St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-1
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الأول: عالم ما قبل الطوفان وتاريخ رؤساء الآباء الأولين - القمص أنجيلوس المقاري

13- الفصل الثالث عشر: وعد مضاعف بنسل لإبراهيم - إسماعيل - الرب يزور إبراهيم - خراب سدوم - إقامة إبراهيم في جرار - عهده مع أبيمالك (تك15-20؛ 21: 22-34)

 

الفصل الثالث عشر

وعد مضاعف بنسل لإبراهيم - إسماعيل - الرب يزور إبراهيم - خراب سدوم - إقامة إبراهيم في جرار - عهده مع أبيمالك (تك15-20؛ 21: 22-34)

 

غالبًا ما يأتي بعد أوقات الفلاح والنجاح ويتبعها أوقات كآبة. نعم هزم أبرام ملوك أشور، لكن انتصاره هذا عرّضه لانتقامهم أو اجتذب غيرة من هم حوله. لم يكن هو سوى غريب في أرض غريبة ولم يكن يمتلك سوى وعد، بل ولم يكن له وريث ينقل له وعد تملك الأرض. في هذه الظروف حدث أن الرب جاء إلى أبرام في رؤيا وقال له: "أنا ترس لك. أجرك كثير جدًا" (تك 15: 1)، أي أنا نفسي أدافع عنك ضد كل الأعداء، وأنا المصدر والمنبع الذي منه سيشبع إيمانك بالفرح.

كان الأمر طبيعيًا وكمثل الأطفال أن أبرام ردًا على هذا الكلام، فتح قلبه أمام الله وباح له بكل أعوازه وأحزانه مثلما فعل، ليس بلغة الشك بل بالأحرى كمن هو يستفهم عن عدم إنجاب بنين، حيث يبدو أن كل ما له سوف ينتقل إلى عبده أليعازر الدمشقي وارثه الوحيد.

لكن الرب أكدّ له أن الأمور ستبدو بخلاف ما هو ظاهر، بل أكد له أن نسله لن يُعد من الكثرة. "فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا" (تك 15: 6). تقف هذه الملاحظة بتفرد في الرواية كما لو كانت تستدعي الانتباه لحقيقة عظيمة، وتشير كلماتها من جانب أبرام ليس فقط الإيمان بالكلمة، بل أيضًا الثقة في شخص الرب بكونه إله العهد.

كم مؤثر جدًا وسامي بشدة طفولية ذلك الإيمان البسيط بدون رؤية عيانية والذي يتسم بثقته المطلقة. منذ ذلك الحين ولو أنه مرت آلاف السنين، فإنه يقف بكونه المثال العظيم للإيمان أمام كنيسة الله. ومن هذا الإيمان بالله الحي نبعت ونشأت كل طاعة أبرام. وكمثل عصا هارون، أفرخت وأزهرت وأثمرت حياته "في ستر العلي" (مز 91: 1).

ولتثبيت هذا الإيمان أعطى الرب آنذاك علامة وختم، لم يكونا هكذا سوى لتثبيت إيمانه أكثر وأكثر. فدخل معه في عهد. لأجل هذا السبب وجّه الرب أبرام لأن يحضر "عِجْلَةً ثُلاَثِيَّةً وَعَنْزَةً ثُلاَثِيَّةً وَكَبْشًا ثُلاَثِيًّا وَيَمَامَةً وَحَمَامَة". هذه الذبائح -التي كان لها أن تمثّل جميع ما له أن يُستخدم كذبائح فيما بعد- تم تقسيمها إلى شقين مثلما كانت العادة الجارية آنذاك لقطع العهد، حيث كان الطرفان المتعاهدان دائمًا يجتازون بينها، ليُظهرا أنه لا يوجد بعد أي انقسام بينهما، بل ما تم تقسيمه بينهما كان له أن يُعتبر واحد بينهما.

أما هنا في البداية لم يظهر على الإطلاق طرف متعاهد ليجتاز مع أبرام بين الذبائح التي تم شقها. وعلى مدى كل اليوم بدا لأبرام أنه جالس وحده فقط ليدفع عن الجثث الطيور المفترسة التي تنزل عليها تريد أكلها. هكذا كان يبدو المنظر لحواس العين!

وَلَمَّا صَارَتِ الشَّمْسُ إِلَى الْمَغِيبِ وَقَعَ عَلَى أَبْرَامَ سُبَاتٌ وَإِذَا رُعْبَةٌ مُظْلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِ. عمر كل حيوان تم ذبحه، النهار الطويل بمفرده، الجوارح التي كانت تحوم حول الذبائح والرعب الذي جاء مع سواد الليل، كلها أمور تشير إلى ما كان الرب ينبئ به الآن: كيف أنه على مدى ثلاثة أجيال ينبغي أن يعاني في مصر، لكن في الجيل الرابع -عندما يمتلئ مكيال إثم السكان الحاليين لكنعان- لهم أن يرجعوا ويدخلوا الأرض التي وعدهم بامتلاكها. أما بالنسبة لأبرام نفسه فهو كان عليه أن يمضي إلى آبائه بسلام.

ثم قُطع العهد ليس كما هو معتاد بين طرفين كليهما يجتاز بين الذبائح التي تم شقها، بل الرب وحده اجتاز بينها حيث أن العهد كان عهد نعمة، فيه الله وحده يباشر كل الالتزامات والتعهدات بينما الطرف الآخر يتلقى كل المنافع. لأنه للمرة الأولى يرى تنور دخان ومصباح نار يجتاز بين شقي الذبائح، يرى البهاء الإلهي ملتحفًا بالسحاب، مثلما رآه موسى في العليقة، ومثلما رآه بني إسرائيل في مسيرهم في البرية، وكما سيسكن فيما بعد في الهيكل فوق كرسي الرحمة وبين الكاروبيم.

هذه كانت أول رؤيا أُنعم بها على أبرام، المرحلة الأولى التي بها دخل الله في عهد معه، وأول ظهور لمجد الرب. وفي نفس الوقت ما يمكن أن يُدعى وعد شخصي لأبرام تم توسيعه أيضًا وحدود الأرض تم تحديدها بوضوح بكونها تمتد من النيل(29) في الغرب إلى الفرات في الشرق، وهو المدى -كما نلاحظ هنا- لم تدركه أبدًا الأرض المقدسة ولا حتى في أزهى أيام المملكة العبرية.

مع أن وعد الله لأبرام كان وعدًا ثمينًا، لكنه ترك نقطة واحدة لم يتطرق إليها وهي من هي الأم التي كان لنسل الموعد أن يأتي منها. وبدلًا من انتظار توجيه من الله في هذا الأمر أيضًا، يبدو أن سارة في فقدان صبرها تسرعت ولم تنتظر الرب -وكما نفعل نحن أيضًا على الدوام عندما نأخذ على عاتقنا تنفيذ أمورنا بطريقة تناقض فكر الرب- الأمر الذي أدى إلى حزنها وخيبة أملها مما عملته.

لقد مرت عشر سنوات منذ دخول أبرام كنعان، وعندما يئست سارة من أن تلد وريث للوعد، اتبعت العادة السائدة في تلك الأيام والبلاد وسعت للحصول على ابن لأبرام من خلال هاجر عبدتها المصرية. ونتائج حماقتها كانت قلاقل وفقدان للسلام في بيتها ثم تعيير وتوبيخ وهروب هاجر.

من العسير أن نخبر أي شيء كان يمكن أن يترتب على هذا غير ما حدث لولا أن الرب برحمته تدخل في الأمر. لم يظهر للعبدة الهاربة سوى ملاك العهد شخصيًا عندما كانت بجانب عين في البرية التي تقودها إلى موطنها مصر. وأمرها أن ترجع إلى سيدتها واعدًا الابن الذي تلده بأن تكون الحرية والاستقلال سمة الذرية التي تولد منه وأعطاه اسم إسماعيل -ومعناه الرب سمع- كما لو كان يلزمه هكذا أن ينتسب لإله إبراهيم سواء بمقتضى نسبه (لإبراهيم) وبمقتضى رعايته الإلهية بالسهر عليه.

St-Takla.org Image: Abraham and Abimelech: Abimelech returns Sarah to Abraham, and confronts him after discovering that Sarah is not only his sister, but also his wife: (Genesis 20) - from the book: Biblia Ectypa (Pictorial Bible), by Johann Christoph Weigel, 1695. صورة في موقع الأنبا تكلا: إبراهيم وأبيمالك: أبيمالك يعيد سارة إلى إبراهيم، ويواجهه بعدما اكتشف أن سارة ليست فقط أخته بل زوجته: (التكوين 20) - من كتاب: الكتاب المقدس المصور، يوهان كريستوف فيجيل، 1965 م.

St-Takla.org Image: Abraham and Abimelech: Abimelech returns Sarah to Abraham, and confronts him after discovering that Sarah is not only his sister, but also his wife: (Genesis 20) - from the book: Biblia Ectypa (Pictorial Bible), by Johann Christoph Weigel, 1695.

صورة في موقع الأنبا تكلا: إبراهيم وأبيمالك: أبيمالك يعيد سارة إلى إبراهيم، ويواجهه بعدما اكتشف أن سارة ليست فقط أخته بل زوجته: (التكوين 20) - من كتاب: الكتاب المقدس المصور، يوهان كريستوف فيجيل، 1965 م.

تعلمت هاجر أيضًا هناك لأول مرة أن تعرف الله بكونه الإله الذي يرى، الإله الحي، ولذا حمل النبع الذي كانت جالسة عنده آنذاك أسم "بئر لحي رُئي". كانت عميقة الانطباعات التي تصنعها رؤية الرب، وينبغي لنا على الدوام أن نربط بها إلى حد بعيد أحداث حياتنا.

رجعت هاجر إلى بيت أبرام وولدت إسماعيل. ومن هنا نشأت فترة يلزم أن نعتبرها الأكثر حدة في امتحان إيمان أبرام. مرت ثلاث عشرة سنة بدون أن يتضح في الأفق أي استعلان من جانب الله. أثناء هذه الفترة كبر إسماعيل ويكاد يكون أبرام تعود لا شعوريًا على أن ينظر إليه بكونه الوريث وإن كان من المرجح جدًا أنه عرف أنه لم يتم تحديد الأمر رسميًا من قبل الله.

كان أبرام آنذاك عمره 99 سنة وكانت ساراي طاعنة في السن. لأنه كان يلزم اكتساح واستبعاد كل أمل وتوقع جسدي، والوريث يكون بأتم معنى ابن الموعد لكي يمكن للإيمان أن يتلقى من الله مباشرة ما انتظره منه. ولقد كان في هذه الظروف أن الرب أخيرًا ظهر مرة أخرى بشكل مرئي لأبرام، ظهر هذه المرة ليؤسس ويحقق العهد الذي قطعه معه من قبل(30).

من ثمَّ وردت الآن نصيحة الله له: "سر أمامي وكن كاملًا" فهذه تلي العهد ولا يمكنها مطلقًا أن تسبقه. وعلامة لهذا العهد الذي تأسس، أوصى الله أبرام ونسله بطقس الختان كعلامة وختم، وفي نفس الوقت غيّر اسم أبرام "أب رفعة" إلى إبراهيم "أبو جمهور"، واسم ساراي حوله إلى "سارة" أي "رئيسة، أو أميرة"(31)، ليشير إلى أن الوعد له أن يتحقق من خلال هذين وأنه منهما كان للجنس المختار أن ينشأ.

جاءت هذه الأخبار بمفاجأة سارة حتى أنه سقط على وجهه على سبيل السجود بأتضاع وسرور عندما تأمل داخل نفسه ظروف الحال ليس من باب الشك وعدم التصديق بل من باب الدهشة والفرح. ولإدامة ذكرى التعجب، كان للنسل الموعود به أن يحمل اسم إسحق أي "إضحاك".

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

هكذا كما فيما بعد عند بداية دعوة الأمم، تحول اسم شاول إلى بولس -ربما بعد أول ثمار خدمته- كذلك هنا في بداية دعوة إسرائيل، لدينا ثلاثة أسماء(32) جديدة تدل على قوة الله والتي تكمن وراء كل شيء، وتدل على الإيمان البسيط الذي قبل الوعد.

في الوقع كان لابن سارة أن يكون وارثًا المواعيد، أما بالنسبة لإسماعيل، الرب أيضًا سيرعاه ويكثّره كثيرًا ويجعله أمة كبيرة. ومنذ تلك الأيام بقيت علامة الختان لتشهد للعهد مع إبراهيم. في اليوم الثامن -بعد أن تكون قد مرت فترة سبعة أيام كاملة- كما لو أنه لفترة جديدة أن تبدأ، فيختتن كل ذكر يهودي ويكون شهادة حية للعهد الذي قُطع بين الله وإبراهيم منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة مضت. لكنه يشير إلى ما هو أفضل جدًا، إلى تحقق وعد العهد في المسيح يسوع، الذي لا يوجد فيه بعد أي ختان مطلوب سوى ختان القلب.

بينما كان إيمان إبراهيم يتمرس ويتدرب هكذا وينال البركة، فإن "الناس الأشرار المزورين" (2تي 3: 13)، الذين اختار لوط أن يسكن بينهم، يتزايدون في الشر أكثر وأكثر ويملئون بسرعة مكيال إثمهم. تلك الدينونة التي ظللت طويلًا فوقهم كسحابة داكنة، كان لها الآن أن تتفجر في عاصفة مرعبة.

كان إبراهيم "جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ"، عندما ظهر الرب له مرة أخرى في هيئة مرئية. مثلما بدا هنا هذه المرة كان ثلاثة من عابري الطريق أسرع إبراهيم للترحيب بهم وطلب منهم أن يميلوا إلى خيمته ليستريحوا ويأكلوا طعام ينعشهم في عناء الطريق. لكن الضيوف السماويون لم يكونوا سوى الرب شخصيًا (أقنوم الابن) واثنين من الملائكة كان لهما أن يكونا خدام نقمة عدله.

لا يمكن أن يوجد شك في أن إبراهيم تعرّف على شخصية زواره السماويين وإن كان بالرقة والتواضع المميزين له، استقبلهم واستضافهم بحسب الطريقة التي قدموا بها أنفسهم له(33). كان هدف هذه الزيارة مضاعفًا، واحد له إشارة تختص بسارة والآخر إلى إبراهيم. فلو كان لسارة أن تصير أم النسل الموعود به، فعليها هي أيضًا أن تتعلم الإيمان (عب 11: 11). ربما هي لم تتلق بالإيمان الكافي ما أخبرها به إبراهيم عن آخر رؤيا للرب معه.

على كل حال كان أول سؤال للثلاثة عن سارة. فرسالة ميلاد ابن وجهت مباشرة لها الآن، ومن حيث أن عدم إيمانها ظهر في ضحكها، تم توبيخه أولًا وبعد ذلك زال الشك. وإذ تحقق الهدف الأول من زيارتهم، تابع الثلاثة طريقهم متجهين صوب سدوم يصحبهم إبراهيم.

وهنا الرب شخصيًا باح لإبراهيم بالقصد الثاني من مجيئه. فقد كان يريد أن يخبره بالمصير المزمع أن يحل بمدن الوادي وذلك لأجل سببين: لأنه كان لإبراهيم أن يكون الوارث للمواعيد ولأنه سيوصي بنيه وبيته من بعده ليحفظوا طريق الرب وليعملوا برًا وعدلًا (تك 18: 18-19).

من الكلمات الأخيرة يمكن أن نستنتج أن مصير سدوم المفجع قد نُقل إلى إبراهيم لكي يمكن الاستفادة منه كتحذير لبني إسرائيل. لم يكن له أن يُعتبر كحكم منفصل، بل منظر الدمار الذي كان له أن يحتل إلى الأبد موقع مدن الوادي، سيبين لإسرائيل إلى الأبد عواقب الخطية وليكون بالنسبة رمز ومثال للدينونة الآتية. إنه في هذا الإطار تقدم لنا كل من أسفار العهد القديم والجديد خراب سدوم وعمورة.

ومن ناحية أخرى كما أن الله في العهد وهب الأرض لإبراهيم ونسله، كان يبدو من المناسب أن له أن يعرف بالخراب المرعب الذي كان له أن يحل سريعًا على جزء منها، وأنه في شخصه كوسيط البركة للكل، ينبغي السماح له أن يتشفع لأجل حفظ حياتهم مثلما تم استدعائه من قبل ليحارب لأجل خلاصهم ونجاتهم.

لذلك لم يكن لأجل العشرة الحميمة بين الله وإبراهيم بل ولا لأجل أن لوط ابن أخيه كان سيهلك في تلك الكارثة، بل فقط توافقًا مع وعد عهد الله أن الله نقل خبر القصاص الآتي لإبراهيم وأنه سمح له أن يتوسل في هذه القضية.

نعم تم مد الرحمة لتصل إلى لوط، لكنه لم يفلت من عواقب أنانيته واختياره الخاطئ لهذا الجزء من هذا العالم. كان له أن يتعلم لمرة ثانية أنه ليس السعادة أو الغنى ليس بكثرة ما لدى الإنسان. أصغى الرب إلى توسل إبراهيم إلى أبعد حد -إبراهيم الذي إيمانه اللحوح يذكّرنا بالإلحاح المقدس (لو 11: 8) الذي هو سمة لكل صلاة حقيقية- حتى أنه وعد أن يبقي على كل مدن الوادي لو وجد بينهم عشرة أبرار فقط.

لكن نتيجة الاختبار الصعب للملاكين الذين ذهبا إلى سدوم كانت أكثر رعبًا مما كان يمكن توقعه. فآخر ليلة رعب قصيرة في سدوم مرت سريعًا وبمجرد أن أشعه الصباح أشرقت على تلال موآب قام الملاكان بالإلحاح بشدة على لوط وأسرته لمغادرة المدينة المحكوم عليها بالدمار. ومن باب الحسرة عليها تطلعت زوجة لوط خلفها فباغتها هي أيضًا قضاء إلهي وتحولت إلى عمود ملح.

ومن القديم أشار التقليد إلى جبل ملح معين في الطرف الجنوبي بكونه البقعة حيث تم هذا. نحن نكاد لا نحتاج للقول أن هذا القول غير مؤسس على حقيقة دامغة (لأنه لا يوجد شاهد عيان نقلي بتواتر له). والحكم الإلهي الذي نزل على تلك المدن المحكوم عليها وصفه النص المقدس بالقول: "فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَلَبَ تِلْكَ الْمُدُنَ وَكُلَّ الدَّائِرَةِ وَجَمِيعَ سُكَّانِ الْمُدُنِ وَنَبَاتَ الأَرْضِ" (تك 19: 24-25).

هذا الخبر بكل حرفيته تم التيقن منه ثانية بالحفريات التي أُجريت مؤخرًا في تلك المنطقة. كل المنطقة المحيطة بالبحر الميت تعج بالكبريت والقار، مُهيئة المواد للحريق الهائل والمرعب الذي نشأ عن شرار البرق من السماء، وربما مصحوبًا بزلزال قذف بكتل جديدة من مواد قابلة للاشتعال.

كان يمكن من على بعد رؤية الدخان المتصاعد من الأرض المشتعلة، حتى أن إبراهيم رآها من على القمة التي وراء حبرون حيث كان يقف في الليلة السابقة يقوم بآخر توسل لأجلها، وبحسب تعبير النص الكتابي: "وَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْغَدِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ أَمَامَ الرَّبِّ. وَتَطَلَّعَ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَنَحْوَ كُلِّ أَرْضِ الدَّائِرَةِ وَنَظَرَ وَإِذَا دُخَانُ الأَرْضِ يَصْعَدُ كَدُخَانِ الأَتُونِ".

إن حوض البحر الميت تم فحصه خصيصًا بواسطة بعثة أمريكية بقيادة شخص يُدعى لينش Lynch. ونتائج سبر الأعماق التي أجروها أظهرت الحقيقة الرائعة أنها فعلًا تتكون من بحيرتين، الواحدة عمقها 13 قدم والأخرى 1300 قدم، الأول تم اعتباره بكونه موقع المدن التي حُكم عليها، بينما الآخر من المرجح أنه كان بحيرة الماء العذب التي مياهها غسلت شواطئها. وفي هذه الحالة يكون الاقتراح المحتمل أن هذا تم بفعل بركان.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

لكن أيًا كانت التغيرات التي أحدثتها على الأرض الحكم الإلهي الصادر من السماء، فإن أغلب السلطات الجديرة بالثقة قد تخلت عن فكرة أن مدن الوادي قد غرقت بفعل بركان، واقتنعت بأن ما قدمه الكتاب عن هذه الكارثة يجب أن يؤخذ بحرفيته.

إنه أيضًا أمر محزن وتعليمي لنا أن نلاحظ مدى التأثير الضعيف الذي يمكن -للأحكام مهما كانت مرعبة- أن تحدثه حتى على من كان ينبغي لهم أن يكونوا الأكثر تأثرًا بها لقربهم من أرض الأحداث. لقد سُمح للوط ولابنتيه بالهرب إلى صوغر، مدينة صغيرة ليست بعيدة عن سدوم. لكن نفس ضعف الإيمان الذي جعلهم في البداية متقاعسين عن مغادرة مدينتهم المحكوم عليها، الآن حثهم على ترك صوغر رغم أن الله وعدهم بالأمان هناك. بل ما هو الأسوأ من ذلك هو أنهم سقطوا في أبشع خطية كانت نتيجتها ولادة جديّ أعداء إسرائيل الألداء موآب وعمون (تث 23: 3-4). بل حتى هذا لم يكن كل ما في الأمر.

سواء عن بغضة للمنطقة المجاورة التي افتقدها الله مؤخرًا بمثل هذه الأحكام أو بحثًا عن مراعي أفضل لقطعانه، فإن إبراهيم ترك منطقة ممرا ومضى تجاه الجنوب الشرقي حيث استقر في منطقة أبيمالك ملك جرار في أرض الفلسطينيين. ويبدو أن اسم أبيمالك كان لقب ملكي مثل فرعون في مصر (قارن تك 26: 1، 8).

لكن في هذه الحالة مثلما استنتجنا من السفر فإن صاحب هذا اللقب كان مختلف تمامًا عن ملك مصر. فهو في الحقيقة يظهر بأنه لم يكن فقط صادقًا ومستقيمًا في الشخصية بل أيضًا كان يخاف الرب. بناء على ذلك، عندما أذنب إبراهيم مرة أخرى بنفس الخداع كما فعل سابقًا في مصر، إذ قال عن سارة أنها أخته خوفًا على حياته، فنقل الله لأبيمالك مباشرة في حلم الأمور على حقيقتها.

بناء على هذا سارع أبيمالك بإصلاح ما اقترفه عن غير عمد. مقارنة بالملك الأممي، كان وضع إبراهيم غير مواتي. فهو كان عاجز عن الدفاع وتبرير تصرفه على أي أسس أخرى سوى ما يؤول إلى نقص إيمانه. لكن -كما أخبر الله أبيمالك- كان إبراهيم بالرغم من ضعفه "نبي" وفي هذا النطاق، مثلما اقتبسنا من قبل: "لم يدع إنسان يظلمهم، بل وبخ ملوكًا من أجلهم قائلًا لا تمسوا مسحائي ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 105: 14-15).

التحالف مع إبراهيم الذي سعى أبيمالك إليه بالزواج، انتهى سريعًا فيما بعد بعقد ميثاق رسمي بين الاثنين مصحوبًا بتقديم العدد المقدس سبع حملان. ولإظهار أن هذا لم يكن المقصود منه مجرد عهد خاص، بل معاهدة عامة، جاء أبيمالك مصحوبًا برئيس جيشه فيكول، وفي نفس الوقت أقر بصريح العبارة أن دافعه في الخطوة العلنية التي اتخذها هي أن الله كان مع إبراهيم في كل ما يصنع.

وبطريقة مشابهة فإن التوافق بين أبيمالك وشعبه على هذه النقاط قد ظهر من قبل عندما نقل أبيمالك لكل عبيده ما اخبره الرب به عن إبراهيم "فخاف الرجال جدًا" (تك 20: 8). وفي ضوء هذه الظروف نحن لا نتعجب من كون إبراهيم أطال فترة مكوثه في أرض الفلسطينيين ناصبًا خيمته بالقرب من بئر سبع، أي بئر الحلف أو القسم مع أبيمالك، أو بالأحرى بئر السبعة، سبعة نعاج ودعا هناك باسم الرب الإله السرمدي.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(29) ملاحظة للمترجم: يجمع أغلب الشراح أن نهر مصر المذكور هنا ليس هو نهر النيل بل هو نهر يقع في العريش على حدود مصر وهذه أول مرة أقرأ فيها من يقول أنه نيل مصر، ثم أنه يبدو لي أنه لو كان المقصود نهر النيل ما كان قيل عن نهر الفرات بكونه النهر الكبير لأن نهر النيل هو الأطول في العالم.

(30) إن عبارة "أجعل عهدي..." (تك 17: 2)، تختلف تمامًا عما تُرجم بنفس الكلمات في (تك 15: 18). ففي الحالة الأخيرة هي "قطع الرب... " وحرفيًا "قطع عهد أو ميثاق"، بينما التعبير في (تك 17: 2) هو "أجعل عهدي... " أي أحققه وأنفذّه.

(31) هناك آخرون اشتقوا اسم سارة من جذر كلمة تعني "أن تكون مثمرًا".

(32) يبدو لي أن الثلاثة أسماء التي يشير إليها هنا هي أسماء إبراهيم وسارة وإسحق (المترجم).

(33) يبدو لي أن إبراهيم عندما استقبلهم ورحب بهم كان على أساس أنهم غرباء عابرون ولكن قد يكون تعرف من خلال كسر الخبز كما مع تلميذي عمواس، بكونه الرب شخصيًا لأنه لو كان يعرف من الأساس أنه الرب ما كان قدم طعام كما فعل بل كان قام بتقديم ذبيحة.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/ishmael-sodom-abimelech.html

تقصير الرابط:
tak.la/8khkgz3