St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-2
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الثاني: الخروج والتيه في البرية - القمص أنجيلوس المقاري

19- الفصل التاسع عشر: ثمان وثلاثين سنة في البرية - كاسر السبت - مقاومة قورح ورفقائه المتذمرين من الشعب - الضربة وكيف أزهرت عصا هارون وأنضجت لوزًا (عد15؛ 33: 19-37؛ 16-17؛ تث 1: 46 - 11: 15)

 

الفصل التاسع عشر:

ثمان وثلاثين سنة في البرية - كاسر السبت - مقاومة قورح ورفقائه المتذمرين من الشعب - الضربة وكيف أزهرت عصا هارون وأنضجت لوزًا (عد15؛ 33: 19-37؛ 16-17؛ تث 1: 46 - 11: 15)

 

أكثر من سبع وثلاثين من سنوات التيه كان لهم أن يمضوها الآن في برية فاران إلى أن قام جيل جديد ليقتني أرض الموعد. وعن هذه الفترة الطويلة يكاد لا يزيد على حادثة واحدة متروكة لنا في الكتاب المقدس. كما يلاحظ كاتب ألماني فيقول إن جماعة إسرائيل لكونها محكوم عليها بالقصاص توقفت عن أن تكون موضوع يُكتب عنه في التاريخ المقدس، بينما الجيل الصاعد الذي مُركز فيه الآن حياة ورجاء إسرائيل فليس من تاريخ صنعه ليُكتب عنه.

وهكذا نلاحظ كل هذه الفترة بالأحرى موت القديم أكثر من حياة الجديد، وتيه إسرائيل بالقبور التي تركوها خلفهم بينما جثثهم تسقط في البرية. مع ذلك يمكننا أن ننتفع بتجميع مختلف الملاحظات المتناثرة في الكتاب. فأولًا نحن نعرف أن إسرائيل أقام في قادش أيامًا كثيرة (تث 1: 46)، وأن من هناك كان توجههم نحو البحر الأحمر (تث 2: 1).

ويبدو أن أبعد محطة توقف لهم من قادش يبدو أنها كانت عصيون جابر والتي كما نعلم تقع على ما يُدعى خليج إيلة على البحر الأحمر. من هناك عادوا مرة أخرى في نهاية أربعين سنة إلى برية صين التي هي قادش (عد 33: 36). والمحطات في تجوالهم من قادش إلى عصيون جابر محددة في (عد 33: 18-35). يوجد حوالي سبعة عشر منهم بعد مغادرة رثمة وهو اسم مشتق من رتم أي شجيرات الرتم والتي لذلك قد تعني وادي شجيرات الرتم. ولو فهِمنا كما ينبغي فهذا كان المكان الأصلي لنزول إسرائيل بالقرب من قادش. وفي الواقع يوجد سهل بالقرب من عين قديس أو قادش إلى هذا اليوم يحمل اسم أبو ريتميت.

أما بالنسبة لقادش ذاتها أو الموضع المقدس، موضع "التقديس" والتي في الأصل تحمل اسم عين مشفاط، أي بئر الدينونة (تك 14: 7)، نحن نتخيل أنها تشتق اسمها المميز من الأحداث التي حدثت هناك، فإضافة اسم "برنيع" قادش برنيع إما يحدد اسم سابق للموضع أو الأكثر احتمال أنه يعني "الأرض المتحركة هنا وهناك(177)". نحن نفترض أن النزول في وادي الرتم كان يُرجح جدًا تحديده بوجود خضرة واعدة هناك والتي بدون شك تُعزى إلى مجاري مياه.

St-Takla.org Image: Aaron's green staff (Numbers 17 :8) - from: Chronicle of the World: Weltchronik (manuscript), by Rudolf von Ems, between 1350 and 1375. صورة في موقع الأنبا تكلا: عصا هارون الخضراء (العدد 17: 8) - من مخطوط كتاب تاريخ العالم (ويلتكرونيك)، رودلف فون إمس، في الفترة ما بين 1350-1375 م.

St-Takla.org Image: Aaron's green staff (Numbers 17 :8) - from: Chronicle of the World: Weltchronik (manuscript), by Rudolf von Ems, between 1350 and 1375.

صورة في موقع الأنبا تكلا: عصا هارون الخضراء (العدد 17: 8) - من مخطوط كتاب تاريخ العالم (ويلتكرونيك)، رودلف فون إمس، في الفترة ما بين 1350-1375 م.

وفي الواقع فحص لأسماء المحطات السبعة عشر التي نزل فيها بني إسرائيل أثناء تجوالهم يبين أن كل محطات نزولهم تم اختيارها أيضًا بالقرب من مصادر المياه والخضرة. هكذا لدينا "رمون فارص" أي "غصن الرمان" ربما هو الموضع حيث تمرد قورح جلب مثل هذا العقاب المرعب. لبنة أي "البياض" ربما من شجر الحور الأبيض الذي ينمو هناك، "رسة" أي "ندى"، "جبل شافر"، أي جبل الجمال. مثقة أي حلاوة وعذوبة، إشارة إلى الماء. حشمونة أي دسم أو خصوبة حيث توجد بركة مملوءة بالماء العذب والحي مع خضروات كثيرة حولها. بني يعقان أو كما في (تث 10: 6) آبار بني يعقان(178)، ربما هي الآبار التي حفرها اليعقانيين عند طرد الأودميين لهم من موطنهم الأصلي (تك 36: 27). يُطْبَات أي صلاح (طيبة)، وعَبْرُونَة قد تعني مخاوض (معابر).

والأسماء الأخرى مشتقة إما من خصائص مميزة للمشهد أو من أحداث خاصة مثل قُهَيْلاتَة أي اجتماع، مَقْهَيْلُوت أي اجتماعات، حَرَادَة أي "مكان رعب" إلخ.(179).

أول انطباع سوف نشتقه سواء من قلة هذه المحطات ومن موقعها هو أن تلك المعسكرات كان يتم شغلها على التوالي لفترات طويلة. وما هو أكثر من ذلك أننا نستنتج من الكلمات الخاصة لبعض العبارات في الأصل، أنه أثناء هذه السنوات الثماني والثلاثين كان الشعب مبعثرًا فوق وأسفل الخيمة مع اللاويين كما لو كانوا يشكلون نوع من المعسكر المركزي وموضع تجميع القوات.

أيضًا من المتيقن تمامًا أنه في تلك الفترة المنطقة التي تقع فيها تحركات بني إسرائيل في سنوات التيه كانت قادرة على أن تعول مثل هذا الشعب البدوي مع قطعانه وبهائمه. في الواقع إن وجود الماء لو نتحول للكلام عنه على الدوام سوف يحول أي جزء من البرية إلى حديقة مثمرة. وفي هذا الصدد فإن معرفة أساليب الري التي تعلمها بنو إسرائيل في مصر، يلزم أنه كان لها فائدة خاصة.

أخيرًا لم يكن الشعب منعزل تمامًا. ليس فقط هم كانوا بالقرب مما يمكن أن ندعوه الطريق العام بين الشرق ومصر، بل كانوا في احتكاك مع القبائل الأخرى كمثل بني يعقان. (تث 2: 26-29) يبدو أنها تعني ضمنًا أنه في بعض أوقات كان من الممكن أن يشتروا طعام وماء، بينما تث 2: 7 تبين أن بني إسرائيل ليس فقط لم يعوزهم شيء بل أيضًا أنهم ازدادوا جدًا في الثروة والغنى.

فقرات مثل (تث 8: 14 إلخ.؛ 29: 5؛ نح 9: 21) تبرهن بأية طريقة رائعة اهتم الله بتدبير كل أعواز الشعب أثناء تلك الفترة، ولا يمكن أن يوجد شك في أنه في المخيلة النبوية للمستقبل وبالأخص مع إشعياء، يوجد استعادة متكررة لتعاملات الله الكريمة مع إسرائيل في البرية(180).

وإن كان سجل أحداث الثماني وثلاثين سنة مختصرًا، لكنه يحتوي على إشارة إلى حدثين في كليهما حدث تمرد على الرب. الأول يسرد لنا خبر عن شخص انتهك علانية الناموس الإلهي بجمعه حطب يوم السبت (عد 15: 32-36). ومع أن عقوبة الموت صدرت ضد هذه الخطية الفظيعة (خر 31: 14؛ 35: 2)، لكن المذنب وضع أولًا في حبس، جزئيًا باللجوء إلى الرب بطلب توجيه خاص منه حيث أنه تم في السابق الإشارة فقط إلى العقوبة ذاتها وليس كيفية التنفيذ، وجزئيًا ربما للتأثير على كل بني إسرائيل وجعل خطورة الأمر تنغرس في أذهانهم.

فالمراعاة اللائقة ليوم الرب كان من كل وجهة نطر مسألة لها أهمية عميقة لإسرائيل، والمذنب بتوجيه إلهي أُخذ خارج المحلة وتم رجمه حتى الموت. ولم يتم إخبارنا في أية فترة معينة من جولات إسرائيل في التيه حدث هذا الحدث. من الواضح أنه تم حشرها كمثال وشرح، عقب التحذير ضد الخطايا الشنيعة. هذه الخطايا بالازدراء العلني لكلام الله كانت تتضمن عقوبة القطع من شعب الرب.

بل ونحن ليس لدينا أي تاريخ محدد لتعيين توقيت المثال الآخر والأكثر خطورة للعصيان الذي قاده قورح ورفاقه (عد16)، والذي فيه الشعب ككل فيما بعد كان متورطًا فيه (عد 16: 41-50). لكن يوجد سبب للافتراض أنه حدث في فترة مبكرة من سنوات التيه، ربما كما اقُترح من قبل في رِمُّونَ فَارِصَ. كان قائد هذا العصيان قورح واحد من اللاويين من نسل يصهار أخو عمرام (خر 6: 18)، ولذلك هو من أقرب الأقارب لهارون، ومعه دَاثَانُ وَأَبِيرَامُ ابْنَا أَلِيآبَ وَأُونُ بْنُ فَالتَ بَنُو رَأُوبَيْن (عد 16: 1). لكن من حيث أن أُونُ لم يُذكر مرة ثانية فيمكننا الافتراض أنه انسحب مبكرًا من المؤامرة.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

اكتسب أولئك الناس إلى صفهم ما لا يقل من مئتين وخمسين من رؤساء الجماعة من بين كل الأسباط(181)، مَدْعُوِّينَ لِلاِجْتِمَاعِ ذَوِي اسْم، أي كلهم أعضاء في المجلس القومي ومن القادة المعروفين جيدًا، أو بلغة السفر أيضًا "مَشَاهِيرُ الجَمَاعَةِ رُؤَسَاءُ أَسْبَاطِ آبَائِهِمْ" (عد 1: 16). هكذا الحركة اتخذت أبعاد كبيرة جدًا وتبرم واسع الانتشار واستياء ثبت بالدليل.

وتبدو دوافع هذه المؤامرة واضحة بما فيه الكفاية. لقد كانت ببساطة طموحًا مُحبطًا وغيرة ولو أن المتمردين ادّعوا لغة روحانية أسمى. لقد استاء قورح من موسى أخو هارون بل وأبغض وربما اشتهى ما ارتآه رئاسة هارون التي لم ير لها من وجهة نظره أي سبب معقول وشرعي. وكانت له أيضًا مظلمة شخصية له. نعم كان هو واحد من عشيرة القهاتيين التي عُهدت إليها المهمة اللاوية الرئيسية في المسكن، لكن القهاتيين انقسموا إلى أربع عشائر (عد 3: 27)، لكن قيادة القهاتيين معًا عُهد بها ليس لأحد من الفروع الأقدم والأكبر بل للأصغر إذ أُعطيت إلى عَشِيرَةُ العُزِّيئِيلِيِّين (عد 3: 27)، وبحسب النص: "الرَّئِيسُ لِبَيْتِ أَبِي عَشِيرَةِ القَهَاتِيِّينَ أَلِيصَافَانُ بْنُ عُزِّيئِيل"(عد 3: 30). ألم يكن في هذا ظلم واضح وعدم عدل أثر في قورح شخصيًا؟

إنه أمر جيد في حق اللاويين ككل أنه بالرغم من هذا لم يتمكن قورح أن يغري أيًا منهم في مؤامرته. لكن بالقرب من خيام القهاتيين وخيمة قورح كان معسكر سبط رأوبين الذي يترأس قيادة القسم الجنوبي من المحلة. من المرجح وواقع رواية عقوبتهم يبدو أنها تعني هذا ضمنًا أن خيمة قورح وخيام رؤساء بني رأوبين داثان وأبيرام وأون كانت متجاورة.

ومن حيث أن رأوبين كانت له أيضًا مظلمة لأنه ألم رأوبين بكر يعقوب الذي لأجل ذلك كان ينبغي له أن تكون له الرئاسة بين الأسباط؟ لم يكن أمرًا صعبًا إشعال نار الغيرة في صدر شخص شرقي. فأي حق أو ادعاء لموسى أو بالأحرى لسبط لاوي الذي يمثله ليترأس على إسرائيل؟ يقينًا كان هذا ظلم شديد واغتصاب للسلطة لا يُحتمل، أثر بالأساس في رأوبين مثلما أثر ثانيًا في كل الأسباط الأخرى. هذا يشرح المشاركة السريعة لكثير من الرؤساء في المؤامرة ومجادلة موسى مع قورح (عد 16: 8-11) واحتكامه بغيظ إلى الله ضد التهم الضمنية لأبناء رأوبين (ع15).

ولقد عبّر المتآمرون بصريح العبارة عن وجهة نظرهم هذه على النحو التالي: «كَفَاكُمَا! -أي أنت يا موسى وهارون كانت لكما الرئاسة والكهنوت لوقت طويل بما فيه الكفاية- إِنَّ كُل الجَمَاعَةِ بِأَسْرِهَا مُقَدَّسَةٌ وَفِي وَسَطِهَا الرَّبُّ. فَمَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلى جَمَاعَةِ(182) الرَّبِّ؟». وسوف نلاحظ أن الادعاء الذي قدموه ليغطوا دوافعهم الأنانية الطموحة كانت تلك المختصة بروحانية أسمى والتي لا تعترف بشيء أقل من الكهنوت الروحي لكل إسرائيل. لكن كما سنبين في الحال فإن ادعاءهم لم يكن مبنيًا على الوساطة النموذجية لرئيس الكهنة، بل على موقفهم كإسرائيل بحسب الجسد.

كل هذه الرواية محزنة جدًا والحكم الذي صدر بعد ذلك عليها مرعب جدًا لا نجد ما يوازيه سوى ذاك الذي في العهد الجديد باغت حنانيا وسفيرة، والتمرد في حد ذاته كثيرًا ما يتم الإشارة إليه حتى أنه يحتاج لمزيد من التأمل الخاص. إن تمرد قورح -مثلما يُنسب عادة- لمثيره الأصلي، كان بالطبع فعل مقاومة مباشرة لتعيين الله.

لكن هذا ليس كل ما في الأمر. فالمبدأ الذي عبّروا عنه في مقاومتهم ومناقضتهم (ع3) يجري على طول الخط مباشرة بمناقضة كل القصد الكلي للعهد القديم، ولو تم تنفيذه لكان أفسد تمامًا كل صفته النموذجية والرمزية.

نعم كان حقًا تمامًا أن كل إسرائيل كان مملكة كهنة وأمة مقدسة، لكن لا يرجع هذا الفضل إلى ميلادهم أو موقفهم القومي بل من خلال الكهنوت الرمزي لهارون الذي قربهم إلى الله وكان وسيطهم لديه. أيضًا كهنوت هارون هذا مثلما في الواقع كل اختيارات مماثلة -كمثل الاختيار المختص بالمكان أين وما هي المواسم التي يُعبد فيها الله وتركيبة البخور أو ما يختص بالذبائح- مع أنه قد توجد أسباب ثانوية وفرعية لها، تعتمد في المقام الأول وبالأساس على تعيين الله وتحديده. "فَالذِي يَخْتَارُهُ يُقَرِّبُهُ إِليْه" (ع5)، "الرَّجُلُ الذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ هُوَ المُقَدَّسُ" (ع7).

كل خدمة أخرى أو نار أو موضع غير الذي اختاره الله، مهما كان الاختيار جيد ومعمول باجتهاد وعناية سوف يُعتبر خدمة غريبة ونار غريبة وموضع غريبًا. هذا كان أساسيًا للسمة الرمزية لكل هذه الترتيبات. لقد كان تعيين الله وليس الأهلية الطبيعة للشخص أو الشيء هو الذي له الاعتبار هنا. ولو الأمر بخلاف ذلك ستكون هي نتائج طبيعية وليست رموز وتشكل نتاج عقلي أكثر منه خدمة روحية وإلهية.

لقد كانت من طبيعة الرمز أن الله سوف يعين الشعار الأرضي الذي به سيربط الحقيقة الروحية. اللحظة التي فيها إسرائيل تنحرف في أيًا من التفاصيل مهما كان صغيرًا وتافهًا، هم ليس فقط تمردوا ضد تعيين الله بل لاشوا معنى الكل باستبدال ما هو إلهي بالبشري والطبيعي.

كانت الرموز لو جاز القول مرايا تتناسب مع الله وتُظهر كما قد قدمت حقائق روحية آتية بكل بركاتها. في المسيح توقفت كل هذه الرموز لأن الحقيقة التي كانت إليها تشير قد جاء. هذا الاستطراد بدا ضروريًا على السواء لأجل الفهم الصحيح لرواية قورح وأيضًا لفهم الترتيبات الرمزية للعهد القديم.

لكن لنعد إلى موضوعنا. في صباح اليوم التالي لإعلان حالة العصيان، تقدم قورح ومائتين وخمسين من رفاقه بحسب عرض موسى إلى باب خيمة الاجتماع. وهنا: "أَخَذُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِجْمَرَتَهُ وَجَعَلُوا فِيهَا نَارًا وَوَضَعُوا عَليْهَا بَخُورًا وَوَقَفُوا لدَى بَابِ خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ مَعَ مُوسَى وَهَارُون" (عد 16: 18). ولقد اكتسب قورح نفوذًا بدرجة جعلته قادرًا الآن لأن يجمع عَليْهِمَا كُل الجَمَاعَةِ إِلى بَابِ خَيْمَةِ الاِجْتِمَاع.

وكاد سخط الله الذي مجده تراءى علانية لكل الجماعة أن يفني في لحظة هذه الجماعة لولا أن موسى وهارون نجحت شفاعتهما مرة أخرى. وبهذه الكلمات: «اللهُمَّ إِلهَ أَرْوَاحِ جَمِيعِ البَشَرِ هَل يُخْطِئُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَتَسْخَطَ عَلى كُلِّ الجَمَاعَةِ؟» -كما يلاحظ أحد المشاهير- يستند موسى في مناشدته على نعمة الخلق العامة مصليًا بأن الله بكونه الخالق والصانع للعالم، لن يفني الإنسان الذي خلقه بل بالأحرى سوف يشفق على عمل يديه. وهكذا توجد حجة للرحمة وامتياز لا يُنطق به حتى في حقيقة كوننا مخلوقات لمثل هذا الإله!

وإذ ترك المتمردين بمجامرهم عند باب خيمة الاجتماع -ربما أصابهم رعب شديد (من تراءي مجد الرب)- ذهب موسى بعد ذلك إلى خيام داثان وأبيرام مصحوبًا بشيوخ إسرائيل وكل الجماعة(183).

في اليوم السابق رفض داثان وأبيرام أن يلتقيا بموسى وأرسلا له ردًا قاسيًا، مفترضين أنه قصد فقط أن يعمي الناس بقلع أو نقر عيونهم.

والآن داثان وأبيرام مع زوجاتهم وبنيهم خرجوا ووقفوا عند باب خيامهم كما لو كانوا يتحدون موسى ما الذي يمكنه عمله، لاسيما أنه تم تحذير الناس أولًا بالابتعاد عنهم. آنذاك نطق موسى بقصاص جديد لم يُسمع به وفي الحال تم تنفيذه. فَتَحَتِ الأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلعَتْهُمْ وَبُيُوتَهُمْ مع كل ما يخصهم وكل من اشترك في جريمتهم.

أما بالنسبة لقورح، فيبدو أن نفس المصير باغته. لكنها شهادة تأكيدية كذلك لصدق إعلان الله أنه لا يعاقب الناس لأجل خطايا آبائهم (إر 31: 30؛ حز 18: 19-20)، ولتقوى اللاويين أن أبناء قورح لم يشاركوا أبيهم في عصيانه ولذا لم يموتوا معه (عد 26: 11).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

وعلاوة على هذا ليس فقط صموئيل وفيما بعد هيمان من نسل قورح (1صم 1: 1؛ 1أخ 6: 33-38)، بل أيضًا بينهم كان البعض من مرنمي إسرائيل الحلوين الذين أناشيدهم التي قيلت بوحي إلهي كانت مخصصة للكنيسة في كل الأوقات. وكل المزامير التي نُسبت لبني قورح لها هذه السمة المشتركة التي تدوي كصدى للدرس الذي تعلموه من القصاص المهيب الذي حل ببيتهم، حتى أن كل وحيهم مخصص لتسبيح الملك المتوج في أورشليم ويتوقون للمشاركة في خدمات مسكن الله(184).

أما بالنسبة إلى المِئَتَيْنِ وَالخَمْسِينَ رَجُلًا الذِينَ قَرَّبُوا البَخُور، فقد خَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وأكلتهم، مثلما في مناسبة سابقة أماتت ناداب وأبيهو (لا 10: 2). إن مجامرهم التي تقدست لكونه تم تقديمها أمام الرب (عد 16: 37) تم تحويلها إلى صفائح مطروقة غشاء لمذبح المحرقة لكي بهذا تكون تذكار مستمر لبني إسرائيل للحدث والتعليم المُستقى منه. هذا القصاص الفريد الذي أوقعه الله على العصاة قد أصاب من عاينوه برعب فجائي، لكنه لم يؤدي إلى تلك التوبة (مز 4: 4) التي تنتج عن تغير القلب.

لقد زال الانطباع وفي الغد لم يتبق شيء سوى فكرة أن كثير من رؤساء الأسباط الذين سعوا للدفاع عن استقلال قبائلهم تم استئصالهم لأجل موسى! سيتحاجج الشعب أنه لأجلهم مات أولئك الناس والنواح والعويل في خيام الرؤساء والخراب الذي وسم ما كانت بالأمس بيوت مأهولة لقورح وداثان وأبيرام، لن يؤدي سوى إلى تأجيج المشاعر أنه بهذا الحدث نير عبودية تم تثبيته بإحكام على الأمة إلى الأبد.

لأنهم لم يتعرفوا على قصد ومغزى الله -فهذا سيتضمن إفراز روحي- فقط أنه لو القصاص من الله، فقد تحقق إن لم يكن بتحريض من موسى وهارون بل لكي يدافع عنهما(185). بل وفي نكرانهم للجميل نسوا أنه لولا شفاعة موسى وهارون لكانت الجماعة كلها فنت وهلكت في الفتنة التي قادها قورح.

هكذا بالحق برهن ذلك الجيل عدالة الحكم الإلهي بعدم دخول أحد منهم أرض كنعان، وهكذا سلوكهم (كما عيسو في القديم) بيّن أنهم غير أهل بالمرة لأن يرثوا المواعيد!

لكن بالنسبة لموسى وهارون، عندما تجمع ضدهم مرة أخرى كل جماعة بني إسرائيل وعلى شفاههم هذه التهمة القاسية: «أَنْتُمَا قَدْ قَتَلتُمَا شَعْبَ الرَّبِّ»، بطريقة تكون غريزية تطلعا تجاه خيمة الاجتماع وإليها انصرفا بكونها الموضع الذي منه تأتي معونتهما وإليها يرفعان دعواهما الآن ويستنجدا. ولم يكن تطلعهما إليها باطلًا. صارت أسمك وأقرب عما قبل السحابة وغطت الخيمة ومنها تفجر بطريقة مرئية المجد المنير للرب. وبمجرد دخول موسى وهارون الدار، إِلى قُدَّامِ خَيْمَةِ الاِجْتِمَاع، فَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «اِطْلعَا مِنْ وَسَطِ هَذِهِ الجَمَاعَةِ فَإِنِّي أُفْنِيهِمْ بِلحْظَةٍ». فَخَرَّا عَلى وَجْهَيْهِمَا.

لكن بماذا يترافع موسى؟ فهو عرف أن السَّخَطَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. قَدِ ابْتَدَأَ الوَبَأ. ما الذي كان يمكنه قوله الآن؟ في العصيان عند جبل حوريب (خر 32: 31)، وأيضًا في قادش (عد 14: 13-إلخ.)، لكن اليوم أمام مقاومة قورح قد استنفذ كل حجة يمكنه الترافع بها. ليس من حجة شبيهة بل في الواقع لم تعد تتبقى لديه أية حجة يلجأ إليها.

آنذاك كان في ساعة الاحتياج الشديد، عندما كل حجة كان يمكن للإيمان أن يقترحها قد زالت وإسرائيل -لو جاز القول- كان هالكًا (لا محالة) أن الكفاية الكلية للمئونة الإلهية في صفتها النيابية والتوسطية ظهرت. ولو أنها لم تكن آنذاك سوى رمز، لكنها برهنت أنها كافية تمامًا. فالبخور المشتعل على الفحم المأخوذ من على مذبح المحرقة حيث جيء بالذبائح جسد بصورة مسبقة الشفاعة التوسطية المقبولة لرئيس كهنتنا العظيم.

والآن عندما لم توجد أية حجة مطلقًا على الأرض، هذا الترافع الرمزي لبره الكامل وشفعته قد فاز بما يريد. مطلقًا لم يُكرز بالإنجيل في العهد القديم(186) قبل أو بعد هذا، مثلما عندما قام هارون بتوجيه من موسى وأخذ المجمرة وملئها من الفحم الذي على المذبح وَرَكَضَ إِلى وَسَطِ الجَمَاعَة، ووَضَعَ البَخُورَ وَكَفَّرَ عَنِ الشَّعْب (عد 16: 47). وبمجرد أن وقف بالمجمرة بَيْنَ المَوْتَى وَالأَحْيَاء، في الحال َامْتَنَعَ الوَبَأ بعد أن قتل حوالي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلفًا وَسَبْعَ مِئَة. هكذا إن كان قورح في عجرفته وسعيه للقيام بالمهام الكهنوتية قد سبب الوبأ، فإنه ممارسة الكهنوت الرمزي قد أوقفته.

لكن الحقيقة التي علّمها الله الآن للشعب لم يكن لها أن تُظهر فقط بالقصاص. فبعد الزوبعة والزلزال جاء "صوت منخفض خفيف" والمغزى الرمزي للكهنوت الهاروني تم تقديمه تحت رمز جميل. بتوجيه من الله أخذ موسى عصا لكل سبط تحمل أسماء رؤسائهم(187) على التوالي وتم وضعها في قدس الأقداس أمام تابوت العهد. "وَفِي الغَدِ دَخَل مُوسَى إِلى خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ وَإِذَا عَصَا هَارُونَ لِبَيْتِ لاوِي قَدْ أَفْرَخَتْ. أَخْرَجَتْ فُرُوخًا وَأَزْهَرَتْ زَهْرًا وَأَنْضَجَتْ لوْزا" (عد 17: 8).

إن التعليم الرمزي لهذا كان واضحًا. فكل من هذه العصي كانت عصا رئيس ورمز للسبط ورئاسته. هذا كان الموقف الطبيعي لكل رؤساء إسرائيل أولئك. لكن عصيهم كما عصا هارون قد قُطعت من جزع الشجرة الأم ولذلك كانت غير قادرة على إنتاج مجموع خضري وحمل زهر أو إنتاج ثمر في هيكل الله.

هكذا بالطبيعة لم يكن يوجد مطلقًا أي فرق بين هارون والرؤساء الآخرين، الكل على السواء كان عاجزًا عن الحياة الجديدة للإثمار. الذي ميّز عصا هارون كان اختيار الله والهبة العجائبية التي أغدقها عليها. وآنذاك رمزيًا في القديم، لكن فعليًا وحقًا في التدبير الجديد أن العصا أنبتت في نفس الوقت وأخرجت أغصانًا جديدة وأزهرت بل وأتت بثمر، كل الثلاثة اتحدوا وكلهم ظهروا في نفس الوقت.

وهكذا أولئك الرؤساء َأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَصَاه، أما عصا هارون فعنها قَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «رُدَّ عَصَا هَارُونَ إِلى أَمَامِ الشَّهَادَةِ لأَجْلِ الحِفْظِ(188) عَلامَةً لِبَنِي التَّمَرُّدِ فَتَكُفَّ تَذَمُّرَاتُهُمْ عَنِّي لِكَيْ لا يَمُوتُوا». بل ولا حتى اختيار اللوز الذي كان أول من يزهر من الشجر كان بلا مغزى عميق. لأن اللوز الذي أول من يزهر ويثمر يُدعى في العبرية بكلمة تعني الساهر (إر 1: 11-12). هكذا كما الساهر المبكر، الكهنوت الهاروني ببراعمه وزهره وثمره كان رمزًا لكهنوت أفضل عندما سيشرق شمس البر والشفاء في أجنحته(189)

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(177) أو الأرض المتنقلة من موضع لآخر"، أو الأرض المتزعزعة. ويتساءل الأسقف هارولد براون إن كان توجد إشارة إلى هذا في (مز 29: 8) "الرب يزلزل برية قادش".

(178) في (تث 10: 6-7) لدينا أربعة من هذه المحطات ذُكرت ثانية لكن بترتيب عكسي من (عد33).من الواضح أنه في (عد33) ليدنا معسكرات الإقامة من قادش إلى عصيون جابر أثناء سنوات التيه السبع والثلاثين، بينما في (تث 10: 6-7)، الإشارة هي إلى المسيرة من قادش إلى جبل هور في السنة الأربعين (بعد المكوث الثاني في قادش) في رحلة بني إسرائيل لامتلاك الأرض. لكن الحشر الذي واضح غرابته للأعداد 6-7 في (تث10) إذ يقطع تسلسل رواية مختلفة تمامًا يحتاج لتفسير. في الأعداد 1-5 يذكّر موسى الشعب كيف أنه استجابة لصلاته أرجع الله عهده معهم. ثم يتم حشر ع6-7 ليبين أنه ليس فقط العهد بل أيضًا وظيفة التوسط لرئاسة الكهنوت تم أيضًا منحها من جديد. الله ليس فقط جعلها تستمر مع هارون بل أيضًا عند موته في موسير، تقلد أليعازر وظيفته واستمرت خدمة الأسباط طوال مسيرهم. وبدلًا من شرح كل هذا بالتفصيل اكتفي موسى بتذكير بني إسرائيل (ع6-7) الحقائق التاريخية للحالة والتي سوف تتكلم لذاتها.

(179) كثير من هذه المحطات تم التعرف عليها على الأقل بدرجة ترجيح عالية النسبة. لكن تقرير عن مختلف الاقتراحات للمستكشفين الجدد سيقود إلى مزيد من التفاصيل (لا مجال لها الآن).

(180) انظر ملاحظة صفحة 720 من الجزء الثاني من كتاب Speaker’s Commentary. إن أوضح إشارة إلى هذا توجد في (إش 43: 16-21). لكني اعتقد أنه من الخطأ أن نخرج من (مز 74: 14) بإشارة إلى مئونة من السمك من خليج إيلة في البحر الأحمر، مع أنه بالحق كثير من معسكرات بني إسرائيل كانت قريبة تمامًا من شواطئه.

(181) قول بنات صلفحاد الذي من سبط منسى عن أبيهن أنه لم يكن في القوم الذين اجتمعوا على الرب في جماعة قورح، يعني ضمنًا أن رفقاء قورح في المؤامرة كانوا من مختلف الأسباط.

(182) توجد كلمتان مختلفتان تم استخدامهما في هذا الإصحاح. واحدة منهما edah وتعني حرفيًا مجمع أو رعايا كنيسة ويمكن أن تُقال لتشير إلى إسرائيل ككنيسة مرئية وظاهرية. والتعبير الآخر هو kahal ويعني حرفيًا "المدعوين، أو الجماعة" ويشير إلى الصفة الروحية لإسرائيل كمدعوين من الله. هكذا التميز لكنيسة مرئية وظاهرية وكنيسة روحية له ما يعادله في العهد القديم. وفي هذا الإصحاح تعبير kahal حدث فقط هنا في ع3 وأيضًا في ع33.

(183) من (عد16)، ومن الإشارة في (عد 26: 10-11)، أنا منقاد لأن استنتج أن قورح تبع أيضًا الجمع السائر وراء موسى وهارون ربما ليرى ما الذي سيحدث هناك تاركًا المائتين وخمسين رئيس عند باب خيمة الاجتماع. ولو كانت خيمة قورح ملاصقة للتي لداثان وأبيرام، يمكننا أن نشكل تصور أقرب لكل المشهد.

(184) التالية هي الأحد عشر مزمورًا المنسوبة بكونها لبني قورح (مز 42؛ 44-49؛ 84؛ 85؛ 87-88). والإشارات الأخرى لرواية بني قورح نجدها في التالي: (1أخ 9: 19؛ 12: 6؛ 26: 1-19؛ 2أخ 20: 19؛ نح 11: 19).

(185) تعليق للمترجم: هذه الجملة غامضة في نصها الإنجليزي لكن يبدو لي أنه يود القول أنه لو كان لهم إفراز روحي لكانوا أدركوا أن الله لا يتأثر بتحريض أشخاص مهما كانت مكانتهم عنده، ولكن هنا لكونه استجاب لطلبة موسى بالميتة غير العادية فهذا معناه أنه قصد قصدًا أن يدافع عنهما وأنه لا ذنب لهما فيما أثارته كل الجماعة في حقهما.

(186) الموقف الوحيد الشبيه كان رفع الحية النحاسية والتي رمزيًا تمثل جزء آخر من عمل فادينا. وحتى نبوات إشعياء لم تكن أوضح من هذين العظتين بعمل ظاهري مثلما يمكننا أن ندعوها، الذي بالأحرى من ناحية يعلن عن رمزية ومعنى الكهنوت الهاروني وكفاءة ذلك الكهنوت الذي كان يشير إليه، ومن الناحية الأخرى عن وصف وكمال ما دبره الله لإزالة الجرم.

(187) بحسب أكثر الآراء شيوعًا تم تقديم اثني عشر عصا حيث أفرايم ومنسى تم اعتبارهم هنا سبط واحد هو سبط يوسف. وبحسب آراء آخرين كانت توجد اثني عشر عصا بخلاف التي للاوي والتي تحمل اسم هارون.

(188) من الواضح أن كل من قسط المن وعصا هارون قد فُقدا عند عودة التابوت من أرض الفلسطينيين (انظر 1مل 8: 9). هذه الخسارة كان لها أيضًا مغزى عميق، كما لو كانت تعليق غير منطوق من الله عن حالة إسرائيل.

(189) إن مغزى المقاطع المختصة باللاويين والتي تلي (عد17) سوف تتضح للقارئ المنتبه لكن هذا ليس المجال لأن نتطرق للكلام عن الموضوع.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-2/sabbath-korah.html

تقصير الرابط:
tak.la/qzcxm82