لعل إنسانًا يقول: "الطريق الروحي طريق طويل. فكيف أبدأ؟ وكيف أصل إلى نهايته؟ كيف يمكنني أن أصل إلى الكمال المطلوب منى؟" والجواب على ذلك سهل وممكن وهو "كن أمينًا في القليل، فيقيمك الله على الكثير. فهذا الذي عليك أن تفعله. وليس لك أن تفكر في نهاية المطاف مرة واحدة. واعرف أن أطول مشوار أوله خطوة. كن إذن أمينًا في الخطوة الأولى، فيقيمك الله على باقي الخطوات. كن أمينًا من جهة النية، فيقيمك الله على الإمكانية. كن أمينًا من جهة الإرادة، فيسهل لك العمل.
إن الشيطان قد يصعّب لك الطريق ويعقده، ويضع أمامك مخاوف تصوّر لك الكثير المطلوب منك مما لا تستطيعه، وذلك لكي يوقعك في اليأس. أما الله فلا يطلب منك سوى الأمانة في القليل. سوف يأخذ بعد ذلك بيدك خطوة خطوة حتى تصل... يكفى من جهة إرادتك – أنك سائر في الطريق.
تقول: كيف تكون حياتي كلها ملك للرب؟ أقول لك: هناك يوم في الأسبوع مخصص لله، يوم عبادة وصلاة وخدمة له. فكن أمينًا من جهة حق الله في هذا اليوم، ولا تشغل وقتك بأمور أخرى، وكن أمينًا من جهة ذكرك الله في أوقات فراغك. حينئذ يبارك الله في باقي أيامك، ويعطيك فرصة أن تتفرغ له بالأكثر...
أيضًا كن أمينًا في بيتك، حتى يراك الله كفؤًا أن تقام على بيته. لا تحلم بأن تكون في وضع القيادة الدينية لكي تعمل عملًا من أجل الله، إنما ابدأ أولًا بأسرتك. لأنه إن لم تستطع أن تدبر بيتًا واحدًا، فكيف يمكنك أن تدبر جميع المؤمنين؟!
بل أقول لك: كن أمينًا من جهة نفسك، لكي يقيمك الله على نفوس الناس. اختبر أولًا أمانتك في تدبير نفسك، هذه التي هي معك كل حين، وتعرف كل أسرارها وليس فقط ضعفها، ويمكنك بسهولة أن توبخها على أخطائها، ويمكنه هي أن تطيعك... فإن كنت غير أمين في تدبير نفسك، فكيف تؤتمن إذن على تدبير غيرك؟! إن لم تقدر على قيادة نفس واحدة هي داخلك، فكيف تقدر على قيادة نفوس أخرى ليست تحت طاعتك؟! صدق أحد الحكماء حينما قال "الذي لا يكون أمينًا على درهم واحد، كاذب هو إن زعم أن يكون أمينًا إن اؤتمن على ألف دينار"!!
إذن المهم هو عنصر الأمانة التي عندك، وليس مقدار الدرجة التي تتولاها... إن بطل أية رواية لا يشترط أن يكون فيها ملكًا أو رئيسًا أو قائدًا. بل ربما يكون الخادم أحيانًا هو بطل الرواية. والناس يقدرونه ويُعْجَبون به من أجل أمانته في إتقان دوره، بغض النظر عن ماذا كان ذلك الدور...
إن داود كان أمينًا في رعى الغنم، فأقامه الله على رعاية شعب...
أحيانًا تقف يائسًا أمام أخطاء مسيطرة عليك، كأنها عادة متمكنة أو طبع ثابت فيك، وأنت تصرخ ماذا أفعل لكي أخلص؟
كن أمينًا فيما هو في مقدور إرادتك، يقيمك الله على ما هو فوق إرادتك. تقول "وماذا أفعل من جهة الأحلام الخاطئة التي تأتيني وأنا نائم لا أملك ردّها عنى؟! وهى أشياء راسبة وراسخة في عقلي الباطن!"... أقول لك: كن أمينًا في ضبط عقلك الواعي، فيقيمك الله على ضبط العقل الباطن. كن أمينًا في مقاومة أخطاء الصحو، يقيمك الله بلا شك على التخلص من أخطاء النوم. كن أمينًا في حراسة فكرك أثناء النهار، فيقيمك الله على نقاوة الفكر بالليل، ويأتي الوقت الذي تنتقى فيه أفكارك وأنت نائم. إن قدسية أفكارك بالنهار ستصحبك بالليل...
* كذلك إن كنت أمينًا في حفظ الحواس، سوف ينصرك الله في حروب الفكر. ذلك لأن الحواس هي أبواب الفكر ومسبباته... فإن كنت أمينًا في الابتعاد عن مسببات الفكر الخاطئ، سيحرسك الله من الأفكار الخاطئة... وبأمانتك في محاربة الأفكار، طبيعي أن يقيمك الله على نقاوة القلب وهى أفضل..
تقول "أريد أن أصل إلى المحبة الكاملة. فأحب الله من كل قلبي ومن كل فكرى، وأحب الناس كلهم حتى التي يقاومني جدًا ويعادونني، وأحب الخير للجميع. فهل يمكنني أن أصل إلى كل هذه الفضائل وهى تبدو صعبة وغير ممكنة؟!".. أقول لك: ابدأ بالقليل فتصل إلى الكثير أعني ابدأ بمخافة الله.
فإن كنت أمينًا في حفظ فضيلة (مخافة الله) وبذلك تحفظ كل وصاياه. حينئذ تبدأ أن تجد في حفظ الوصايا لذة روحية، وهكذا تحب الفضيلة وتحب الخير لجميع الناس. ثم تحب الله الذي أنار عقلك هكذا... وتكون قد وصلت إلى المحبة التي تنمو فيها حتى تصل إلى كمالها.
تقول "وكيف احفظ الوصايا، بينما أنا أحب خطايا كثيرة هي بلا شك ضد وصايا الله؟!" أقول لك: ابدأ بالتغصب، أي اغصب نفسك على عمل الخير، واضبط نفسك عن ارتكاب الخطأ. فإن كنت أمينًا في التغصب، ستصل حتمًا إلى محبة الخير. ذلك لأن المحبة -محبة الله ومحبة الخير- قد لا تكون نقطة البدء، إنما هي نتيجة لعمل روحي طويل. يبدأ بالتغصب حتى يصل إلى الحب...
تقول "وكيف أصل إلى محبة الله؟" أقول لك: ابدأ أولًا بمحبة الناس بكل جدية وأمانة ونقاوة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). لأنك إن لم تكن أمينًا في محبة الناس الذين تراهم، كيف يمكنك أن تحب الله الذي لا تراه؟! تقول "وكيف إذن أحب أعدائي؟!" أقول لك: ابدأ أولًا بمحبة معارفك وأصدقائك. ثم تأكد أن العدو الوحيد الذي يحاربك ولا يمكنك أن تحبه هو الشيطان، ذلك لأنه ليس عدوك وحدك، بل هو عدو الله وعدو الخير، وهو الذي يحرض بعض البشر ضدك. وأولئك ليسوا أعداء لك بالحقيقة، إنما هم ضحايا الشيطان الذي يحرضهم ضدك. وبهذا يتغير شعورك من نحوهم، وتعطف عليهم كضحايا، وبالتدرج تحبهم وتطلب من الله أن يخلصهم مما هم فيه.
تقول "كيف أصل إلى فضائل الروح وهى أعمق بكثير من فضائل الجسد؟". أقول لك: إن الذي هو أمين في الفضيلة التي تُمارس بالجسد، يرتقى إلى فضيلة الروح. فالذي يصوّم جسده عن الطعام، ويصوم لسانه عن الكلام الرديء، يتدرج إلى أن يصوم ذهنه عن الفكر الشرير، وقلبه عن الشهوات الخاطئة.
ومن الناحية الأخرى "بخشوع الجسد في الركوع والسجود يمكن أن نصل إلى خشوع الروح. وإن كنا أمناء في الأمور المادية الخاصة بالجسد، يقيمنا الله على الأمور الروحية. وإن كنا أمناء في احتمال أخوتنا من البشر في الحياة الاجتماعية، يقيمنا الله على مقاومة الشياطين في حروبهم الروحية. وإن كنا أمناء من جهة الأمور التي نراها بعيوننا، يقيمنا الله على ما لم تره عين...
لذلك يا أخي: كن أمينًا على ما في يدك، يقيمك الله على بعض مما في يده هو، أي على مواهبه الفائقة للطبيعة. وكن أمينًا في استخدام إمكانياتك المتاحة، فيقيمك الله على ما ليس لك. كذلك بأمانتك في مقاومة الخطايا الظاهرة، قادر الله أن ينصرك، في الخطايا الخفية والسهوات.
وباختصار: إن كنت أمينًا في هذا العمر القصير المحدود الذي على الأرض، فإن الله يقيمك على الحياة الأبدية في السماء.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/y75y9ta