St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-2
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الثاني: الخروج والتيه في البرية - القمص أنجيلوس المقاري

4- الفصل الرابع: دعوة موسى - رؤيا العليقة المشتعلة - إرساله إلى فرعون وإلى إسرائيل - والثلاثة آيات ومعانيها (خر 2: 23؛ 4: 17)

 

الفصل الرابع

دعوة موسى - رؤيا العليقة المشتعلة - إرساله إلى فرعون وإلى إسرائيل - والثلاثة آيات ومعانيها (خر 2: 23؛ 4: 17)

 

عندما يكون الله على وشك أن يعمل أيًا من أعماله العظيمة، هو أولًا يعد لها بصمت. ليس فقط نثر البذار الجيدة، بل أيضًا حرث الأرض وتفليحها لاستقبال البذار هو عمله. فالأدوات التي يستخدمها غير معروفة في وقتها للناس تعمل في صمت وسويًا مع الهبة الصالحة التي يمنحها لمن هم له، يمنحهم هو أيضًا الشعور بالاحتياج والسعي المتلهف لها(91).

هكذا تكون الصلوات واستجاباتها، كما لو كانت كفتي النعمة في ميزان حساس. لم يكن الأمر بخلاف هذا عندما سيعمل الله الخلاص العظيم لشعبه من مصر. مرة أخرى بدا كما لو أن السحب فوق الرؤوس كانت الأثقل والأكثر قتامة وظلامًا. مات ملك وجاء بعده من يخلفه(92)، لكن تغير إدارة الحكم لم يجلب لإسرائيل الراحة التي ربما توقعوها، بل بدا الآن أن عبوديتهم جزء من السياسة الثابتة للفراعنة.

لا يوجد ولا حتى شعاع رجاء واحد يخفف معاناتهم سوى ما يمكن أن يشتقوه من الإيمان. لكن مرت قرون بدون أي اتصال أو استعلان من إله آبائهم! لذلك يلزم اعتبارها نهضة روحية وانتعاش للدين عندما وهم تحت مثل هذه الظروف، بدلًا من اليأس أو التخطيط للتمرد ضد فرعون، يتحولون إلى صلاة متلهفة إلى الرب، أو كما وضعها النص المقدس، بإضافة أداة التعريف أمام كلمة الله فصراخهم هو "إِلَى الله" (خر 2: 23)، بمعنى أنه ليس إلى إله من بين كثيرين، بل إلى الإله الحي والحقيقي وحده.

روح الصلاة هذه، والتي تظهر بينهم للمرة الأولى، كانت هي العربون الأول والنذير، بل هي فعليًا بداية خلاصهم وتحررهم (خر 3: 7؛ تث 26: 7). لأن مع كونها مجرد صرخة، وإن جاز القول عاجزة روحيًا عن التعبير، لا توجد فترة زمنية فاصلة بين صلاتهم من استجابتها: "فَسَمِعَ اللهُ أَنِينَهُمْ فَتَذَكَّرَ اللهُ مِيثَاقَهُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَنَظَرَ اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَلِمَ اللهُ" (خر 2: 24-25)، وعلم بمعنى اعترف بهم بكونهم النسل المختار لإبراهيم وإذ اعترف بهم أظهر محبته تجاههم.

الطرف الجنوبي لشبه جزيرة سيناء والذي إليه تأخذنا الآن الرواية المقدسة، يتكون من كتلة مشوشة من قمم جبال (أعلاها يزيد عن تسعة آلاف قدم)، البعض منها من الرخام الناري ذي اللون الأخضر الداكن، لكن أغلبها جرانيت أحمر مختلف الأشكال تقطعها مساحات طويلة ضيقة من الرمل أو الحصى تتقاطع مع وديان صغيرة ضيقة والتي هي قيعان سيول الشتاء، منقطة هنا وهناك ببقع خضراء ترجع بالأساس إلى ينابيع دائمة طوال السنة.

المجموعة المركزية الكبيرة بين تلك الجبال هي التي لحوريب، وأحد الجبال التي لها ارتفاع خاص سيناء، جبل الله. ومن الغريب بما فيه الكفاية أنه بالضبط هنا ووسط هذه البرية القاحلة جدًا توجد أيضًا أكثر الأماكن خصوبة في البرية. فحتى في أيامنا هذه جزء من هذا الوادي المتسع والمرتفع خضراء تمامًا. إلى ذلك الموضع يدفع البدو قطيعهم عندما شمس الصيف تحرق كل المناطق السفلية.

تنمو أشجار مثمرة بوفرة في وديانه والمنطقة المجاورة من أفضل المناطق المروية جيدًا بالماء في كل شبه الجزيرة، وجداول مياه جارية توجد أيضًا في ليس أقل من أربعة من الوديان الملاصقة(93). فإلى هناك قد دفع موسى بقطيع يثرون للرعي والشرب ربما في بداية الصيف(94). فخلفه إلى الشرق تقع الصحراء، وأمامه يقوم جبل الله في عظمة رهيبة.

صمت هذا المكان لا يوجد ما يقطعه، بؤس ووحشة الموضع لا تخففه سوى تنوع الألوان في قمم الجبل الحمراء أو الخضراء الداكنة، والتي البعض منها يلمع في ضوء الشمس مثل نحاس يبرق. الطقس على هذا النحو يجعل أقصى الأماكن البعيدة تظهر معالمها بمنتهى الوضوح، وأخفت صوت تميزه الأذن بوضوح.

كل ما كان بالحق منظرًا غريبًا ومدهشًا قدم ذاته في الحال. على صخرة شديدة الانحدار ومنعزلة أو في وادي منعزل ومنفصل تقع واحدة من تلك الشجيرات الشوكية الملتوية الأغصان والمثبتة في الأرض بشدة، والتي تشكل أحد الملامح الواضحة في وديان الصحراء. وهناك كانت عليقة تتوقد بالنار ومع ذلك لم تحترق.

St-Takla.org Image: The Lord calls to Moses: Now a grown man, Moses has fled Pharaoh's wrath and lives in the desert among the Midianites. One morning, Moses is tending his father-in-law's flock at Horeb, the mountain of God, when he is witness to a miracle: a bush burns with fire but is not consumed. The Lord calls to the stunned Moses from the midst of the bush: "Take your sandals off your feet, for the place where you stand is holy ground." (Exodus 3: 1-8). - Morgan Bible (image 74), medieval illuminated manuscript, 13th century. صورة في موقع الأنبا تكلا: الرب ينادي موسى: موسى، وقد كبر، هرب من غضب فرعون، ويعيش في البرية بين المديانيين. في صباح أحد الأيام، كان موسى يرعى قطيع حميه في حوريب، جبل الله، عندما شهد معجزة: شجيرة تحترق بالنار لكنها لا تحترق. نادى الرب موسى المذهول من وسط العليقة: "اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة" (خروج 3: 1-8). - نسخة مورجان للكتاب المقدس (صورة 74)، مخطوطة مزخرفة من العصور الوسطى، القرن الثالث عشر.

St-Takla.org Image: The Lord calls to Moses: Now a grown man, Moses has fled Pharaoh's wrath and lives in the desert among the Midianites. One morning, Moses is tending his father-in-law's flock at Horeb, the mountain of God, when he is witness to a miracle: a bush burns with fire but is not consumed. The Lord calls to the stunned Moses from the midst of the bush: "Take your sandals off your feet, for the place where you stand is holy ground." (Exodus 3: 1-8). - Morgan Bible (image 74), medieval illuminated manuscript, 13th century.

صورة في موقع الأنبا تكلا: الرب ينادي موسى: موسى، وقد كبر، هرب من غضب فرعون، ويعيش في البرية بين المديانيين. في صباح أحد الأيام، كان موسى يرعى قطيع حميه في حوريب، جبل الله، عندما شهد معجزة: شجيرة تحترق بالنار لكنها لا تحترق. نادى الرب موسى المذهول من وسط العليقة: "اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة" (خروج 3: 1-8). - نسخة مورجان للكتاب المقدس (صورة 74)، مخطوطة مزخرفة من العصور الوسطى، القرن الثالث عشر.

ولدى رؤية هذا المنظر مال موسى ليرى هذا المنظر العظيم. ولكن كانت تنتظره عجيبة أعظم من هذه. الرؤيا التي لقرون لم يرها أحد ظهرت الآن، الصوت الذي طوال هذه القرون بقي صامتًا، تكلم مرة ثانية. مَلاَكُ الرَّبِّ، والذي بعد هذا بقليل دعا نفسه الرب و الله (ع4-5) نَادَاهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَة، وأول كلماته كانت تحذير لموسى بضرورة خلع حذائه من رجليه لأنه واقف على أرض مقدسة، بعد ذلك أظهر نفسه بكونه هو نفسه ملاك العهد الذي ظهر للآباء إذ قال له: «أَنَا إِلَهُ أَبِيكَ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ».

وسبب هذه التوصية الأولى بخلع النعلين لم يكن على سبيل التوقير والاحترام وحسب، بل كان دافعه هيبة شخصية من تكلم معه. لأن لبس الأحذية في الشرق يكون بالأساس كحماية من التراب والدنس، ومن ثمَّ ينبغي خلعها عند دخول هيكل أو موضع صلاة، لكي إن جاز القول، لا يجلب المرء إلى داخل الموضع الطاهر نجاسة من خارج.

لكن الموضع الذي يُظهر فيه الرب نفسه -أيًا كان الموضع- هو أرض مقدسة، ومن يود أن يكون على اتصال به يلزمه أن يضع جانبًا النجاسة التي تعلق به.

وفي الإعلان عن نفسه بكونه إله الآباء، يعلن الرب الآن عن استمرارية قصد رحمته السابقة وتذكره لإسرائيل وتحقيقه السريع للوعود التي أعطاها في القديم. أثناء قرون الصمت هذه لا يزال هو نفس الإله المتذكر على الدوام لعهده، والآن مثلما يمكن أن يبدو أن قصده قد أخفق تمامًا، قد حان الوقت المحدد والذي فيه سوف يعلن علانية عن نفسه بكونه إله أبيه إبراهيم وإسحق ويعقوب(95).

نفس الحقيقة تم التعبير عنها رمزيًا برؤيا العليقة المشتعلة. إسرائيل في حالتها الراهنة الحقيرة والمتدنية كانت مثل عوسج في البرية (قارن قض 9: 15)، تشتعل في أتون مصر المتقد (تث 4: 20)، لكن لم يتم تسليمهم للموت، لأن الرب، ملاك العهد كان "في وسط العليقة"، كان هو إله يؤدب لكنه لم يفنيهم.

وهذه الرؤيا لم تكن مقصودة لموسى فقط بل لكل الأزمنة. فهي تمثل وترمز إلى العلاقة بين الله وإسرائيل في كل الأوقات وبالمثل بينه وبين كنيسته. لأن الظروف التي توضع فيها الكنيسة ومقاصد الله تجاهها، سوف تستمر على الدوام كما هي. لكن هذا الإله في وسط لهيب العليقة هو أيضًا نار آكلة، على السواء في حالة نسيان العهد من جانب شعبه (تث 4: 24)، وكنار تحرق أعدائه حوله (مز 97: 3).

هذا الظهور لله في رمز النار، والذي عند المقارنة سنراه يتكرر على مدى كل الكتاب، سيجد أتم تحقيق له عندما يأتي الرب يسوع ليقضي ويدين: "عيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة" (رؤ 19: 12).

أما بالنسبة لموسى فقيل لنا: " غَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ".

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

الرؤيا التي أنعم بها الرب على موسى وما صاحبها من كلمات تعدنا وتهيئنا لمزيد من الكلام الذي يبهج الله أن ينقله إلى عبده. هو سمع صراخ شعبه وعرف أحزانهم وقد جاء لكي يخلصهم ويأتي بهم إلى أرض الموعد، "إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا"، إلى أرض مثمرة وواسعة بحيث أنها في ذلك الوقت استوعبت ستة من الشعوب الكنعانية (ع8).

أخيرًا يأمر موسى بالمضي إلى فرعون لكي يخرج شعبه من مصر. شتان الفرق العظيم بين موسى من أربعين سنة مضت وموسى الذي يتوسل الآن أن يعفيه الله من هذه المهمة. فإن كان ثقته المفرطة في نفسه دفعته سابقًا لأن يتولى الأمر كله بيديه، فإن تهيبه وخجله وعدم ثقته بنفسه مضى الآن إلى أقصى حد ممكن للتقاعس عن العمل حتى لو كان مجرد رسول وخادم للرب.

أول وأعمق مشاعره عبّرت عن نفسها بالسؤال: «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟» (ع11). لكن تذكر إخفاقه الخارجي والداخلي لا مجال لتطبيقه بعد، لأن الله شخصيًا سيكون معه الآن. وكعلامة على هذا أخبره قائلًا: "«هَذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ: حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ».

من الواضح أن هذه العلامة تنادي وتناشد إيمانه كما تفعل في الواقع كل آية، ومن هنا يكون سوء فهم من هم "ليسوا من الإيمان" (قارن مت 12: 38-39؛ لو 16: 31). بالمثل، ما جاء بعد ذلك بوقت طويل من جهة الحدث الذي في المستقبل البعيد الخاص بميلاد ابن من عذراء كان له أن يكون آية لبيت آحاز على حفظ التسلسل الملكي في بيت داود (إش 7: 10-14).

فهل كان وراء كل شيء آخر رأى الله في قلب موسى افتقار إلى إيمان يدرك، وأنه الآن سيناديه للظهور علانية؟

هذه المعضلة الأولى من جانب موسى تم وضعها جانبًا. كانت معضلته التالية: ما الذي كان له أن يقوله ردًا على هذا السؤال عن الله من جانب إسرائيل؟ إِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ (ع13). وهذا يعني ما الذي كان له أن يخبرهم به ردًا على شكوكهم ومخاوفهم من جهة مقاصد الله من جهتهم.

لأن في الكتاب المقدس الاسم يُعتبر كظهور وتجلي للشخصية أو لأعمق قصد، ومنه أيضًا كان عمومًا يُعطي اسم جديد بعد حدث ما حاسم وفاصل، والذي على الدوام فيما بعد يضع بصمة سمته على شخص أو مكان ما.

إجابة لهذا السؤال، شرح الرب لموسى وأمره أن يخبر إسرائيل فحوى ومضمون اسم يهوه (الرب) الذي به أظهر نفسه في البدء عندما دخل في عهد مع إبراهيم (تك 15: 7). لقد كان «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ» (أي أكون الذي أكون) وهي كلمات تدل على طبيعته غير المتغيرة وأمانته ووفائه.

يهوه أرسل موسى، وكما لو لإزالة كل الشكوك، كان لموسى أن يضيف قائلًا: "يَهْوَهْ إِلَهُ آبَائِكُمْ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ"، والرب يعلن: "هَذَا اسْمِي إِلَى الأَبَدِ وَهَذَا ذِكْرِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْر"، وبأسلوب آخر على هذا النحو هو دومًا سيبرهن ذاته، وعلى هذا النحو هو يشاء أن يُعرف ويتم تذكره ليس فقط بواسطة إسرائيل، بل "إلى جيل فجيل".

لذا هنا ومن البداية ذاتها عندما نُقل العهد مع إبراهيم إلى نسله، الوعد أيضًا -والذي يشمل في بركته كل الأمم- تم تكراره.

وكإعداد إضافي لمهمته، وجه الله موسى أن يجمع شيوخ إسرائيل عند وصوله إلى مصر ويردد نفس كلمات نبوة يوسف عند موته (تك 50: 24)، ليعلن أن الزمن الموعود به قد حان وأن الله يقينًا افتقد شعبه. وأخبر الرب موسى بأن بني إسرائيل سوف يسمعون له، لكن فرعون لا، مع أن الطلب الأصلي منه كان فقط أن يصرفهم لمسيرة ثلاثة أيام في البرية.

لكن فرعون لن يوافق على هذا "وَلاَ بِيَدٍ قَوِيَّة" (ع19)، بمعنى أنه لن يدعهم يمضون حتى عندما تكون يد الله القوية عليه. لكن في النهاية قوة الرب صانعة العجائب سوف تكسر المشيئة العنيدة لفرعون، وعندما يغادر بني إسرائيل مصر، لن يغادروها كهاربين بل كمن هم -لو جاز القول- منتصرين محملين بغنائم أعدائهم.

هكذا أشارت النبوة بوضوح أنه فقط بعد صراع طويل وشاق سوف يستسلم فرعون. لكن هل سيصمد إيمان إسرائيل أثناء هذه الامتحان (والمحنة)؟

من المحتمل أن هذا هو (محور) السؤال التالي لموسى، والذي يبدو من الغريب وضعه في هذه المرحلة (المبكرة): «وَلَكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ» (خر 4: 1).

عن مثل هذه الشكوك، سواء من جهة بني إسرائيل أو من فرعون أو من جانب المصريين، تم الآن تهيئة إجابة ثلاثية الرمز، وذلك ليس فقط لإسكات من سوف يعترضون هكذا، بل أيضًا لتشجيع موسى نفسه. هذه الإجابة تتضمن منح موسى القدرة على صنع المعجزات والعجائب.

نحن نلاحظ أنه هنا وللمرة الأولى في تاريخ العهد القديم تُمنح هذه القدرة لإنسان، وأن السبب كان أول صراع عظيم بين العالم والكنيسة.

كان المقصود لهذه المعجزات أن تكون كمثل صوت من السماء يحمل شهادة مباشرة لصدق إرسالية موسى. لذلك نقرأ في (خر 4: 8) أن بني إسرائيل سمعوا وصدقوا صوت الآيات، وفي (مز 105: 27) نقرأ عن موسى وهارون أنهما "أقاما بينهم كلام آياته".

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

ولكن بينما كان هذا هو القصد العام للثلاثة الآيات التي تم عرضها الآن -أولًا لموسى نفسه- كل واحدة منها لها وجهتها الخاصة. الأولى إلى فرعون والثانية إلى بني إسرائيل، والثالثة إلى جبروت مصر.

في الآية الأولى أمر الرب موسى أن يتطلع إلى العصا التي في يده. لم تكن عصاه سوى عصا راعي عادية، بناء على أمر الله كان له أن يطرحها على الأرض، فتحولت في الحال عند طرحها إلى حية هرب موسى منها وهو في حالة فزع. مرة ثانية أمر الله موسى أن يمسكها من ذيلها فصارت عصا في يده مرة أخرى.

ومغزى هذا كان واضحًا. إلى هذا الوقت كان موسى يدبر أموره بعصا الراعي. بناء على أمر الله كان له أن يطرح عصاه، كان لدعوته أن تتغير، فهو له أن يلتقي بالحية، ليس فقط العدو القديم (الشيطان)، بل أيضًا جبروت فرعون، والذي كانت الحية رمز مصري(96) معروف جيدًا وعام. كانت الحية رمز السلطان الملكي والإلهي على تاج كل فرعون(97)، رمز للأرض ولدينها ولحكومتها.

بناء على أمر الله أمسك موسى بعد ذلك هذه الحية، عندما صارت في يده مرة أخرى العصا التي بها قاد قطيعه، وذلك القطيع كان الآن إسرائيل وحده، وعصا الراعي صانعة العجائب باتت عصا الله (خر 4: 20)، وباختصار الراعي الوضيع والذي قد هرب من فرعون، له الآن بقوة إلهية أن يهزم كل جبروت مصر.

الآية الثانية التي أراها الله لموسى تحمل معنى مباشر إلى إسرائيل. يد موسى التي وجهه الله أن يضعها في حضنه صارت مغطاة بالبرص، وعندما وضعها لمرة ثانية صارت صحيحة تمامًا. هذه القدرة العجائبية على الابتلاء بضربة ثم إزالتها، قُبلت على نطاق عام بكونها آتية من الله، وأظهرت أن موسى قادر على أن يبتلي ويزيل أصعب أحكام الله وقصاصه المروع.

لكنها تتكلم بكلام آخر للشعب. إسرائيل الذين عنه قال الرب لموسى "احمله في حضنك" (عد 11: 12)، كان هو اليد البرصاء. ولكن كما يقينًا وبسرعة تم استردادها لتعود سليمة عند وضعت ثانية في حضن موسى، هكذا الله سوف يخرجهم من بؤس حالتهم الكئيبة في مصر، ويرجعهم سالمين معافين إلى أرضهم.

الآية الثالثة لموسى والتي فيها سيتحول ماء النيل إلى دم عندما ينسكب على الأرض، ليس فقط ستحمل إسرائيل على الاقتناع، بل أيضًا هي تحمل إشارة خاصة إلى أرض مصر. فالنيل الذي عليه تعتمد كل خصوبة مصر والذي يعبده المصريون كإله، كان له أن يتغير ويتحول إلى دم. كان لمصر وكل آلهتها أن تتذلل أمام القدرة المطلقة التي سوف يُظهرها الله.

هذه الآيات التي لم يمكن مناقضتها، كانت يقينًا كافية. ومع ذلك كان موسى مترددًا. هل كان هو حقًا الوكيل المناسب للقيام بمثل هذا العمل؟ فهو لا يمتلك فصاحة اللسان التي يمكنها أن تلهب حماس أمة والتي قوتها تكتسح كل المعوقات. وعندما تمت الإجابة على هذا الاعتراض أيضًا بتوجيه الله لضرورة الاعتماد المباشر على من يمكنه أن يطلق اللسان المعقود ويفتح العينين والآذان، التقاعس السري لموسى تفجر في طلب مباشر من الله أن يستخدم شخص غيره لهذه المسئولية.

آنذاك حدث أنه " حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى مُوسَى" لكنه في رحمته الحانية أشفق وأعان ضعف إيمان عبده. لأجل هذا القصد المضاعف أعلن الله أن هارون كان آنذاك في طريقه لينضم إليه وأنه سوف يباشر جزء العمل الذي يشعر موسى أنه غير كفيء له. سيكون هارون على السواء الرفيق وإن جاز القول نبي موسى (خر 7: 1). كما أن النبي يبلغ الكلمة التي يتلقاها، هكذا هارون سيعلن الرسالة الإلهية التي يعطيها الله لموسى. "فَمَضَى مُوسَى" (خر 4: 18). 

لكن توجد نقطتان تحتاجان لشرح بسيط عند هذه المرحلة من روايتنا. النقطة الأولى: سيظهر أن الطلب الذي كان على موسى أن يخاطب به فرعون أولًا هو إجازة لمسيرة ثلاثة أيام في البرية فقط، بينما كانت النية مبيتة على أن يغادر إسرائيل أرض مصر إلى الأبد. والثانية هي وعد إلهي أُعطي بعدم خروج بني إسرائيل فارغين، بل إن الله سيعطي الشعب نعمة في عيني المصريين وأن تستعير كل امرأة من جارتها المصرية أمتعة فضة وذهب وثياب فيسلبون المصريين.

في البداية نلاحظ أن إسرائيل تم توجيهه لأن يتصرف تجاه فرعون بأسلوب أكثر مما يستدعي الواجب. ففرعون ملك مصر لم يكن له مطلقًا الحق في أن يحتجز الشعب في مصر. فآبائهم أقروا بصريح العبارة أنهم لم يأتوا ليستقروا بل ليقيموا مؤقتًا في مصر (تك 47: 4)، وبناء على هذا التفاهم تم استقبالهم وقبولهم.

والآن ليس فقط تم ظلمهم واستعبادهم، بل أيضًا تم حجزهم عن غير وجه حق. لكن أيضًا لم يكن لهم أن يتسللوا خفية ويهربوا ولا أيضًا أن يرفعوا راية العصيان. بل والقوة الإلهية التي بها تسلح موسى لم تُستخدم في البداية سواء في الانتقام من المظالم السابقة أو في تأمين إطلاق سراحهم.

على العكس كان لهم أن يطلبوا من فرعون الإذن أن يباشروا مسيرة بريئة لمدة ثلاثة أيام في البرية لكي يذبحوا لله، وهو طلب في غاية المعقولية (لاسيما) أن ذبائح إسرائيل ستكون من وجهة نظر دينية رجاسة للمصريين (خر 8: 26)، وقد تؤدي إلى اضطرابات وقلاقل في مصر. وتقريبًا نفس الاعتبار الزائد لفرعون كان الدافع وراء أن يكون في البداية ما هو مطلوب منه طلب معقول جدًا فقط.

لقد كان تنازل هائل من جانب الله لضعف فرعون ألا يلّح من البداية على خروج إسرائيل كليًا وفي الحال. لم يكن هناك طلب يمكن تقديمه أقل من الذي قُدم إليه، بل ولم يمكن جعل الاستجابة والطاعة لتنفيذ الطلب أسهل من هذا. فقط العزيمة الطاغية على سحق حقوق وقناعات الشعب وأقصى تحدي وقح للرب هو الذي دفعه لأن يرفض مثل هذا الطلب وذلك أمام كل الآيات والعجائب التي بها تم التحقق من إرسالية موسى.

هكذا من البداية كان لخضوعه وإذعانه أن يُمتحن حيث جُعل الإذعان أسهل ما يكون وحيث عدم الطاعة سيكون بلا عذر. ربما كانت توجد حجة أو عذر ما لشخص مثل فرعون أن يرفض في الحال وكليًا أن يطلق سراح من كانوا لوقت طويل عبيده، لكن لا يمكن مطلقًا وجود مبرر لرفض طلب متعقل ومعقول ومدعومًا بمثل هذا السلطان (من الله).

يقينًا مثل هذا الإنسان كان ثمرة ناضجة للحكم بتقسية قلبه، مثلما من الناحية الأخرى، لو كان هو خضع من البداية للمشيئة الإلهية، لكان يقينًا سيكون مُعدًا لنوال المزيد من الاستعلان عن مشيئته ونوال نعمة للخضوع لها. وهكذا الله في رحمته يتعامل على الدوام مع الإنسان: "الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير والظالم في القليل ظالم أيضًا في الكثير" (لو 16: 10).

فمطالب الله مقصود منها أن تمتحن ما في داخلنا. لقد كان الأمر هكذا في حالة طاعة آدم (بعدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر) وذبيحة إبراهيم (بذبح إسحق)، والآن في الطلب المقدم لفرعون. وذلك فقط في الحالة الأخيرة كما في الوعد أن يُبقي على سدوم لو وجد بين سكانها الأشرار عشرة أبرار، هكذا مضى صبر الله واحتماله إلى أقصى تنازل (مع فرعون).

هكذا نفس مبدأ الحكم يظهر أيضًا في العهد الجديد ويشرح كيف أن الرب غالبًا ما يخبر أولًا عن "الأرضيات" بكون عدم تصديقها قد يقنع الناس بعدم أهليتهم لسماع "السماويات"، هكذا الرئيس الشاب (مت 19: 16)، الذي اعتقد نفسه راغبًا في أن يرث الحياة الأبدية، والكاتب الذي أبدى استعداده لتبعية المسيح (مت 8: 19)، كان لهم مجرد امتحان في الأرضيات قُدم لهم ومع ذلك فشل كل واحد منهما فيه. والدرس هو درس يمكن أن يجد تطبيق له في حالتنا، لأنه فقط "آنذاك سوف نعرف إن كنا سنجّد ونجتهد لمعرفة الرب" (انظر هو 6: 3).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

المعضلة الثانية عن التوجيه المفروض لإسرائيل أن يستعيروا أمتعة فضة وذهب وثياب وأن ينهبوا المصريين (خر 3: 22) قائم على سوء فهم بسيط للنص. فحتى الفطنة العادية سوف تشير إلى أنه في ظروف كالتي كان فيها بني إسرائيل حيث في النهاية سيتركون أرض مصر، لا يمكن لأي مصري تخيل إرجاع سريع لاقتراض مؤقت للجواهر. لكن الحقيقة هي أن الكلمة جُعلت في الترجمة السارية بيننا our Authorized Version"يستعير" لا تعني الاقتراض ولا تُستخدم بذلك المعنى في أي فقرة واحدة تأتي فيها على مدى العهد القديم. فهي على الدوام لا تعني سوى "أن تسأل - أو تطلب(98)". وهذا السؤال أو الطلبة -علينا أن ندعوه رد للحق (وتعويض لهم) لو نضع في اعتبارنا عدالة قضيتهم- قام المصريون بمنحهم إياه في الحال.

إن رعب إسرائيل وقع عليهم وبدلًا من أن يترك بني إسرائيل مصر كهاربين وفارين خرجوا كمثل جيش منتصر يحمل معه غنيمة أعدائهم الذين قهرهم الله لحسابهم.

إنه لأمر له أهمية أكثر أن نلاحظ نقطة أخرى. كان موسى أول من حمل تكليف إلهي إلى آخرين. كان هو أيضًا أول من صنع معجزات. المعجزات تقدم لنا اقتران الإلهي والبشري.كل المعجزات أشارت إلى أعظم كل المعجزات: "سر التقوى" الذي كانت الملائكة تشتهي أن تتطلع إليه، "اقتران الإلهي والبشري" في أتم ظهوره في شخص الإله المتأنس. هكذا في هذين الوجهين لوظيفته كما أيضًا في إرساليته ليخلص إسرائيل من العبودية وليقدسهم للرب، كان موسى رمز بارز للمسيح: [1- مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاءُ الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لاَحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ،. 2- حَالَ كَوْنِهِ أَمِينًا للَّذِي أَقَامَهُ، كَمَا كَانَ مُوسَى أَيْضًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ.

5- وَمُوسَى كَانَ أَمِينًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ كَخَادِمٍ، شَهَادَةً لِلْعَتِيدِ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ. 6- وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَكَابْنٍ عَلَى بَيْتِهِ. وَبَيْتُهُ نَحْنُ إِنْ تَمَسَّكْنَا بِثِقَةِ الرَّجَاءِ وَافْتِخَارِهِ ثَابِتَةً إِلَى النِّهَايَةِ. (عب 3: 1-2، 5-6). ] 

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(91) ملاحظة للمترجم: قد تكون هذه العبارة غامضة بعض الشيء ولكن المقصود منها أنه بينما يعد الله في صمت شديد موسى ويؤهله بما يجعله كفئ لهذه المهمة الخاصة بتحريرهم، فإنه في نفس الوقت جعل شعورهم بالاحتياج للخلاص والتحرر يزداد ويسعون إليه بلهفة من خلال صعود صراخهم وأنينهم إلى الله.

(92) (خر 2: 23). يلزمنا أن نطلب من القارئ قراءة هذا الفصل والكتاب المقدس مفتوح بجانبه.

(93) Palmer’s Desert of the Exodus, vol 1. P. 117.

(94) هذا سيتم توضيحه عند وصف الضربات العشر.

(95) حتى عبارة "أنا إله أبيك" بالمفرد تعني ضمنًا تفرد وتميز معاملاته على طول المدى. فكل الآباء لم يكونوا أمامه سوى أي واحد أمامه. هكذا علينا أن ندرس بتدقيق كلمة الكتاب.

(96) كثيرًا ما يستخدم الكتاب المقدس الحية كرمز للقوة المعادية لملكوت الله ويطبق التشبيه ليس فقط على مصر [كما في (مز 74: 13؛ إش 51: 9)]، بل أيضًا على بابل (إش 27: 1)

(97) Speaker’s Commentary, vol. 1.

(98) هكذا جاءت في الترجمة البيروتية لدينا "تطلب".


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-2/moses-burning-bush.html

تقصير الرابط:
tak.la/gqm48pk