St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-1
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الأول: عالم ما قبل الطوفان وتاريخ رؤساء الآباء الأولين - القمص أنجيلوس المقاري

15- الفصل الخامس عشر: زواج إسحق - ميلاد عيسو ويعقوب - عيسو يبيع بكوريته - إسحق في جرار - زواج عيسو (تك 24؛ 25: 19 - 26: 35)

 

الفصل الخامس عشر

زواج إسحق - ميلاد عيسو ويعقوب - عيسو يبيع بكوريته - إسحق في جرار - زواج عيسو (تك 24؛ 25: 19 - 26: 35)

 

إن الرواية المقدسة في تحولها الآن إلى سيرة إسحق، الوارث للمواعيد، لا تزال متميزة في مسيرتها بنفس التعاملات من جانب الله، كتلك التي ميزت حياة إبراهيم. إذ نراه في ضوء المواعيد الإلهية ومرتبط بها، فإن زواج إسحق سيظهر أنه بالضرورة موضوع له أعمق الأهمية بالنسبة لإبراهيم.

كان يوجد شيئان استقرا بحزم في ذهن إبراهيم: يلزم لإسحق ألا يتخذ له زوجة من بين الكنعانيين الذين يقيم بينهم، يلزمه ألا يدخل في حالة تصاهر وزواج مع من كان ينبغي تجريدهم من صك ملكية الأرض، والرب -الذي برهن مرارًا أنه إله أمين ووفي، وطاعة لمشيئته هو يرفض الآن ما يبدو أنه زواج يعود بمنافع عظيمة- سيهيئ بنفسه زوجة مناسبة لإسحق.

هاتان القناعتان حكمتا تصرف إبراهيم مثلما كانتا الهادي والمرشد لأكبر عبيده الذي ائتمنه إبراهيم على تنفيذ رغباته، والذي بصفة عامة يبدو أن تشرب بعمق من روح سيده.

قبل هذا بوقت ما قد أُخبر إبراهيم بأن أخيه ناحور، والذي هو تركه خلفه في حاران قد أُنعم عليه ببنين كثيرين (تك 22: 20). وإليه يرسل إبراهيم الآن "كبير بيته المستولي على كل ما كان له" (تك 24: 2). وبصفة عامة يُفترض أنه أليعازر الدمشقي (تك 15: 2)، وإن كان يلزم أنه في ذلك الوقت كان متقدمًا في العمر جدًا مثل سيده إبراهيم. لكن قبل سفره ورحيله، جعله يقسم بالرب -حيث أن هذا الأمر يختص بصميم العهد وجوهره- أن يتحاشى أية مصاهرة مع الكنعانيين، وأن يتوجه في طلب زوجة له من أقاربه. وعندما وضع العبد أمامه احتمال أن تنفيذ هذه الرغبة قد يلزم إسحق بضرورة العودة إلى الأرض التي خرج منها إبراهيم، شدد إبراهيم بتأكيد على رفض الاقتراح لكونه مناقض تمامًا للمشيئة الإلهية، وبينما إيمانه لا يتوقع أية صعوبة، لكنه بهدوء أودع النتيجة في يدي الله.

في كل هذا لم يتلق أي استعلان جديد من السماء بل ولم يحتَج لأي استعلان. هو فقط طبق على الظروف الراهنة ما تلقاه سابقًا بكونه مشيئة الله، تمامًا كما في كل ظروف الحياة نحن لا نحتاج لرسالة أو إشارة من فوق، وعلينا فقط أن نفهم ونطبق مشيئة الله كما هي مستعلنة لنا في الكتاب المقدس. وقد برهنت النتيجة كم كانت صادقة وحقيقية توقعات إبراهيم.

فإذ وصل عبد إبراهيم إلى حاران جعل موضوع صلاته أن ينجح الله طريقه، لأنه حتى عندما نكون في الطريق الذي يحدده الله، يلزمنا أن نسعى ونطلب بركته الخاصة. هناك بينما كان واقفًا خارج المدينة بجانب البئر والذي بحسب عادة الشرقيين -ستمضي إليه الفتيات عند المساء ليستقين ماء لأهل بيوتهن، كان من الطبيعي للعبد أن يربط في صلاته بعلامة حسن الضيافة والمودة واللطف الروحي - الذي تعود عليه في بيت سيده- أن يجده في أقارب سيده ومن ثمَّ ربطه بهدف رحلته.

وما كاد أن يفرغ من صلاته حتى جاءت الاستجابة: وَإِذْ كَانَ لَمْ يَفْرَغْ بَعْدُ مِنَ الْكَلاَمِ إِذَا رِفْقَةُ الَّتِي وُلِدَتْ لِبَتُوئِيلَ ابْنِ مِلْكَةَ امْرَأَةِ نَاحُورَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ خَارِجَةٌ وَجَرَّتُهَا عَلَى كَتِفِهَا، جاءت إلى البئر الذي كان يقف الغريب بجانبه بجماله. كان مظهرها ملفت جدًا بجمالها الشديد وهيئتها تتسم بالجاذبية والتواضع. وبحسب العلامة التي حددها في ذهنه، طلب منها ماء ليشرب، وبحسب نفس العلامة هي فاقت وتجاوزت طلبه وعرضت أن تسقي جماله أيضًا.

St-Takla.org Image: Rebekah has come to the land of Canaan, where Isaac lives. Isaac was walking in the field. He looked up and saw the camels coming. When they came nearer he saw Rebekah. Rebekah came down from the camel, and Isaac brought her into the house. Isaac loved Rebekah, and took her for his wife. - from "Bible Pictures" book, by W. A. Foster, 1897. صورة في موقع الأنبا تكلا: وصلت رفقة إلى أرض كنعان، حيث يقيم إسحاق. كان إسحق يمشي في الحقل. رفع بصره فرأى الجمال قادمة. ولما اقتربت، رأى رفقة. فنزلت رفقة عن الجمل، فأدخلها إسحاق إلى البيت. أحب إسحاق رفقة واتخذها زوجة له. - من كتاب "صور الكتاب المقدس"، و. أ. فوستر، 1897 م.

St-Takla.org Image: Rebekah has come to the land of Canaan, where Isaac lives. Isaac was walking in the field. He looked up and saw the camels coming. When they came nearer he saw Rebekah. Rebekah came down from the camel, and Isaac brought her into the house. Isaac loved Rebekah, and took her for his wife. - from "Bible Pictures" book, by W. A. Foster, 1897.

صورة في موقع الأنبا تكلا: وصلت رفقة إلى أرض كنعان، حيث يقيم إسحاق. كان إسحق يمشي في الحقل. رفع بصره فرأى الجمال قادمة. ولما اقتربت، رأى رفقة. فنزلت رفقة عن الجمل، فأدخلها إسحاق إلى البيت. أحب إسحاق رفقة واتخذها زوجة له. - من كتاب "صور الكتاب المقدس"، و. أ. فوستر، 1897 م.

لكن بالرغم من هذا لم يستسلم عبد إبراهيم لانطباعاته الأولى بالاستجابة الحرفية لصلاته وبحسب كلام النص قيل عنه: "وَالرَّجُلُ يَتَفَرَّسُ فِيهَا صَامِتًا لِيَعْلَمَ: هَلْ أَنْجَحَ الرَّبُّ طَرِيقَهُ أَمْ لاَ؟". وقبل مزيد من الاستفهام عمن كانوا أقاربها وطلب ضيافتهم له،كافأ عطفها ومودتها بهدايا رائعة. لكن عندما أظهرت إجابات رفقة أن الرب قاده فعلًا وبطريقة مباشرة "إلى بيت إخوة سيده" لم يتمالك مشاعره فخر وسجد للرب.

والوصف لما ترتب الآن ونتج ليس فقط فائق في روعة التصوير، بل أيضًا حقيقي ويطابق ما يجري في الحياة. فقد قيل عن رفقة "فَرَكَضَتِ الْفَتَاةُ وَأَخْبَرَتْ بَيْتَ أُمِّهَا بِحَسَبِ هَذِهِ الأُمُورِ"، ومن الواضح أن بيت أمها هو الجزء النسائي فيه(34).

بعد ذلك إذ رأى لابان أخي رفقة الحلي الذهبية وسمع روايتها أسرع لدعوة الغريب بكل الترحاب الشرقي الصادق والسخي. لكن التعبيرات التي بها خاطب لابان عبد إبراهيم رغم أنه جزئيًا على الأقل عابد للأوثان: "ادخل يا مبارك الرب" تذكّرنا كيف بسهولة أن لغة إبراهيم الدينية قد التقطها من لا يحق لهم فعليًا استخدامها.

ومن الناحية الأخرى نجد أن عبد إبراهيم يشبه سيده في سلوكه الجليل وجدّية القصد والهدف. فقبل أن يقبل ضيافة بتوئيل ولابان يود أن يتلقى إجابة عن المهمة التي لأجلها أُرسل، بل ولن يمكن للتوسل أو السعي لإقناعه بالبقاء أن يسودا عليه ليطيل بقائه حتى ولو لليوم التالي. فمع الحصول على الموافقة التامة لرفقة عادت القافلة إلى أرض كنعان.

ومرة أخرى وصلت نهاية الرحلة عند المساء. لقد كان يحدث كثيرًا أن إسحق كان يخرج ليتأمل في الحقل -وربما التعبير يعني ضمنًا شركة روحية مع الله قد يكون لها صلة بموضوع الزواج هذا- عندما التقى القافلة العائدة. لاقت رفقة زوج المستقبل بحشمة تليق بالعروس الشرقية، والسعادة القلبية لابن الموعد تم تأمينها له باتحاده بمن هيأها الرب له لتكون زوجته.

كان إسحق في ذلك الوقت يبلغ من العمر أربعين سنة. وفي عزلته الهادئة عاين إبراهيم في شيخوخته ليس فقط السعادة الزوجية لابنه، بل أيضًا عاش خمسة عشر سنة بعد ولادة عيسو ويعقوب. أما بالنسبة لإسحق فقد استقر بعيدًا عن الأماكن المزدحمة بالكنعانيين عند بئر "لحي رُئي" وهي عزلة تناسب ميله للهدوء والاعتزال.

وعلى مدى عشرين سنة بقي زواج إسحق ورفقة بدون بركة البنين، للإشارة إلى أنه هنا أيضًا يلزم أن يكون وارث المواعيد هبة من الله تُمنح لإيمان مترقب ومنتظر. أخيرًا أصغى الله وسمع لتوسل إسحق لأجل زوجته حيث كرس كل طاقات فكره وروحه لأجل حل عقدة عقمها، وبحسب ملاحظة أحدهم الملفتة: "عندما أصلي لأجل أي شخص، أضعه مباشرة أمام قلبي ولا أرى أو أفكر في أي شيء آخر، بل أتطلع إليه وحده بنفسي"، وهذا الكلام يصدق ويسري على كل صلاة تشفعية.

كان لرفقة أن تصير الآن أم لابنين توأم. لكن حتى قبل ولادتهما حدث شيء ضايقها وحثها على أن تسأل الرب معنى هذا الشيء وإن كنا لا نعرف ما هي الطريقة المحددة التي فعلت بها هذا. وإجابة الله لها تشير على الأقل إلى هذا الموضوع بمنتهى الوضوح أن من بين بنيها كبير يُستعبد لصغير، وأنه مناقضة لكل توقع معتاد لن يحوز البكر على حق البكورية باقتناء الوعد الإلهي الذي أُعطي لأسرة إبراهيم.

إن استبدال الأصغر بالأكبر، كان في الواقع يتطابق مع معاملات الله السابقة، لكن يبدو غريبًا حيث أن الابنين كانا لنفس الأبوين (وولدا في بطن دفعة واحدة). إنه ليس فقط معقولًا بل ضروريًا تمامًا لفهم ما جاء في التاريخ الكتابي بعد ذلك أن نعتقد أن رفقة نقلت نتيجة سؤالها الرب لزوجها، وأنه تم جعل عيسو ويعقوب فيما على معرفة بهذه الحقيقة.

وهذا وحده يفسر تمامًا سلوك يعقوب وأمه في طلب تخصيص البكورية بطريقة مناقضة لما جرى عليه العرف والترتيب الطبيعي للأمور. عندما ولد الابنين، فإن المظهر الشعري والأحمر للأكبر أسبغ له اسم عيسو أو "المشعر" بينما الأصغر دُعي يعقوب أو الذي يمسك بالعقب، لأنه أمسك بعقب عيسو، وهو اسم بات يُطلق فيما بعد على كل من يخدع غيره ليحل محله بالقوة أو الغدر.

إن مظهر الابنين لم يكذب صفاتهما وشخصياتهما عندما كبرا. إن الميل الوحشي لعيسو والذي وجد ما يشغله في حياة الطواف والتجوال لصائد وقناص، تذكّرنا بإسماعيل، بينما يعقوب اللطيف ومحب الجو العائلي بحث عن مسراته في البيت.

كما هو الحال كثيرًا، كان كل من إسحق ورفقة يفضلاّن الابن الذي له عكس ميولهما. إسحق الهادئ والمعتزل فضّل أبنه الأكبر الجسور والقوي محب التجوال والطواف، بينما رفقة التي كانت بطبعها نشيطة، شعرت أساسًا بانجذاب إلى ابنها يعقوب الهادئ والرقيق.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

لكن عيسو في أساسه وجوهره كان أيضًا ضعيفًا ويكتئب بسهولة كما ظهر في دموعه وشتائمه العاجزة عندما وجد نفسه فقد فعليًا البركة، بينما يعقوب كذلك مثل أمه، متهور وكان على الدوام مستعد لأن يتولى الأمور بيديه. ونحن نكررها أنه كان يلزم لكل الأطراف في ذلك الوقت أن تكون على وعي أنه حتى قبل ولادة البنين، فإن كلام الله قد خصص يعقوب بكونه الوارث للمواعيد. لكن تفضيل إسحق لعيسو جعله يتقاعس عن التواكب مع الترتيب الإلهي، بينما طياشة رفقة ويعقوب حثتهما على تنفيذ وعد الله بطريقتهما بدلًا من أن ينتظرا بإيمان ليريا متى وكيف سينفذ الرب الأمر.

وهكذا حدث أن يعقوب -الذي كان يترقب فرصة- سرعان ما وجد فرصة يحتال بها على أخيه. ذات مرة رجع عيسو من الصيد خائرًا من الجوع. إن منظر طبق العدس -الذي لا يزال إلى اليوم الطبق المفضل في مصر وسوريا- أغراه، وهو الشخص العاجز وغير المتعود على السيطرة على رغباته، على أن يبيع حق بكوريته مقابل هذا الطبيخ الأحمر.

سيمكننا فهم الظروف بسرعة أكثر عندما نتذكر أنه بجانب الميول الجامحة لعيسو، أنه كما أشار لايتفود Lightfoot أن الوقت كان وقت بدء مجاعة في الأرض. لأنه بعد ذلك مباشرة نقرأ في (تك 26: 1): "وَكَانَ فِي الأَرْضِ جُوعٌ غَيْرُ الْجُوعِ الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ فِي أَيَّامِ إِبْرَاهِيمَ"، كان جوع أعظم من الذي حدث أيام إبراهيم، وأجبر إسحق على أن يغادر أرض كنعان لبعض الوقت.

لأجل هذا الحدث (بيع البكورية مقابل طبق العدس)، الحدث المميز والحاسم في تاريخه، بحسب عادة الشرق نال عيسو أسم أدوم أو "أحمر" من لون طبق العدس الذي به باع بكوريته. ومن جهة سلوك الأخوين في هذا الأمر، يلزمنا أن نلاحظ أن الكتاب إطلاقًا لا يلتمس العذر أو يدافع ويعتذر عن تصرف يعقوب.

وبحسب عادته هو فقط يذكر الحقائق كما هي وببساطة دون أن يعلّق أو يبدي ملاحظاته عليها. فهو يترك الأمر لمنطق الحقائق والتجارب المرعبة التي سرعان ما طردت يعقوب من بيته وجعلته يعمل طويلًا كعبد في أرض غريبة، فهذه في حد ذاتها تعليق إلهي كافي على العملية برمتها.

علاوة على ذلك من الملاحظ جدًا أن يعقوب في شيخوخته لم يلجأ ويحتكم إلى شرائه البكورية. لكن على قدر ما يختص الأمر بعيسو، لا يمكننا إلا تبني رأي واحد عن سلوكه. نحن عرضة تمامًا لأن نتخيل أنه بسبب أن يعقوب ظلم أو استغل عيسو، لذلك كان عيسو محقًا. عكس هذا هو الصحيح.

عندما نسأل أنفسنا ماذا قصد يعقوب بالشراء وعيسو ببيع البكورية، نجيب أنه في أزمنة متأخرة كان يعني هذا نصيب مضاعف من الممتلكات الأسرية (تث 21: 17). وفي أيام رؤساء الآباء كان حق البكورية يشمل حق السيادة على بقية الأسرة وبالأخص تتابع البركة الروحية والتي من خلال إبراهيم كان لها أن تتدفق على العالم (تك 27: 27، 29)، مع امتلاك أرض كنعان وشركة العهد مع الرب (تك 28: 4).

يمكننا أن نعتقد بسهولة أن ما كان روحي من هذه الأمور لم يصدقه عيسو واحتقره، وما كان زمني لكنه في طي المستقبل، فهو -كما يبين سلوكه- تخيل أنه بإمكانه الحصول عليه إما بنوال رضا أبيه أو بالعنف والقوة. لكن لأجل إشباع مؤقت لأدنى الشهوات الحسية، كان هو مستعد لأن يقايض مثل هذه الامتيازات المقدسة والثمينة جدًا، الأمر الذي برهنه بحسب لغة رسالة العبرانيين أنه كان مستبيحًا (عب 12: 16)، ولذلك غير مؤهل بالمرة لأن يصير وارث للمواعيد.

لأن الاستباحة هي على هذا النحو: لأجل إشباع شهواني أو تسلية مؤقتة، يتم التخلي عما هو روحي وغير مرئي، أن يكون المرء مهملًا وغير مباليًا بما هو مقدس في سبيل أن يختطف لذة حاضرة، وباختصار ألا يعتبر المرء عمليًا أي شيء مقدس على الإطلاق طالما هو يقف في طريق لذة حاضرة. والسفر يجعل عيسو كأنه بتصرفه هذا يدين نفسه بمرارة حين يقول: "فَأَكَلَ وَشَرِبَ وَقَامَ وَمَضَى. فَاحْتَقَرَ عِيسُو الْبَكُورِيَّة" (تك 25: 34).

وقبل أن نواصل متابعتنا لتاريخ تجارب إسحق وأفراحه، يبدو أنه من المستحب أن نقدم هنا ملاحظات عامة قليلة بقصد تفسير وشرح سلوك كل من إسحق ويعقوب وتأثيره على تاريخ العهد. لقد تم الاعتياد على وصف إبراهيم بكونه رجل الإيمان، وإسحق بكونه نموذج للقدرة على الاحتمال والصبر، ويعقوب بكونه رجل الهمّة والنشاط، واعتدنا على ربط حالتي إسحق ويعقوب بالثمار الروحية التي كانت نتاج إيمانهما، مع صفاتهما الطبيعية أيضًا.

كل هذا صحيح تمامًا، لكن في رأينا إنه من الضروري أن نأخذ وجهة نظر أعرض وأوسع للموضوع كله. ليته يرسخ في بالنا أن الله قطع العهد وثبته مع إبراهيم. ومن ناحية أخرى فإن تاريخ إسحق ويعقوب يمثّل بالأحرى معوقات للعهد. هذه هي بالضبط نفس العراقيل التي نلاقيها يوميًا في مسيرة إيماننا. وهي تنشأ من أسباب متعارضة، بحسب ما فينا من ضعف إما أن نتلكأ في المؤخرة أو نتسرع في المضي قبل الله.

إسحق تباطئ وتخلف، بينما يعقوب حاول أن يمضي قبل الله، وتاريخهما يبين الأخطار والمصاعب والمشاكل التي تنشأ من أيًا من هذه الأسباب، مثلما من ناحية أخرى معاملات الله معهما، تبين كيف هو برحمة وحكمة بل بقداسة أيضًا عرف كيف يزيل هذه العقبات من الطريق ويقتلع هذه الخطايا من قلوبهما وحياتهما. بناء على ذلك سوف نعتبر تاريخ إسحق ويعقوب بكونه تاريخ معوقات العهد وإزالتها. وإذ نرى الأمور في هذا الضوء سنفهم بطريقة أفضل ليس فقط محاولة يعقوب لشراء البكورية،كما لو أنه في مقدور عيسو أن يبيعها!

لكن ما الذي تلى تلك الصفقة؟ يبدو أن مجاعة شديدة حثت إسحق على أن يغادر موضعه، وكان من الطبيعي له أن يسلك نفس مسلك أبيه إبراهيم ويتوجه إلى مصر. لكن عند وصوله إلى جرار مقر أبيمالك ملك الفلسطينيين حيث أقام إبراهيم من قبل هناك، أن الرب ظهر له وأعطاه توجيهًا خاصًا لأن يبقى هناك وفي نفس الوقت جدد له الوعود التي قطعها لإبراهيم.

لكن في هذا التوجيه وفي تجديد البركة نلمح رأفة وعطف الرب الذي ما أراد تعريض إسحق للتجارب الأعظم في مصر، الأمر الذي سيقوي ويشجع إيمانه. من الواضح أنه عند وصوله إلى جرار لم يقل إن رفقة زوجته، وعندما سأله أهل المكان بخصوصها، افتقاره للشجاعة الذي حثه على المراوغة، نضج الآن وصار كذب فعلي. وإقتداء في هذا بمثال أبيه، قال عن زوجته أنها أخته.

لكن هنا أيضًا تدخلت رحمة الله وأعفته من تجربة أعظم لا يمكنه احتمالها. لقد تم اكتشاف خداعه قبل أن يحاول أحد أخذها كزوجة، وأعطى أبيمالك أمرًا -وإن كنا لا نعرف هل هو الذي كان على أيام إبراهيم أم خليفته(35)- بتأمين سلامتها وعدم المساس بها مستقبلًا.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

يبدو أن المجاعة باتت آنذاك أكثر شدة حتى أن إسحق بدأ تفليح الأرض لتوفير طعامه. والله باركه بعائد أعظم جدًا من المعتاد، وهذا كان أيضًا لتعضيد إيمانه وسط تجاربه. عادة حتى في أخصب أجزاء فلسطين يكون الحصاد من خمس وعشرين إلى خمسين ضعف ما زُرع، وفي منطقة صغيرة جدًا قد يصل إلى ثمانين ضعف من القمح ومائة ضعف من الشعير. أما إسحق فقد أصاب في الحال مئة ضعف، لإظهار أنه حتى في سنة المجاعة كان يمكن لله أن يعطي مئونة وافرة جدًا لعبده.

إن الثراء المتزايد لإسحق أثار غيرة الفلسطينيين، فنشأت النزاعات وطمروا له الآباء التي حفرها إبراهيم. وفي النهاية فإن أبيمالك أيضًا -رغم أنه كان ودودًا معه- نصحه بمغادرة الموضع. انتقل إسحق إلى وادي جرار.

لكن هناك أيضًا قامت نزاعات مشابهة، فرجع إسحق مرة أخرى لمحل إقامة إبراهيم القديم في بئر سبع. وهنا ظهر له الرب ثانية عند دخوله أرض كنعان ثانية ليثبت له الوعود التي قُطعت من قبل. وتم إعطاء اسم بئر سبع مرة ثانية لذلك الموضع. لأن أبيمالك مصحوبًا برئيس جيشه ومشيره الخاص جاءوا إلى إسحق لتجديد العهد الذي تم قطعه من قبل بين الفلسطينيين وإبراهيم.

بات إسحق آنذاك في سلام مع جميع من حوله. فبنى هناك مذبحًا ودعا باسم الرب في بئر سبع. لكن في قمة نجاحه وفلاحه كانت تجارب جديدة تنتظره. "وَلَمَّا كَانَ عِيسُو ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً اتَّخَذَ زَوْجَةً: يَهُودِيتَ ابْنَةَ بِيرِي الْحِثِّيِّ وَبَسْمَةَ ابْنَةَ إِيلُونَ الْحِثِّيِّ. فَكَانَتَا مَرَارَةَ نَفْسٍ لإِسْحَاقَ وَرِفْقَةَ" (تك 26: 24-25).

يقينًا لو لم يتقاعس إسحق ويتخلف لكان أدرك تمامًا في هذا التصرف عدم أهلية عيسو بالمرة وبصفة نهائية أنه لا يحق له أخذ حق البكورية. لكن نفس الميل الذي جعله في أحسن الأحوال إلى ذلك الوقت غير حازم وحاسم، قاده قبل الوصول إلى المحصلة النهائية المفجعة إلى مزيد من الحزن الأعمق جدًا مما اختبره من قبل.

 

ملاحظة للمترجم: لو كان إسحق حسم أمره وقرر من مشاهداته لتصرفات عيسو أنه غير أهل لنوال البكورية لاسيما وأن هناك إعلان مبكر قبل الولادة بتخصيصها ليعقوب الصغير، لكان أعفى نفسه ورفقة من مزيد من الأسى والحزن والفراق ومن يدري ربما رفقة لامته على عدم حزمه في حسم الأمر مما تسبب في هروب يعقوب من أخيه. وهناك من يعتقد أن عيسو منذ احتقاره للبكورية وبيعها لم يعد يفكر فيها، ولكن عرض اسحق له بنوال البركة هنا أحيا النار التي تحت الرماد وأشعلها من جديد لتنقلب إلى عداوة وسعي لقتل يعقوب بينما لو كان منحها من البداية وسرًا ليعقوب لكان انتهى الأمر بهدوء وكنا رأينا سيناريو للأحداث مختلف عن ذاك الذي تم على الطبيعة وسُجل في الكتاب.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(34) تعليق للمترجم: لا يبدو لي الأمر هكذا كأنه يوجد عزل بين الذكور والإناث، بل كما أتضح سابقًا من ناحور ذاته (تك 22: 20-24)، أنه توجد عدة زوجات للشخص الواحد ومن الطبيعي أن يبقى البنين والبنات حيث تقيم الأم، وغير هذا سنجد أن لابان دعاه للضيافة في نفس البيت وليس في غيره...

(35) تعليق للمترجم: يبدو لي أنه نفس أبيمالك السابق من ناحية لأن الأعمار كانت تطول في تلك الفترة، ومن ناحية أخرى لأن رئيس الجيش هناك اسمه فيكول (تك 21: 22)، هو نفس الاسم هنا، ولو افترضنا جدلًا أن اسم أبيمالك لقب كما فرعون ملك مصر، فمن يمكنه أن يدافع عن فكرة أن رئيس الجيش يكون له هو أيضًا لقب ثابت؟


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/isaac-jacob-esau.html

تقصير الرابط:
tak.la/fkf7t8a