سعى بكل جهده لنزع هذا الإيمان عن البشر، لأنه علم أنه إذا ما لاشى إيمان الإنسان بتدبير الفداء، سيتلاشى معه كل الأشياء التي نتمسك بها على أنها حقيقية.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

السبب الثاني: ضعف سامعيه

وبالإضافة إلى هذا السبب يوجد أيضًا سبب آخر وهو ضعف الناس الذين سمعوه. الذين كانوا آنذاك يرونه ويسمعونه لأول مرة لم يمكنهم قبول كلمات تعاليمه الأكثر سموًا. وما أقوله ليس مجرد كلام تخمين وسأحاول أن أبرهن لكم هذا من الأسفار المقدسة ذاتها. سأحوال أن أبيّن أنه لو كان له أن يقول أي شيء عظيم وفائق ويليق بمجده، لكن لماذا أقول شيئًا عظيمًا وفائقًا ويليق بمجده، بل حتى لو كان له أن يقول شيئًا يفوق إدراك الطبيعة البشرية، سينزعج الذين يسمعونه ويتعثروا. لكن لو كان له أن يقول شيئًا خفيضًا وبطريقة بشرية، سيجري الكل إليه ويقبلوا ما قاله.

سيسأل الهرطوقي: أين يمكنني أن أرى هذا؟

يمكنك أن ترى هذا بالذات في إنجيل يوحنا. عندما جاء في إنجيل يوحنا: "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح. فقال له اليهود: ليس لك خمسون سنة بعد. أفرأيت إبراهيم؟" (يو 8: 56-57). هل ترون كيف أنهم تصرفوا معه كما لو كان مجرد إنسان؟ فماذا قال لهم؟ "الحق، الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن. فرفعوا حجارة ليرجموه" (يو 8: 58-59). وعندما تحدث مطولًا عن الأسرار قال: "الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو 6: 51)، "فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا: إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يسمعه؟" (يو 6: 60) وماذا كانت النتيجة؟ "من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه" (يو 6: 66).

أخبرني: ماذا كان عليه أن يفعل؟ هل كان عليه أن يضيع وقته دائمًا بالتكلم بكلمات أكثر سموًا فيخيف (أي ينفّر) النفوس التي اجتذبها ويبعد الكل عن تعاليمه؟ هذا أمر لا يتوافق مع محبة الله ورأفته. بالتأكيد عندما قال أيضًا "إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد. فقال له اليهود الآن علمنا أن بك شيطانًا. قد مات إبراهيم والأنبياء وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد" (يو 8: 51-52). وهل في هذا شيء عجيب أن الجمع كان لهم هذا الشعور، إن كان حتى قادتهم يشاركونهم نفس هذا الشعور؟

كان نيقوديموس نفسه أحد قادتهم وبروح طيبة جاء إلى يسوع وقال له: "نعلم أنك قد أتيت من الله معلمًا" (يو 3: 2)، لكنه لم يستطع قبول كلمات السيد المسيح عن المعمودية لأنها كانت أقوى جدًا من ضعفه. لأن المسيح قد قال "أن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو 3: 5)، لذلك سقط نيقوديموس فريسة للشكوك البشرية وسأل: "كيف يمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد" (يو 3: 4). فكيف أجاب المسيح؟ "إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟" (يو 3: 12) كل ما فعله المسيح كان تقديم دفاع وشرح لماذا لم يستمر في التحدث عن ميلاده من فوق.

وأيضًا في وقت الصلب ذاته، بعد أن أجرى المسيح معجزات لا حصر لها وبعد أن أظهر قوته بطرق شتى، عندما قال: "من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء" (مت 26: 64) لم يحتمل رئيس الكهنة ما قاله يسوع ومزق ثيابه (انظر مت 26: 65) فكيف يمكنه أن يكلم من لم يطيقوا أي كلام سامٍ عنه؟ ليس عجيبًا أنه لم يقل عن نفسه شيئًا فائقًا أو سامًٍ لمن كانوا بهذا الضعف (وكان كل همهم وفكرهم مرتبط بالأرض والأرضيات)(136)

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الحاجة إلى لغة بسيطة

إن ما قلته كافٍ لإثبات أن هذا كان السبب والعذر للكلمات الخفيضة والمتدنية التي قالها بينما كان على الأرض. وسأحاول أن أجعل هذا واضحًا من الناحية المضادة. لقد رأيتم أنه لو قال السيد المسيح أي شيء سام أو عظيم، كان الناس يتعثرون وينزعجون ويشتموه ويبتعدون عنه ويتحاشوه. والآن سأحاول أن أبيّن أنه لو قال أي شيء متواضع أو عادي فإنهم كانوا يجرون إليه ويقبلون تعاليمه.

في وقت آخر قال السيد المسيح "لست أفعل شيئًا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي" (يو 8: 28)، لذلك الذين قبل هذا ابتعدوا عنه جروا إليه في الحال. وحيث أن الإنجيلي أراد أن يُرينا أنهم آمنوا لأن ما قاله يسوع كان وضيعًا وبسيطًا أعطانا إشارة إلى هذا عندما قال "وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون" (يو 8: 30). ويمكنك أن تجد نفس هذا الشيء قد حدث في أماكن أخرى كثيرة. هذا هو السبب الذي لأجله قال السيد المسيح أشياء بطريقة بشرية محضة وأيضًا لماذا تكلم هو مرارًا بطريقة لا تليق بالبشر، بل بما يليق بالله وجدير بسموه وعظمته. إنه تحدث كإنسان عندما كان يكيف نفسه ويتنازل لضعف من يسمعوه، وتحدث كما يليق بألوهيته عندما كان يحرص على إعطاء تقرير سليم ومضبوط عن تعاليمه.

لو كان تكيفه وتنازله قد تخلل كل ما قاله، كان هذا سيسبب ضررًا لأناس العصور المتأخرة في قبولهم للاهوته (إذ كانوا سيجدون صعوبة في قبوله كإله). لهذا لم يهمل هذا الجزء (لكنيسته القادمة). فمع أنه قد سبق فرأى أناس عصره لن يصغوا بل سيشتمونه ويحيدون عنه، ومع ذلك تحدث بهذه الطريقة لكي يثبت ذات النقطة التي ذكرتها، ويبين السبب لماذا هو مزج بين الكلمات السامية والوضيعة. وهذا هو السبب أنهم ما كانوا قادرين بعد على قبول الأشياء السامية والفائقة التي كان يقولها.

لو لم يكن هو راغبًا ومستعدًا لأن يكيف نفسه، سيكون من العبث أن يعلّم تعاليم فائقة لمن لن ينصتوا وينتبهوا إليها. وحتى لو لم تكن ذات نفع لهم، لكنها أرشدتنا وأعدتنا لقبول رأي يليق به وأقنعتنا أنه حوّل حديثه إلى مستوى أكثر انخفاضًا لأن أولئك الناس لم يستطيعوا بعد قبول شيء فائق مما كان يقوله. لذلك عندما تراه يقول أشياء بشرية وخفيضة، فلا تظن أن هذه علامة على وضاعة جوهره، بل انظر أن هذا تكيف وتنازل من جانبه لأن فهم سامعيه كان ضعيفًا.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

السبب الثالث: لتعليم الاتضاع

هل تريدني أن أعطيك سببًا ثالثًا؟ إنه فعل وقال أشياء كانت وضيعة ومتواضعة ليس فقط لأنه كان متشحًا بالجسد وبسبب ضعف من سمعوه، بل أيضًا لأنه أراد ممن كانوا يسمعونه أن يكونوا متضعين في قلوبهم وفي أذهانهم، وهذا هو السبب الثالث. لو كان شخص ما يعلّم عن أتضاع القلب، إنه يفعل هذا ليس فقط بما يقوله، بل أيضًا بما يفعله. إنه متضع في القول والفعل. قال السيد المسيح: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). وأيضًا في موضع آخر قال: "إن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليخدم" (مت 20: 28). عندما علّمنا أن نكون متضعين وألا نجري أبدًا نحو المواضع الأولى، بل في كل حالة أن نقبل كوننا نُعتبر كأقل، وهو أقنعنا بهذا بما قاله وما فعله. وهذا مرارًا أعطاه فرصة للتحدث بطريقة متضعة وأقل مما يليق به كإله.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

السبب الرابع: تمايز أقانيم الثالوث

يمكنني أيضًا أن أعطي سببًا رابعًا لا يقل أهمية عن الأسباب التي سبق أن ذكرتها. وما هو هذا السبب؟ إنه لكي يمنعنا من السقوط أبدًا في الاعتقاد أنه لا يوجد إلا أقنومًا واحدًا في الله بسبب التقارب فائق الوصف بين الأقانيم الثلاثة. ومع أن المسيح نادرًا ما قال أي شيء عن مثل هذا الموضوع، لكن بعض الناس قد انحرفوا إلى هذا التعليم الأثيم. عندما سمع سابيليوس السيد المسيح يقول "أنا والآب واحد" (يو 10: 30)، وقوله "الذي رآني قد رأى الآب" (يو 14: 9)، خرج باستنتاج وحوله إلى أساس أثيم واعتقاد خاطئ بكون الآب والابن كانا أقنومًا واحدًا وليس أقنومين متميزين. ليست هذه هي الأسباب الوحيدة. السيد المسيح كان أيضًا يحاول منع أي شخص من الاعتقاد أنه كان الأول وغير مولود وعن الافتراض أنه كان أعظم من الآب الذي ولده. بالتأكيد واضح أن بولس كان يخشى هذه النقطة ذاتها وهي أن أي شخص ربما في وقت ما يتوهم أنه هكذا كان الحال ويتمسك بهذا الاعتقاد الأثيم والدنس. لذلك بعد أن قال "لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه" (1كو 15: 25)، أضاف بعد ذلك قوله "لأنه أخضع كل شيء تحت قدميه" (1كو 15: 27)، ثم مضى بعد ذلك إلى القول "واضح أنه غير الذي أخضع له الكل" (1كو 15: 27) وما كان بولس ليمضي إلى الإشارة لهذا الاستثناء ما لم يشعر بالخوف من أنه ربما ينشأ اعتقاد شيطاني بهذا المضمون.

أيضًا مرات كثيرة عندما كان السيد المسيح يحاول أن يخفف ويهدئ من بغضة اليهود تنحى عن سمو ما كان يقوله وكثيرًا ما جعل رده في ضوء الأذهان المتشككة لمن كانوا يكلمونه. وهذا كان الحال عندما قال: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقًا" (يو 5: 31) وهو تحدث بهذه الطريقة، لأنه كان يسعى لدحض شك اليهود. بالتأكيد هو لم يكن يرغب في إظهار أن شهادته ليست حقًا. ما كان يريد قوله هو هذا: أنتم أيها اليهود تشكون في شهادتي ولا تعتبرونها حقيقية، لأنكم لا ترغبون في قبولي عندما أتحدث عن نفسي.

ويمكننا أيضًا أن نجد أسباب أخرى كثيرة. يمكننا أن نعطي تفسيرات كثيرة لوضاعة وأتضاع كلامه. لكن أريد منكم أيها الهراطقة أن تقدموا ولو سببًا وحيدًا لتعاليمه الفائقة غير الذي ذكرته من قبل وهو رغبته في إظهار سموه وعظمته، لكن لا يمكنكم تقديم أي تفسير آخر.

ربما يتحدث الإنسان العظيم عن نفسه كشئ صغير وهذا لن يتضمن اتهامًا أو لومًا، بل هذا يكون علامة على اتضاعه وصلاحه. لكن لو أن شخصًا وضيعًا قال شيئًا عظيمًا عن نفسه لن يفلت من الملامة وكلامه هو علامة على الادعاء والاحتيال. لهذا السب نحن نمتدح من هو سامٍ وعظيم عندما يتحدث عن نفسه بطريقة وضيعة، لكن لا أحد سيمتدح الإنسان الوضيع عندما يتفاخر بأنه أعظم مما هو عليه.

نتيجة هذا هو أنه حتى لو كان الابن أدنى كثيرًا من الآب، كما تقولوا أيها الهراطقة، إذًا لا ينبغي له أبدًا أن يقول أي شيء ليبرهن على مساواته بالآب، فهذا سيكون نصبًا واحتيالًا. لكن حقيقة أن من هو مساو للآب يقول عن نفسه أشياء وضيعة لا يعطينا مبررًا لملامته، بل هذا يجلب له مدحًا عظيمًا ويستحق إعجابنا الشديد به.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

عودة إلى التجسد

إنني أود أن أجعل ما قلته أكثر وضوحًا وأود أن تعرفوا إنني لن أشرع في مناقضة الأسفار المقدسة. لذلك هلموا الآن ولنأخذ أول الأسباب التي ذكرتها. لنرى أين تحدث كلمات لا تليق بكرامة جوهره الإلهي، بسبب أنه أخذ جسدًا. وإن أردتم فلنضع أمام أذهاننا ذات الصلاة التي قدمها للآب (أثناء كربه الشديد في البستان - انظر مت 26: 39).

لكن انتبهوا لي بحرص لأني أرغب في سرد الموضوع كله لكم من وجهة نطر سامية. كان هناك عشاء في تلك الليلة المقدسة التي كان يهوذا مزمعًا أن يخونه فيها. إنني أدعوها ليلة مقدسة بسبب البركات التي لا تُحصى والتي أتت للعالم بموجب تدبير الفداء، وكان منشأها في تلك الليلة. إنه صار في تلك الليلة عندما كان الخائن جالسًا مع الأحد عشر، وبينما كانوا هم جالسين إلى العشاء حدث أن السيد المسيح قال "واحد منكم يسلمني" (مت 26: 21). من فضلكم احتفظوا بهذه الكلمات في أذهانكم، حتى عندما نأتي إلى الصلاة نرى لماذا صلى السيد المسيح على هذا النحو.

لاحظ من فضلك أيضًا العناية المفرطة للرب. فهو لم يقل: يهوذا سيسلمني. إنه لم يجعل تصرف الخائن أكثر خزيًا بملامته في وسط الآخرين. بل عندما نُخس يهوذا من ضميره قال: هل أنا هو يا سيد؟ (مت 26: 25). قال له المسيح: أنت قلت (مت 26: 25). ولا حتى أيضًا في ذلك الوقت سمح المسيح لنفسه أن يصنع اتهامًا محددًا ضد يهوذا، بل جعل يهوذا يُفصح عن إثمه. لكن ولا حتى هذا جعل يهوذا أفضل مما هو عليه. لأنه أخذ اللقمة وبعد ذلك مضى.

بعد أن غادر يهوذا، وجَّه المسيح انتباهه نحو تلاميذه وقال: "كلكم تشكون فيّ (في هذه الليلة)" (مت 26: 31). عندما استنكر بطرس هذا وقال "وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا" (مت 36: 33). وأيضًا يسوع قال "الحق أقول لك إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات" (مت 26: 34). عندما استنكر بطرس هذا الكلام وأنكر من جديد أنه سيتصرف هكذا، تركه المسيح بمفرده (ليرى عمليًا ضعفه في حالة تخلى نعمة الله عنه). ما كان يسوع يخبره لبطرس هو: "أنت لا تصدق ما أقوله وتواصل إنكار كلامي. لكن أفعالك ذاتها ستقنعك أنه يلزمك ألا تناقض ربك". وأيضًا أسألكم أن تتذكروا من فضلكم هذه الكلمات وتحفظونها في أذهانكم، فاستدعاؤها سيكون مفيدًا لنا عندما نفحص صلاة يسوع.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

عودة إلى صلاة المسيح

إن المسيح تحدث عن الخائن وسبق فأخبر أن الكل سيهربون وتنبأ بموته ذاته: "مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية" (مت 26: 31). إنه سبق فأخبر عمن سينكره، متى وكم مرة سينكره. وهو قد تنبأ بكل شيء بدقة. وبعد أن تنبأ عن كل هذه الأشياء كدليل كافي على أنه يعرف تمامًا كل ما سيحدث، مضى إلى ضيعة يقال لها جثسيماني ليصلي. إن الهراطقة يقولون إن الصلاة هذه هي صلاة الألوهية (التي هي في نظرهم أقل من ألوهية الآب)، أما نحن فنقول إنها صلاة تدبير الفداء.

إذًا احكموا أنتم ولا تعبّروا -لأجل مجد الابن الوحيد نفسه- عن رأي فيه محاباة. لأنه حتى لو كنت أترافع عن قضيتي أمام أصدقاء فأنا أتوسل إليكم وأناشدكم أن يكون حكمكم بغير محاباة ولا يكون لأجل الفوز برضائي أو كسب عداوة الهراطقة (لكم).

كون أن هذه الصلاة ليست صلاة اللاهوت فإنه واضح على الأخص من هذا: الله لا يصلي، وعلامة ألوهيته هو عبادة الناس له (والتي من أهم بنودها هو الصلاة له). الله يتقبل الصلاة ولا يقدم صلاة لأحد. وأيضًا لأن الهراطقة في منتهى الوقاحة سأحاول أن أوضح هذا من ذات كلمات الصلاة في أنها تنتمي إلى تدبير الفداء وإلى ضعف المسيح في الجسد. لأنه عندما يقول المسيح شيئًا ما ذا طبيعة خفيضة، فما يقوله هو من الوضاعة والانخفاض حتى أن الاتضاع الفائق لكلماته يمكن أن يقنع من هم في غاية العناد والمنازعين أن الكلمات التي يقولها تسقط بعيدًا عن الجوهر المقدس والذي لا يُنطق به.

إذًا لنعد إلى كلمات الصلاة "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (يو 26: 39). لنسأل أولئك الهراطقة عن هذه النقطة. ألا يعلم المسيح إن كان الأمر ممكنًا أو غير ممكنًا؟ قبل هذا بقليل عند العشاء قال "واحد منكم سيسلمني" (يو 26: 21) وقال "مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية" (مت 26: 31)، وقال "كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة" (مت 26: 31). وعندما كلّم بطرس قال له "أنت ستنكرني" ولم يتوقف عند هذا بل قال له "ستنكرني ثلاث مرات" أما الآن بينما هو يصلي قل لي: ألا يعلم إن كان الأمر ممكن أو غير ممكن؟ من يستطيع أن يقول هذا أيًا كانت عقليته؟

لو أتى الوقت الذي فيه لا نبي ولا ملاك ولا رئيس ملائكة سيعرف ما لم يعرفه المسيح لكان يمكن أن يكون أساسًا ما للهراطقة المعاندين على ملاججتهم. لكن ما يقولونه من أن المسيح لم يعلم ما هو في غاية الوضوح والجلاء للكل حتى أننا نحن البشر (العاديين) لدينا معرفة دقيقة به. فكيف سيجد الهراطقة عذرًا أو مبررًا لتأكيدهم أن المسيح قال "إن أمكن" بسبب أنه في الواقع لم يعلم إن كان ممكنًا أو غير ممكن؟

من الواضح أن عبيده الأنبياء لديهم معرفة دقيقة عما أناقشه. إنهم أيضًا علموا أنه سيموت وأن عليه أن يعاني هذا الموت على الصليب. قبل هذا بسنوات كثيرة أوضح داود كلا الأمرين عندما تحدث لمن شخص المسيح وقال: "ثقبوا يديّ ورجليّ" (مز 22: 16). وداود صرح بما كان مزمعًا أن يحدث كما لو كان حدث بالفعل. لماذا؟ لأنه كان يبيّن أنه مستحيل لهذا ألا يحدث مثلما هو مستحيل للشئ الذي حدث بالفعل ألا يحدث. وأيضًا إشعياء سبق فأخبر بنفس هذه الميتة عندما قال "كشاه تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها" (إش 53: 7). وأيضًا يوحنا (المعمدان) عندما رأى هذا الحمل قال "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29) وهو قال هذه الكلمات على سبيل النبوة.

لاحظ أن الحمل لم يُذكر على أنه مجرد حمل، بل قال "حمل الله" لأنه كان يوجد حمل آخر والذي هو حمل اليهود (في الفصح)، ويوحنا تكلم بهذه الطريقة ليبين أن الحمل الذي كان يتكلم عنه هو حمل الله. كان الحمل اليهودي يُقدم فقط عن الأمة اليهودية، أما حمل الله فقدم لأجل العالم كله. إن دم الحمل اليهودي يقدس إلى طهارة الجسد فقط كما في (عب 8: 13)(137) أما دم حمل الله فيطهر العالم كله (جسدًا وروحًا). إن دم الحمل اليهودي لا يمكنه عمل ما يعمله بذات طبيعته، بل كانت له تلك القوة لأنه كان مثالًا لحمل الله.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

عودة إلى النقاش على كلمة "الابن"

لذلك أين أولئك الذين يقولون أن المسيح هو ابن ونحن أبناء؟ أين أولئك الذين يحاولون أن يحدروه لأسفل لحالتنا التافهة والوضيعة لأننا نشارك في نفس اللقب؟ انظر! أنت تسمع حمل وحمل، نعم اسم واحد لكلاهما، لكن فرق لا نهائي بين طبيعتهما. عندما تسمع هنا تسمية مشتركة لا تجعل أي فكر للتساوي يدخل إلى ذهنك. لذلك عندما تسمع ابن وابن في هذا النص لا تجذب لأسفل إلى حالتك الوضيعة الابن الوحيد الجنس. لكن لماذا يلزمني أن أتحدث عما تم برهنته؟ لو أن هذه الصلاة صنعها لاهوته، سينكشف أن المسيح يهاجم ويناقض ويحارب ضد نفسه. لأن الذي قال في هذه الصلاة "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39)، لأنه أحجم عن وتحاشى الآلام، كان هو نفس المسيح الذي قال في موضع آخر أنه يلزم لابن الإنسان أن يُسلّم ويُجلد.

آنذاك بعد أن سمع بطرس يقول له: "حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا" (مت 16: 22). اعترض السيد المسيح بشدة على هذا حتى قال "اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مت 16: 23). فمع أنه قبل فترة قليلة مضت امتدح بطرس ودعاه مطوبًا، أما الآن فيدعوه شيطانًا. والمسيح لم يعمل هذا ليهين بطرس. وما رغب في إظهاره بهذه الإهانة هو أن بطرس لم يتكلم من قلبه. في الواقع إن ما قاله بطرس كان مخالفًا وغريبًا عليه حتى أن السيد المسيح لم يتردد في أن يدعوه شيطانًا حتى لو كان هو بطرس.

أيضًا في موضع آخر قال المسيح: "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم" (لو 22: 15). فلماذا قال هو "هذا الفصح" مع أنه في مرات غيرها احتفى معهم بهذا العيد؟ لماذا إذًا؟ لأن الصليب كان يلي هذا الفصح. وأيضًا قال: "أيها الآب مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضًا" (يو 17: 1). بالتأكيد في مواضع كثيرة نجده ينبئ عن الآلام راغبًا في حدوثها وقائلًا أن هذا هو السبب الذي لأجله جاء إلى العالم (انظر يو 3: 16-17). فكيف أنه في صلاته يقول: "إن أمكن؟" إنه هنا يظهر الضعف الذي ينتمي إلى الطبيعة البشرية، فالطبيعة البشرية تفضّل ألا تُنزع من الحياة الحاضرة وتجفل وترتد من الموت. لماذا؟ لأن الله قد غرس في الطبيعة البشرية حُب لحياة هذا العالم (وإلا ما كان أسهل على الإنسان أن ينهي حياته بنفسه لأتفه الأسباب).

وحتى بعد أن قال المسيح أقوالًا كثيرة من هذا النمط، لا يزال البعض لديهم الجسارة ليؤكدوا أن المسيح لم يأخذ جسدًا، فما الذي كان سيجرؤون على قوله لو لم يقل المسيح شيئًا من هذا النوع؟ هنا لدينا السبب لماذا في تلك الأماكن التي تنبأ فيها عن آلامه ورغب في حدوثها، إذ كان يتكلم كإله، لكن كإنسان فإنه يتحاشاها ويصلي لكي يتفاداها. لكنه (من ناحية أخرى) يظهر لنا أنه مضى طواعية إلى آلامه عندما قال: "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها. ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي" (يو 10: 18).

فكيف أنه قال: "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (مت 26: 39)؟ ولماذا تتعجب إن كان هو قبل الصلب كله اشتياق لإعطاء ضمان أن جسده كان جسدًا حقيقيًا؟ بل حتى بعد القيامة عندما رأى التلميذ الذي شك، لم يمانع في أن يريه جروحه وعلامات أثر المسامير وأخضع مواضع الجروح للمس اليد. وهو في الحقيقة قال: "جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي" (لو 24: 39).

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

حقيقة التجسد

لهذا السبب هو من البداية ذاتها لم يأخذ ناسوتًا ناضجًا بل سمح لنفسه أنه يُحبل به ويولد ويرضع اللبن. وهو أمضى وقتًا طويلًا في هذا العالم حتى يبرهن أنه كان (له) جسدًا حقيقيًا عن طريق طول أيامه على الأرض وبكل وسيله أخرى. إن الملائكة ظهروا كثيرًا على الأرض في هيئة إنسان وكذلك الله بالمثل، لكن ظهورهم لم يكن في جسد حقيقي، بل كان على سبيل التكيف والتنازل.

لكي يمنعك من الظن أن مجيئه للأرض كان تكيفًا مثل أولئك وليعطيك أسبابًا مؤكدة للتيقن أن جسده كان جسدًا حقيقيًا، لهذا السبب حُبل به وولد ورضع من الثديين. ولكي يكون ميلاده ظاهرًا ويصير معلومة عامة، تمت ولادته في مزود وليس في حجرة خاصة بل في موضع (عام) أمام جمع من الناس. هذا كان السبب للأقماط وأيضًا للنبوات التي قيلت عنه من قبل بفترة طويلة. إن النبوات أظهرت أنه ليس فقط كان مزمعًا أن يكون إنسانًا، بل أنه أيضًا سيُحبل به ويولد مثل أي طفل آخر. إن إشعياء صرح بهذا عندما قال: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل. زبدًا وعسلًا يأكل" (إش 7: 14-15). وأيضًا نفس النبي قال: "يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا" (إش 9: 5). هل ترى كيف أن هذه النبوات أنبأت بطفولته؟

لذلك اسأل الهراطقة هذه الأسئلة: هل الله يخاف؟ هل هو يتردد ويجفل؟ هل يشعر بالألم؟ لو أجابوا بالإيجاب ابتعد عنهم واجعلهم يقفون بجانب الشيطان، بل في موضع أعمق في جهنم عما للشيطان. لأنه ولا الشيطان سيجرؤ على قول هذا. لكن لو قالوا أن ليس شيئًا من هذه المشاعر يليق بالله، إذًا أخبرهم أنه ولا حتى المسيح صلى كإله.

وأيضًا لو أن كلمات صلاة المسيح هي كلمات إلهية محضة(138)، فهناك سخافة أخرى تتضمنها. لأن الكلمات لا تفصح فقط عن صراع (جهاد) بل تشير إلى مشيئتين تعارضان الواحدة الأخرى، واحدة للابن والأخرى للآب. وكلمات المسيح: "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" هي كلمات من يجعل هذا واضحًا. لكن هؤلاء الهراطقة لا يقرّون بهذا أبدًا. عندما نثابر على اقتباس النص "أنا والآب واحد" (يو 10: 30) بخصوص قوته، يداومون على قول أن هذا قيل من جهة المشيئة لأنهم يؤكدون أن مشيئة الآب والابن هما واحد.

لكن لو أن مشيئة الآب والابن هما واحد، فكيف أن المسيح قال في هذا النص: "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت". لأنه لو أن هذه المقولة قيلت من جهة ألوهيته لوجد تناقض وسخافات كثرة تنشأ منها. لكن لو قيلت في جسده، تكون هذه المقولة معقولة ولا يوجد فيها أساس للملامة أو التبكيت. لو أن الجسد لم يرغب في الموت فلا ملامة عليه، إذ هو يتحاشى الموت بحسب طبيعته (التي غُرس فيها حب هذه الحياة). والمسيح أعطى أدلة كثيرة من كل وجه من أوجه طبيعته البشرية عدا الخطية. وهو فعل هذا لكي يسد أفواه الهراطقة. لذلك عندما قال: "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (مت 26: 39) فهو لا يظهر شيء آخر سوى أنه متشح بالجسد وإن الجسد يخاف الموت. لأن هذه من مميزات الجسد أنه يخاف الموت ويجفل منه ويجاهد ضده. وهو ترك جسده في ذلك الوقت مهجورًا وعادمًا من كل قوة إلهية ليظهر ضعفه ويؤكد طبيعته. وفي أوقات أخرى هو أخفاها لكي تعلم أنه ليس مجرد إنسان.

لو أنه لم يظهر مطلقًا إلا كل ما هو لائق بالإنسان، لاعتقد الناس أنه كان مجرد إنسان. لو أنه لم يُتم فقط إلا ما هو لائق بلاهوته، ما كان أحد أبدًا سيؤمن بتدبير الفداء. لهذا السبب هو مزج ونوّع كلماته وأفعاله. إنه لم يرغب في إعطاء أي عذر أو حجة لجنون بولس الساموسطي (الذي أنكر لاهوت السيد المسيح واعتبر أنه مجرد إنسان) وماركيان وماني. لهذا السبب هو كإله أنبأ بكل ما سيحدث وكإنسان جفل منه.

إنني أود أن أعبر أيضًا على كل الأسباب الأخرى. أود أن أظهر من أفعاله ذاتها أنه كما في هذه الحالة أظهرت صلاته ضعف الجسد، كذلك أيضًا في مواضع أخرى هو صلى لكي يصحح ويقيم ضعف سامعيه. يلزمنا ألا نظن أن كل شيء قاله بطريقة بشرية، قيل فقط بسبب أنه كان متشحًا بالجسد البشري، فهو أيضًا تحدث بهذه الطريقة بسبب الأسباب الأخرى التي ذكرتها. لكن لكي لا تغرق كثرة المواضيع التي لا يزال علينا أن نناقشها ولا تدمر الأشياء الكثيرة التي قد قلتها، سأنهي حديثي ضد الهراطقة وسأرجئ ليوم آخر ما أريد أيضًا أن أقوله ضدهم، وسأعود الآن لأحضكم على الصلاة.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

امتداح الصلاة

حقيقي إنني كلمتكم مرارًا على هذا الموضوع، لكن لا يزال هناك احتياج للكلام عنها في هذا الوقت أيضًا. إن الملابس التي ننقعها في الصبغة لمرة واحدة لها لون سهل زواله. تلك الملابس التي ينقعها الصباغين مرارًا ويسحبونها من الإناء تحتفظ ببهاء هذا اللون بدون تغيير. هذا أيضًا يحدث حينما يختص الأمر بنفوسنا. عندما نسمع نفس الكلمات مرة ومرات غيرها، نقبل التعليم، وكمثل الثياب المنقوعة في الصبغة، لا نلفظ التعليم بسهولة.

لذلك ليتنا لا ننصت كما لو كانت كلماتي تافهة أو عرضية. لا يوجد شيء له قوة كبيرة أو أكثر قوة من الصلاة. إن الملك المتشح بالثوب الأرجواني ليس أبدًا في روعة الإنسان الذي بسبب أنه يصلي، يتحلى (بل ويتجلى) بحديثه مع الله. لنفترض أن الجيش كله حاضر وأيضًا قواد كثيرون في الجيش وموظفي الدولة الكبار والحكام. ولنفترض في تلك اللحظة أن شخصًا ما تقدم وتحادث سرًا مع الملك. فإنه يجعل كل العيون تنظر له ويجعل كل شخص يعتبره جديرًا بأعظم احترام. بالتأكيد نفس الشيء يسري على من يصلّون.

فانظر كم هو شيء عظيم سيكون هذا عندما يكون الملائكة حاضرين ومعهم رؤساء الملائكة والسيرافيم والشاروبيم وكل القوات السماوية، وإذ الذي هو مجرد إنسان يمكنه أن يتقدم وبثقة عظيمة يمكنه أن يتحادث مع ملك تلك القوات السماوية. أية كرامة تماثل هذه الكرامة العظيمة؟ ليس فقط الكرامة بل أعظم منفعة يمكن أن تأتينا من الصلاة حتى قبل أن نحصل على طلبنا. بمجرد أن الإنسان يرفع يديه نحو السماء وبمجرد أن يدعو (باسم) الله، في الحال يتخلى عن الأمور الدنيوية. وهو مضى بذهنه إلى الحياة الآتية ولذلك يتفكر في الأمور السماوية. وليس له شيء مشترك مع حياة هذا العالم طالما هو يصلي وطالما أن صلاته تُقدم باجتهاد واعتناء.

آنذاك حتى لو اضطرم الغضب فيه، فبسهولة يبرد. لو التهب فيه الهوى، في الحال ينطفئ. لو التهمنا الحسد، فليس من العسير صرفه بعيدًا. نفس الشيء يحدث والذي قال النبي بحدوثه عند شروق الشمس. فماذا قال: "تجعل ظلمة فيصير ليل. فيه يدب كل حيوان الوعر. الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها. تشرق الشمس فتجتمع وفي مآويها تربض" (مز 104: 20-22). إذًا عند شروق الشمس كل حيوان مفترس يُطرد يُربض في مأواه. كذلك أيضًا عندما تنطلق الصلاة -مثل شعاع شمس- من ألسنتنا وتخرج من فمنا، يستنير ذهننا وكل الأهواء الوحشية التي تلاشي إدراكنا تبتعد وتأوي إلى مأواها فقط في حالة أن صلاتنا تكن باجتهاد وآتية من نفسٍ يقظة وذهن صاحٍ. حتى لو كان الشيطان حاضرًا فإنه يهرب عندما نصلي، حتى لو كان إبليس هناك، فإنه يفرّ بعيدًا (وسريعًا).

عندما يتحدث سيد مع عبده، لا يجرؤ أي عبد آخر على مخاطبة السيد وقطع المحادثة مهما كانت دالته وحريته في الكلام، فكم بالأولى من أساءوا إلى الله وعدموا هذه الحرية لا يمكنهم أن يزعجوننا عندما نتحادث مع الله ونظهر له الاحترام اللائق به.

بالتأكيد إن الصلاة هي ميناء لمن هم في العاصفة، هي مرساة لمن تعصف بهم الأمواج، هي عصا لمن يتعثر. الصلاة هي كنز للفقير، آمان للغني، شفاء للمريض، حماية لمن هم في صحة جيدة. إنها تحفظ نعمنا غير منتهكة وتحول بسرعة أمراضنا (شرورنا) إلى خير. لو أتت التجربة من السهل طردها (بالصلاة). لو أصابنا فقدان المقتنيات أو أي من الأشياء التي تسبب الحزن لنفوسنا، سريعًا تدفعه الصلاة بعيدًا عنا. الصلاة هي ملجأ من كل حزن، أساس للابتهاج، وسيلة للفرح المتصل، أصل لفلسفتنا(139) وطريق للحياة.

حتى لو كان الإنسان الذي يمكنه الصلاة باجتهاد متجردًا (أي عادمًا) من كل شيء فهو أغنى من أي شخص آخر. لكن من سُرِق ومحروم من الصلاة، فحتى لو جلس على ذات عرش الملك فهو أفقر من أفقر إنسان. ألم يكن آخاب ملكًا وخزائنه فيها ذهب وفضة يفوقان الوصف؟ لكن حيث أنه لم تكن له صلاة، مضى في البحث عن إيليا وهو الإنسان الذي ليس له معطف يلبسه ولا مسكن يقيم فيه. كل ما كان له هو رداء من جلد الغنم. أخبرني يا آخاب ماذا يعني هذا؟ أنت لديك مخازن كثيرة وتفتش عن إنسان ليس لديه شيء؟

فيجيب آخاب: نعم، لأن ما فائدة كل مخازني لي إن كان هذا الإنسان قد أغلق السماء (حتى لا تمطر) وجعل كل مقتنياتي عديمة الفائدة؟ هل ترون كيف كان إيليا أغنى من آخاب؟ إن الملك وكل جيشه كانوا في أسوأ احتياج حتى تكلم إيليا.

يا له من شيء عجيب! ليس لديه معطف إلا أنه أغلق السماء. إنه أغلق السماء لهذا السبب عينه وهو لأنه لم يكن يملك معطفًا. لأنه لم يمتلك شيئًا هنا على الأرض، لهذا السبب عينه هو أعطى برهانًا على قوته العظيمة. لأنه بمجرد أن فتح فمه تسبب في كنوز لا تُحصى من البركات أن تنزل من السموات. يا لهذا الفم الذي بداخله ينابيع المطر! يا لهذا اللسان الذي يجعل زخات المطر تسقط! يا لهذا الصوت الذي يعج بنعم لا حصر لها!

لنحيل أعيننا باستمرار إلى هذا الإنسان الذي كان فقيرًا ومع هذا كان غنيًا، الذي كان غنيًا (بالروح) لأنه كان فقيرًا (بالجسد). لذلك ليتنا نحتقر أمور هذه الحياة ونتوق إلى أمور الحياة الآتية، لأنه بهذه الطريقة سنفوز بكل الخيرات التي هنا وهناك.

ليتنا كلنا نقتني هذه البركات بنعمة ورأفة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(134) تم من قبل ترجمة خمس عظات تحت عنوان "الله لا يمكن إدراكه" وتم إغفال العظة السادسة في النص الفرنسي الذي عنه ترجمنا هذه العظات الحالية لأنها تتحدث عن سيرة الطوباوي فيلوجونيس Philogonius الذي صادف ذِكراه أحد أيام إلقاء هذه العظات، وسيرته خارج نطاق مضمون بقية سلسلة العظات وإن أخذ مسلسل عظة 6 ووُجِدَت في كتاب "الله لا يمكن إدراكه" وترجمناه عن سلسلة The Fathers Of The Church V.72 وقد تجاهلنا ترجمة هذه العظة لنفس السبب.

(135) يقصد بها العظات الخمس الأولى التي تحت عنوان "الله لا يمكن إدراكه".

(136) ما أوردته هنا بين قوسين هو بسبب أنني سجلته بتصرف إذ المعنى الأصلي للنص يقول "وكانوا يزحفون على الأرض".

(137) ما ورد من كلام شاهده عب 8: 13 ليس هو في صلب النص إنما تم التغيير هنا لغموض النص الأجنبي.

(138) وردت العبارة هنا "كلمات الله" في النص الأصلي ولكني جعلتها هكذا، لأن ما يقصد القديس يوحنا ذهبي الفم هو أنه هنا عبّر عن مشاعر الناسوت وأكد به حقيقة تجسده ولم يقل ما قاله بكونه الله غير المتجسد.

(139) الفلسفة بالمعنى المسيحي هي العقيدة السليمة والطريقة المسيحية في الحياة والتي في الغالب تكون مصحوبة بالتقوى.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-father-son-equality/christ-the-son.html

تقصير الرابط:
tak.la/465tzwg