الفصل الثاني عشر
نموذج الخيمة الذي تم رؤيته على الجبل، الكهنوت والخدمات في ترتيبها والمعنى النموذجي لخطية العجل الذهبي - الحكم الإلهي وتشفع موسى - غفران الله الكريم ورؤية مجد الله التي مُنحت لموسى (خر 24: 12؛ 25-33)
يقينًا نحن مطلقًا ليس لدينا دليل أقوى على المنشأ الإلهي لما ندعوه نعمة وعلى ضعف وعدم نفعية الطبيعة البشرية مما في رد الفعل الذي غالبًا ما يأتي بعد مناسبات الامتيازات الدينية. قارئو العهد الجديد سوف يتذكرون أمثلة كثيرة من هذا في التاريخ الإنجيلي، وسوف يتذكرون كيف أن ربنا مرارًا في أوقات كهذه أخذ تلاميذه إلى موضع صحراوي للهدوء والصلاة.
لكن ربما أكثر مثال مُحزن عن كم قريبًا جدًا التواني، العدو العظيم لمواسم استمتاعنا الروحي وكم عظيمًا خطر طياشتنا، عندما نقف في مثل هذه القمم، يقدمه لنا تاريخ بني إسرائيل مباشرة عقب التصديق على العهد المهيب. والآن من حيث أن الله أفرز شعبه الذي صالحه لنفسه، كان من الضروري أن يكون له موضعًا محددًا حيث سيلتقي به ويسكن بينهم، كما أيضًا ليعين الوسيلة التي بها لهم أن يقتربوا منه، والأسلوب الذي به يُظهر ذاته لهم.
ولكي يستعلن كل هذا كما أيضًا ليعطي لوحي الحجارة التي عليها حُفرت الوصايا، فالآن الله يدعو موسى مرة أخرى لكي يصعد إلى الجبل مصحوبًا بخادمه يشوع، فأطاع الأمر الإلهي وترك قيادة الشعب لهارون وحور. لمدة ستة أيام انتظر موسى أثنائها كان مجد الرب حال على جبل سيناء، وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ دُعِيَ مُوسَى مِنْ وَسَطِ السَّحَاب، فَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيل من تحت، ومن المحتمل أن يشوع بقي قريبًا من موسى لكن ليس فعليًا معه. وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، بدون أكل خبز أو شرب ماء (تث 9: 9).
الاستعلان الجديد الذي تلقاه الآن اختص بالخيمة التي كان لها أن تُقام والكهنوت الذي كان له أن يخدم فيها والخدمات التي كان مطلوب الاحتفاء بها. بل إنه امتد إلى كل تفاصيل تختص بالأثاث والملابس وتنفيذ الطقوس. ولأجل ما كان مطلوبًا لهذه الخدمة، تم دعوة بني إسرائيل لتقديم تقدماتهم الطوعية (خر 25: 1-8).
لدينا دليل دامغ أنه ليس فقط في خطوطها العريضة بل أيضًا في أدق التفاصيل أن كل شيء كان له أن يُعمل بحسب المثال والنموذج الذي أراه الله لموسى على الجبل (خر 25: 9)، وهكذا نحن نقرأ أيضًا في (أع 7: 44؛ عب 8: 5؛ 9: 23) حيث نعرف أن الله أظهر لموسى مثال أو نموذج فعلي لكل ما كان له أن يصنعه في المسكن ولأجله.
هذا لا يمكنه أن ينقل لنا سوى تعليم واحد، إذ يعلّمنا ما هو أبعد بكثير من الحقيقة العامة أن الاقتراب الوحيد لله ويكون مقبول ومشروع لديه هو بحسب ما يحدده هو ويعيّنه. لأن الله أظهر لموسى كل التفاصيل ليشير إلى أن كل جزئية من التفاصيل لها معنى خاص ومن ثمَّ لا يمكن تغييرها حتى ولو في أقل شيء بدون تغيير معناها وفقدان ذلك المغزى الذي لأجله اكتسبت أهميتها.
لا يوجد شيء كان مقصود له أن يكون مجرد زينة أو طقس، بل كل شيء كان رمزًا ومثالًا. كرمز كان يشير إلى حقيقة حاضرة وكمثال كان يشير مستقبلًا (نبوة من خلال فعل) إلى حقائق روحية مستقبلية، بينما في نفس الوقت نقلت بالفعل للعابد بكورها وعربون تحققها النهائي في ملء الزمان.
نحن نكرر أن كل شيء هنا كان له معنى روحي، فالمواد التي صُنع منها التابوت وملابس الكهنة وكل شيء آخر يختص بالألوان والمقاسات والأعداد والآنية والملابس والخدمات بل والكهنوت ذاته، كلها أمور أعلنت نفس الحقيقة الروحية وأشارت مقدمًا إلى نفس الحقيقة الروحية وهي أن الله في المسيح في وسط كنيسته.
![]() |
كانت الخيمة "خيمة اجتماع" (بالعبري أوهيل موعد אֹהֶל מוֹעֵד) حيث الله يتحادث ويكون في عشرة مع شعبه ومنها يوزع بركاته عليهم. الكهنوت وعلى قمته رئيس الكهنة كان وسيطًا بتعيين إلهي من خلاله يتم الاقتراب من الله وبه يمنح عطاياه، الذبائح كانت الوسيلة لمثل هذا الاقتراب من الله، وأيًا كان مقصود له استرداد الشركة مع الله لو خفتت أم تقطعت، وإلا تكون للتعبير عن وإظهار تلك الشركة. لكن على السواء الكهنوت والذبائح والمذبح كلها تشير إلى شخص وعمل الرب يسوع المسيح.
على قدر ما يختص الأمر بالخيمة في حد ذاتها، الدار مع مذبح المحرقة كان الموضع الذي به يتقرب إسرائيل إلى الله، الموضع المقدس الذي فيه تكون لهم شركة مع الله وقدس الأقداس الذي فيه الرب شخصيًا يسكن بطريقة مرئية بينهم في الشاكيناه، كإله العهد وحضوره يستقر على كرسي الرحمة الذي يغطي التابوت.
من المفيد لنا جدًا ملاحظة الترتيب الذي به أُعطيت لموسى مختلف الأوامر المختصة بالخيمة وأثاثها. أولًا لدينا تعليمات بخصوص التابوت بكونه الأكثر قداسة في قدس الأقداس (خر 25: 10-22)، بعده كذلك ما يختص بمائدة خبز الوجوه والمنارة الذهبية (خر 25: 23-40)، ليس فقط بكونها تنتمي لأثاث الموضع المقدس، بل أيضًا لأن ما ترمز إليه من حقائق روحية -حياة ونور في الرب- كان نتاج حضور الله بين الكاروبيم.
بعد ذلك يتم وصف المسكن ذاته وموقع التابوت والمائدة والمنارة فيه (خر26). لكن أخيرًا يأتي مذبح المحرقة مع الدار الذي كان له أن يحيط بالمسكن (خر 27: 1-19).
نحن الآن ندخل -إن جاز القول- في جزء مختلف، وهو المختص بالخدمة. هنا التوجيهات أُعطيت أولًا بخصوص إيقاد السرج (جمع سراج أي قنديل أو مصباح) على المنارة ذات السبع فروع (خر 27: 20،21)، بعدها لدينا تأسيس الكهنوت مع كل ما يختص به (خ28-29). الأخير لأن أسمى نقطة في الخدمة هي ما تختص بمذبح البخور وخدمته (خر 30: 1-10). هذا يمثل ويرمز للصلاة، ومن ثمَّ جاء فقط بعد إقامة الكهنوت الذي يقوم بالوساطة.
هكذا على قدر ما يمكننا الملاحظة فإن الترتيب على الدوام من الداخل إلى الخارج، من قدس الأقداس إلى دار العابدين، يرمز مرة أخرى إلى أن الكل ينشأ ويبزغ ممن هو إله النعمة، الذي كما سبق أن اقتبسنا بلغة القديس أُغسطينوس: "يعطي ما يأمر به"(140) وأن أسمى كل خدمة -والتي كل شيء آخر هو تابع أو بالأحرى يقف مرتبط لها كارتباط الوسيلة بالغاية- هي خدمة الشركة في الصلاة، المعاينة المبُجلة لله.
هذه التعليمات يتبعها بعض تعليمات مرتبطة تمامًا بإسرائيل بصفتها كشعب الله. إسرائيل هي بكره بين الأمم ( 4: 22-23)، ولكونها هكذا يلزم افتدائها مثل الابن البكر للأسرة (خر 22: 29؛ 34: 20؛ عد 3: 12-13، 16)، للإشارة من ناحية إلى أن الشعب هو ملكية خاصة له وأن الحياة التي أودعت إليهم تخصه، ومن الناحية الأخرى للتعبير عن أنه في البكر كل الأسرة تقدست لله (رو 11: 16). هذا كان مغزى "مال الفدية" (خر 30: 11-16). لكن بالرغم من ذلك، كل من يقترب إليه يحتاج لاغتسال خاص، من ثمَّ جاء الكلام عن المرحضة (خر 30: 17-21).
مرة أخرى داخل نطاق إسرائيل كان للكهنة أن يكونوا الممثلين المقدسين للشعب. بناء على ذلك يلزمهم وكل ما يرتبط بخدمتهم أن يُمسح بزيت خاص، يرمز للروح القدس، زيت كل من يقلده كان له أن يُفتقد بعقوبة تذكّرنا بما يترتب على الخطية ضد الروح القدس (ع22-33).
أخيرًا المواد لأسمى خدمة رمزية والتي للبخور يتم وصفها (ع34-38).
إن القسم كله يُختم بتحديد الأشخاص الذين أقامهم الرب لعمل كل ما يرتبط بإعداد مسكنه من أعمال (خر 31: 1-11).
إن الفرائض وما تم تأسيسه هكذا كان في الحقيقة نتاج وحصيلة العهد الذي قطعه الرب مع إسرائيل. وكعلامة على هذا العهد بين الرب وبني إسرائيل (خر 31: 17) أمرهم الله من جديد بحفظ السبت (خر 31: 12-17) - تدبيره المضاعف للراحة والتقديس (ع15) يعبّر عن الوجهين المدني والديني لذلك العهد وعن اتحادهما العجيب. هكذا إذ تزود موسى بكل التوجيهات المطلوبة، تلقى من يد الرب لَوْحَيِ الشَّهَادَةِ: لَوْحَيْ حَجَرٍ مَكْتُوبَيْنِ بِإِصْبِعِ اللهِ (ع18).
بينما كل هذه التعاقدات المقدسة تتم على الجبل، كان هناك مشهد آخر مختلف تمامًا يحدث تحت في محلة إسرائيل. بدلًا من بذل محاولة حمقاء وخاطئة للتهوين من خطية صنع العجل الذهبي (خر 32: 1-6)، الجهاد الفعلي المنوط بنا هو أنه يجب علينا أن نضع الأمر في نوره الحقيقي.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
إن الغياب الطويل لموسى قد أوقظ مخاوف خاصة ومتميزة في الشعب. لقد رأوه تجاوز أكثر من شهر في السحاب المنير الذي غطى الجبل. "وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (خر 27: 17).
أي شيء أكثر طبيعية لمن انتظروا أسبوعًا بعد أسبوع في عزلة لا تفسير لها داخل منظر هذه النار فيتخيلوا أن موسى أكلته هذه النار. لقد فني قائدهم والرمز المرئي للرب كان يضئ على قمة الجبل مثل "نار آكلة".
يلزم أن يكون لديهم قائد آخر وذاك سيكون هارون. لكن يلزم أن يكون لديهم رمز آخر للحضور الإلهي. رمز واحد وحيد طرأ لأذهانهم الجسدانية، بخلاف ما تقدمهم إلى ذلك الوقت. وكان هو أبيس المصري الذي تحت شكل وهيئة ثور مثّل قوات الطبيعة.
ولعبادته كانوا هم متعودين على الدوام، فمقر عبادته الرئيسي في المنطقة المجاورة لهم مباشرة حيث كانوا يقيمون لقرون هم وآبائهم في مصر. وربما كان هذا هو أيضًا الشكل الذي به كثير منهم في أيام سابقة حاولوا بطريقة فاسدة أن يعبدوا إله آبائهم، مازجين تقاليد رؤساء الآباء مع ما ينتشر حولهم من فساد وعبادات خاطئة (قارن يش 24: 14؛ حز 20: 8؛ 23: 3، 8).
من الواضح تمامًا أن إسرائيل لم تقصد أن تهجر الرب، بل فقط أن يعبدوه تحت رمز أبيس. هذا يتضح مما قاله الشعب لدى رؤيتهم للعجل الذهبي: "هذا إلهك يا إسرائيل"(141) (خر 32: 4 بحسب النص)، ومن إعلان هارون: «غَدًا عِيدٌ لِلرَّبِّ» (خر 32: 5). فخطيتهم العظيمة تكمن في عدم إدراكهم لحضور إله غير مرئي، بينما مخاوف عدم إيمانهم قادتهم للرجوع إلى ممارساتهم الوثنية السابقة، غير منتبهين إلى أن هذا التصرف كان يتضمن كسر للوصية الثانية من الوصايا التي أُعلنت مؤخرًا على مسامعهم ولكل العهد الذي تم المصادقة عليه بقداسة ووقار.
سعى بعض المفسرون في التخفيف من جرم هارون بالافتراض أنه بطلبه لحليهم الذهبية لصنع العجل كان هو يأمل في أن ينبههم لطمعهم وبطلانهم (فيمتنعوا عن تقديم حليهم له) وبهذا يصرفهم عن غرضهم الخاطئ. لكن النص لا يقدم أي مبرر وتعضيد لهذه النظرية. نعم هارون لم يكن آنذاك في الرتبة الكهنوتية، (لكن) إعلانه أيضًا عن "عيد للرب" قد يكون المقصود به التأكيد بوضوح على أن اسم الرب لا تزال إسرائيل تعترف به كما من قبل.
لكن أقل ما يمكن قوله إن ضعفه الجدير باللوم أضاف فقط إلى نصيبه الذي شارك به في خطية الشعب. وفي الواقع هذا يتضح من اعتراف هارون مؤخرًا لموسى (خر 32: 21-24)، والذي لا يوجد شيء مشين ومُذل تسجل عنه أكثر من هذا حتى على مدى هذه الرواية المحزنة.
لكن ربما كان جيدًا أنه قبل تعيينه للكهنوت هارون وكل من جاءوا بعده أن يكون لهم هذا الدليل والبرهان على عدم الأهلية وعدم الاستحقاق الطبيعيين، لكي يظهر بوضوح أكثر أن صفة الكل كانت رمزًا ومثالًا وأنها غير مرتبطة مطلقًا باستحقاق هارون أو أحد من بيته.
بينما كان إسرائيل منغمسًا في المحلة في الرقص الخليع والعربدة التي عادة تصاحب مثل هذه الأعياد الوثنية، كانت هناك تجربة أخرى في انتظار موسى. لقد كان الله هو الذي أخبر موسى بالارتداد السريع لشعبه (خر 32: 7-8)، وصاحب إعلانه هذه الكلمات: "فَالآنَ اتْرُكْنِي(142) لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ فَأُصَيِّرَكَ شَعْبًا عَظِيمًا" (ع10). لقد لاحظ أحد الآباء أنه في عبارة "فَالآنَ اتْرُكْنِي" يبدو أنها تتضمن دعوة لموسى ليمارس وظيفته كشفيع لشعبه. علاوة على ذلك قد لوحظ أيضًا أن العرض لجعل موسى أمة أعظم من إسرائيل (تث 9: 14)، كان بمعنى ما تجربة حقيقية أو بالأحرى اختبار لموسى من جهة الإخلاص للهدف والأمانة لمهمته وإرساليته. نحن نعرف كيف صمد موسى تمامًا للتجربة وكيف أنه باجتهاد ومثابرة نجح في تشفعه لأجل إسرائيل أمام الرب (ع11-14).
لكن توجد نقطة واحدة لم يعلّق عليها المفسرون بما فيه الكفاية. عند إعلانه عن ارتداد إسرائيل، لم يتكلم الرب عنهم بكونهم شعبه بل شعب موسى: "قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْر" (ع7)، هو في نفس الوقت أمد موسى بمبرر صحيح لتشفعه وأيضًا أشار إلى الاحتياج لتلك العقوبة الصارمة التي نُفذّت فيما بعد، لئلا يمكن لموسى بتدليل ضعيف وتهاون يتورط في التواطؤ مع خطية إسرائيل. النقطة الأخيرة تُفهم بسهولة. أما بالنسبة للنقطة الأخرى فنحن نرى كيف أن موسى في تشفعه تذرع بالحجة التي أمده الله بها. فبإلحاح شديد هو أصر على أن إسرائيل كان شعب الله، حيث أن خلاصهم من مصر كان كله من صنع الله.
ثلاثة حجج خاصة استخدمها موسى في كلامه مع الله، وهذه الثلاثة يمكن استخدامها كل الأوقات كنماذج في تضرعنا طلبًا للمغفرة واستعادتنا لسابق وضعنا عقب ضعفاتنا وسقطاتنا.
هذه الحجج كانت أولًا: إن إسرائيل كان ملك خاص لله وأن معاملاته السابقة تبرهن هذا (ع11)، ثانيًا أن مجد الله كان معنيًا في عتق إسرائيل أمام العدو (ع12)، وثالثًا أن وعود الله الكريمة كانت مرهونة بخلاصهم (ع13). ومثل هذه الحجج لا يرفض الله مطلقًا قبولها (ع14).
لكن مع كون الله أخبر موسى بمجرى الأحوال في محلة إسرائيل، لكن موسى لم يكن مهيئًا للمنظر الذي قدم ذاته، عندما فجأة تحول المشهد لذروته(143)، جمع وافر في عربدة وخلاعة ظهر منظره بالكامل. كانت المفارقة (بين ما توقعه وما رآه) عظيمة جدًا، وإذ حمي غضب موسى "َطَرَحَ اللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ وَكَسَّرَهُمَا فِي أَسْفَلِ الْجَبَل" (ع19).
ليس من الضروري أن نفترض أن ما جاء في النص المقدس بعد ذلك تم سرده بترتيب دقيق من جهة زمن حدوثه. يكفي القول أنه بعد توبيخ شديد وإن كان حاد اللهجة لهارون، أخذ موسى مكانه: "وَقَفَ مُوسَى فِي بَابِ الْمَحَلَّة" واستدعى كل من كانوا إلى جانب الرب: "قَالَ: «مَنْ لِلرَّبِّ فَإِلَيَّ!» فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ بَنِي لاَوِي" أطاعوه، وتم توجيههم للمضي عبر المحلة بقوله لهم: "َاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ" (ع27).
في ذلك اليوم المرعب سقط ما لا يقل عن ثلاثة آلاف رجل بسيف أبناء لاوي. أما بالنسبة للعجل الذهبي فقد تم حرق إطاره الخشبي الحامل له بالنار وتم سحق وطحن الذهب المغطي له وجعله ناعمًا وقام بتذريته على جدول المياه النازل من جبل سيناء(144). ومن هذا الجدول كان لإسرائيل أن يشرب منه، كرمز أنه يلزم لكل واحد أن يأخذ ويحمل ثمار خطيته، مثلما فيما بعد المرأة التي كان يُشك في اقترافها الزنا كانت تؤمر بشرب الماء الذي غُسل به كتاب اللعنة عليها (عد 5: 24).
توجد هنا نقطة واحدة تحتاج لمزيد من البحث أكثر مما تلقته من قبل. كما نفهم في المعتاد فإن قتل ثلاثة آلاف تقف حقيقة لا تفسير لها. لماذا فقط أولئك الثلاثة آلاف؟ هل هم سقطوا لأنه حدث بالصدفة أنهم كانوا الأقرب مكانيًا، على أساس كما اقترح البعض على أساس قتل عشر الجمع الذي أخطأ، ولماذا لم يهرع أحد لمساعدتهم ونجدتهم؟
يبدو لي أن مثل هذه العقوبة العشوائية لا تتفق مع التعاملات الإلهية. لكن النص كما يظهر لنا يقدم لمحات للتفسير الصحيح.
عندما وقف موسى في محلة إسرائيل وأعلن عن طلبه لمن كانوا إلى جانب الرب، نقرأ أنه رأي الشعب مُعَرًّى (ع25)، أو في عربدة مفرطة (قارن خر 32: 6؛ مع 1كو 10: 7-8). باختصار هناك وقف أمامه عدد من الناس، خارجين حديثًا من عربدتهم وسكرهم، في حالة فسق وفجور، حتى مظهرهم وكلماتهم لم تستفق بعد إلى حالة من الهدوء والخزي والتوبة أو الندم على ما فعلوه. أولئك -كما فهمنا من النص- كانوا لا يزالوا يتسكعون في الطريق العريض للمحلة والتي في وقت متأخر جدًا كانت تدوي بأصواتهم، فالتقى بهم اللاويون المكلفون بالانتقام وسيفهم في يدهم فجازوا ورائهم من باب إلى باب كمثل الملاك المهلك الذي اجتاز مصر في ليلة الفصح، وأولئك كان عددهم ثلاثة آلاف سقطوا بالسيف في ذلك اليوم، بينما أغلب الجموع قد انسحبوا إلى هدوء خيامهم في توبة متأخرة وخوف لرؤيتهم مَنْ حضوره بينهم (يقصد هنا موسى) دل على قرب ذلك الإله القدوس والغيور، والذي لديهم مبرر عظيم جدًا لأن يخشوا أحكامه المرعبة.
هكذا انتهى يوم عودة موسى بين شعبه. وفي الغد هو جمعهم ليتكلم ليس بدافع من الغضب بل من الحزن الشديد عن خطيتهم العظيمة. وإذ رجع من عندهم مضى إلى الرب وتوسل لأجل غفران خطية إخوته بمحبة شديدة وإنكار ذات (ع31-32) لا يضارعه فيه أحد من البشر سوى بولس الرسول(145).
إلى هنا هو فاز بما يريد، بكون الشعب ليس له أن يفنى ولا للعهد أن يتوقف، لكن الله لن يمضي شخصيًا في وسط شعب هكذا عاجزًا عن احتمال حضوره المقدس، بل سيرسل من الآن فصاعدًا ملاكًا مخلوقًا ليقودهم. ولا تزال هذه الخطية ترجح كفة الميزان في يوم الافتقاد والذي عصيان آخر لهذا الشعب سيجلبه يقينًا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
أول كلمات الحكم الإلهي بأن جثثهم ستسقط في البرية (عد 14: 29)، كانت إن جاز القول، نُطقت فعلًا في هذا التحذير للرب في غد قتل الثلاثة آلاف (ع34): "لَكِنْ فِي يَوْمِ افْتِقَادِي أَفْتَقِدُ فِيهِمْ خَطِيَّتَهُم"، وبلغة الكتاب (ع35): "فَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ لأَنَّهُمْ صَنَعُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعَهُ هَارُون"(146). كون الرب لن يمضي شخصيًا مع إسرائيل لأجل صلابة رقابهم، كانت بالنسبة لهم "كلام سوء" وشعروا أنها أخبار غير طيبة (خر 33: 4).
إن خبر توبة الشعب والغفران الكريم لله لهم (خر33) يشكل واحد من أهم المقاطع الثمينة في هذا التاريخ. أول مظهر لحزنهم الفاضل كان نزعهم لزينتهم، ليس بصفة مؤقتة فقط بل بصفة دائمة. فنحن نقرأ النص هكذا: "َنَزَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ زِينَتَهُمْ مِنْ جَبَلِ حُورِيب من الآن فصاعدًا" [(خر 33: 6) بحسب الترجمة الحرفية). كان إسرائيل -إن جاز القول- في حالة نوح مستديم، منذ خطيتهم القومية العظيمة.
بعد ذلك لكون الرب لن يكون شخصيًا في وسطهم، لذلك نقل موسى الخيمة -ربما خيمته الشخصية- خارج المحلة، لكي يمكنه أن يتلقى تعليمات إلهية عندما ينزل عمود السحاب "وَيَتَكَلَّمُ الرَّبُّ مَعَ مُوسَى". وموسى َدَعَاهَا «خَيْمَةَ الاِجْتِمَاعِ» (ع7). ويكاد يكون من الضروري القول أن هذه لم تكن خيمة الاجتماع (التي في بالنا والتي قد يوحي بها النص) لأن تلك لم تكن قد أُقيمت بعد. إلى خيمة الاجتماع هذه -كل من كانوا من إسرائيل الحقيقي ومن اعتبروا الرب ليس مجرد إلههم القومي بل اعترفوا به شخصيًا وشعروا باحتياجهم إليهم- اعتادوا الخروج إليها: "فَكَانَ كُلُّ مَنْ يَطْلُبُ الرَّبَّ يَخْرُجُ إِلَى خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ الَّتِي خَارِجَ الْمَحَلَّةِ". هذا يلزمنا ألا نتطلع إليه بكونه احتجاج أو فعل انفصال من جانبهم، بل كدليل على توبة حقيقية وعن رغبتهم في لقاء الله الذي لم يعد في محلة إسرائيل.
علاوة على ذلك كل الشعب عندما كانوا يرون عمود السحاب ينزل إلى موسى يقومون ويسجدون كلهم (ع10)، وربما كانت هذه هي الفترة الوحيدة التي فيها حدث أعظم تليين للقلب أثناء فترة تيهان إسرائيل في البرية. والله تفضل بالالتفات إليها.
لقد أكد الله لموسى أنه يقف في علاقة خاصة به: "عَرَفْتُكَ بِاسْمِك"، وأن صلاته لأجل إسرائيل قد سُمعت: "وَجَدْتَ أَيْضًا نِعْمَةً فِي عَيْنَي". لكن إلى ذلك الوقت حكمه السابق ساري والذي يقضي بأن ملاك وليس الرب شخصيًا كان له أن يكون قائد إسرائيل القادم.
وفي ظروف كهذه يتوسل موسى لله أن يُريه طريقه، أي مقصده الحاضر تجاه إسرائيل، مضيفًا أنه لو أن الله سوف يأتي بهم إلى أرض الموعد، فعليه أن يضع في اعتباره هذا الأمر: "انْظُرْ أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ شَعْبُك" وبناء عليه هو إلههم وملكهم. وفازت هذه الحجة أيضًا بما تبتغيه ووعد الرب مرة أخرى أن حضوره سوف يرافقهم وأنه هو شخصيًا سوف يعطيهم راحة كنعان (ع14؛ قارن تث 3: 20؛ عب 4: 8).
وموسى شكر بصلاة أخرى بإلحاح أكثر عما قبل لأن البركة الآن مُنحت مرة أخرى (ع15-16). لكن شيء واحد صار واضحًا تمامًا لموسى مما حدث. مهما كان هو أمينًا في بيت سيده (عب 3: 5)، فهو ليس مجرد إلا عبد والعبد لا يعرف مشيئة سيده.
التهديد بإفناء إسرائيل لو بقي الرب بين إسرائيل، والبديل بإرسال ملاك معهم، يلزم أنه ألقى بغيوم الكآبة على مكانته كوسيط في المستقبل. لقد كانت وضعه مجرد وضع عبد، مهما أُنعم عليه وليس لابن (عب 3: 5-6).
آه لو أمكنه أن يفهم تمامًا كينونة وشخص إله إسرائيل، يرى ليس فقط شبهه، بل مجده (خر 33: 18)! آنذاك سيصير كل شيء واضحًا، وبنور أتم، طمأنينة فرحة تملأ قلبه.
كون هذا كان المعنى الحقيقي لصلاة موسى: «أَرِنِي مَجْدَكَ» (ع18)، يتضح من الطريقة التي بها أجاب على سؤاله: "فَقَالَ: أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَك". آنذاك تعلم موسى أن أعمق سر النعمة الإلهية يكمن ليس في تعاملات الله للوطن ككل بل في تعاملاته الفردية، في رحمته الملوكية: "َأَتَرَأَّفُ عَلَى مَنْ أَتَرَأَّفُ وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ" (ع19).
لكن لا يمكن لإنسان رؤية وجه الرب المتألق تمامًا. لا جسد ولا روح طالما تسكن في الجسد يمكنها أن تحتمل مثل هذا المجد. بينما يجتاز ذلك المجد، سيضع الله موسى في نقرة من الصخرة، ربما في نفس الموضع الذي فيه مُنح فيما بعد رؤيا شبيهة لإيليا (1مل 19: 9)، وهنا سوف يسنده أو يغطيه بيده: "أَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ". والذي أمكن لموسى رؤيته كان مجرد ما ورائه، الانعكاس المضيء لما كانه فعلًا الرب. لكن ما عاينه موسى وهو مختبئ في نقرة في الصخرة، وإيليا ممثل الأنبياء رأى بوضوح أكثر أخفي وجهه في ردائه بينما كان يسجد له، اُستعلن لنا تمامًا في وجه يسوع المسيح الذي فيه "حل ملئ اللاهوت جسديًا".
_____
(140) "أعط ما تأمر به، وأُمر بما تشاء" مبدأ لا يمكننا الإكثار من تكرار أنه ينطبق على كل تدبير النعمة حيث الكل هو من الله.
(141) كل من هنا وفي العدد الأول ينبغي أن تكون الترجمة "الله" بالمفرد وليس بالجمع "آلهة" كما في الترجمة الإنجليزية.
تعقيب للمترجم هنا: الكلمة وردت في العبري "إلوهيم" والتي اعتدنا على أن تُكتب "الله" حين يختص الأمر بالله الحي والحقيقي وتُكتب "آلهة" حين يختص الأمر بالآلهة المزيفة، وهنا كان موقف فريد في نوعه، فاختلط الأمر على المترجمين وحدث لبس ولهم كل العذر، ولكن فعلًا في ضوء ما قاله هارون، يكون الكلام المقصود هنا هو عن الله الحي والحقيقي- الذي لا يزالوا ولا ينكروا أنه يطعمهم المن ويأتيهم بماء من الصخرة - وإن كان بتصور خاطئ، بينما لو كان الكلام عن آلهة كاذبة لكانوا هنا فكروا بالأولى للرجوع إلى مصر، كما سيحدث فيما بعد.
(142) تعليق للمترجم: لا أدري لماذا يخطر ببالي أن موسى كان في تلك اللحظة يتكلم بالخير عن شعبه من جهة ما تم إنجازه ويعدد في مناقبهم ويطلب المزيد من مراحم الرب لهم ويتمنى لو يغير الرب قلوبهم وأذهانهم لاستيعاب المزيد من الروحيات، وإذ بالرب يوقف هذا الاستطراد في الكلام لصالحهم فيعلمه بما فعل الشعب الذي يتكلم عنه بكل هذا الحماس، فيعطيه من ناحية فرصة أن يتطرق لتفعيل عمله كشفيع لأجلهم ومن ناحية أخرى، لكي يدرك الشعب فيما عظمة شخصية موسى وحبه الشديد لهم إذ هو ليس فقط شفع فيهم بل أيضًا رفض عرضًا سخيًا من الرب بجعله أمة عظيمة بل هو تقدم خطوة أصعب إلى الأمام حين طلب أن يُمحى اسمه من كتاب سفر الحياة لو لم يغفر الرب خطية شعبه...
(143) غالبًا عند نزول هذه الهضبة التي تُدعى هضبة العجل الذهبي، بينما الجوانب شديدة الانحدار من الوادي الضيق شديد الانحدار يخفي الخيام عن عيني، سمعت أصوات من أسفل، فتفكرت كيف أن يشوع قال لموسى عند نزوله من الجبل: "يوجد صوت قتال في المحلة" عن كتاب:
Mr. Palmer in The Desert of the Exodus, vol. 1 p. 115.
(144) انظر (تث 9: 21). سيجد القارئ المتعلم كل اقتراح ممكن لمصدر هذه المياه في كتاب:
Suggestion in Bocharti Hieroz., vol. 1 pp. 349, etc.
(145) انظر (رو 9: 3). كتب بنجل يقول: [ليس من السهل أن نقدّر قيمة محبة موسى أو بولس. فقدرة مكيالنا الصغير لا يمكنها أن تستوعبه، مثلما لا يمكن لطفل حديث الولادة أن يدرك شجاعة بطل. ]
(146) إن النص لا يتضمن بالضرورة أن هناك ضربات أخرى إضافية قد أُرسلت على الشعب في ذلك الوقت.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-2/tabernacle.html
تقصير الرابط:
tak.la/vd7vpyq