لا شك أنك تخجل أن تخطئ أمام إنسان بار تحترمه.
وقد تكون في حضرته في منتهي الحرص، تستحي من أن ترتكب شيئًا مشينًا أمامه. لا تحب أن يأخذ عنك فكرة سيئة، أو أن تسقط من نظره. بل قد تحترس أيضًا من الخطأ أمام أحد خدمك أو مرءوسيك، لئلا يحتقرك في داخله، أو يقل احترامه لك...
لذلك فغالبية الخطايا في الخفاء، إما بسبب الخوف أو بسبب الاستحياء. هكذا قيل عن الخطأة إنهم (أحبوا الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم شريرة) (يو19: 3). وقال الرب عن أعدائه المتآمرين عليه (هذه ساعتكم وسلطان الظلام) (لو35: 22).
فإن كنت تخجل أو تخاف من إنسان يراك، فكم بالأولى الله؟
فإن آمنت تمامًا بأن الله موجود في كل مكان أنت فيه، يراك ويسمعك ويرقبك، فلا شك سوف تخجل أو تخاف من أن ترتكب أي خطأ. أمام الله. ولهذا فإن القديس يوسف الصديق عندما عرضت عليه الخطية، رفض الخطية قائلًا:
(كيف أفعل هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله) (تك9: 39).
اعتبر أنه أخطأ إلى الله. كسر لوصاياه. وعدم احترام له، إذ يفعل الشر قدامه بلا حياء... فهل عندك هذا الشعور؟ هل تضع الله أمامك في كل خطية تحارب بارتكابها. وهل تذكر ما قاله الرب لكل ملاك من ملائكة السبع (في سفر الرؤيا). إذ قال لكل منهم:
(أنا عارف أعمالك) (رؤ2: 2، 9، 13، 19، رؤ1: 3، 8، 15).
لو عرفت هذا ستخجل وتخاف، وتمتنع عن الخطية، لأن خوف الله سيكون أمام عينيك باستمرار في كل مرة تحاول أن تخطئ.
بل إنك تشعر بالاستحياء من أرواح الملائكة والقديسين.
إن كنت أؤمن من كل قلبك أن ملائكة الله حالة حولنا (مز7: 34). وأننا (صرنا منظرًا للعالم، للملائكة والناس) (1كو9: 4).. حينئذ لا بُد ستخجل من الملاك الذي حولك، والذي لقداسته لا يحتمل رؤية بعض الخطايا فيتركك وكذلك لا بُد ستخجل من أرواح القديسين ومن أرواح أقربائك ومعارفك... وبهذا الخجل تبعد عن الخطية، وتقترب إلى حياة النقاوة...
وإن كنت تؤمن أن الله قدوس، ستخشى أن تظهر نجاساتك أمام هذه القداسة غير المحدودة. وفي كل مرة تقول في صلاتك (قدوس قدوس قدوس) ستشعر في داخلك بخزي عظيم على الماضي، ولا تجرؤ على ارتكاب الخطية في المستقبل. إن أشعياء النبي عندما سمع السارفيم يسبحون الرب بهذه التسبحة (قدوس) صرخ قائلًا (ويل لي قد هلكت. لأني إنسان نجس الشفتين) (أش6: 3،4).
إن كنت تؤمن أن الله فاحص القلوب وقارئ الأفكار...
وأنه يعلك كل ما يخطر على فكرك وفي قلبك من مشاعر وخطط وتدابير، حينئذ كنت تخاف من معرفته لدواخلك وتخجل من قدسيته، وتبتعد عن هذه الأفكار والمشاعر، فتصل إلى حياة النقاوة.
ولعلك تقول:
أنا أؤمن بكل هذا: أؤمن أن الله موجود، وأنه يرى كل شيء ويسمع، وأنه يفحص القلوب ويقرأ الأفكار. ومع ذلك أنا لا أزال في أخطائي. أجيبك على هذا بأنه:
ربما تؤمن بكل هذا نظريًا. ولكنك لا تحيا حياة تليق بإيمانك ...
إن الذي يحيا في هذا الإيمان بأن الله يراه، والملائكة تراه، وأرواح المنتقلين تراه. عمليًا لو وضع هذا الفكر في قلبه، لكان يخجل، وتصغر نفسه في عينيه، ولا يجرؤ أن يكمل خطاياه. ولكن على رأي أحد الآباء -كما ورد في بستان الرهبان- كل خطية يسبقها إما الشهوة، أم التهاون، أو النسيان.
لعل الإنسان يكون أثناء الخطية ناسيًا الله وملكوته.
ولعله يكون ناسيًا أنه صورة الله ومثاله، إن كان يؤمن حقًا بهذا. ولعله يكون ناسيًا أيضًا كل وصايا الله، وكل إنذاراته، مع أنه نظريًا يؤمن بكل هذا، ولكن لا يحياه. هو كما قلنا: له اسم المؤمن، وليس له حياة المؤمن...
لذلك: إن كنت تؤمن بالأبدية، فضع الأبدية أمامك لكي لا تخطئ .
إن الذي يؤمن حقًا بأن الموت يأتي كلص (1تس2: 5) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). والذي يؤمن بأن الله عادل. ولقد قال إنه سيأتي ليجازي كل واحد حسب أعماله (رؤ12: 22). والذي يؤمن بالحياة بعد الموت، والدينونة، والثواب العقاب،والوقوف أمام الله في ذلك اليوم الرهيب الذي فيه تفتح الأسفار، وتكشف النيات والأفكار، وتعلن كل أعمال بني البشر أمام الكل. الذي يؤمن بهذا حقًا إيمانًا عمليًا، من الصعب عليه أن يخطئ، بل يجد رادعًا داخله يثنيه، خوفًا وخجلًا... وتراه دائمًا يستعد لملاقاة الرب في ذلك اليوم...
ولماذا أتكلم عن الدينونة، إني أقول من ناحية أخرى:
إن كنت تؤمن بمحبة الله، فإنك تخجل أن تجرح محبته.
كثيرًا ما تقول (الله محبة) (1يو4: 8، 16). ولكنك أثناء الخطية، لا تكون في حالة إيمان عملي بمحبته. بل ربما لا تكون هذه المحبة في فكرك إطلاقًا.
إن كنت تؤمن حقًا بأن المحبة هي الرباط المقدس الذي يربطك بالله، فكيف يمكن أن تخطئ؟ (المولود من الله لا يخطئ) (1يو9: 3).
بل أنت لا تخطئ، إن كنت تؤمن بالفضيلة كمنهج حياة.
كثيرون يتحدثون عن الفضيلة، ويدعون الآخرين إليها، ويمجدونها كثيرًا. ولكنهم لا يجبونها., لا يؤمنون عمليًا بأن تكون الفضيلة هي منهج حياة لهم. وإن آمنوا بذلك عمليًا لعاشوا في حياة النقاوة، مبكتين أنفسهم بشدة على كل ضعف...
أيضًا الذي يؤمن بفناء هذا العالم، يزهده ولا يخطئ.
مثلما كان يقول داود النبي (غريب أنا على الأرض، فلا تخف عني وصاياك) (مز19: 119). (غريب أنا عندك، نزيل مثل جميع آبائي) (مز12: 39). وهكذا عاش رجال الإيمان في كل جيل (أقروا إنهم غرباء ونزلاء على الأرض... يبتغون وطنًا أفضل... سماويًا) (عب11: 13،16) زهدوا كل شيء في هذه الدنيا وأطاعوا قول الرسول) (لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. لأن العالم يمضي وشهوته معه) (1يو2: 15،17).
وبهذا الإيمان عاشوا في العالم، دون أن يعيش العالم فيهم.
وكان هؤلاء (الذين يستعملون العالم، كأنهم لا يستعملونه) (1كو31: 7). وبهذا الإيمان على نطاق أكبر عاش الرهبان والمتوحدين وسكان الجبال زهد ونسك (وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم، تائهين في براري وجبال وشقوق الأرض) (عب38: 11) وشهد لهم بالإيمان...
وهكذا يفعل الإيمان، في تنقية القلب. وكما قال الرسول:
(هذه هي الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا) (1يو4: 5).
إيماننا بأن يعيش على الأرض (غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرَى، بل إلى الأشياء التي لا تُرَى. لأن التي لا تُرَى وقتية، أما الني لا تُرَى فأبدية) (2كو18: 4). نعم إن الإيمان بفناء العالم، هو الذي يجعلنا نغلب العالم، ونتنقَى من العالم وما فيه.
إن الإيمان بالأبدية، يعطي الإنسان يقظة في ضميره.
وهكذا يكون له باستمرار ضمير حي: يحكم على كل عمل، ليس فقط من جهة نجاحه أو فشله، أو من جهة نتائجه في حياتنا الحالية. وإنما يحكم علي الأمور بمنظار الأبدية. لأن كل تصرف يتصرّفه، له داخله في مصيره الأدبي، وبرما في مصائر الناس. فكل خير يعمله محفوظ له في السماء . وكل خطأ يقترفه في حق الناس أو في حق نفسه، سَيُعْطِي عنهُ حِسَابًا في يوم الدين.
وأيضًا الإيمان بوجود الله أمامنا، يمنح القلب اتضاعًا.
يمنحه اتضاعًا في القلب، واتضاعًا في التصرف. ويمنحه خشية
وخشوعًا لأنه واقف أمام الله. مثلما قيل عن القديس بطرس، إذ كان يصيد (بعد
القيامة) إنه لما عرف أن الرب قد أتى (أئتزر بثوبه، لأنه كان عريانًا)
في حضرة الرب يقف كل إنسان في خشوع. وبقدر إحساسه بوجود الله، على هذا القدر يكون خشوعه. وهكذا يختلف الناس في شعورهم أثناء الصلاة، فمنهم من يركع ومن يسجد، أمام عظمة الله غير المحدودة. أما الذي يكون جالسًا أثناء الصلاة، فماذا أقول عنه؟
والإحساس الدائم بوجود الله -حتى في غير وقت الصلاة- يجعل الإنسان في اتضاع دائم، لأن العظمة هي الله وحده. وتعاظم الإنسان عمل ضد الإيمان...
لذلك فنحن نرى الملائكة القديسين في هذا الخشوع الدائم.
يقول الكتاب عن طغمة السرافيم (لكل واحد ستة أجنحة: باثنين يغطي وجهه، وباثنين يغطي رجليه، وباثنين يطير) (أش2: 6). فإن كان الملاك الساراف، يغطي وجهه ورجليه في حضرة الله، من بهاء عظمة الله، فماذا نقول نحن؟ وكيف ينبغي أن نكون خاشعين وفي أتضاع قدامه...
إلى هذه الدرجة نرى الإيمان ينقي القلب، ويمنحه خشية وحياء واتضاعًا...
فالذي يؤمن بأهمية الله بالنسبة إليه، يخشي من اقتراب الخطية، لأنها انفصال عن الله. وما أخط أن ينفصل إنسان عن الله.
أما الذي لا يؤمن بخطورة الخطية، وبخطورة نتائجها الروحية، فإنه يتساهل معها ويسقط، ويفقد نقاوته. انظر مدى شعور داود بخطورة الخطية حينما قال الرب (لك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت) (مز51). وانظروا إلى يوسف الصديق، إذ يؤمن أنه حينما يخطئ إلى أحد، إنما (يخطئ إلى الله) (تك9: 39).
كل هذه المشاعر الإيمانية إما إنها تجعل الإنسان يمتنع عن الخطية مثل يوسف أو ينسحق بعدها مثل داود. وكلا الأمرين من علامات نقاوة القلب.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/tdb63wr