هناك أسباب عديدة في محاربة الإنسان بالذات:
منها المواهب، كالفن مثلًا بكافة أنواعه.
وبخاصة مَنْ وصلوا إلى درجة عالية في هذا الشأن. ومن أمثلة ذلك أن أحد الفنانين العباقرة في ايطاليا، أرسل إليه أحد المعجبين خطابًا. ولم يكتب اسم الفنان على الظرف، واكتفى بعبارة (إلى أعظم فناني إيطاليا). فأوصلوا الخطاب إلى هذا الفنان، ولكنه لم يستلمه قائلًا: إنه ليس لي. لو كان مرسله يقصدني، لكتب (إلى أعظم فنان في العالم)..!!
إنها المواهب التي يستخدمها البعض ليس فقط في الشعور بالذات وعظمتها، إنما قد تصل به إلى الغرور أيضًا...
غير أننا نقول إنه ليس كل أصحاب المواهب محاربين بالشعور بالذات. فما أجمل أن يجمع البعض بين المواهب والاتضاع.
مثال ذلك بولس الرسول الذي كانت له مواهب عديدة جدًا. ولكنه مع ذلك كان يقول "أنا... من أنا؟! ولكنها نعمة الله العاملة معي" (1كو1:10) كذلك نذكر القديسين الذين كانت لهم مواهب فائقة للطبيعة مثل إقامة الموتى أو صنع باقي المعجزات، ولم يفقدوا تواضعهم، ولم يقل واحد منهم كلمة (أنا).
يُضَاف إلى المواهب في المحاربة بالذات باقي المقدرات.
كأن تكون لأحد الأشخاص مقدرة في أمر من الأمور لا تتوافر لغيره. أو يصل إلى درجة البطولة في رياضة ما، أو إلى درجة النبوغ في علم من العلوم. ويصل في كل ذلك إلى مستوى مذهل وهذا التفوق، وهذه المقدرة، قد تكون سببًا في الشعور بالذات...
وقد يَتَسَبَّب الشعور بالذات من جهة الأصل أو الغنى أو المركز:
كالشخص الذي من أصل رفيع، من أسرة نبيلة لها أمجاد في التاريخ. فيتباهى بهذا الأصل، ويشعر أنه يتميز به على غيره...
وبنفس الأسلوب قد يشعر الإنسان بذاته عن طريق الغنى، إن وصل فيه إلى درجة يستطيع بها أن يظهر في المجتمع، وأن يفعل بالمال ما يريد، وأن يكسب به أصحابًا وأتباعًا ومريدين...
وأيضًا قد يشعر الشخص بذاته عن طريق مركزه، إن علا هذا المركز، وجلب له سلطة واحترامًا ونفوذًا. فشعوره بعلو مركزه يسبب له شعورًا بالذات، التي يمكنها أن تأمر، وغيرها يطيع...
وقد يشعر الإنسان بذاته، بسبب الذكاء، وبسبب النجاح.
يشعر الإنسان بذاته، إن كان يفهم ما لا يفهمه الغير، ويستطيع أن يستنتج ما لا يقدرون على استنتاجه (اقرأ مقالًا آخرًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). ويمكنه أن يجد حلولًا لمشكلات يعجزون أمامها. ويكون لماحًا وسريع البديهة، بينما يقف غيره حيرى لا يدركون... فيشعر في كل هذا أنه في مستوى أعلى بكثير من غيره.
كذلك النجاح يعطي شعورًا بالذات، وبخاصة إن كان نجاحًا مستمرًا "كل ما يصنعه ينجح فيه" (مز1)... وطبعًا ليس جميع الناس هكذا. فيوسف الصديق كان ناجحًا في كل شيء (تك39) ولم يحاب الذات، بل كان الله هو الذي ينجحه في كل ما يفعله.
كذلك قد يكون سبب للشعور بالذات، هو القوة عند الرجل، والجمال عند المرأة.
داود كان يشعر بقوته، حينما هدد نابال الكرملي أنه لن يبقى له إلى الصباح بائلًا بحائط (1صم 25). وهكذا نرى أن الشعور بالذات بسبب القوة، قد يقود أحيانًا إلى الانتقام.
أيضًا شمشون الجبار، ألم يكن يشعر بذاته بسبب قوته..؟
وكذلك دليلة، ألم تكن تشعر بذاتها بسبب جمالها، الذي جعلها تسيطر على هذا الجبار وتغريه أن يبوح لها بسر قوته..!
يمكن إذًا أن يشعر الإنسان بذاته، بسبب مديح الناس له.
وقع في هذا الفخ هيرودس الملك، حينما قال له الشعب المتملق "ليس هذا صوت إنسان. بل هذا صوت إله" (أع12). فضربه ملاك الرب فأكله الدود ومات، لأنه لم يعط مجدًا لله... (أع12 :23).
وربما بمديح الناس المستمر، قد يشعر الإنسان أن ذاته معصومة وأنه فوق مستوى الوقوع في الخطأ. ويكون باستمرار "بارًا في عيني نفسه" وحكيمًا في عيني نفسه. وهذا مرض من أمراض الشعور بالذات.
تفاديًا لهذا الشعور بالذات، كان الله يسمح لبعض القديسين بضعفات:
وهكذا نرى أن القديس العظيم بولس الرسول الذي استحق أن يختطف إلى السماء الثالثة إلى الفردوس ويسمع كلمات لا يُنطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها (2كو 12:4)... نراه يقول "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات، أعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع (2كو 12:7). وبقيت معه هذه الشوكة، على الرغم من أنه تضرع ثلاث مرات لتفارقه!!
ولأنه لاقى تمجيدًا كثيرًا من الناس، نراه يقول... للموازاة مع الذات – "بمجد وهوان. بصيت حسن وصيت رديء" (2كو 6: 8). وهكذا دخل هذا القديس العظيم في تجربة الهوان والصيت الرديء، حتى لا يشعر بذاته في خدمته، هو وأصحابه في الخدمة...
مثال آخر غير القديس بولس الرسول، هو يعقوب أبو الآباء:
لقد نال البركة والبكورية. وقيل له "كن سيدًا لأخوتك، وليسجد لك بنو أمك" (تك27). نال البركة من أبيه اسحق. والبركة والمواعيد من الله نفسه (تك28). وجاهد مع الله والناس وغلب (تك32). وأخذ من الله اسمًا جديدًا...
ومع ذلك كان لابد من توازن، حتى لا يقع في الشعور بالذات. فسمح الله أن يظل يعقوب خائفًا ومرعوبًا من أخيه عيسو. وسمح أن يخدعه خاله لابان أكثر من مرة، بل أن يخدعه بنوه مشكلة مع شعوب الأرض في قتلهم شكيم وأهله. وسمح له بضيقات كثيرة حتى قال لفرعون "أيام غربتي على الأرض قليلة وردية".
ولما باركه الرب وجاهد مع الله والناس وغلبن ضربه الله على حق فخده، فصار يخمع عليه كل أيامه، حتى يشعر بضعفه، فلا يرتفع...
أبونا إبراهيم أبو الآباء والأنبياء عامله الله بنفس التوازن.
فعلى الرغم من أنه كان من أعظم رجال الإيمان. وبالإيمان ذهب ليقدم ابنه محرقه لله (تك22). وفي طاعته لله أيضًا ترك أهله وعشيرته وبين أبيه، ومضى وهو لا يعلم إلى أين يذهب (تك12). ومع أنه نال من الله مواعيد عظيمة. وقال له "أباركك وأبارك مباركيك، وتكون بركة... وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض" (تك 12).
إلا أن الله استبقى عن إبراهيم ضعفًا وهو الخوف.
فخاف عندما نزل إلى مصر، وقال عن سارة إنها أخته حتى لا يقتلوه بسببها. وخاف نفس الخوف حينما نزل إلى جرار، وقال عن سارة أيضًا أنها أخته، فأخذها أبيمالك الملك. وأنقذها الله منه. وهذا الخوف كان دافعًا لأبينا إبراهيم، حتى لا يشعر بذاته، هذا الذي أنتصر في حرب الملوك، وأنقذ لوط وسَبَى سادوم (تك14).
نفس الوضع أيضًا مع القديس بطرس الرسول.
هذا الذي طوبه الرب حينما قال "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (مت16: 16 -19). بطرس الذي وصل به الشعور بالذات إلى الحدّ الذي شعر فيه بأنه أقوى من جميع التلاميذ في محبة الرب والإخلاص له قائلًا له: "إن شك فيك الجميع، فأنا لا أشك أبدًا" (مت26: 33) (مر14:29) "يا رب إني مستعد حتى إلى السجن وإلى الموت" (لو 22: 33).
بطرس هذا سمح له الله بالتجربة التي أنكره فيها ثلاث مرات. وهكذا "خرج خارجًا وبكى بكاءً مرًا" (مت 26:75). وبعد القيامة أخرجه الرب أيضًا من دائرة الشعور بالذات. ونداه باسمه العلماني ثلاث مرات قائلًا له "يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟!" (يو21:17). "فحزن بطرس لأنه قاله له ثالثة أتحبني؟" (يو21: 17) أما عبارة "أكثر من هؤلاء" فلكي يذكره بقوله "إن شك فيك الجميع، فأنا لا أشك". وقد ظل إنكار بطرس منخاسًا في قلبه، كلما حاربه العدو بالأنا والشعور بالذات. حتى ساعة صلبه طلب أن يُصلب منكسًا...
هذا التوازن بين الشعوب بالذات وواجبات الاتضاع، أقامه الله أيضًا في حياة سليمان الحكيم.
سليمان الذي أختاره الله نفسه ليبني هيكله، والذي ظهر له مرتين أحداهما في جبعون، والأخرى في أورشليم. والذي منحه حكمه من عنده، حتى لم يكن مثله في حكمته في الأرض كلها، وحتى أتت ملكة سبأ من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان. وهو أيضًا الذي منحه الرب جلالًا ملوكيًا لم يكن لأحد مثله (1مل 3 – 8).
سليمان هذا الذي نال من الغنى ومتعة العالم ما لم ينله ملك من قبل، والذي قال "فعظمت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم" والذي غرس لنفسه فراديس وجنات، والذي "أتخذ لنفسه مغنين ومغنيات، وكل تنعمات البشر سيدة وسيدات". وقال في ذلك كله "ومهما اشتهته عيناي، لم أمسكه عنهما" (جا2).
سليمان العظيم هذا، سمح له الله بنقطة ضعف، وهي محبته للنساء وخضوعه لتأثيرهن، فأفقدته حكمته وكماله.
هذا السماح كان بتخلي النعمة عنه قليلًا بسبب اندماجه في متعة الجسد. وهكذا قيل عنه "وكان في أيام شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى. ولم يعد قلبه كاملًا أمام الله مثل داود أبيه..." (1مل11). واستحق سليمان عقوبة من الله. غير أنه استفاد من تأديب الله له وتاب...
فليخفف كل إنسان من الشعور بالذات. وليتذكر قول الرب "مَن أراد أن يتبعني، فلينكر ذاته"...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/fxkd922