محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
رسالة يعقوب الرسول: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27
أية 1: يَعْقُوبُ، عَبْدُ اللَّهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، يُهْدِي السَّلاَمَ إِلَى الاِثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ.
عبد: تعني خادم بلا حقوق، معتمدًا اعتمادًا كليًا على سيده في طاعة كاملة ولم يذكر الرسول نسبه حسب الجسد للرب يسوع بل يدعو نفسه عبدًا له. مع أنه كان من حقه أن يقول "يعقوب أخو الرب" وهكذا فعلت العذراء حين قالت "هوذا أنا أمة الرب" بعد أن قال لها الملاك أنها أم الرب. والعبد كان بحسب الناموس يحصل على حريته بعد سبع سنين عبودية، ولكن إن أحب سيده الذي وجده يعطف عليه، يقول لسيده سأستمر عبدًا لك بحريتي أنا وزوجتي وأولادي العمر كله فلن أجد مَنْ يعطف عليَّ مثلك [راجع خر21: 1 – 11]. وبهذا المفهوم يستعبد يعقوب نفسه للرب فليس أحن منه ولا من يعوله سواه. هذا لمن اكتشف شخص الرب فهو بحريته يستعبد نفسه له. ومن عرف الرب حقيقة سيعرف أن العبودية له تحرر أما العبودية لأي شخص آخر فهي تذل (المال والجنس... إلخ.)، فمن يستعبد لأي شيء آخر لا يستطيع أن يتحرر منه، أما من يُستعبد للرب فهو حر، وبحريته يستطيع أن يترك الرب وقتما يشاء. وهذا ما قاله الرب يسوع "فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا" (يو8: 36). فالمسيح إفتدانا وحررنا فصرنا ملكه. لكنه أعطانا الحرية كاملة في أن نصير له، أو نرتد فنستعبد لغيره. أما مَنْ اكتشف شخص الرب ومحبته يترك له حرية التصرف في نفسه وزوجته وفي أولاده وفي كل ماله. كيف لا يحب لهذه الدرجة من رأى الآب يفتح أحضانه له كابن، والابن يعطيه نفسه على الصليب ويقبله كعروس والروح القدس يجعله هيكلًا يسكن فيه. فيعقوب أحب الرب لدرجة أنه يستعبد نفسه له أي يترك للرب كل التصرف في حياته وكل ماله. ولكن كم أقرباء بالجسد للمسيح وقد رفضوه وأهانوه (مر3: 21). لذلك فإن افتخرنا فلا نفتخر بالجسد والقرابة الجسدية بل بعبوديتنا للمسيح (2كو5: 15، 16).
عبد الله والرب يسوع = هنا يساوي يعقوب بين الله والرب يسوع.
الرب يسوع = الرب في السبعينية هو يهوه.
أية 2:- اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ،
في اللغة العبرانية كلمتين بمعنى الشر: ويترجمهما الكتاب في العربية بكلمة تجربة:-
1. كلمة الشر الأولى تفيد الضيقات وكل ما نتج عن الخطية من ألام وهذه يعالجها الرسول في الآيات (1-12) تحت اسم تجارب متنوعة. وهذه في نظر الناس هي شر كما قال أيوب "أَٱلْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ، وَٱلشَّرَّ لَا نَقْبَلُ" (أى2: 10). وهنا ترجمت كلمة شر بالتجربة، فهي بمعنى إمتحان يكشف للإنسان حقيقته ليصلح من نفسه.
2. وكلمة الشر الثانية تعنى الشهوات الخاطئة التي يُغْوَى بها الإنسان، من قبل الشيطان أو من الخطية الساكنة فيه فيسقط في فعل الشر ويخطئ. وفى هذا يقول أليهو صديق أيوب "لأَجْلِ ذَلِكَ ٱسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي ٱلْأَلْبَابِ. حَاشَا لِلهِ مِنَ ٱلشَّرِّ، وَلِلْقَدِيرِ مِنَ ٱلظُّلْمِ" (أى34: 10). هنا كلمة شر بمعنى الخطية. وتترجم أيضًا بكلمة تجربة. وهذه بدأ الرسول يعالجها في الآيات (يع 13-18).
تجارب متنوعة = مرض / موت / خسائر مادية / فشل دنيوي / اضطهاد...
وكان المسيحيون حينئذ يعانون من اضطهاد اليهود الذي بدأ باستشهاد إسطفانوس وهكذا قال السيد المسيح "طوبى للمطرودين من أجل البر".
كل فرح = أي النهاية القصوى للفرح أو عدم تقبل أي شيء غير الفرح فلا مكان سوى للفرح، أي لا شيء يفرحني سوى ذلك. ولاحظ تطابق هذه الآية الإنجيلية مع طقس الكنيسة. فالكنيسة تصلي بالطقس الفرايحي ابتداء من أول توت، عيد الشهداء حتى عيد الصليب. فالاستشهاد والصليب كله فرح في طقس الكنيسة.
تقعون = في اليونانية لا تعني السقوط أو الدخول في تجارب وإنما تعني حلول التجارب وإحاطتها بالإنسان من الخارج مثل رجل وقع بين لصوص. كأن التجارب تحاصر هذا الإنسان من كل ناحية (في العمل والأسرة والجيران...). فالرسول لا يتكلم عن التجارب التي تنبع من داخل النفس (أي الخطايا) بل التي تحل بنا من الخارج. وما يدفعنا للفرح أنها شركة صليب مع المسيح، ومن يشترك في الألم والصليب يشترك معه في مجده (2كو 6: 9) + (رو8: 17) + (كو1: 24) + (2كو1: 5) + (في 3: 12 - 14).
يا إخوتي = فهم عائلة واحدة، عائلة الله، وكلنا أعضاء فيها، نلنا البنوة والإتحاد بالمسيح في المعمودية، ورأس العائلة هو المسيح المتألم، مما يجعلنا نقبل الألم في تسليم بل بكل فرح، لكي نشترك مع من أحبنا في آلامه. وهناك فرق كبير بين التسليم والاستسلام. فالاستسلام هو كمن وقع في يد أسد فهو يستسلم لأنه غير قادر على المقاومة، أما التسليم فهو أنني أضع حياتي في يد من يحبني ولا يصنع لي سوى الخير. هو إله حنون يخطط لخلاص نفسي وكل ما يصنعه هو لهذا الهدف.
1. عادة ما يأتي الشيطان ليهمس في أذاننا وقت التجارب بأن الله قاسٍ، لا يحبنا إذ سمح بهذه الآلام لنا، ولكن الشيطان كذَّاب وأبو الكذاب (يو8: 44)، ولنعلم أن:-
2. الله استمر في خلقة العالم ألاف الملايين من السنين ليجد آدم جنة يحيا فيها.
3. الألم دخل للعالم بسبب خطية آدم وليس بسبب قسوة الله "أنا اختطفت لي قضية الموت"... [وطبعًا اختطفت لي قضية الألم] (القداس الغريغوري).
4. إذًا الألم ليس غضب من الله وكراهية وإلا فهل كان الله غاضبًا على المسيح وعلى بولس وعلى الطفل أبانوب.
5. قيل عن المسيح أن الله يُكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام (عب 2: 10) ومن هنا نفهم أن الألم صار وسيلة للكمال. ولكن الألم يُكمِّل المسيح أي ليصير المسيح مثلي مختبرًا الألم، ليشابهنا في كل شيء. أما الألم لي أنا فيُكمِّلني لأشبهه أنا الناقص الخاطئ.
6. المسيح جاء ليتألم معي ويشترك معي في الألم علامة محبة منه. والمسيح كإله قدير "حول العقوبة لي خلاصًا" فصار الألم طريق الكمال وبالتالي طريق السماء. ببساطة صار الألم لإصلاح العيوب التي فيَّ فأكمل.
7. الله استخدم الألم مع أيوب لينزع من داخله خطية كانت ستحرمه من السماء والله استخدم الألم مع بولس ليحميه من الكبرياء، حتى لا يسقط فيه.
8. صار الألم (والتجارب) كمشرط الجراح الذي ينزع من داخلنا حب الخطايا والميول المنحرفة، فكل منا تسكن الخطية فيه (رو7: 14 – 21 + مز51: 5)، لذلك ترك المسيح الألم لنا بعد الفداء. وهذه الآلام يسمح بها الله كترويض للجسد المُعانِد.
9. الشيطان في كذبه يستغل معاناتي من الألم ويشتكي الله بأنه قاسٍ، ويخفي عن عينيَّ محبته في تكوين العالم لأجلي، ولا يذكرني سوى بالألم.
10. هناك تعليم خاطئ، أن الله يجربني ليعلم ما في قلبي!! ولكن هذا خطأ. فالله فاحص القلوب والكلى ولا يحتاج لأن يجربني حتى يعرف ما في داخلي. بل هو يسمح بالتجارب لأكمل، فهو صانع خيرات "من تألم في الجسد كُفَّ عن الخطية" (1بط 4: 1)، "وبضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22). وهذا التعليم الخاطئ كم سبب من آلام لأناس ظنوا أن الله يجربهم ليعرف ما في قلوبهم.
11. الله له أدوات يكمل بها الإنسان فهو يعطي عطايا مادية وبركات مادية وروحية تفرح الإنسان، ويسمح في نفس الوقت بآلام فهي طريق الكمال. وكلاهما (العطايا والآلام) هي طريق السماء. فكل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله (رو8: 28).
12. المشكلة الأساسية هي أننا مولودين بالخطية "بالخطية ولدتني أمي"، "والخطية ساكنة في جسدي" (رو 7: 17) وفي داخلنا عصيان وتمرد على الله. وأشهر انحراف في داخلنا هو محبة العالم والتلذذ به ونسيان الله وتركه. بل تحول العالم بدلًا من أن يكون أداة نحيا بها ليكون إله نسعى وراءه. لذلك فمحبة العالم عداوة لله (يع 4: 4) صرنا نتعبد للعالم، ولا نعرف طريقًا للذة سوى العالم وشهواته، ولم نعد نعرف أن الله قادر أن يشبعنا ويعطينا لذات روحية تسمو على اللذات العالمية. بل نسينا الله فصارت محبة العالم عداوة لله.
ولذلك سمح الله بالآلام أن تستمر... ولكن هل الآلام تنقي؟ حاشا بل التنقية هي بدم المسيح "دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية" (1يو1: 7)، "والمتسربلون بثياب بيض في السماء غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف" (رؤ7: 14). إذًا ما فائدة الضيقة:
1. بها نزهد في محبة العالم بل تعمل على أن نكره الخطية التي سببت الألم.
2. نرتمي في حضن المسيح فيطهرنا دمه من كل خطية.
أما من يجري وراء العالم فكيف يطهره دم المسيح.
التجارب هي فطام عن العالم، هي كأم تضع مرًا على إصبع طفلها حتى لا يضعه في فمه.
والعجيب أن الله لا يتركني وسط التجارب، بل يعطيني عزاء وصبرًا لأتحمل، وهذا ما قالته عروس النشيد شماله (التجارب) تحت رأسي ويمينه (تعزياته) تعانقني (نش 2: 6). وهنا نجيب على السؤال لماذا نفرح في التجارب:
1. علامة حب من الله فمن يحبه الرب يؤدبه (عب 12: 6). وبهذا يجذبنا الله من محبة العالم.
2. طالما سمح الله بالتجارب فهو ينوي أن يخلصني من طبيعتي الساقطة والانحرافات التي في داخلي. فالفرح هو لأنني سأكمل بها وهي طريقي للسماء.
3. طالما هي شركة ألم مع المسيح فهي شركة مجد. إذًا هي طريقي للمجد.
4. بها تزداد تعزياتنا. ولكن لماذا لا نتعزى؟
أ. مَنْ لا يَتَعَزَّى هو مَنْ شك في محبة الله وصدَّق خداع الشيطان أن التجربة علامة عداوة من الله. فقرر أن يتصادَم مع الله، وامتنع عن الصلاة، متصورًا أن الله يقسو عليه، ولا يريد أن يستمع له ويخرجه من التجربة. مثل هذا الإنسان تجده يشتكي الله دائمًا أمام الناس، ويتصور أن الله يحب الناس كلها إلا هو. هو صَدَّق خداع إبليس.
ب. امتنع عن الصلاة وطلب تعزيات الله.
5. والحل:
أ. أن يصدق هذا الإنسان أن الله يحبه وبالتجارب يكمله ويعده للسماء.
ب. أن يؤمن بالله، ليس بأن الله واحد، فهذه حتى الشياطين تؤمن بها بل بأن الله صانع خيرات.
ت. يقف ليصلي طالبًا التعزيات، ويقول لله " أنا أثق أن ما تسمح به هو للخير ولكني لست فاهم، ولكنك لا تخطئ فيما تسمح به يا رب.
6. التجارب لها هدف هام جدًا. فبها نكتشف يد الله القدير. ربما بالخيرات المادية والروحية نكتشف الله الحنون، ولكن بالتجارب نكتشف يد الله القوية التي تستطيع أن تخرجني من الضيقة. وبهذا ينمو إيماننا لكن بشرط أن نظل نشكر في خلال التجربة (كو2: 7) والشكر ممكن وسط الضيقة لو وضعنا في قلوبنا 1- الله لا يخطئ. 2- الله يحبني. 3- الله صانع خيرات.
7. الله أب حنون يعلم التأثير المؤلم للتجربة على الإنسان، لذلك لا يتركه وحده بل يقول له "أنا معك" ويعطيه التعزية والفرح مما يجعله ينتصر على التجربة بل لا يشعر بها تقريبا. راجع تفسير (إش18: 4). ويبدو أن هناك فهم خاطئ عند كثيرين، وهم الذين يتصورون أنه طالما الرب معنا فلا يمكن أن نتألم. وكان هذا موقف جدعون حينما قال له الملاك الرب معك (قض6: 12) فقال جدعون للملاك "إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه". ولكن ما حدث لهم من ضيقات كان لتأديبهم. وهذا من محبة الله (عب12: 6). ويقول الكتاب " وكان الرب مع يوسف "في بيت فوطيفار ومعه في السجن" (تك39: 2، 21) ورأينا ما حدث له من رعاية الله له والنعمة التي أعطاها له الله في أعين الجميع. وأنظر نتيجة تدابير الله مع يوسف. وهذا نفس ما حدث للثلاثة فتية، فهم لم يشعروا بآلام النار، بل تعزوا بوجود ابن الله معهم وسطها، وحُلَّتْ أربطتهم، بل كانوا شهادة للملك بأن الله مع أولاده يحميهم. إذًا لنفهم أن الله معنا في الضيقة يحفظنا فيها ويعزينا والنتيجة دائمًا للخير وهذا ما يفرحنا. أما ناقصي الفهم فمنطقهم"هل جزاء طهارة يوسف وحفظه للوصية أن يباع كعبد ويدخل السجن"! والإجابة أن تدبير الله كان لخير يوسف ولمصر ولكل المنطقة. وهكذا فهم يوسف أن ألامه كانت جزء من خطة الله ليحيي شعبًا كثيرًا، فقال لإخوته "أنتم قصدتم لي شرا، أما الله فقصد به خيرا، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعبًا كثيرًا" (تك50: 20). لقد كانت ألام يوسف التي سمح بها الله ليشتد عوده فيتحمل المسئولية وينجح فيها.
تردد هذا السؤال عبر الكتاب المقدس لماذا الألم للأبرار؟ قاله أيوب وإرميا وأساف (مزمور 73). وهذا سؤال الفلاسفة عبر العصور. وهنا يعقوب يقول بل نفرح في الألم لأنه تحوَّل إلى وسيلة للخلاص. وإذا فهمنا هذا لن نقول "لماذا أتت التجارب" بل نقول "لماذا لا تأتي التجارب" والفاهم يقول "لماذا لست أنا المجرب" ولا يقول "لماذا أنا المجرب يا رب".
الألم دخل للبشرية بسبب خطيتي. والمسيح في محبته جاء ليشترك معنا في ألامنا، ويقول لنا الآن احتملوا معي بعض الآلام "أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة " قال الأنبا بولا " من يهرب من الضيقة يهرب من الله".
وقال أبونا بيشوي كامل "مَنْ ليس له صليب فليبحث له عن صليب، نفس بلا صليب كعروس بلا عريس".
وبولس الرسول بالرغم من كل ألامه كان يقمع جسده ويستعبده، فهو يبحث عن صليب فوق صليب. فمن فهم مفهوم الصليب يجري وراءه. لذلك قال داود النبي "أبلني يا رب وجربني، نقي قلبي وكليتيَّ" (مز26: 2) [ترجمة سبعينية] فهو يطلب التجربة إذ فهم أنها تنقى وبالتالي يرى الله. وهذا هو نفس منطق يعقوب الرسول هنا أن نفرح في التجربة.
أية 3: - عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا.
امتحان إيمانكم = امتحان لا تعني أن الله لا يعرف إيماننا فيمتحننا لكي يعرف، بل الله يعرف فهو فاحص القلوب والكلى، لكن نحن لا نعرف ما هي طبيعة إيماننا والله بهذا الامتحان يكشف لنا طبيعة ونوعية إيماننا. هكذا سأل المسيح فيلبس "مِنْ أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء، وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل" (يو 6: 5-7) فلقد كان إيمان فيلبس ضعيفًا، والسيد أراد أن يظهر له هذا الضعف ليصلح من إيمانه. فالله يمتحن إيماننا ليظهر ضعفات إيماننا ويظهر لنا إيماننا المشوه من جهة الله، وأخطائنا الإيمانية، ويكشف عن معرفتنا المشوهة من جهة المسيح فالتجارب لازمة لتظهر نوعية إيماننا. فهناك من يتصادم مع الله مع أول تجربة، وهناك من لا يثق في غفران المسيح ويظل مثقل بالذنوب ومع كل تجربة يظن أن الله ينتقم منه فيزداد ابتعادًا عن الله. وماذا أفعل لو اكتشفت ضعف إيماني أو أن معلوماتي عن الله مشوهة؟ هناك حل واحد... المخدع = عليَّ أن أتعلم أن أدخل مخدعي وأصلي وأدرس كتابي المقدس وأعطي للروح القدس فرصة ليحكي لي ويعرفني بمن هو المسيح "هذا يأخذ مما لي ويخبركم" (يو 16: 14). وإصلاح الإيمان في منتهى الأهمية، فبدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب 11: 6). وهذا سبب آخر للفرح بالتجربة، أنها ستكشف لي حالة إيماني المريضة فأذهب لحجرتي لأسمع صوت الروح القدس الذي يصحح ويشفي إيماني، ويعطيني ثقة ومحبة لشخص المسيح. إذًا التجارب التي يسمح بها الله لا بُد أنها ستصلح شيئًا ما في داخلي. لكن لا بُد من الصبر والقبول وعدم التذمر حتى تؤتي التجربة بثمارها. أما التذمر فيعطل عمل الله.
ينشئ صبرًا = التجارب المتلاحقة مع رؤية يد الله القدير تجعل الإيمان يزداد. وهذا ما حدث مع داود، فلقد كانت له خبرات سابقة مع أسد ودب قتلهم، وهذا أعطاه إيمان قوي وقف به أمام جلياط. لذلك فالتجارب المتلاحقة مع الشكر وعدم التذمر تزيد الإيمان. والإيمان يولد صغيرًا وينمو، لذلك قال التلاميذ للسيد "زد إيماننا" (لو 17: 5) وإيمان أهل تسالونيكي كان ينمو (2 تس 1: 3) وبولس الرسول يقول أن الإيمان ينمو بالشكر وعدم التذمر (كو 2: 7) ومع التجارب تزداد التعزيات التي يعطيها الله كمسكن للآلام حتى نحتمل التجربة ومع زيادة الإيمان ومع التعزيات ينشأ الصبر. فالصبر ليس صبر الخضوع والاستسلام وليس هو شجاعة بشرية ولكنه توقع بثقة في تدخل الله، كما عمل معنا مرات كثيرة سابقًا، وهو فهم لأسلوب الله وإدراك لمحبته، وأنه صانع خيرات. هو عطية إلهية نتيجة إيمان ينميه الله وتعزيات يعطيها الله (2 كو 1: 5). ولذلك تعلمنا الكنيسة الشكر في كل حين وعلى كل حال. ولكن الصبر حقًا هو عطية من الله ولكن الجهاد البشري المطلوب هو الشكر مع عدم التذمر حتى نحصل على هذه العطية. وعدم التذمر يأتي من ثقتنا في أن الله صانع خيرات.
أية 4: - وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.
ولماذا نصبر، ولماذا يعطينا الله صبرًا وما فائدته؟ أن نكون تامين وكاملين فكما رأينا أن فائدة التجارب أن نصبح كاملين. إذًا حتى نكمل علينا أن نصبر على التجربة حتى تأتي بثمارها ونكمل. فنحن مولودين بالخطية، لنا طبيعة متمردة عاصية، نحب العالم وهذا عداوة لله (يع4: 4)، والله يعالج كل هذا بأنه يسمح ببعض التجارب حتى نزهد في محبة العالم ولا نتعلق به بل نشتاق للسمائيات ونبدأ نتذوق لذتها محتقرين لذة الأرضيات وبهذا نكمل. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). هذا هو العمل التام للصبر أن نَكمُل. لكن علينا أن لا نتذمر وسط التجربة بل نشكر عالمين أن كل ما يسمح به الله هو للخير ولبنياننا وحتى نتزين بالفضائل وحتى ننال إكليلًا أبديًا (1بط5: 4 + يع1: 12). أما التذمر فهو يوقف ويعطل عمل الله ويوقف تعزيات الله التي بها نحتمل التجربة.
أية 5: - وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ.
إن كان أحد تعوزه حكمة = الحكمة هي معرفة هدف الله من التجارب وأنها للفائدة وحتى نكمل، وأن الله يحبنا جدًا، بل هو طاقة محبة متجهة لنا نحن البشر. أما الجهل فهو أن نشعر أن الله يكرهني إذ سمح ببعض الآلام. والحكمة إذًا أن نتقبل الآلام بشكر وصبر وبدون تذمر. والله سيعطي لِمْنَ يطلب هذه الحكمة حتى يفهم محبة الله له، دون أن يُعيِّره الله بسبب ضعفه وجهله وخطاياه السابقة. ومن يعطيه الله حكمة سيفهم إرادة الله من التجربة ويفرح بها ويعلم أنها للخير.
أية 6: - وَلَكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ.
بإيمان = ما الذي يمنع الله من الاستجابة لصلواتنا؟ عدم الإيمان. والارتياب في وعود الله. وهذه خطية أن لا نثق في الله (مر 11: 24) لأن هذا المرتاب يكون مترددًا بين حالة الإيمان والثقة بالله وحالة عدم الإيمان بل الاعتماد على حكمته البشرية التي تقوده للتذمر على الله، وهذا تجده مرة يصلي ومرة يمتنع عن الصلاة نهائيًا ظانًا أن الله لا يستجيب، تجده مرة يذهب للكنيسة ومرات لا يذهب فلماذا يذهب والله لا يستجيب. هذا يشبه موجًا من البحر تخبطه الريح. والتجارب هنا شبهها بالريح التي تدفع الموجة (أي المؤمن) . وهدف الله من التجارب = (الريح) أن يكمل الإنسان كما قلنا، ولكن للأسف (فالموجة) = المؤمن إذا إصطدمت (بالصخور) = الشك، تتحول إلى رذاذ. والرذاذ لا قوة له على التأثير، وهذا إشارة لضعيف الإيمان والمتشكك، فهذا تكون صلاته عديمة القوة وبلا جدوى. بل ولا تؤتى التجارب بثمرها فلا يكمل هذا الإنسان. وقارن مع المرأة التي لمست ثوب المسيح بإيمان فخرجت من المسيح قوة شفتها. والموج بطبيعته أنه يرتفع وينخفض وبهذا يشبه المرتاب الذي يعلو إيمانه يومًا وينخفض يومًا أخر. أما لو كان إيمانه ثابتًا فسيكون كالبحر الهادئ ولا يتحول إلى رذاذ.
وماذا أفعل لو كان إيماني ضعيفًا؟ هنا نفعل كما فعل هذا الرجل ذو الإيمان الضعيف حين سأله السيد أتؤمن؟ فقال أؤمن يا سيد فأعن عدم إيماني. فهل تركه السيد؟ لا بل شفى ابنه وبهذا حقق طلبه وشفى عدم إيمانه. فلنقف أمام الله وعوضًا عن التصادم مع الله بسبب التجربة، لنصلي "أعن عدم إيماني" (مر9: 24).
أية 7: - فَلاَ يَظُنَّ ذَلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ.
هذا المرتاب لن يحصل على شيء من الله، وحين يصلي تكون صلاته بلا نفع.
أية 8: - رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.
رجل ذو رأيين = أي لم يسلم الأمر لله بالكامل لأنه لم يصل لدرجة الثقة في الله بالكامل. متقلقل = لم تثبته الحكمة الإلهية فهو يشك في الله وفي محبته، هذا يكون بلا حكمة.
يحدد القديس بولس الرسول في آيتين طريق اتخاذ القرار السليم:-
1- "طوبى لمن لا يدين نفسه فيما يستحسنه" (رو14: 22). فالله أعطانا عقلا لنتخذ قراراتنا، فإن لم يكن قرارك تشوبه أي خطية، نفذه بلا تردد وبلا خوف، وإن كانت له نتائج ضارة بك ثق أن الله سيوقفه ليحميك. وطبعا من الحكمة التشاور كما يقول الحكيم "طريق الجاهل مستقيم في عينيه. اما سامع المشورة فهو حكيم" (أم12: 15).
2- "الله لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح" (2تى1: 7) والنصح جاءت بالإنجليزية sound mind أي القرار الصائب والصحيح. فالمملوء من الروح القدس لا يتردد بل يرشده الروح القدس للقرار السليم. ولكن هذا لمن هو ممتلئ بالروح القدس. وهنا نقول الله "يعطي الروح القدس لمن يسألونه" أي نصلي طالبين بإلحاح أن نمتلئ بالروح غير مهتمين بتفاهات هذا العالم. ويعلمنا القديس بولس كيفية الامتلاء بالروح القدس "إمتلئوا بالروح ... (لو11: 13 + أف5: 18 - 21).
أية 9: - وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ.
كان الرسول يتكلم عن التجارب وأنه علينا أن نفرح بها، وأن نطلب من الله الحكمة. ومن ضمن التجارب التي تتعب الناس وتضايقهم هو الفقر، وربما ظن الفقير أن الله يحب الأغنياء أكثر منه، وربما يتساءل عن الحكمة في أن الله يتركه فقيرا ومن حوله أغنياء.
ربما يقصد بالأخ المتضع أنه الفقير الذي سلبوا أمواله أثناء الاضطهاد، أو أي فقير ومن حوله أغنياء، أو يقصد به أي مجرب مضطهد من أعداء أقوياء. على هذا المسكين أن لا يخجل من مسكنته، بل يفتخر بإرتفاعه = فهو في ألمه صار شريك آلام مع المسيح وبالتالي شريك أمجاد مع المسيح، وارث للمجد، وهذا هو الإرتفاع الحقيقي. وهذه هي الحكمة الحقيقية (رو8: 17). "لأنه هكذا قال العلي المرتفع ساكن الابد القدوس اسمه. في الموضع المرتفع المقدس أسكن ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيي روح المتواضعين ولأحيي قلب المنسحقين" (إش57: 15). فهل هناك إرتفاع أعلى من أن يسكن الرب عندي لو قبلت الإضطهاد أو الألم أو الفقر بتسليم كامل لله دون تذمر.
أية 10:- أَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ.
وأما الغني = وهنا لم يقل الأخ حتى لا يظنوا أنه يداهن الأغنياء بسبب غناهم. والمسيحي عليه أن لا يفتخر بغناه أو مركزه في المجتمع، فكل ما في العالم إما سيزول أو سنتركه ونموت. على الغني أن يشعر أن كل ما لديه هو لا شيء. بل هو إذا أتى لصليب المسيح ودمه الغافر سيشعر أن كل شيء لديه هو تفاهة بجانب ذلك الدم الثمين، وحينئذ لن يفتخر بما لديه بل بدم المسيح الذي سفك لأجله وكان سببًا في الأمجاد الحقيقية المعدة له في السماء. إذًا على الغني أن يتضع ويشبه سيده الذي أخلى ذاته لأجله، وإذا إفتخر الغني فليفتخر بالرب الذي أعطاه وليس بالعطية التي نالها من الرب (2كو10: 17). ونفس المفهوم قاله إرميا (إر 9: 23). وإذا اتضع وأدرك أن العالم باطل وأنه لا شيء، فعليه أن يفتخر إذ أنه أدرك الحقيقة. فالعالم كزهر العشب يزول = إشارة لعدم يقينية الغني ولذبول الأغنياء وسط مسراتهم [مثال لذلك بيلشاصر (دانيال 5)].
من أقوال مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث: أن الاتضاع هو أن تعرف أنك تراب بل أقل، فالتراب لم يرتكب خطية ولم يفعل نجاسة! ثم يقول لكن لو تمادينا في هذا الاتجاه لأصابنا صغر النفس. لكن لننظر للموضوع من جهة أخرى، فأنا قيمتي ليست في نسبي وما أملك سواء علما أو أموالا بل في ذاك الدم الذي سفكه المسيح لأجلي، وحياته التي تسكن فيَّ وروحه القدوس الساكن فيَّ. وباختصار فالتواضع الحقيقي هو أن أدرك أنني لا شيء. وقيمتي الحقيقية هي في الثمن المدفوع من أجلي وفي الساكن في داخلي. إذًا قيمتي هذه ليست لأي سبب يرجع لي، بل قيمتي هي في الذي أحبني ومات لأجلي. وبهذا أفتخر، بمفهوم صحيح للتواضع = أَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ. ليفتخر الغني بمحبة المسيح وعمل المسيح لأجله، مع أنه هو لا شيء بل عبد بطال (لو17: 10).
أيه 11:- لأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هَكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضًا فِي طُرُقِهِ.
يشبه الغِنَى بزهر الشعب الذي ييبس ويسقط ويفنى جمال منظره هكذا فالغِنَى أيضًا إلى زوال. ولاحظ أن هذا المنظر معتاد لأهل فلسطين، حيث تغطي أزهار شقائق النعمان منحدرات التلال في الصباح، ولكن ما أن تظهر الشمس وتهب الرياح الحارة حتى تجف هذه الأزهار وتجمع للوقود، وهكذا أمجاد وأموال هذا العالم. والشمس تشير للتجارب، فالشمس التي تعطي حياة للزروع هي نفسها التي تجفف وتفني جمال زهر العشب. وبنفس المفهوم فالتجارب تزيد المؤمنين بريقًا، وتهلك المتكلين على غناهم فيذبلون في طرقهم.
أية 12:- طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ "إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ" الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ.
طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة = لأن من يحتمل يتدرب على حياة التسليم ويكتسب الصبر وينمو روحيًا ويكمل، ويتقابل مع المسيح المتألم ويزداد معرفة بشخص المسيح فيحبه ويختبر التعزيات السماوية وينتظر بشوق ورجاء إكليل أبديته والمجد المعد له = إكليل الحياة = إستعارة من البطولات الرياضية، وهذا الأكليل هو لمن يغلب (1كو9: 25). لأنه إذا تزكى = تزكى أي تنقى من محبة العالم التي هي عداوة لله فكانت التجارب له هي كالنار التي تصفي الذهب من الشوائب، النار صارت نافعة له إذا إحتملها بصبر ودون تذمر. [كلمة "تزكَّى" في أصلها اليوناني تعني تصفية الذهب من الشوائب بالنار، وهذا بالضبط هو فائدة التجارب (1 بط1: 7)].
أية 13:- لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، لأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا.
كان يعقوب يكلم أناسًا واقعين تحت تجارب عنيفة من اليهود. ويقول لهم أن التجارب هي علامة حب من الله وأنها تكمل، وتنزع الفساد الداخلي وبها نستعد للسماء ولهذا نفرح بها. والله يعطي صبر وتعزيات تكون كمسكن (بنج) حتى تتم عملية نزع الفساد بنجاح (1كو10: 13 + نش2: 6).
ثم يتطرق يعقوب لنوع آخر من التجارب ناشئ عن شهوات داخلية وخطايا. ويقول أنه على الإنسان الذي يجرب من تجارب خاطئة كهذه ألا ينسب هذه التجارب لله، كما لو أن الله هو الذي يدفع الإنسان لارتكاب الشرور أو الخطية. وهذا الاتهام يهين الله. هنا يعقوب يرد على هرطقة انتشرت أيامه تقول أن الله هو سبب التجارب الشريرة، فهو يجرب الناس بالشرور.
إذًا التجارب نوعان:-
1. ما يسمح به الله لنمونا وتزكيتنا ولوقايتنا من الشرور لنكمل.
2. ما هو من الشيطان أو من الخطية الساكنة فينا.
وعلينا احتمال الأولى بصبر ومقاومة الثانية، ومن يغلب في الاثنين يكلل.
التجربة هنا تأتى بمعنى الغواية على الخطية وبهذا يصح ترجمة الآية هكذا "لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا أُغْوَى: «إِنِّي أُغْويتُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُغْوَى بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُغْوِى أَحَدًا".
الله غير مجرِّب بالشرور = أي أن الله قدوس وسماوي، مرتفع تمامًا عن صنف الشرور، منزه عن كل شر، وكله خير. ولن ندرك كمالاته طالما كنا في الجسد. وهولا يشعر بأي جذب للشر بل يكرهه تمامًا. لذلك هو لا يجرب أحدًا بالشرور التي هي خطايا. فهو لا يتلذذ بالخطايا ولا بسقوط أحد فيها. المعنى أن الله لا يتعامل في هذا الصنف. لكن مصدر الخطايا هو أنا وشهواتي وإبليس وليس الله. الله خلقنا في أحسن صورة ولم يخلق فينا عواطف أو دوافع شريرة، ونحن في آدم انحرفنا والآن ننحرف بإرادتنا. ولكن من يريد أن يسلم عواطفه ومشاعره لله يقدسها له. أما إبليس فهو شرير ومجرِّب بالشرور بقصد إهلاكنا.
الآيات 14، 15:- وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ.، ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا.
إذا حدث أن إنسانًا ما قد لحقت به تجارب شريرة، فعليه أن يدرك أن هذا يرجع إليه لا إلى الله، وأن مصدر هذه التجارب هو شهوته التي انجذب بها وانخدع ومال إليها. علينا إذن أن لا نبحث عن سبب التجارب الشريرة خارج دائرتنا، بل نبحث في قلوبنا. فأي شر لن يضرنا ما لم يجد ترحيبًا في الداخل.
انخدع= الكلمة الأصلية تعني أكل الطعم.
إنجذب
= الأصل أننا في حضن الله ثابتين في المسيح، ومن يقبل الخطية ينجذب خارجًا من الأحضان الإلهية، فلا شركة للنور مع الظلمة، هو ينجذب من ملجأه الحصين إذ خبأ له الشيطان السم في العسل فتصور أن الشر لذيذ. ولنلاحظ أننا تحت قُوَّتَيّ جذب. فالنعمة (قوة عمل الروح القدس فيَّ) تجذب من ناحية، والشر يحاول أن يجذب ويخدع مستغلًا ضعف طبيعتنا. وعدو الخير يقوم بإثارتنا بمثيرات داخلية وخارجية من ملذات حسية وملذات العالم وكراماته، وأيضًا أحزانه، ولكن هذه كلها مهما إشتدت ليس لها قوة الإلزام، بل هي خادعة لكيما يخرج الإنسان من حصانة الله. ولكن لا ننسى أن قوة جذب النعمة أقوى من قوة جذب الخطية (يع4: 6). والمسيح ينادي على خرافه ويستميلهم إليه (يو10: 27). والقرار قراري أنا وحدي، أن أبقى في حضن الله وفي حظيرته، أو أخرج فأصبح خروفًا ضالًا منجذبًا من شهوته. وإستخدم يعقوب هنا صورة رائعة ليشرح ما يحدث. فهو قد صور الشهوة على أنها امرأة ساقطة تحاول أن تغويني لأقع في حبائلها. ولو قبلت عرضها أي قبلت الفكر وبدأت أخطط لكيفية تنفيذه فكأنني إتحدت به وصرنا واحدًا، أي صرت واحدًا مع المرأة وإتحدت معها وبهذا صارت المرأة حبلى. وإذا خرجت الخطية لحيز التنفيذ فكأن المرأة ولدت، وماذا ولدت؟ موتًا.روعة هذا التصوير أن الشهوة منفصلة عن الإنسان، والإنسان حر في أن يقبل غوايتها أو يرفضها. أنا شيء وشهوتي شيء آخر وبإرادتنا نتحد أو نظل منفصلين. وهناك قوة جبارة تحفظني هي النعمة. إذًا داخلي ميول خاطئة لكن أنا غير متحد بها إلا لو انخدعت وانجذبت وبدأت أخطط لها.
إذًا هناك مراحل ثلاث للخطية:-
1. مرحلة الفكر:- مجرد فكرة خطرت ببالي، فكرة ألقاها الشيطان. وهذه ليست خطية إذا رفضتها وصرخت لله أن ينجيني من هذا الفكر. هنا المرأة أي الشهوة تحاول خداعي، ومن يرفض لا تصير عليه خطية. هذا ما قاله الآباء أن الإنسان غير مسئول عن الطيور التي تطير أمام عينيه، لكنه مسئول عنها لو عششت في رأسه. أي عملت لها عشًا في رأسه، أي انجذب الإنسان للفكر وأعجب به وبدأ يتلذذ به ويخطط لتنفيذه. ومن يصارع الخطية في طورها الأول يتخلص منها بسهولة (علامة الصليب يرشمها مع الصراخ بصرخة خفية داخلية وباسم يسوع وبشفاعة القديسين) أما لو تركها الإنسان للطور الثاني أو الثالث فيكون هذا بإرادته، ويكون هنا من الصعب التخلص منها. في هذا الطور يحاول عدو الخير أن يثير حواس الإنسان وفكره وذاكرته لمحاولة جذبه لإسقاطه.
2. الشهوة إذا حبلت تلد خطية:- هذا هو الطور الثاني. هنا حدث نوع من الإتحاد مع المرأة (بين الإنسان وشهوته). رأينا المسيح ينادي على خروفه حتى لا يخرج. لكن المسيح يحترم حرية الإنسان، فإن لم يشأ الإنسان أن يسمع وخرج، يبدأ الطور الثاني أو المرحلة الثانية، وفيها يسلم الإنسان إرادته للشهوة. هنا يشبه الرسول الشهوة بامرأة زانية تجذب الإنسان إليها وتخدعه، وإذ يقبلها ويتجاوب معها يتحد بها، فتحبل ويتكون جنين في بطنها الذي هو الخطية. هنا الخطية لم تحدث حتى الآن. ولكن بدأ الإنسان يتلذذ بأفكاره الخاطئة وترك لها العنان وإتخذ قرارًا بتنفيذها، ويخطط لتنفيذها.
3. والخطية إذا كملت تنتج موتًا:- هنا خرجت الخطية لحيز التنفيذ أي تم تنفيذ الخطية وهذه هي المرحلة الثالثة أو الطور الثالث. هنا إكتمل نمو الجنين وولدت ابنًا هو الموت، فالخطية تحمل في طياتها جرثومة الموت. وأجرة الخطية موت.
الآيات 16، 17: - لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ.، كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ.
لا تضلوا = أي لا تصدقوا الهرطقة المنتشرة بأن الله مجرب بالشرور. بل علينا أن ننسب لله كل خير يأتي علينا، فهو صانع خيرات. فهو أبي الأنوار = الأنوار هي كلمة فلكية تشير للكواكب المنيرة. فالله لا يخلق سوى النور، أما الظلمة فالله لم يخلقها بل هي انعدام النور. والنور هنا إشارة لصلاح الله وخيريته، وأنه المصدر الوحيد لكل نور طبيعي أو أخلاقي. إذًا الله ليس مصدرًا للشرور ولا يعرف كيف يضع شرًا في قلب أحد.
وإذا كان الله هو مصدر كل نور وكل صلاح وكل خير، فعلينا أن لا ننسب لأنفسنا أي خير أو صلاح نحن فيه، فكل عطية صالحة مصدرها الله. وهذا ما قاله بولس الرسول " إذا كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ" (1 كو 4: 7).
وليس عنده تغيير أو ظل دروان = وهذا أيضًا تعبير فلكي. ففي الفلك هناك تغيير ناشئ عن دوران الكواكب، فيحدث ليل ونهار، شتاءً وصيفًا أما الله فلا يتغير أبدًا ولا يبدل مشيئته ومخططاته التي هي نور وصلاح دائم. أما الدوران والتردد فهو فينا نحن. الله لا يتغير بمعنى أن إرادته نحونا دائمًا مقدسة. لا نرى منه سوى إرادة مقدسة وخير وحب وصلاح وطهارة. إذا لا يعقل أن نرى منه تجارب شريرة. وخلال أشعة محبته المعلنة في عطاياه الروحية والزمنية يجذب أنظارنا وينير عقولنا فنراه ونحبه.
إذًا لا يُعْقَل أن نرى منه يومًا عطايا صالحة ثم نرى منه يومًا آخر تجارب شريرة.
أية 18: - شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ.
شاء = إرادة الله أن الجميع يخلصون (1تى2: 4). والله صنع هذا الخلاص أولًا بأنه خلقنا ولما سقطنا فدانا وصرنا نولد ولادة ثانية = شاء فولدنا بكلمة الحق = إبن الله ، كلمة الله هو كلمة الحق ، به كان كل شيء ، فهو خلقنا ، وأخطأنا فمتنا ، فخلقنا خلقة جديدة فيه . وإن أشرف عطية حازها الإنسان أننا بالرب يسوع كلمة الحق الذي مات عنا بالجسد وقام ووهبنا بروحه القدوس أن نولد لله ولادة جديدة روحية بالمعمودية نخرج منها متحدين به. فهل بعد كل هذا الحب والإرادة الخيرة نحونا يقول إنسان أن الله مجرِّب بالشرور. وبهذه الولادة التي بها نتحد بالرب يسوع (رو6: 5) نصير باكورة من خلائقه والباكورة مقدسة لله أي مكرسة له ومخصصة له. إذًا فنحن نصيب الله المكرَّس له. كما كانت الباكورات تقدس للهيكل، هكذا نحن صرنا قدسًا للرب. وهذا تم بالمعمودية والميرون. وهذا يعني أنه طالما صار الجسد مقدسًا (أي مخصصا لله) فليس من حقي أن أخطئ به. والمسيح هو باكورتنا، ونحن المسيحيين باكورة العالم كله. كان المسيح باكورة إذ قَدَّم نفسه قرباناَ وذبيحة، فهل نقبل أن نكون ذبائح حية وقدوة للعالم.
في الآيات التالية بعد هذا ينتقل الرسول من الحديث عن التجارب الخارجية كمصدر فرح وتطويب للصابرين إلى الجهاد ضد التجارب الداخلية أي التحفظ من الخطية، ثم عناية الله بنا وتقديم كل إمكانية لنا معلنًا حبه فيما وهبنا إياه أن نكون أولادًا له... لكن ما موقفنا الآن نحن كأولاد الله... هذا ما يحدثنا عنه الرسول بصورة عملية فيما يأتي. والرسول يستعرض هنا بعض صور التجارب المختلفة:-
1. التسرع في الكلام.
2. الغضب.
3. النجاسة.
4. خداع النفس.
5. نسيان الكلمة.
6. انفلات اللسان.
ثم يستعرض العلاج:-
1. الشبع بالإنجيل ليصير مغروسًا في القلب.
2. العمل بالإنجيل وتنفيذ وصاياه الحية.
3. افتقاد اليتامى والأرامل والتحفظ من الدنس الموجود في العالم.
أية 19: - إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاِسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ،
هنا نرى وصايا خاصة بالتعامل مع الناس.
مسرعًا في الاستماع. مبطئًا في التكلم = هنا يعالج الرسول عيب خطير في حوارنا مع بعضنا البعض. فنحن لا نعطي فرصة لمن يريد أن يتكلم حتى يُعبِّر عن نفسه، بل نقاطعه لنعلن رأينا نحن، كأن الجميع لا يفهمون شيئًا، وأنا وحدي الذي أفهم فهناك من يريد أن يثبت ذاته في أي حديث ويتكلم كمن لا يوجد غيره.
وهنا نسمع الطريقة الصحيحة للحوار. أن نعطي للمتكلم فرصة كافية ولا نقاطع المتكلم، عمومًا من يسمع للناس بهدوء لن يخطئ في الرد عليهم.
ويقصد
أيضًا الرسول أن نستمع لشكوى الناس من ألامهم. فهناك من يتألم ولا يجد من يستمع إليه، فلنستمع بوداعة لمن يتكلم، ونفتح قلوبنا للناس. عمومًا فالذي تعلم من المسيح تجده لا يتكلم كثيرًا بل يعمل كثيرًا.يقول القديس يعقوب "لَا تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي" (يع3: 1). فهناك من يعرف بعض التعاليم معرفة سطحية وربما معرفة بدون إختبار معاش، ويظن في نفسه أنه صار معلِّمًا. ويكمل الرسول "لِأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا" (يع3: 2). وهنا ينصح الرسول مثل هذا الإنسان أن يستمع كثيرًا ويتعلم كثيرًا قبل أن يُعَلِّم بل يكون مشتاقًا للتَعَلُّم أكثر من إشتياقه لأن يُعَلِّم. فهو بعدم خبرته يصير عثرة للناس.
ولنبطئ الحديث عن حقائق الإيمان خصوصًا وسط من يعلمون. فمن يتكلم كثيرًا يخطئ، ومن يتسرع في الكلام يخطئ (أم29: 20). وقال القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك "كثيرًا ما تكلمت وندمت وأما عن الصمت فلم أندم قط". حسن للإنسان أن يشهد للحق لكن كثرة الكلام والتسرع فيه يكشفان عن نفس خائرة ضعيفة تخفي ضعفها وراء المظهر. لكن الكتاب يعلمنا أنه "للسكوت وقت وللتكلم وقت" (جا3: 7). ومار إسحق يحدثنا عن الصمت بأنه ليس هو عدم الكلام بل انشغال القلب في حديث سري مع الرب يسوع لذلك هناك:-
1. صمت مقدس: فيه يصمت الفم ليتكلم القلب مع الله. هذا معنى "صلوا بلا انقطاع".
2. صمت باطل: فيه يصمت الفم دون أن ينشغل القلب بالله.
3. صمت شرير: فيه يصمت الفم وينشغل الداخل بالشر.
والأهم من كل هذا أن نكون مستعدين لسماع كلمات الرب يسوع في إنجيله. فهل يمكن أن نهرب من انشغالات العالم، ونخصص كل يوم وقتًا لنسمع فيه كلمة الله ونجلس عند قدميه كما فعلت مريم. ونسمع عظات تتكلم عن المسيح.
مبطئأً في الغضب = الله طويل الأناة بطئ الغضب، وعلى أولاده أن يتشبهوا به. فهل يستطيع إنسان غضوب أن يبشر ويكون سببًا في انتشار اسم المسيح. بل هناك من يعترض ويغضب على بعض تعاليم الكتاب قائلا .. هذه لا تناسب العصر الذي نحيا فيه/ أو أنها لا تناسب المجتمع/ أو أن هذه فوق إمكانيات البشر/ ... إلخ. وهذا لأنه لم يتعايش معها فيختبر قوتها وفاعليتها، فالله لا يُعطى وصية إلا ومعها قوة على تنفيذها. وأمثال هذه الأقوال والتعاليم لا تصنع بر الله (الآية القادمة) فهي ستشكك الناس في كلمة الله وتكون سبب عثرة لمن يسمعون.
أية 20:- لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ.
بر الله = يقول القديس بولس الرسول "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه" (2كو5: 21). فالمسيح مات وقام ليعطينا حياته تعمل في أعضائنا، فتكون أعضائنا ألات بر. فإن صنعنا البر فهذا راجع لحياة المسيح التي فينا.
الإنسان الغضوب يعطل عمل الله الذي كله بر، سواء مع نفسه أو مع الآخرين وهذا معنى لا يصنع بر الله. فهو لا يقدر في لحظات غضبه أن يقف للصلاة ولا أن يسبح الله كما قال القديس أغسطينوس. بل يسبب أحقاد الآخرين ضد المسيحية. راجع (أم 22:24+ 29: 22 + 15: 18). عمومًا فالتأني أحسن علاج للغضب.
أية 21:- لِذَلِكَ اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ. فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ.
اطرحوا = بمعنى اخلعوا الثياب الوسخة أي أرفضوا التفكير في الشرور والجلوس في أماكن الشر. تخلصوا من كل شر حتى لو ظهر أمام العالم أنه مساير لروح العصر.
فإقبلوا = حرف الفاء يشير أنه حين نترك الشر سنتقبل الكلمة المغروسة.
فالقلب المملوء شرًا ليس فيه مكان لأفكار الخير وحين نترك الشر نقبل كلمة الله.
الكلمة = هي كلمة الله في الكتب المقدسة. وهذه الآية تتفق مع مثل الزارع. فالبذرة هي كلمة الله. والظروف المواتية لنموها هي القلب النقي الأمين الخالي من كل شر ونجاسة (أحجار وشوك) وأحقاد. وقبولنا لكلمة الله سيكون له ثمار كثيرة.
ومن ضمن النجاسات والشرور التي يجب أن نطرحها عنا الغضب حتى نستطيع أن نقبل كلمة الله. في وداعة. فالثائر الغضوب لا يمكن أن يقبل كلمة الله.
والرسول يكلم أناسًا مؤمنين، ومع هذا يقول لهم قادرة أن تخلص نفوسكم = ولم يقل خلصت نفوسكم. لأن الخلاص أمر مستمر يعيش فيه المؤمن كل أيام غربته وليس أمرًا حدث وانتهى. لاحظ أن الرسول ينصحنا بأن نخضع لكلمة الله بروح الوداعة وليس بروح العجرفة.
أية 22:- وَلَكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ.
تفسير هذه الآية في (رو2: 13) "لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون " وفي تشبيه السيد المسيح لمن يسمع ولا يعمل تجده في (مت 7: 26، 27). وفي الآيات التالية نجد تشبيه الرسول نفسه لمن يسمع ولا يعمل.
الآيات 23، 24:- لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعًا لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلًا، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلًا نَاظِرًا وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ،، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ.
مَنْ يسمع الكلمة ولا يعمل بها يُشَبِههُ الرسول هنا بِمَنْ يرى وجه خِلقته في مرآة ويرى العيوب التي في وجهه (قذارة مثلًا)، وبالرغم مما رآه فهو يمضي دون أن يصلح شيئًا من عيوبه. بل يظل طوال النهار يفكر في وسامته وينسى العيوب التي كانت فيه. والكتاب المقدس هو كمرآة تكشف خفايا الروح وتظهر لنا خطايانا حتى نندم عليها ونقدم عنها توبة، المهم هو محاولة ترك الخطية وليس سماع الكلمة فقط وهكذا نستمع لعظات نكتشف فيها عيوبنا وسرعان ما نغادر المكان وننسى ما سمعناه من تعليم أو وعظ. ومعنى ذلك أن الاكتفاء بالاستماع لكلمة الله دون العمل بها لا يعمق الكلمة في داخلنا. ومن مثل السيد المسيح (مت 7: 26، 27) نفهم أنه حين نعمل أي نحاول تنفيذ ما سمعناه يكون هذا هو الأساس الصخري الذي يحفظ البيت من السقوط. أو هو الذي يثبت كلمة الله في داخلنا. وبدون العمل تُنسى كلمة الله ويضيع تأثيرها تمامًا كمن يبني بيته على الرمال فلا يجد ما يرتكز عليه.
إن تنفيذ الوصية والعمل بها يجعلنا نختبر المسيح ونعرفه حقيقة، ومن يعرفه سيرفض أفكار الشيطان عنه بأن المسيح قاسٍ إذا هبت رياح التجارب.
أية 25:- وَلَكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ - نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ - وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعًا نَاسِيًا بَلْ عَامِلًا بِالْكَلِمَةِ، فَهَذَا يَكُونُ مَغْبُوطًا فِي عَمَلِهِ.
من إطلع = نظر بتفرس وتأمل وبحث واجتهاد، ليس كمن ينظر في مرآة بطريقة سطحية ويمضي وللوقت ينسى ما هو. بل ينظر ويدقق ليرى عيوبه ويستمع للوصايا وينفذها ليصلح من عيوبه.
الناموس الكامل = بالمقارنة مع ناموس موسى الذي كان ناقصًا ولم يصل بأي أحد للكمال، مثلًا كل ما وصل إليه "لا تزن". لذلك جاء المسيح "لا لينقض الناموس بل ليكمل" ويقول من نظر لامرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه.
ناموس الحرية = بالمقارنة مع ناموس موسى الذي كان مؤدِّبنا إلى المسيح (غل 3: 24) هو إذن كان للتأديب أي يفرض عليَّ ما لا أريد أن أعمله. هو أوامر على من يسمعها أن ينفذها وإلا يعاقب فهو ناموس عبودية. أما ناموس المسيح فهو وصايا مكتوبة بالروح القدس على القلوب، ومن كتبت على قلبه ينفذها عن حب سكبه الروح القدس في قلبه (رو5: 5) + (يو14: 23) + (أر31: 33) أما ناموس موسى فكان مكتوبًا على ألواح حجرية خارج القلب. أما الروح القدس فحول القلب الحجري إلى قلب لحم (حز 11: 19). والمحبة التي يسكبها الروح القدس تحول القلب الحجري إلى قلب لحم فيطيع الوصية لا عن خوف بل عن حرية، حبًا في المسيح، لذلك هو ناموس كامل يخاطب من ولد من الله بطبيعة جديدة تشتمل على رغبات وأشواق بحسب كلمة الله. هذه الولادة ترقي طبيعة الإنسان وتنميها وتكملها. بل أن الإنسان الداخلي فينا والذي هو على صورة المسيح بحريته يختار طريق المسيح، فالمسيح داخلنا. وبهذه الطبيعة نعمل الأعمال الصالحة ومشيئة الله ونتشبه به في صفاته لأننا صرنا أبناءه. لقد حررنا المسيح بقوة الدم من سلطان الخطية ووهبنا حرية الأبناء. بهذا تصير كلمة الله بالنسبة لنا عملية فلا يكون الواحد منا بعد ذلك سامعًا ناسيًا، بل كلمة الله ثابتة فيه. في أعماق نفسه الداخلية. هذا العمل يهب لنا عذوبة رغم صعوبة الوصية، إذ نحمل نيرها لا بتذمر كعبيد أذلاء، ولا من أجل المنفعة كأجراء، بل نفرح بها كأبناء يتقبلون وصية أبيهم. ومن هو هكذا أي يفعل هذا العمل يكون مغبوطًا في عمله هذا.
أية 26:- إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هَذَا بَاطِلَةٌ.
ظهرت هرطقة في أيام يعقوب، غالبًا كانت بسبب فهم خاطئ لرسالة رومية كما قال بطرس الرسول (2بط3: 15، 16). وهذه الهرطقة قالت أنه طالما نحن قد آمنا بالمسيح فلنفعل ما يحلو لنا، وسنناقش هذا في الإصحاح التالي. ولكن في هذه الآية والآية التالية يعلمنا الرسول يعقوب أن الإيمان وحده لا يكفي بل يظهر أهمية أعمالنا، وأن أعمالنا تظهر نوعية إيماننا. وهنا يقدم يعقوب صورة للتدين الحقيقي والتدين الظاهري الكاذب. والله الذي يكشف أعماق القلب يعرف الحقيقة. فالبعض ظنوا أنه لا حاجة لضبط لسانهم بدعوى أن القلب طيب وأن العبادة بالروح وليس باللسان. والرسول يقول لا فبداية كل شيء هو اللسان وقارن مع إصحاح (3) فاللسان هو الدفة التي تقود السفينة أي الحياة كلها ولكن السيد المسيح يقول من فضلة القلب يتكلم اللسان (مت12: 34). ولنفهم هذا فلنتصور أن القلب هو خزان يمتلئ بكل ما يوضع فيه عن طريق فتحاته. وفتحات هذا الخزان (العيون /الأذان / اللسان / الأفكار) وتصور معي إنسان كل كلامه بطال (نجاسة مثلًا) فالقلب سيمتلئ نجاسة، ومن فضلة القلب يتكلم اللسان، وحينما يتكلم بكلام نجاسة يزداد القلب امتلاء بالنجاسة. لذلك نسمع هنا أن من يعمل هذا يخدع قلبه. فمن يتكلم كلام بطال يملأ قلبه كلام بطال. إذن من لا يضبط لسانه يخدع قلبه فبينما يظن أنه ديِّن إلا أن ديانته باطلة، وقد لوث حياته كلها وقاد السفينة للخطر، لذلك فنحن سوف نعطي حسابًا عن كل كلمة بطالة نقولها [(مت12: 36) - و"بطالة" أي فارغة بلا معنى]. فالكلام البطال يملأ القلب بكلام بطال فتصير حياتنا باطلة. وكلام التذمر يملأ الحياة مَرارًا وتصير الحياة كلها في تصادم مع الله. إذن الكلام البطال: 1) تعبير عن قلب فاسد؛ 2) شحن القلب بالفساد.
والقلب المقصود به ينبوع الأفكار والعين الداخلية المدركة للأمور وموضع الفرح والحزن الداخلي وكل المشاعر والعواطف، وأهداف الإنسان واتجاهاته وتصميماته (مز33: 11) + (إش6: 10) + (نش3: 11) + (حز11: 21). إذن من الواجب أن ألجم لساني ولا أنطق بأي كلمة لا معنى لها وليس لها هدف مهم بناء. والعكس فمن يعلم نفسه لغة التسبيح والشكر تصبح حياته كلها سلام وفرح.
سأل أخ شيخًا "يا أبي إني أشتهي أن أحفظ قلبي" فقال له الشيخ "كيف يمكنك أن تحفظ قلبك وفمك الذي هو باب القلب مفتوح سايب".
أية 27: - اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ.
الديانة الطاهرة هي... افتقاد اليتامى = ولم يقل إنها الإيمان أي الإيمان النظري، أو بعض الممارسات الطقسية دون أعمال. وهذا ليس استهتارًا بالإيمان لكن كشف للجانب العملي للإيمان وتأكيدًا للأعمال المرتبطة بالإيمان. والله أقام نفسه أبًا للأيتام وقاضي للأرامل (مز 68: 5) فمن كانت ديانته طاهرة يلزمه أن يمتثل بأبيه.
افتقاد = زيارة وخدمة ومعونة وتعزية.
حفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم = دنس العالم أي عاداته الخاطئة.
ولكي يحدث هذا فلا بُد من عمل نعمة الله فينا. ولكي تعمل فينا نعمة الله علينا أن نرحم الآخرين (افتقاد اليتامى) ليرحمنا الله. لذلك هو بدأ بافتقاد اليتامى والأرامل ثم تحدث عن حفظ الإنسان نفسه بلا دنس. إذن فلنرحم المحتاج حتى لو كان هذا ضد رغبتنا. لنرحم فيما هو قليل فيرحمنا الله في الكثير. وإذ يحفظ الإنسان نفسه بلا دنس لا يعطي لإبليس أي حق ملكية فيه وبهذا تبقى النفس مقدسة للرب وحده.
ونلاحظ أننا لن نستطيع أن نعمل هذا ولا ذاك سوى بإيمان حيّ. فالمؤمن الحقيقي سيرحم أخوه ولا يبخل عليه. وحركة الرحمة هذه ستأتي من الإيمان الداخلي، لكنه الإيمان الحي العامل بالمحبة والذي به نتشبه بالمسيح بعمل نعمته فينا (غل4: 19).
← تفاسير أصحاحات يعقوب: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير يعقوب 2 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
مقدمة رسالة يعقوب |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/zn3m65d