الفصل الرابع عشر
ميلاد إسحق - صرف إسماعيل- امتحان إيمان إبراهيم بتقديم إسحق ذبيحة - موت سارة - موت إبراهيم (تك 21: 1 - 25: 18)
في النهاية جاء الوقت الذي كان للوعد العظيم الذي ناله إبراهيم أن يتحقق. كان عمر رئيس الآباء آنذاك مئة سنة وسارة تسعين سنة عندما ولد لهما إسحق. من الواضح أن القصد الإلهي أن يطيل قدر المستطاع فترة ما قبل الحدث، جزئيًا لكي يمرن وينضج إيمان إبراهيم، وجزئيًا لكي يظهر بوضوح أكثر أن هبة وعطية وارث المواعيد كانت بطريقة ما فائقة للطبيعة.
وكما رأينا فإن ذات الاسم لابنهما كان مقصود له أن يديم هذه الحقيقة، والآن سارة ذاتها هي أيضًا بدافع من فرح قلبها قالت: "قَدْ صَنَعَ إِلَيَّ اللهُ ضِحْكًا. كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ يَضْحَكُ لِي"، وحرفيًا تعني: "الله أعد لي ضحك، كل من يسمعه يضحك بفرح معي".
هكذا كما كان ضحك إبراهيم ضحك إيمان فوجئ بالحدث، هكذا كان ضحك سارة الآن مناقضًا لضعف اتكالها السابق، كان ضحك إيمان يعبّر عن عرفانه بجميل الرب. لكن يمكن أن يوجد نوع ثالث من الضحك، ليس هو من الإيمان وليس حتى من عدم الإيمان، بل هو ضحك الجحود، ضحك السخرية، وهو أيضًا سينال ما يستحقه من مجازاة يستحقها.
بحسب توجيه الله قام إبراهيم بختان إسحق في اليوم الثامن. وعندما حان موعد فطام إسحق، صنع إبراهيم وليمة كبيرة بحسب عادات تلك الأزمنة. نحن لا نستطيع أن نقول بجزم ماذا كان عمر الصبي، ربما كان سنة أو كما يخمن يوسيفوس كان عمره ثلاث سنوات. سواء كان عمره سنة أو ثلاثة، فيلزم أن إسماعيل كان فتى على مشارف الرجولة، فكان على الأقل عمره خمسة عشر وربما كان سبعة عشرة.
"وَرَأَتْ سَارَةُ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ" أي "الذي كان ساخرًا". ويعلّق على هذا كاتب ألماني بقوله: "إسحق الذي هدف لضحك مقدس، بات هدفًا لمزاح دنس ودعابة غير مقدسة. فهو لا يضحك (ضحك عادي وبرئ)، هو يسخر. يسخر ممن؟! من إسحق الصغير والعاجز، أب أمم! عدم الإيمان، حسد وتباهي برفعته الجسدانية: مثل هذه كانت أسباب تصرفه. لأنه لا يدرك: هل يستحيل على الرب شيء، لذلك يجده أمر يثير السخرية أن يربط مثل هذه النتائج العظيمة ببداية صغيرة كهذه".
من الواضح أنه في هذا الضوء رأى الرسول هذا التصرف عندما وصف سلوك إسماعيل بهذه الكلمات: "كما كان حينئذ، الذي حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح" (غلا 4: 29). بناء على هذا السبب وليس بدافع من الغيرة أن سارة طلبت طرد الجارية وابنها. أما إبراهيم -الذي يبدو أنه أساء فهم دوافعها - كان متقاعسًا في الإذعان لطلبها- بدافع من المشاعر الأبوية الطبيعية تمامًا في موقف كهذا، إلى أن أعطاه الله توجيه مباشر بتنفيذ طلب سارة.
كان طرد إسماعيل ضروريًا، ليس فقط بدافع من عدم أهليته ولكي يتم جعل وريث الموعد غير مختلط بآخرين، بل أيضًا لأجل إبراهيم نفسه، والذي يلزم لإيمانه أن يتدرب على جحد كل شيء حتى مشاعره الأبوية الطبيعية طاعة للأمر الإلهي. والله برحمته الرقيقة مرة أخرى جعل التجربة أسهل بمنح وعد خاص بأن إسماعيل سيصير أمة.
لذلك مع أن هاجر وأبنها تم طردهما بأقل الضروريات للرحلة -خبزًا وماء- فهذا كان مقصود منه بالأساس امتحان إيمان إبراهيم، وفقرهما كان مؤقتًا. لأننا سريعًا سنقرأ فيما بعد في السفر أن إبراهيم قبل موته أغنى بنيه (من هاجر وقطورة) بعطايا (تك 25: 6)، وعند دفنه ظهر إسماعيل كابن معترف به بجانب إسحق ليؤديا آخر طقوس المحبة لأبيهما (تك 25: 9).
![]() |
هكذا إذ طُردا، تاهت هاجر وأبنها في برية بئر سبع، ربما في طريقها إلى مصر. وهنا عانيا مما يُعتبر أعظم خطر يمكن أن يجابه المسافرين في صحراء، من الافتقار إلى الماء. أخفقت قوة الصبي ونفذت قبل قوة أمه، وفي النهاية خارت شجاعة الأم وقدرتها على الاحتمال انهارت واستسلمت للإنهاك التام واليأس المطبق. حتى ذلك الوقت كانت هي تعضد خطوات أبنها المتعثرة، لكنها الآن "طَرَحَتِ الْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى الأَشْجَار" بينما هي "مَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ بَعِيدًا نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ، لكي لا تعاين غصة موته، لكنها لا تزال باقية على قرب منه.
ولو نستخدم اللغة التصويرية للكتاب نجده يقول: "رَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ"، لكن ليس صوت صراخها بل صوت صراخ ابن إبراهيم هو الذي صعد إلى أذني الرب، ومرة أخرى يتم توجيه هاجر إلى بئر للماء، لكن هذه المرة بواسطة ملاك الله وليس كما في السابق بواسطة "ملاك العهد" [والذي واضح من كلامه هناك أنه الرب يسوع في ظهور مسبق (تك 16: 9-12)]. والآن أيضًا لأجل تقويتها من جهة المستقبل، نفس التأكيد والضمان بخصوص إسماعيل والذي أُعطي من قبل لإبراهيم، قد أُعطي لهاجر هنا. وقد تحقق بسخاء هذا الوعد الإلهي. فسكن الصبي في المنطقة الواسعة بين فلسطين وجبل حوريب، في برية تُدعى "برية فاران" والتي إلى هذا اليوم محل سيطرة لا نزاع حولها لنسله من بدو العرب.
مع أنها كانت امتحان مر وصعب عملية طرد إسماعيل أبنه، لكنها كانت مجرد إعداد لامتحان أكثر شدة لإيمان وطاعة إبراهيم. لأجل هذه، التجربة الأخيرة والأعلى، بل أيضًا الصعود الشاهق في حياة الإيمان لإبراهيم - كانت كل معاملات الله والدروب السابقة التي قاده فيها تعده تدريجيًا وتؤهله. لكن بالرغم من هذا فهي يبدو أنها تقف متفردة في الكتاب لا يمكن لأحد أن يقترب منها، كمثل قمة جبل شاهق دُعي شخص واحد فقط على الإطلاق ليصعد إليها.
لا ولا حتى واحد بمفرده، لأنه لا تزال هناك بعد قمة جبل أعلى، في سموه تصل قمته إلى السماء ذاتها وطأه فقط نسل إبراهيم (يسوع المسيح)، الذي فعل كل شيء وأكثر جدًا مما فعله إبراهيم، والذي قد جعلها حقيقة مباركة بالنسبة لنا ما كانته ذبيحة إبراهيم مجرد رمز.
إن إبراهيم بحسب كلام ربنا المبارك يسوع -عندما كان على جبل المريا، جبل تهيئة الذبيحة الحقيقية لله- عندما كان على وشك تقديم ابنه، رأي يوم المسيح فكان مبتهجًا.
الاختبار، الامتحان أو التجربة التي كان لإيمان إبراهيم أن يجتازها الآن لكي يتنقى تمامًا كما "الذهب في النار" جاء في صيغة أمر من الله أن يقدم ابنه إسحق محرقة.
لم يستخدم شيء يمكن أن يخفف من مرارة حزنه. فقد قيل له بتدقيق وتفصيل مؤلم: "خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ" ولم يُعط له ولو وعد وحيد بالخلاص والنجاة لتشجيعه في طريقه الموحش. نفس الغموض الذي أضاف الكثير من الصعوبة لدعوة إبراهيم الأولى بترك بيت أبيه، كان يميز هذه التجربة الأخيرة في امتحان طاعة إيمانه. فلم يتم إخباره سوى أن يأخذ إسحق "إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا" حيث سيخبره الله على أيًا من الجبال التي حولها ليقدم محرقته الغريبة هذه.
لقد استنتج أحدهم بلغته الموجزة والمحكمة كيف يلزم أنه بدا للعقل البشري كما لو أن وعد الله لإبراهيم سيخيب ويفشل أو أن هذا الأمر صادر من الشيطان وليس من الله. لم يكن هناك سوى مخرج واحد من هذه الورطة والحيرة وهو أن نستأثر كل فكر لطاعة المسيح.
لم يترنح إبراهيم من كلمة الله هذه ولم يتشكك فيها قط بل كان قويًا في الإيمان، إذ حسب -وإن كان لم يعرف هذا بعد في الواقع العملي- أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضًا الذين منهم أخذه أيضًا في مثال (عب 11: 19). لأنه يلزم ألا نحط من قدر التجربة حين نضع في اعتبارنا معرفتنا بالنتيجة (كما قرأناها في السفر).
لم يكن لإبراهيم على الإطلاق أية ضمانة ولا معرفة تتخطى واجبه في الوقت الراهن. كل ما كان يتكل عليه ويمسك به هو وعد سابق وشخص إله العهد وأمانته، الذي يأمره الآن بتقديم هذه المحرقة. وإن كان يلزم أن الصراع الداخلي كان حادًا، لكنه كان قصيرًا. فهو دام لمدة ليلة واحدة وفي الصباح التالي بدون أن يستشير "لحم ولا دم" َبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ وَأَخَذَ اثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ وَإِسْحَاقَ ابْنَهُ ومضى في طريقه إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا".
نحن ليس لدينا على الإطلاق أية معلومات منها نحدد العمر المضبوط لإسحق في ذلك الوقت، لكن ما ذكره يوسيفوس بأن عمره كان خمس وعشرين سنة يجعله أكثر تقدم في العمر عن اللغة التي يبدو أن الرواية الكتابية تنقلها إلى أذهاننا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
بعد سفر يومين من بئر سبع، ظهرت أمامهم في اليوم الثالث الجبال التي حول أورشليم. ومن ثغرة أو فجوة بين التلال والتي تشكل أعلى نقطة على الطريق العام والذي على الدوام يقود من يأتي من الجنوب، سيكون ظاهرًا ذلك الجبل الوحيد والذي عليه سيُقام فيما بعد الهيكل. هذه كانت "أَرْضِ الْمُرِيَّا"، وهذا كان الجبل الذي كان لذبيحة إسحق أن تُقدم عليه!
إذ غادرا خلفهما الغلامين مع ثقة أنه بعد سجودهما يرجعان سويًا: "َنَسْجُدُ ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَيْكُمَا" -لأن الإيمان كان واثقًا من النصرة ومتوقع لها- تابع الأب والابن سيرهما على طريقهما المتفرد، حمل إسحق حطب المحرقة وأخذ إبراهيم بيده النار وسكين المحرقة. "فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ لإِبْرَاهِيمَ أَبِيهِ: "يَا أَبِي". فَقَالَ: "هَئَنَذَا يَا ابْنِي". فَقَالَ: "هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ وَلَكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟". فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: "اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي". فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا" (تك 22: 6-8).
لم يُقل أي كلام آخر بين الاثنين إلى أن وصلا المنطقة المحددة. وهنا بنى إبراهيم المذبح ورتب عليه الحطب وربط إسحق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب. وبمجرد أن إبراهيم مد يده وأخذ السكين، ظهر ملاك الرب، ملاك العهد وأوقف يده.
لقد اُمتحن إيمان إبراهيم تمامًا الآن وقد تكمل. وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فذهب إبراهيم وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِه. لكن بالنسبة لإبراهيم فإن كل الوعود السابقة ليس فقط كُررت واتسعت، بل أيضًا تثبتت بقسم حتى بأمرين عديمي التغير لا يمكن أن الله يكذب فيهما تكون له تعزية قوية (عب 6: 18)، "فَإِنَّهُ لَمَّا وَعَدَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْظَمُ يُقْسِمُ بِهِ، أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ" (عب 6: 13).
هذا القسم يقف وحده متفردًا في تاريخ رؤساء الآباء، وسيتم الإشارة إليه فيما بعد على الدوام (تك 24: 7؛ 26: 3؛ 50: 24؛ خر 13: 5، 11؛ 33: 1؛ إلخ.)، وكما يلاحظ أحدهم، صار القسم فعليًا المنبع الذي منه تدفق كل ما وعد بقسم إلى داود في (مز 89: 35؛ 110: 4؛ 132: 11). ليس غريبًا ولا عجيبًا أن إبراهيم دعا الموضع "يَهْوَهْ يِرْأَهْ"، أي الرب يُرى، ويعني أن الرب يرى لنا ويهيأ لأنه كما يتضمن النص أيضًا عنايته أو تهيئته لنا هي بالضبط ما يراه لنا، لأنه -ماذا وأين ومتى- نحن لا نراها لأنفسنا.
عندما نتذكر أنه على قمة هذا الجبل سيقف فيما بعد هيكل الرب، وأن منه ستصعد دخان الذبائح المقبولة، يمكننا أن نفهم بطريقة أفضل ما أضافه الكاتب الملُهم على سبيل التوضيح: "حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: "فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى" - أين هو يرى ويُرى، ومنه أيضًا يُشتق اسم المريا.
لكن قبل أن نتجاوز هذا الحدث، من الضروري أن نراه في تأثيراته ونتائجه على إبراهيم وعلى إسحق بل وعلى الكنعانيين، مثلما أيضًا أن نراه في نموذجه الأعلى أو تطبيقه الرمزي.
إنه لأمر يثير الانتباه جدًا أن كاتب ألماني قد اجتهد بشدة في معارضة صدق هذه الرواية الكتابية قد أُجبر إلى حد ما على الاعتراف بالتأثير الأعمق لهذه الرواية على إيمان إبراهيم. فقد كتب قائلًا: "إلى هنا كان إسحق -ذاك الهبة الثمينة التي وُعد بها طويلًا- مجرد بركة طبيعية لإبراهيم. كان هو أبن مثل أي ابن آخر -رغم أنه ولد من سارة- قد ولد وتربى في بيته. فمنذ ميلاده لم يُدع إبراهيم، لم يُدع لأن يلده بمخاض آلام نفس تصارع للإيمان، ولكن كل بركة تصير بركة فقط روحية ودائمة حقًا لو حصلنا عليها بجهاد الإيمان".
بناء على أمر الله تخلى إبراهيم بالضرورة عن الوطن والأقارب والبيت وبعد ذلك عن عاطفته الأبوية تجاه إسماعيل. ولكن كان يتبقى له أن يتخلى حتى عن إسحق الذي بحسب الجسد لكي يناله ثانية روحيًا، يتخلى ليس فقط عن ابنه الوحيد، هدف تشوقه ورجاء حياته وفرح شيخوخته وكل ما كان عزيز لديه، بل أيضًا يتخلى عن وارث كل المواعيد وذلك بإيمان مطلق وبسيط بالله وفي ثقة تامة أن الله قادر أنه يقيمه حتى من بين الأموات.
هكذا تطهر وتنقى الوعد -إن جاز القول- من كل شيء جسدي تعلق به، وهكذا تكمل إيمان إبراهيم ومحبته تنقت. وعلى إسحق أيضًا كان للحدث تأثير غاية في الأهمية. لأنه عندما لم يقاوم وسمح لنفسه أن يُربط ويوضع على المذبح، دخل في روح إبراهيم وأخذ لنفسه إيمانه وبهذا أظهر نفسه بالحق أنه وارث للمواعيد. بل لا يمكننا أن ننسى كيف أن هذا الاستسلام للبكر كان الأول في تكريس كل بكر لله، الأمر الذي طلبه الناموس فيما بعد والذي يعني أننا بتكريس البكر نكرس الكل وكل شيء للرب.
وربما الدرس الذي كان يمكن للكنعانيين أن يتعلموه من الحدث سوف يبدو إلى حد ما ثانويًا مقارنة بهذه الحقائق العظيمة. لكن علينا أن نضع في اعتبارنا أن كل الذبائح البشرية من كل جانب كانت تُقدم على كل تل، عندما أعطى الله موافقته وتصديقه لذبيحة مختلفة تمامًا باستبدال دائم للذبائح الحيوانية بدلًا من تسليم أفضل المحبوبين من الأبناء، الأمر الذي كان يفعله البشر من باب اليأس للحصول على كفارة ومغفرة للخطية.
ولكن الله شخصيًا سلّم وبذل ابنه المحبوب، ابنه الوحيد الجنس لأجلنا، وعن هذه الذبيحة كان مقصود من ذبيحة إسحق أن تكون مثالًا مجيدًا وعظيمًا، وكما قبل إبراهيم هذه الذبيحة الرمزية ثانية من بين الأموات في مثال، هكذا نحن قبلناها في الحقيقة عندما أقام ابنه يسوع المسيح من بين الأموات وجعلنا نجلس معه في السماويات.
بعد تقدمة إسحق، عاش إبراهيم سنوات كثيرة لا يكاد يوجد فيها حدثًا جديرًا بالتسجيل في الكتاب أثناءها. أول شيء سنقرأ عنه فيما بعد كان موت سارة عند عمر 127 سنة، مع العلم أنها المرأة الوحيدة التي تم تسجيل عمرها في الكتاب المقدس، وربما يرجع هذا التميز إلى مكانتها بالنسبة للمؤمنين كما جاء في (1بط 3: 6). كان عمر إسحق آنذاك 37 سنة وإبراهيم كان يقيم آنذاك في حبرون لمرة أخرى.
إن حادثة شراء إبراهيم لموضع دفن من بني حث تم تصويرها بغاية الروعة. وهي تبين بصورة ملفتة أيضًا مكانة إبراهيم في الأرض كغريب ونزيل ولكن تبين أيضًا إيمانه في امتلاك الأرض مستقبلًا. إن التفاوض بشأن الحقل ومغارة المكفيلة التي أراد إبراهيم ابتياعها كموضع للدفن قد تم في اجتماع عام عند باب المدينة كالعادة المتبعة في الشرق آنذاك.
اعترف إبراهيم بصريح العبارة أنه غريب ونزيل بين بني حث والنص المقدس يكرر مرارًا وتكرارًا كيف أن إبراهيم أنحنى وسجد أمام شعب الأرض. ومن ناحية أخرى هم مضوا في تفاوضهم بالنمط الشرقي الأصيل فعرضوا عليه أولًا أن يختار ما يشاء من مدافنهم حيث أنهم اعترفوا بإبراهيم بكونه بينهم كرئيس من الله، ثم رفضوا تقاضي أي مبلغ لقاء حقل المكفيلة، لكن تم إنهاء الصفقة بطلب قيمتها الكاملة بهذه الطريقة الشرقية الأصيلة: "يَا سَيِّدِي اسْمَعْنِي. أَرْضٌ بِأَرْبَعِ مِئَةِ شَاقِلِ فِضَّةٍ مَا هِيَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ؟" (تك 23: 15).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وبالمقابل برز إبراهيم حقًا مثل رئيس في تعاملاته وكياسته بالقبول بلا تردد. وهكذا تم تأمين الحقل والمغارة ليكون موضع دفن والملك الوحيد في الأرض التي كان لها أن تكون له إلى الأبد! لكن حتى في شراء موضع دفن دائم للأسرة، أظهر إبراهيم إيمانه بالوعد، مثلما بعد قرون كثيرة فيما بعد أظهر إرميا النبي ثقته في العودة التي وعد بها الله بني يهوذا من بابل بشرائه لحقل في عناثوث (إر 32: 7-8).
في مغارة المكفيلة هذه ترقد كنوز بقايا رفات إبراهيم وسارة، إسحق ورفقة وليئة أيضًا، وكذلك جسد يعقوب الذي تم تحنيطه وربما جسد يوسف أيضًا. لا توجد بقعة في الأرض المقدسة تحوي على تراب ثمين كهذا، وبين كل الأماكن التي تُدعي مقدسة، هذا هو الموضع الوحيد الذي يمكن الإشارة إليه بكل يقينية إلى هذا اليوم.
ومنذ الحكم العربي لم يعد الموضع مُتاح سواء لليهودي أو المسيحي. فموضع المغارة ذاته تم تغطيته بمسجد إسلامي يقف مسورًا داخل مبنى رباعي الزوايا طوله مائتي قدم واتساعه 115 قدم وارتفاعه 50 أو 60 قدم وأسواره مقسمة بواسطة أعمدة مستطيلة تبرز من الأسوار ولها تيجان في قمتها تبعد عن بعضها بخمسة أقدام وباتساع قدمين ونصف.
هذا المبنى بحجارته الهائلة والتي الواحد منها طوله ليس أقل من 38 قدم يلزم أن تاريخه يرجع إما إلى وقت داود أو سليمان. إن الجامع داخله ربما كان كنيسة قديمة وفي المغارة أسفلها تقع رفات رؤساء الآباء.
بعد ثلاث سنوات من موت سارة عزم إبراهيم على أن يملأ الفراغ في أسرته وفي قلب إسحق بطلب زوجة لإسحق. وإلى هذا الأمر سوف نشير عندما نتعرض لحياة إسحق. لم يعد يتبقى شيء آخر يتم إخبارنا به عن الثمانية وثلاثين سنة التي أعقبت موت سارة. فنقرأ في السفر أن إبراهيم تزوج قطورة وأنجب منها ست بنين، لكننا غير متيقنين من زمن حدوث هذا. على كل حال لم تختلط سيرة هؤلاء الأولاد بالنسل الموعود به. هم صاروا أجداد لقبائل عربية كان يتم الإشارة إليها أحيانًا في الكتاب المقدس.
وهكذا بالصمت مؤثر ومهيب لسنوات كثيرة تصل في مجموعها أكثر من جيل يأتي السفر بنا إلى موت إبراهيم بشيخوخة صالحة في عمر 175 سنة، بعد ميلاد إسحق بخمس وسبعين سنة تامة. ولو نقتبس لغة الكتاب ذات المغزى هو مات "وانضم إلى قومه" (تك 25: 8)، وهو تعبير يختلف تمامًا من الموت أو الدفن، الأمر الذي يعني ضمنًا انضمامه لمن سبقوه، ويعني إيمان حازم ومتيقن بحياة آتية.
وبوقوف أبنيه إسحق وإسماعيل بجانب قبره في مغارة المكفيلة، يبدو أننا نسمع صوت الله يتكلم إلى كل الأزمنة: "فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ" (عب 11: 13).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/isaac-ishmael-sarah.html
تقصير الرابط:
tak.la/xkh6437