St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-2
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الثاني: الخروج والتيه في البرية - القمص أنجيلوس المقاري

3- الفصل الثالث: ميلاد موسى وتدريبه في مصر وفي مديان كإعداد لدعوته (خر2)

 

الفصل الثالث

ميلاد موسى وتدريبه في مصر وفي مديان كإعداد لدعوته (خر2)

 

بالنسبة للقارئ المنتبه لن يبدو غريبًا بل فقط ملفتًا للنظر أن نفس الإجراء الذي اتخذه فرعون لتدمير إسرائيل أدّى فعليًا إلى نجاتهم وخلاصهم. فلو لم يأمر هو بطرح أولاد العبرانيين في النهر، ما كانت ابنة فرعون أنقذته وما كان هو تهذب بكل حكمة المصريين التي أهلته لدعوته. لكن على كل المدى فإن هذه الرواية العجيبة تتخذ مسارًا طبيعيًا؛ أي طبيعيًا في تقدمه لكن فائق للطبيعة في مقاصده ونتائجه.

أحد أبناء سبط لاوي من نسل قهات (خر 6: 20؛ عد 26: 59) اسمه عمرام تزوج يوكابد التي تنتمي لنفس السبط. وكان زواجهما قد أثمر بابنين مريم وهارون(84)، عندما صدر مرسوم فرعون بقتل من يولد من أطفال العبرانيين. جلب ميلاد الابن التالي مزيد من الحزن والهم، فالجمال الزائد للطفل ليس فقط استحوذ على قلبيهما، بل أيضًا كان يبدو أنه يشير إليه بكونه معين من الله لمقصد ما.

في صراع العاطفة هذا والرجاء ضد الخوف من البشر نالا النصرة، فالنصرة يتم نوالها دومًا بالإيمان. لم يكن هناك استعلان خاص لهما ولا كان هناك حاجة له. كان الوضع مسألة إيمان بسيطة بوضع أمر فرعون أمام أمر الله وآمالهم. فعزما على أن يثقا بالله الحي، إله آبائهما وأن يتحديا كل خطر ظاهر.

كان بهذا المعنى أنه "بِالإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا الصَّبِيَّ جَمِيلًا، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ" (عب 11: 23). لكون الإخفاء لفترة أطول في البيت بات أمرًا مستحيلًا، فنفس ثقة الإيمان قادت الأم الآن لأن تضع الطفل في سفط من البردي كالذي تصنع منه مراكب النيل الخفيفة في ذلك الوقت(85). وقد جُعل السفط متينًا من الداخل بالحمر ثم طُلي بالزفت حتى لا ينفذ منه الماء.

وإذ تمت حماية السفط بحمولته الثمينة تم وضعه بين الحلفاء على حافة النهر، تمامًا في الموضع الذي اعتادت ابنة فرعون أن تستحم فيه، مع أن النص المقدس لا يخبرنا صراحة إن كانت هذا الموضع تم اختياره عن قصد أم لا. الإشارة في (مز 78: 12) إلى الأعجوبة التي صُنعت في بلاد صوعن، ربما قد ترشدنا إلى مشهد هذا الخلاص ذاته.

فصوعن كما نعلم كانت أڤاريس القديمة عاصمة الملوك الرعاة والتي استولى عليها منهم الأسرة الملكية الجديدة. الترجيح أنها سوف تستمر في أن تكون مقر للفراعنة، وبالأكثر لكونها تقع على الحد الشرقي لجاسان، يتأكد من كون كل المساكن المصرية القديمة في تلك الأيام في أڤاريس أو صوعن كانت تقع فقط على ذراع النيل الذي لا تأتي إليه التماسيح، ولذلك هو الموضع الذي يمكن للأميرة أن تستحم فيه.

توجد صورة توضيحية غريبة في أحد الآثار المصرية لمشهد يصف إنقاذ موسى. إذ يتم تصوير سيدة نبيلة تستحم في النهر مع أربعة من الخادمات يلازمنها، بالضبط مثل ابنة فرعون في قصة موسى. لكن لنعد إلى قصتنا، فإن اكتشاف السفط وبكاء الطفل عند رفع شخص غريب عنه إياه من السفط، كلها أمور تتفق مع الطبيعة والمنطق.

تأثرت الأميرة بتوسل الطفل وندائه لمشاعر الأنوثة (والأمومة) لديها. فهي أشفقت عليه ورقت له برغم أنه كان واحد من الجنس المحكوم عليه بالهلاك. فطرح طفل باكي في النهر سيكون أمرًا غير إنسانيًا. تصرفت ابنة فرعون كما سوف تتصرف أية امرأة في ظرف كهذا(86). فإن تخلص وتنقذ طفل عبراني لم تكن جريمة عظمى بالنسبة لابنة الملك.

St-Takla.org Image: Pharaoh's Daughter Finds Moses - Finding Moses (Exodus 2:5-6) - from "The Book of Books in Pictures", Julius Schnorr von Carolsfeld, Verlag von Georg Wigand, Liepzig: 1908. صورة في موقع الأنبا تكلا: ابنة فرعون تجد موسى الطفل (الخروج 2: 5-9) - من كتاب "كتاب الكتب بالصور"، جوليوس شنور فون كارولسفيلد، فيرلاج فون جورج ويجاند، ليبزيج، 1908 م.

St-Takla.org Image: Pharaoh's Daughter Finds Moses - Finding Moses (Exodus 2:5-6) - from "The Book of Books in Pictures", Julius Schnorr von Carolsfeld, Verlag von Georg Wigand, Liepzig: 1908.

صورة في موقع الأنبا تكلا: ابنة فرعون تجد موسى الطفل (الخروج 2: 5-9) - من كتاب "كتاب الكتب بالصور"، جوليوس شنور فون كارولسفيلد، فيرلاج فون جورج ويجاند، ليبزيج، 1908 م.

علاوة على ذلك، غريب بما فيه الكفاية أن نعلم من الآثار أنه في ذلك الوقت عينه الأميرات الملكيات كن يمارسن نفوذ خاص، وفي الحقيقة اثنين منهما كن مشاركات في حكم البلاد. لذلك عندما حانت اللحظة المناسبة تقدمت مريم -التي كانت تراقب السفط من مسافة قريبة- وعرضت أن تستدعي أم عبرانية لترضع الطفل الباكي، ولكون هذه الهبة الغريبة، كما لو أن النيل الإله قد منحها للأميرة(87) فوافقت في الحال على عرض مريم.

بالطبع المرضعة التي تم استدعائها كانت أم الطفل والتي تلقت رضيعها بكونه وديعة ثمينة أوكلته لرعايتها ابنة من خطط لهلاكه. كم عجيبة ومدهشة طرق الله. لاحظ أحد كتّاب الكنيسة القدامى أن "ابنة فرعون هي مجتمع الأمم" قاصدًا بهذا أن يشرح هذه الحقيقة العظيمة التي نستشفها عبر التاريخ أنه بطريقة ما خلاص إسرائيل كان مرتبطًا على الدوام بتوسط أحد من الأمم. كان الأمر هكذا في تاريخ يوسف بل وقبل ذلك، وسوف يستمر هكذا إلى النهاية برحمتهم وشفقتهم سينال إسرائيل رحمة.

لكن أثناء ذلك قُدمت فرصة ذهبية لهذين الوالدين العبرانيين المؤمنين ليشكلا ذهنية الابن الذي تبنته أميرة مصر. السنوات الثلاث الأول من الحياة، وقت الرضاعة المعتاد في الشرق، هي في الغالب -حتى في مناخنا الشمالي (البارد) حيث النمو يكون أبطأ كثيرًا- فترة حاسمة للحياة فيما بعد. لن يتطلب الأمر منا أن نسرح بخيالنا لكي ندرك ما سيتعلمه الطفل موسى عند ركبتي أمه وما يسمعه بين شعبه المضُطهد.

عندما طفل -حُفظ هكذا وتهذب على هذا النحو- يجد نفسه مُعيّن له أن ينتقل من بيته العبري إلى بلاط فرعون وذهنه مملوء بالوعود التي قُطعت للآباء وقلبه مثّقل بهموم وأحزان إخوته، يكاد يبدو أنه من الطبيعي جدًا أن تراوده وتنشأ في ذهنه تدريجيًا أفكار عن خلاص آتي لشعبه بواسطته.

كثير من أعمق أهدافنا ومقاصدنا لها جذور في صبوتنا المبكرة، فالدروس التي تعلمناها آنذاك والأفكار التي تصورناها وتخيلناها آنذاك، قمنا بتنفيذها تدريجيًا إلى نهاية حياتنا. لكن كما في كل أعمق أهداف الحياة، لم يكن هناك تسرع أو اندفاع نحو تحقيقها وتنفيذها.

عندما أرجعت يوكابد الطفل إلى الأميرة، أعطت الأميرة لابنها الذي تبنته الاسم المصري موسى، والذي هو أمر غريب بما فيه الكفاية، يظهر أيضًا -في عديد من أوراق البردي المصرية القديمة- بين آخرين بكونه واحد من أمراء الأسرة الحاكمة. والاسم يعني "منتشلًا" لأنه مثلما قالت عندما أعطته الاسم: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»(88).

لكن موسى من المرجح له ألا يقيم مؤقتًا في القصر الملكي في أڤاريس، إذ يخبرنا القديس إستفانوس (أع 7: 22) أنه تهذب بكل حكمة المصريين. لا توجد دولة أولت مثل هذه القيمة العظيمة للتعليم ولا بدأته في مرحلة مبكرة كمصر. فبمجرد فطام الطفل أُرسل إلى المدرسة وتعلم على أيدي كتبة معينين على نحو منتظم. ومن حيث أن الكتابة لم تكن بالحروف بل بالهيروغليفي والذي قد يكون رسوم تصويرية أو رموز (قضيب للملك... إلخ.)، أو نوع من العلامات الصوتية، ومن حيث أنه يبدو وجود هيروغليفي للحروف المنفردة وللمقاطع اللفظية وللكلمات، فيلزم أن ذلك الفن بمفرده بسبب تعقيده يكاد يستغرق الحياة بأكملها لكي يتم إتقانه.

لكن بخلاف هذا، فإن التعليم يستغرق وقت طويل جدًا، وفي حالة من هم معينين لوظائف أعلى، يشمل برنامج تعليمهم ليس فقط مختلف العلوم مثل الحساب والفَلَك والكيمياء والطب... إلخ.، بل أيضًا اللاهوت والفلسفة ومعرفة الشرائع والقوانين.

لا يوجد أدنى شك في كون موسى بصفته ابن تبنته الأميرة سوف يتلقى أعلى تهذيب في البلاد. يخبرنا الكتاب أنه بناء على ذلك كان هو "مقتدرًا في الأقوال والأعمال"، ويمكننا أن نأخذ هذه العبارة ببساطتها دون الدخول في كثير من الأساطير اليهودية والمصرية التي تمجد حكمته وعبقريته العسكرية وإنجازاته الأخرى.

هكذا مضت وعبرت أول أربعين سنة من عمر موسى. بدون شك لو كان هو مهتمًا لكان يمكن أن تنفتح أمامه فرصة لمركز أعلى من الذي كان ليوسف. لكن قبل الشروع في هذا، كان له أن يقرر ويحسم مسألة أساسية وأولية عظيمة، مع من يلقي بقرعته ونصيبه، مع مصر أم إسرائيل، مع العالم أم مع الوعود الإلهية.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

وكما هو يحدث كثيرًا جدًا فإن عناية الله أعانته هنا ليتخذ بنعمة الله قرارًا صحيحًا وواضحًا. في الظروف الفعلية لاضطهاد العبرانيين كان مستحيلًا في وقت واحد أن يُدعى ابن ابنة فرعون وأن يكون له نصيب كواحد منهم مع شعب الله، فالواحد يعني ملذات الخطية وكنوز مصر والاستمتاع بالملذات والأمجاد والثاني يتضمن الاضطهاد وعار المسيح، أو (بأسلوب آخر) المعاناة وذلك القذف المرتبط على الدوام بالمسيح وبشعبه، وفي ذلك الوقت بالذات بكل من يتعلق ويرتبط بالعهد الذي كان المسيح جوهره.

لكن "الإيمان الذي هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى" قد مكّن موسى ليس فقط أن يرفض ما تعرضه مصر بل أيضًا اختار أن يتذلل وأكثر من ذلك هو اعتبر عار المسيح أعظم من كل كنوز مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة (عب 11: 24-26). وبهذه الروح هو "خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِم" (خر 2: 11). لكن إيمانه مع كونه عميقًا وخالصًا لكنه أبعد من أن يكون نقيًا وروحيًا.

كان المصريون القدامى مشهورين بقسوة تأديبهم وقصاصهم، وآثارهم تصور المسخرين ممسكين بسياط غليظة مصنوعة من خشب متين ومنثني يستخدمونه بلا رحمة. فنظر مثل هذه المعاناة والآلام يوقعها حقيرين بإخوته، من الطبيعي أن يثير منتهى الاستياء والغيظ في ابن الأميرة. هذا مع عزمه المحبب إلى قلبه منذ فترة طويلة أن يتبنى قضية إخوته والفكرة الوليدة لأن يصبح محررهم، قادته إلى قتل المصري الذي رآه يسئ معاملة واحد من إخوته العبرانيين. مع العلم بأن هذه لم تكن نوبة جنون فجائي، لأنه "الْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ" ليعاين فعلته، بل هي كانت بالأحرى محاولة لتنفيذ غايات روحية بسبل جسدانية، مثلما حدث من قبل في تاريخ أجداد موسى ومرارًا ما أدى هذا إلى الخطية والمعاناة.

هو يود أن يصير مخلص لهم قبل أن يدعوه الله لذلك، وهو يريد أن يحقق ذلك بغير السبل التي سيحددها الله. عن صواب قارن أحد الآباء هذا الفعل لموسى بما فعله بطرس بقطعه لأذن عبد رئيس الكهنة، وفي نفس الوقت يجذب الانتباه أيضًا لحقيقة أن قلب كل من موسى وبطرس كان يشبه حقل تغطيه أعشاب ضارة بكثرة، لكن كثرتها ذاتها تعد بثمر جيد كثير عندما يُفلح الحقل ويُحرث وتوضع فيه بذار جيدة.

في تدبير الله ذلك الوقت قد حان الآن. فقبل أن يُستزرع، كان لموسى -إن جاز القول- أن يُقطع. كان لله أن يضرب الجذر في العمق قبل أن يمكنه أن ينبت لأعلى. كما وضعها القديس إستفانوس على هذا النحو: "إِخْوَتَهُ لَمْ يَفْهَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى يَدِهِ يُعْطِيهِمْ نَجَاةً" لم يفهموا فعليًا ظهوره وتصرفه بينهم، وعندما حاول في المرة التالية أن يتدخل لفض مشاجرة بين اثنين من العبرانيين فالَّذِي كَانَ يَظْلِمُ قَرِيبَهُ دَفَعَهُ قَائِلًا بأسلوب جارح رافضًا سلطانه: مَنْ أَقَامَكَ رَئِيسًا وَقَاضِيًا عَلَيْنَا؟ ثم عيّره بجريمته قائلًا: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ أَمْسَ الْمِصْرِيَّ؟.

فقد أتضح آنذاك أن الأمر بات معروفًا للجميع وفي الحال وصل إلى أذني فرعون. ومما نعرفه عن المجتمع المصري، مثل هذه الجريمة لا يمكن أن تبقى بلا عقاب حتى لو كان القاتل ابن أميرة، وعلى افتراض أن من أنقذته في البدء من الموت لا تزال حية بعد مضي أربعين سنة، وأن من يملك آنذاك كان أبيها. لكن بخلاف هذا موسى ليس فقط قتل موظف يؤدي واجبه الرسمي، بل هو فعليًا انحاز إلى العبرانيين وشجعهم على العصيان والتمرد.

كان لموسى مثل هذه المكانة والنفوذ (بين العبرانيين)، الأمر الذي جعل فرعون لا يستطيع أن يأمر بقتله في الحال، لكنه "طَلَبَ أَنْ يَقْتُلَ مُوسَى"، وهذا لم يعمل إلا على تفاقم الأمر وجعل (موقف) موسى أكثر خطورة. فالمقاومة العلنية لفرعون بالطبع مستحيلة. والأمل الوحيد للنجاة يبدو الآن في أن يكذب موسى وينكر كل الصلات الأخرى بشعبه، وإلا فالهرب كان المخرج الوحيد المتُاح أمامه.

من ناحية أخرى كان يمكن للهرب أن يزيد من سخط الملك، بل وكان مشكوك فيه جدًا إن كان أحد من الدول المجاورة يمكنه في ظروف كهذه أن يقدم له ملجأ آمن. لذلك كان فعلًا فعل إيماني آخر عندما موسى بالإيمان "ترك مصر غير خائف من غضب الملك، لأنه تشدد، (أي بقي ثابتًا على اختياره وانتمائه لشعبه)، كأنه يرى من لا يُرى" أي هو بدلًا من أن يضع اعتبار لملك مصر ويخشاه، تطلع بالإيمان إلى الملك غير المرئي (عب 11: 27؛ 1تي 1: 17).

كمثل يعقوب قديمًا ويوسف تحت ظروف مشابهة، كان على موسى أن ينطلق الآن إلى أرض غريبة. كل ما أمكن لمصر أن تعلّمه له اقتناه واكتسبه. وما لا يزال هو في احتياج إليه، لا يمكن أن يتعلمه إلا في الوحدة والمذلة والمعاناة.

شيئان سيصيران واضحان في مسار تاريخه. أن الشيء الذي من وجهة نظره كان أن يحرر شعبه من بؤسهم، لم يجلب له سوى التعاسة لنفسه. من الناحية الأخرى أن ما بدا أنه نقله من دعوته الخاصة، سيعد ويعبَّد الطريق لتحقيق دعوته في النهاية. وهكذا يكون الأمر غالبًا ويحدث لنا في أهم أحداث حياتنا، لكي نتعلم بهذا دروس الإيمان والاستسلام الضمني لله، ولكي يكون المجد لله وحده.

إذ رفضه شعبه والملك كان يتعقبه، فإن العناية الإلهية الرحيمة أعدت مأوى وبيتًا للهارب موسى. على طول الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر كان المديانيون المنحدرين من إبراهيم وقطورة (تك 25: 2-4)، يقيمون ومن هناك كبدو رحل، كان يجولون من ناحية إلى الجزء الجنوبي من شبه جزيرة سيناء ومن الناحية الأخرى إلى الشمال حتى إلى أرض موآب.

وحدث لموسى بين المديانيين ما حدث ليعقوب في القديم عند هروبه. فعند البئر كان هو قادرًا على أن يحمي بنات رعوئيل كاهن مديان من ظلم الرعاة لهم والذين كانوا يدفعون قطيعهم بعيدًا عن البئر. بناء على ذلك تم دعوته إلى بيت رعوئيل واستمر في الإقامة هناك وفي آخر الأمر تزوج صفورة ابنة الكاهن. هذا الموقف وميلاد أبنيه -والذي سوف نشير إليه بعد قليل- هما فقط كل ما سجله موسى عن نفسه طوال الأربعين سنة التي أمضاها في مديان.

 لكن الظروف مواتية لنا لأن نستدل على تفاصيل أخرى مهمة. يبدو أن حمى موسى كان يعبد إله إبراهيم مثلما يوحي اسمه "رعوئيل" أي صديق إيل، وإيل هو الاسم الذي أعطاه رؤساء الآباء لله: "إيل شدّاي" أي الله القادر على كل شيء (خر 6: 3)، وهذا يتعضد أيضًا بسلوكه فيما بعد (خر18). ورعوئيل يُدعى أيضًا يثرون أو يثر (خر 3: 1؛ 4: 18)، والذي يعني السمو أو الرفعة، وربما كان هو لقبه الرسمي بكونه رئيس كهنة القبيلة، كمثل كلمة إمام عند العرب المحدثين فالتعبير يحمل معنى قريب ومشابه(89).

لكن حياة موسى في بيت رعوئيل يلزم أنها كانت حياة مذلة وعزلة موحشة. من سلوكها فيما بعد (خر 4: 25)، يمكن الاستنتاج أن صفورة كانت امرأة عنيفة ومتعجرفة الطبع ليس لها سوى قليل تجاوب مع المعتقدات الدينية لزوجها. عندما التقت به أول مرة كمصري شجاع استحوذ على قلبها. لكن مزيد من المعرفة لأعمق أهدف حياته ربما قادها لأن تعتبره شخصًا مهووس دينيًا بطريقة كئيبة شغل ذهنه بمشاريع خيالية. في الواقع كان يبدو أن لها قليل من الأمور المشتركة مع زوجها حتى أنه في أنبل وأصعب فترة في حياته، عند إرساله إلى فرعون، اضطر هو فعليًا إلى صرفها وأرجعها إلى بيت أبيها (خر 18: 2-3).

بل ولم يمكن وجود كثير ثقة بين موسى وحموه. فوضعه المتدني في أسرة يثرون [كراعي غنم لهم (خر 3: 1)]، وحقيقة تحفظه من جهة الرؤيا الصحيحة التي منحها الله له (خر 4: 18)، والأسلوب الوضيع الذي به أُرسل موسى إلى مصر (خر 4: 20)، كلها تعطي فكرة كئيبة ومحزنة عن العلاقات المتبادلة.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

لكن ما كان كل هذا الوقت في عمق قلبه وخبرته الحياتية وجد التعبير عنه في الأسماء التي أعطاها لابنيه. فهو أعطى لابنه الأكبر اسم جرشوم (يعني طرد أو نفي)(90)، لأَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ نَزِيلًا فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ» (خر 2: 22)، وللثاني أعطى اسم أليعازر، أي "الله عون" (خر 18: 4). إذ هو منفي ومطرود في أرض غريبة بعيدًا عن إخوته وأرض الموعد، كان موسى يتوق لبيته الحقيقي.

لكن هذا الشعور لم ينتج عنه يأس ولا عدم إيمان أو عدم ثقة بالله. بل على العكس فكون ثمر البر للسلام ينشأ من تأديب الرب (عب 12: 11)، يتضح في اسم ابنه الثاني إذ قال آنذاك (خر 18: 4): (لأَنَّهُ قَالَ: «إِلَهُ أَبِي كَانَ عَوْنِي وَأَنْقَذَنِي مِنْ سَيْفِ فِرْعَوْنَ»). إن الثقة الذاتية والحماس الجسداني الظاهر في محاولته المبكرة لتخليص إخوته في مصر قد انطفئا في أرض منفاه وفي مدرسة الحزن والألم. والنتيجة لكل ما عاناه وتعلمه كان الثقة المطلقة في إله آبائه، إله الوعود والذي يقينًا سوف يحقق كلامه.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(84) تشير الرواية ضمنًا إلى كونهما ولدا قبل مرسوم القتل. كان هارون يكبر موسى بثلاث سنوات (خر 7: 7)، بينما مريم كانت بالغة عندما تم التخلي عنه (خر 2: 4).

(85) كل شيء هنا مصري بحت، حتى بعض التعبيرات المستخدمة في العبري مشتقة من اللغة المصرية. لم يعد البردي ينمو بعد بلاد النوبة، لكن الآثار المصرية تعرض كثير من المراكب والسفط المصنوعة من النبات ومعدة بطريقة مشابهة. وكانت الحلفاء نوع أصغر من البردي.

(86) في الكتاب الذي يُعرف باسم The Speaker’s Commentary يوجد شرح مُعطى من كتيب يُدعى "طقس الموتى" أحد أقدم التسجيلات الدينية القديمة الموجودة عن مصر. إذ يبدو أن أحد الأشياء التي للروح الخارجة من الجسد أن تجيب عليها أما رب الحق كانت هذه: "أنا لم أظلم أي إنسان، أنا لم أجعل أي إنسان يبكي، أنا لم أمنع اللبن عن فم رضيع".

(87) عبد المصريون النيل بكونه إله.

(88) البعض الآخر اعتبر موسى اسم مشتق من كلمتين مصريتين قديمتين تعينان حرفيًا من تم تخليصه من الماء.

(89) علينا أن نميز بين رعوئيل، يثرون من حوباب(*)، الذي يبدو أنه ابن رعوئيل وأخو زوجة موسى وقد صاحب بني إسرائيل في رحلتهم (انظر قض 4: 11). توجد هنا صعوبة بسيطة، لأن الكلمة التي تُرجمت "حمو" تعني فعليًا كل قريب بالزواج.

(90) اعتبر السيد كوك أن الاسم مركب من كلمة عبرية وكلمة مصرية تعنيان "غريب"، "في أرض أجنبية".

(*) توضيح من الموقع: هذا أحد الآراء، ولكن هناك رأي مُتعارف عليه هو أن رعوئيل هو اسم آخر ليثرون.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-2/moses-egypt.html

تقصير الرابط:
tak.la/3xvmd4d