محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
طوبيا: |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - (15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22)
[1- 2] |
||||
[3- 8] |
||||
[9- 10] |
||||
4. حنة المأجورة |
[11- 12] |
|||
[13- 14] |
||||
|
||||
|
في الأصحاح الأول سجَّل لنا طوبيت متاعبه الخارجية وكيف تحدَّاها بنعمة الله التي تُحَوِّل الضيقات إلى بركات، إذ لا يعرف المؤمن روح الفشل بل روح القوة والنصرة (راجع 2 تي 1: 7).
1. عاش في مملكة إسرائيل، وبروح الحق كان ينطلق وحده وهو شاب إلى مدينة الله أورشليم غير مبالٍ بما يأمره به ملوك مملكة إسرائيل.
2. لم يمنعه السبي من حُبِّه للعطاء وخدمة شعبه، خاصة دفن القتلى المطروحين في الشوارع والساحات. ولم يُعط ِاعتبارًا لسنحاريب الذي أراد أن ينتقم من اليهود في أرض السبي، لأن ملاكًا قتل في ليلة واحدة 185 ألفًا من جيشه المحاصر لأورشليم (2 مل 19: 35).
إذ صمد طوبيت أمام التجارب الخارجية، سمح الله لاثنين من أبناء سنحاريب أن يغتالا والدهما ويهربا. وأعطى الرب نعمة لأحيور ابن أخ طوبيت ليصير الرجل الثاني بعد الملك الجديد، فعاد طوبيت إلى بيته إذ كان هاربًا من سنحاريب وردّ له كل ما صادره سنحاريب. والآن في هذا الأصحاح واجه تجارب لا من الخارج، بل من أهل بيته، وهما:
أولاً: جسده الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان، إذ أصيب بالعمى. لقد جُرِّب الرسول في جسده وصرخ إلى الله كي يرفع عنه هذه التجربة حتى يستطيع أن يخدم بكامل صحته، فقال له الرب: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل، فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي، لكي تحل عليّ قوة المسيح" (2 كو 12: 9).
ثانيًا: حنة امرأته التي عيَّرته. لقد أبرز السيد المسيح خطورة التجارب التي من الداخل بقوله: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10 :34).
* ما لم يمت الجسد لا تقدر الروح أن تعيش...
ليُطَبِّق كل إنسان ذلك على نفسه كيف أنه بالحق إذ يصير ضعيفًا وهزيلاً بالصوم تكون نفسه مملوءة غيرة، وأفكاره ممتصّة بالكامل في اللَّه. ويُرَدِّد مرارًا وتكرارًا: "ما أجمل خيامك يا رب الجنود!"[1]
* لم يتمجَّد الرسول بقوته بل بضعفه: "حيث أنا ضعيف حينئذ أنا قوي"[2].
وعندما عُدتُ إلى مَنزِلي، ورُدَّت لي حَنَّةُ امرأتي وطوبِيَّا ابني. وذلك في عيدِ الخمسين الذي هو عيدُ السبعة الأسابيعِ المُقَدَّس، أُقيمَت لي مائدة فاخِرة، وجَلَستُ لِآكل [1]
وعندما رأيت الكثير من الأطعمة قُلتُ لِطوبِيَّا ابني: "امضِ يا ابني، وكل مَن تَجدُه فقيرًا يَذكُرُ الرب بِكُل قَلبِه بَينَ إِخوَتنا، احضره. وها أنا في انتظارك." [2]
هرب طوبيت من أمام وجه سنحاريب، لكن قُتِل سنحاريب لا بيد أعدائه بل بأيدي ابنيه. ظن أنه سينتقم من طوبيت لأنه تحدَّاه بدفن القتلى من اليهود، وليس من قوة تقدر أن تقف أمامه، وإذا بابنيه يغدران به.
عاد طوبيت بعد قتل الملك، وقيل إن زوجته وابنه رُدَّا إليه، ولعل كان الملك قد أصدر أمرًا بحجزهما حتى لا يهربا إلى طوبيت؟!
لم يُحَدِّثنا طوبيت عن لقائه مع زوجته وابنه عند عودته إليهما، إنما ما يؤكده أن ما حلّ به لم يمنعه عن الاحتفال بعيد الخمسين المقدس، حتى وإن كان في الأسر محرومًا من الذهاب إلى أورشليم وإلى هيكل الرب كعادته. كل ما كان يشغله أنه كإنسان الله يعمل ما استطاع في طاعة للشريعة، مع الشعور بالحضرة الإلهية أينما وُجِد.
حول عيد الخمسين Pentecost اليهودي، وهو عيد سنوي يحتفل به اليهود بعد سبعة أسابيع من عيد الفصح. يُدعَى أيضًا عيد الأسابيع وعيد الحصاد، أو عيد البكورة إذ يذهب المزارعون إلى أورشليم ليُقَدِّموا باكورة محاصيلهم.
في الفترة ما بين العهد القديم والعهد الجديد بدأ الشعب اليهودي في حفظ عيد البنطقستي كتذكار لاستلام الناموس على جبل سيناء، حيث حدث تجلي ناري لله أمام موسى النبي (خر 19: 18). وفي منتصف القرن الثاني ق.م صار عيد البنطقستي احتفالاً بتجديد العهد.
لهذا يرى البعض أن ما حدث مع كنيسة العهد الجديد في يوم الخمسين (أع 2)، إنه صار عيد تجديد العهد[3]. فسفر الأعمال صوَّر حلول الروح القدس بكونه تأسيسًا للعهد بين الله والكنيسة بطريقة تُعلِن عن امتداد لما حدث على جبل سيناء[4]، لكن ليس خلال ظلام ورعود وبروق، إنما خلال ألسنة نارية حلَّت على الكنيسة لتمارس العمل الكرازي للإنجيل.
يرى القديس أغسطينوس أن احتفال اليهود بعيد الفصح وعيد البنطقستي يشير إلى احتفالنا بالفصح الحقيقي خلال صلب السيد المسيح وآلامه واحتفالنا بعيد الخمسين بحلول الروح القدس.
* إن كنا نحن نحتفل بعيد الخمسين "البنطقستي" من أجل حلول الروح القدس، فلماذا يحتفل به اليهود؟...
قيل إنه في يوم الخمسين أَعَدّ طوبيت وليمة، ودعا بعض أصدقائه الذين تأهَّلوا إلى الاشتراك في هذا العيد، لأنهم يخافون الربّ. بالحقيقة سبعة أزمنة (أسابيع) تعادل رقم 49 (7 x 7)، يضاف إليه رقم 1 من أجل الوحدة معًا حتى نعيد في الرأس، أو البداية. فالوحدة في الحقيقة تضم الجموع. وإن لم تلتحم الجموع معًا بالوحدة تصير كومًا لشعب متنازع ومتخاصم فيما بينهم. على أي الأحوال إن وُجِدَت ألفة بينهم يصيرون نفسًا واحدة. يؤكد الكتاب المقدس هذا، عندما يتحدث عن الذين نالوا الروح القدس. فيُقَال: "كان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة" (أع 4: 32). هكذا صار الخمسون يومًا سرّ البنطقستي.
إدًا لماذا يحتفل اليهود بالبنطقستي، ما لم يكن احتفالهم رمزًا له؟ انصتوا إليّ باهتمام. أنتم تعرفون أنه عند اليهود يُذبَح حمل الفصح. وهكذا يُعيّد الفصح كرمزٍ لآلام الربّ التي حدثت فيما بعد.
ليس من إنسانٍ مسيحي يمكنه أن يجهل ما أقوله. أنتم تعرفون أنهم أُوصوا أن يوجد حمل بين الماعز والقطيع (خر 12: 5 الترجمة السبعينية)؛ لكن هل يوجد حمل بين الماعز والقطيع؟ هذه الوصية مستحيلة! لكنها تشير إلى إمكانية أن يأتي المسيح (حمل الله) بربنا يسوع، الذي بحسب الجسد وُلِد من نسل داود، وجاء في نسبه خطاة (مثل راحاب الزانية). حسب الأنساب التي سجَّلها البشير (مت 1: 17؛ لو 3: 23-38) نجد خطاة كثيرين، إذ جاء من نسل خاطئ. والكنيسة اليوم تجتمع من أبرارٍ وخطاة[5].
إذ حلّ موعد عيد الخمسين، أُعدّت لطوبيت مائدة فاخرة وجلس ليأكل.
قيل: "أُعِدَّت له مائدة"، ربما لأن زوجته وابنه طوبيا شعرا بأنهما حُرِما من وجود طوبيت لمدة 50 يومًا، وحُرِم هو من أسرته وعاش في شبه عُزلة حتى لا يعرف سنحاريب مكانه فيُرسل من يغتاله.
لم يفكر طوبيت أن يكتفي بحضور زوجته وابنه اللذين حُرم منهما فترة هروبه من نينوى، إنما تطلع إلى الطعام الذي على مائدته ولم يستطع أن يمد يده ويأكل، إذ حُرِم كثيرون من الطعام بسبب الفقر والعوز.
طلب من ابنه الوحيد أن يخرج ويبحث عن أناسٍ من بني قومه الذين حُرِموا من الاحتفال بالعيد، ويأتي بهم ليشتركوا مع الأسرة في المائدة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
عادَ فقال: "يا أَبَتِ، ذُبِحَ واحِدٌ مِن أُمَّتِنا وأُلْقِيَ في الساحَةِ مَذبوحًا" [3].
فوَثَبتُ قَبلَ أَن أَذوقَ شَيئًا، ورَفَعتُ الجُثَّةَ مِنَ السَّاحة ووَضَعتُها في غُرَفة معينة، إلى أن تَغيبَ الشَّمسُ [4].
ورَجَعتُ واغتَسَلتُ وتَناولتُ الخُبزَ حَزينًا [5]. فتذَكَرتُ نبوة عاموسُ حَيثُ قال: "ستُحوَّلُ أَعْيادُكم نَوحًا وجَميعُ أناشيدِكم رِثاءً"، فبَكَيتُ [6].
ولَمَّا غَرَبَتِ الشَّمسُ، ذَهَبتُ فحَفَرتُ قبرًا ودَفَنته [7]. وكانَ جيراني يضحكون قائلينَ: "إنه لم يَعُدْ يَخاف أن يُقتل بِسَبَبِ مِثلِ هذا الأمر، فهَرَب وهوذا يَعودُ إِلى دَفْنِ المَوتى" [8].
انطلق الابن الذي يحمل سمات أبيه من حبٍ لله والناس، وممارسة الرحمة. انطلق إلى الساحة فوجد قتيلاً من بني جنسه مات مخنوقًا. عوض البحث عن فقيرٍ يشترك مع الأسرة في مائدة العيد. عاد إلى أبيه ليخبره بما رآه. وثب الأب في الحال قبل أن يمد يده للطعام، وذهب إلى الساحة ورفع الجثة ووضعها في إحدى الغرف إلى أن تغيب الشمس.
اغتسل وتطهر، لأنه يُحسَب كمن تدنس لأنه لمس ميتًا.
جلس على المائدة وتناول الخبز وهو حزين. كان يفكر فيما تنبأ به عاموس أن الله يُحَوِّل الأعياد إلى نوحٍ، والأناشيد الخاصة بالعيد إلى مراثٍ.
كانت دموعه تنهار حزنًا على بني قومه.
تطلع جيرانه إليه وهو منطلق إلى الساحة ليهتم بالقتيل الذي كانت جثته مطروحة أرضًا، واندهشوا كيف لم يتعلَّم مما حدث له في أيام الملك السابق. كيف يُعرض نفسه للموت بدون خوفٍ؛ كيف حفر القبر بنفسه ليدفن جثمان القتيل؟
نرى عظمة طوبيت في الآتي:
1. ما أن سمع أنه توجد جثة في الساحة ترك الأكل والوليمة وذهب ليحمل الجثة.
2. احتفظ بالجثة في بيته.
3. عرَّض نفسه لعقوبة من الملك.
4. في تقواه لم يتذمر على الله ظانًا أنه ترك شعبه اليهودي ينكل بهم الملك، بل أرجع هذا لخطية الشعب وتذكَّر نبوة عاموس (عا 10:8).
5. ثبت في خوف الله شاكرًا له طول أيام حياته. وهذا ما قاله بولس الرسول: "متفاضلين فيه بالشكر" (كو 7:2).
6. لتمسكه بالناموس عمل الوليمة ليحتفل بيوم عيد الرب؛ وظهر أن طوبيا كان بارًا كأبيه فذهب بسرعة ليخبر أبيه بوجود الجثة، فالأب قدوة لأبنائه.
* مرة أخرى بدأ يشترك في تلك المسئوليات، إن كان لديه أية مئونة يبحث عن غريبٍ يشاركه طعامه. وهكذا عندما عاد مُجهدًا من قيامه بالدفن، وكان الطعام قد وُضِع أمامه وقد أرسل ابنه يبحث عن أحدٍ يشاركهما المائدة. إذ دُعِي الضيف، وإذ جاءته إخبارية عن وجود جثمان غير مدفون، ترك المائدة حاسبًا أنه ليس من التقوى أن يأكل طعامًا بينما توجد جثة مطروحة علنًا عارية.
هذا كان عمله اليومي، وبالحقيقة هو عمل عظيم. فإن كانت الشريعة تتطلب أن نغطي العرايا من الأحياء، كم بالأكثر يلزمنا أن نغطي الأموات.
إن كنا قد اعتدنا أن نرافق الذين ينطلقون في رحلاتٍ بعيدة، كم بالأكثر يلزمنا أن نفعل هذا مع المنطلقين إلى بيتهم الأبدي والذين لن يعودوا مرة أخرى إلى هنا.
قال أيوب: "إنني نُحت على كل شخصٍ حزينٍ". بالأكثر يحزن أكثر على الميت. يقول الكتاب في موضعٍ آخر: "ابكوا على الميت!" ويقول الجامعة: "قلب الحكيم في بيت الحزن، وقلب الأغبياء في بيت الفرح". ليس من عمل أعظم من هذا الواجب، حيث تهتم بشريكك في الطبيعة ذاك الذي لا يرجع بعد وتخلصه من الطيور ومن الوحوش. يُقَال إن (بعض) الوحوش المفترسة تحنو على الأجسام الميتة، فهل يرفض البشر الاهتمام بالجسم الميت؟[6]
* ليس من سبب يجعلنا نستخفّ بأجسام الموتى ونحتقرها وننقلها بعيدًا، خاصة أجسام الأبرار والمؤمنين، إذ استخدمها الروح القدس كأدواتٍ وأوانٍ لممارسة الأعمال الصالحة. فإن كان خاتم الأب (الميت) وثوبه وما أشبه بذلك عزيز عند أبنائه، بالأكثر تكون مشاعرهم نحو أجساد والديهم، التي أكثر قربًا والتصاقًا بهم من أي شيءٍ يرتدونه... إنها ليست مجرد زينة للإنسان أو لراحته إنما هي جزء من طبيعتهم نفسها. لهذا في الأزمنة السابقة كانت جنازات الأبرار تُعدَّ باهتمام وطقوسها يُحتفَل بها، وقبورهم تُعد بتكريمٍ وتقوى.
كانوا وهم أحياء يعطون أبناءهم تعليمات بخصوص دفنهم أو نقل أجسادهم. لدينا شهادة عن ذلك بشهادة الملاك أن طوبيت تأهَّل لإحسان الله لأنه كان يدفن الموتى (طو 2:9؛ 12:12 إلخ.). ربنا نفسه الذي كان سيقوم في اليوم الثالث أوصى وحث الآخرين أن يمدحوا العمل الصالح للمرأة التقية التي سكبت طيبًا ثمينًا على قدميه إعدادًا لدفنه (مت 26: 10، 13 إلخ.). ومدح الكتاب المقدس الأشخاص الأتقياء الذين استلموا جسده بعناية فائقة عندما اُنزل من على الصليب، وقدَّموا أكفانا ودفنوه بوقارٍ[7].
إذ كان طوبيت في الطريق إلى بيته بعد أن دفن أخيه القتيل، عاد بذاكرته حين كان في إسرائيل يذهب إلى أورشليم ليحتفل بالأعياد متهللاً، وإن كان يحمل نوعًا من المرارة لانقسام إسرائيل إلى مملكتين. أما الآن فهو في أرض السبي عوض الانطلاق للتسبيح في مدينة الله أورشليم، حمل جثمان القتيل ظُلمًا، ولم يستطع أحد من أسرته أن يقترب من الجثمان كي يدفنه. تمررت نفسه فيه وتذكَّر نبوة عاموس أن أعيادهم تتحوَّل إلى حزنٍ، وتسابيحهم إلى مراثٍ (عا 8: 10).
حقًا كيف يرجع إلى بيته ويشترك في المائدة التي أُعِدَّت له ومعه أهل بيته والإخوة الذين استضافهم. ومن جانب آخر بحسب الشريعة الموسوية تدنَّس بلمسه جثمان ميت، ويحتاج أن يتطهر!
شعر طوبيت أن ما حلّ به وبشعبه إنما هو ثمر خطاياهم وخطايا آبائهم. ليس من علاج للموقف سوى الرجوع إلى الله بالتوبة.
وفي تِلكَ اللَّيلَةِ التي فيها دفنته عُدت إلى بيتي، وإذ تدنست دَخَلتُ ساحةَ داري وألقيتُ بِنَفْسي بجوار حائِطِ الدَّارِ مكْشوفَ الوَجهِ [9].
وكان في الحائِطِ عَصافيرَ فَوقي لم أرها، فوَقَعَ روثها الساخن في عَينَيَّ فأَحدَثَ بُقَعًا بَيضاءَ، فذهبتُ إِلى الأَطِبَّاءَ ِلكنهم لم يعينوني. وأَعالَني أَحيور قَبلَ أن يَذهَبَ إِلى المايس Elymais (جلمايس) [10].
إذ دفن القتيل، عاد إلى بيته؛ وإذ حرص على طهارة البيت اغتسل وألقى بنفسه على جدار الساحة ليستريح، وكان مفتوح العينين. سقط على عينيه ذرف العصافير الساخن. فانطلق إلى الأطباء ليعالج عينيه، لكن لم ينتفع شيئًا، بل ازداد عماه حتى فقد بصره تمامًا.
يرى القديس أغسطينوس أن الله يسمح أحيانًا لبعض الأتقياء أن يفقدوا نظرهم، مُقَدِّمًا لهم البصيرة الروحية التي للنفس. فطوبيت تعرَّض للعمى، ووهبه الرب البصيرة الداخلية ليُعلِّم ابنه طوبيا روح الحب والتقوى والتمييز. تأهَّل الابن أن يُرافِقَه رئيس الملائكة رافائيل في رحلته وقام بإرشاده ورعايته وسلك مثل أبيه طوبيت كإنسان الله.
هذا ما تمتَّع به اسحق بن إبراهيم الذي ضعفت عيناه جدًا، وإن كان لم يُمَيِّز في البداية بين ابنيه عيسو ويعقوب، غير أنه بالبصيرة الداخلية باركهما لينال كل منهما سؤل قلبه. فيعقوب تمتَّع بالسماء المفتوحة، وعيسو تمتَّع بالقوة الجسمانية والبركات الأرضية. تمتَّع يعقوب بالبصيرة الروحية، وتنبأ لأولاده عما سيكونون عليه في الأجيال القادمة هم ونسلهم (تك 48).
* يا أيها النور الذي رآك طوبيت حين أُغلِقَت عينيه. فعلَّم ابنه طريق الحياة، هذا الذي سار قبلاً بقدمي المحبة اللذين لن يضلاّ.
وإسحق الذي رأى (بالبصيرة الداخلية) عندما تعتّمت عيناه الجسديتان، فلم يستطع أن ينظر بسبب الشيخوخة، فسمحت له أن يبارك ابنيه ويتعرف علهما (تك 27: 1).
هذه البصيرة التي تمتع بها يعقوب عندما أُصيب بالعمى في شيخوخته، واستنار قلبه ورأى أولاده بنورٍ وما سيحدث لشعبه في المستقبل وتنبأ لهم. لقد وضع يديه على شكل الصليب بطريقة سرّية على حفيديه ابنيّ يوسف، وقد أراد والدهما إن يصحح الوضع إذ نظر ما هو بالخارج، أما (يعقوب) فكان مدركًا التمييز بينهما (تك 48: 13-19)[8].
احتمال طوبيت فقدان بصره بعد قيامه بأعمال الخير وإظهار روح الرحمة بصورة عجيبة ومجيدة، وكان في كارثته يخاف الله ويباركه، وبجسده المتألم تزداد نفسه شكرًا لله (طو 14:2).
لقد تزكَّى طوبيت بالأكثر أمام الله باحتماله الألم، وقد مدحه الملاك رافائيل بعد ذلك قائلاً: "أما أنا فأظهر لكما الصحيح ولا أخفى عليكما كلمة من الحديث المكتوم. والآن عندما كنت تصلي أنت وسارة كنتك أنا قدمت ذكر صلوتكما أمام الرب.
* لقد أُصيب بالعمى بروثٍ سقط من عش سنونو، لكنه لم يشتكِ ولا حزن ولم يقل: "هل هذا هو جزاء أتعابي؟" لكنه حزن بالأكثر أنه حُرِم من القيام بالالتزام بالدفن بسبب عينيه. وحسب عماه ليس عقوبة حلَّت عليه، بل عائقًا لممارسة العمل[9].
يقول القديس أمبروسيوس أن طوبيت حزن على عجزه عن مساعدة الآخرين أكثر من حزنه على فقدان بصره.
إذ سند طوبيت الكثيرين في أرض إسرائيل وأرض يهوذا وفي السبي، أعطاه الرب نعمة في عيني أحيور ابن أخيه الذي توسَّط له عند الإمبراطور ليعود إلى عائلته في نينوى [10]. ألهب الرب قلب أحيور بالرحمة تجاه هذا البار الذي لم يتوقَّف عن مساندة بني قومه.
عاد طوبيت إلى بيته مثقلاً بالتعب، ليس بحمله جثمان الميت ودفنه، وإنما لأن أعياد إسرائيل تحوَّلت إلى حزنٍ، وعوض تقديم تسابيح الفرح بعمل الله صاروا في حزنٍ ومرارةٍ. خارت قواه فارتمى على حائط ساحة بيته، وإذا به يفقد بصره بواسطة ذبل عصفور صغير كان واقفًا على الحائط.
حقًا لم يكن قادرًا على دخول بيته والشركة في المائدة المُعَدة له، لكنه كان يلزم في حزنه أن يصرخ إلى الله، طالبًا أن يهبه مع شعبه التوبة عن خطاياهم، والرجوع إلى الله. كان طوبيت بارًا، وحسنًا أن يشعر بمرارة الخطايا وثمارها المُهلكة، غير أنه استسلم للحزن عوض الاتكاء على صدر الله!
على أي الأحوال، لم ينس الربّ نقاوة قلب طوبيت وإيمانه بالله وأعماله المملوءة حبًا، لذا سمح له بهذه التجربة كي تحفظه في الحب والتواضع، فينمو في الإيمان، ويتمتع هو وأسرته مع كثيرين مثل رعوئيل وأسرته وأقربائه وكثير من الشعب بأعمال الله العظيمة.
كانَت حَنَّةُ امرَأَتي تَقومُ بأَعمالٍ نِسائِيَّةٍ مَأجورة [11]، فتُرسِلُ الأَعْمالَ إِلى أَصحابِها وهم يَدفَعونَ لَها أُجرَتَها. وعندما دَفَعوا لَها أُجرَتَها قَدَّموا لَها جَديًا [12].
لأجل الاحتياج للمال اشتغلت امرأته في الحياكة (الخياطة) في مشغلٍ.
تُعتبَر حنة أول سيدة وردت في الكتاب المقدس قامت بالإنفاق على أسرتها لعدة سنوات في ظروف قاسية. وكانت أمينة في عملها حتى قدَّم لها الذين تعمل عندهم إكرامية، وهي جدي صغير تطبخه للعائلة، ربما لاقتراب عيد الفوريم.
يحدثنا سليمان الحكيم عن المرأة الفاضلة فيقول: "تَطْلُبُ صُوفًا وَكَتَّانًا، وَتَشْتَغِلُ بِيَدَيْنِ رَاضِيَتَيْنِ. هِيَ كَسُفُنِ التَاجِرِ. تَجْلِبُ طَعَامَهَا مِنْ بَعِيدٍ (أم 31: 13-14).
يشبِّه سليمان الحكيم المرأة الفاضلة بالتاجر العامل بسفينته القادمة من بعيد محملة بالبضائع، خاصة المئونة والطعام اللازم، كما يصدر بضائع أخرى بلا توقُّفٍ.
إنها تشبه الرسل الذين يأتون إلى العالم بأخبار سارة سماوية كمؤونة روحية مُشبِعة للنفوس.
المرأة الفاضلة الحكيمة لا تعرف الخمول ولا الكسل، إنما تجاهد وتعمل بكل طاقتها، وتجد بهجتها في تعب المحبة الذي تقدمه لأسرتها بكل رضا. تعمل في أمور كثيرة لكيلا تحتاج أن تشتري شيئًا قدر المستطاع.
تجد بعض النساء الشريفات لذة في العمل المنزلي. وكانت العادة في الشرق أن تقوم النساء بغزل الصوف والكتان، وتشعر بمسؤوليتها نحو إعداد الملابس للأسرة كلها. وكن يفتخرن بأن ثياب أزواجهن وأبنائهن من صنع أياديهن.
* اللواتي يردن أن يتساوين بسارة لا يخجلن من ممارسة الخدمات، ومساعدة المسافرين خاصة على الأقدام.
فقد قال لها إبراهيم: "اَسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سميذًا؛ اعجني واصنعي خبز مَلَّة" (تك 18: 6). كما قيل: (وأبصر يعقوب) راحيل بنت لابان خاله وغنم لابان" (تك 29: 9).
يحوي الكتاب المقدس أمثلة بلا عددٍ للعمل الدؤوب وقيامهن بالعمل والتدرب على ذلك، دون عوز إلى آخرين.
إن كانت حنة زوجته قد عانت مما قدمه رجلها من خدمات وعطايا للشعب الذي في الأسر، فإنها لم تأخذ موقفًا سلبيًا، بل كانت تعمل لكي تسند رجلها وابنها ماديًا. إن كان عتابها أو حوارها مع رجلها كما سنرى في هذا الأصحاح قد شوّه صورتها، لكن الله لا ينسى الجانب الصالح في حياتها.
كانت أمينة وجادة في عملها، فقدَّم لها أصحابها الذين قامت بخدمتهم فيما تمارسه من حياكة، مع الأجرة الكاملة جديًا تطبخه لأسرتها. سمح الله لطوبيت الذي كان في غناه سخيًا للغاية أن يشترك أحيور مع حنة زوجة طوبيت في الانفاق على الأسرة. بهذا أكد له الرب أنه كما أعطى الكثير بفرحٍ لحساب الرب، فإنه جاء وقت يستخدم الله أحيور ليسند طوبيت وهو فاقد البصر. فكما يخدم المؤمن الآخرين، يشعر أنه في حاجة إلى خدمة الآخرين له.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ولَمَّا دَخَلَت إِلَيَّ، أَخَذَ الجَدْيُ يَثْغو، فقُلتُ لها: "مِن أَينَ هذا الجَدْيُ؟ قَد يَكونُ مَسْروقًا، فرُدِّيه إِلى أَصْحابِه. فلا يَحِلُّ لَنا أَن نأكُلَ شَيئًا مَسْروقًا" [13].
لكنها قالَت لي: "قُدِّمَ لي هديةً فَوقَ أُجرَتي".
لم أُصَدِّقْها، بل أَخبرتها أَن تَرُدَّه إِلى أَصْحابِه. وفي غضبٍ توهج وجهي. حينَئِذٍ أجابَتني قائلة: "أَينَ صَدَقاتُكَ وأَعْمالُ بِرِّكَ؟ ما أتاكَ مِنْها أنت تعرفه." [14]
إن كانت قد دخلت حنة في مناقشة حامية مع رجلها البار، فإنها كررت تأكيدها أن الجدي ليس مسروقًا إنما هو إكرامية، قُدِّم لها من أجل إخلاصها واهتمامها بالعمل.
إذ سمع طوبيت صوت الجدي، سأل زوجته: من أين هذا الجدي؟ أجابته حنة أن أصحابها الذين استأجروها في الحياكة قدَّموا لها هذا الجدي هدية فوق أجرتها.
لسنا ندرك لماذا خشي طوبيت أن يكون هذا الجدي مسروقًا؟
انفعلت حنة، وقالت له: أنت تعرف تمامًا ما حلّ بك؟ ماذا انتفعت بصدقاتك وأعمال برّك؟
كانت زوجته تعيره قائلة له أين هو برّه، فيتطلع إلى ما يحتمله من آلام؟! أما هو فكان يتقوَّى بخوف الله ويتشدَّد متسلحًا بإيمانه، محتملاً الآلام، غير مُستسلِم لضعف زوجته التي كانت تُجَربه أثناء ضيقاته. فمن ضمن محاربات إبليس أن يستخدم أصدقاءنا وأقرباءنا (غير الثابتين في الله أو غير الفاهمين) للتشكيك في محبة الله (مثل زوجة أيوب). أما طوبيا فكان له عينان خارجيتان مقفولتان وعينان داخليتان يرى بهما الرب فلا يتشكَّك فيه.
تشبهت امرأة طوبيت بزوجة أيوب التي عيَّرت رجلها بأن فشله ثمرة لأعماله الصالحة وبرّه.
أُصيب بالعمى، فحسبت حنة أن إنفاقه الكثير على المحتاجين وأعمال البرّ سبَّب له الفشل والاحتياج (طو 2: 14). أما هو فكان يزجرها قائلاً: "لا تتكلمي هكذا." لقد ثبت في مخافة الربّ، وكان يسبحه، كما قدم صلاة توبة بدموعٍ، مُلقيًا اللوم على نفسه، حاسبًا أحكام الله حقًا. قدَّم نموذجًا عمليًا للصلاة والتسبيح في وقت الضيق.
* بعد أن قام طوبيت بأعمالٍ مجيدة، وبعد أن تأهَّل لثناءٍ مجيد من أجل رحمته، عانى من عمى عينيه، وفي نكبته كان يخاف الله ويباركه. بحزنه المتزايد في جسده كان يزداد في تسبيحه. وقد حاولت زوجته أن تدمره قائلة: "أين أعمالك الرحيمة؟ تطلع إلى آلامك!" أما هو فبثباتٍ وحزمٍ في مخافة الله تسلَّح لاحتمال الألم بالإيمان في تدينه دون أن ينحدر في آلامه لضعف زوجته، بل تأهَّل بالأكثر للتمتُّع ببركات الله بصبرٍ أعظم[10].
يدعونا القديس أغسطينوس أن نقتدي بالأعمى الذي كان يصرخ طالبا من السيد المسيح أن يفتح عينيه (مت 20: 30)، فإنه ما كان يمكن أن يتمتَّع بتفتيح عينيّه ما لم يدرك أولاً حاجته إلى النور وإدراكه لقوة السيِّد المسيح الشافي النفس والجسد.
ويقول البابا كيرلّس الكبير: [وُجِد أناس كثيرون حول يسوع... لكن الأعمى شعر بحضرته وتمسَّك به في قلبه هذا الذي لم تستطع عيناه الجسديَّتان أن تراه.] أمّا سرّ شفائه فهو صوت المسيح واهب النور، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [صوت المسيح نور للأعمى، لأنه كلمة النور الحقيقي.]
* الآن أي شيء نقتنيه أثمن من أن تكون لنا العين سليمة؟! يفرح الذين يرون النور المخلوق الذي يشرق من السماء حتى الذي يصدر عن مصباحٍ. ويا للبؤس الذي يبدو على العاجزين عن رؤية هذا النور.
أينما تحدثت وتكلمت عن هذه الأمور إنما أحثكم على الصراخ حينما يعبر بكم يسوع (مت 20: 30). إني أتحدث عن هذا النور الذي ربما لا ترونه، إنه موضوع حبٍ لكم أيها الإخوة القديسين.
صدِّقوا أنكم لستم ترونه، واصرخوا كي تروه.
يا لخطورة التفكير في بؤس البشر الذين لا يرون النور المادي. متى صار إنسان أعمى للحال يُقَال عنه: "الله غضبان عليه. إنه ارتكب بعض الشرور". هكذا قالت زوجة طوبيت لرجلها...
لقد صرخ (طوبيت)... إنه لا يريد أن يسمع صوت أي شيء مسروق في بيته... أما هي فوبَّخت رجلها، وعندما قال: ليُرد ما هو مسروق"، أجابته باستخفافٍ: "أين هي أعمال برّك؟"...
إنها كانت تفرح وهي ترى نور الشمس، أما هو فكان يفرح في داخله بنور البرّ. أيّ النورين أعظم؟!
إني أحثكم على محبة هذا النور أيها الأحباء، حتى تصرخوا عندما يعبر بكم يسوع. ليُسمَع صوت الإيمان، فيسوع لا يزال واقفًا. إنه حكمة الله وجلال كلمة الله غير المتغير، خالق الكل، يفتح أعينكم. نفس الشي عندما أعطى طوبيت نصيحة (لابنه) وعلَّمه أن يصرخ، علَّمه الأعمال الصالحة. أخبره أن يعطي الفقراء، ويقدم صدقة للمحتاجين، قائلاً: "يا ابني الصدقة هي ألاَّ تسلك في الظلمة" (راجع طو 4: 10)[11].
يُبَرِّر البعض توقُّع طوبيت أن الجدي الصغير مسروق هو علمه أنه ليس في المنزل مال يكفي لشراء جدي صغير، ولم يتوقَّع أن إنسانًا يستأجر سيدة للخياطة يُقدِّم لها مع الأجرة جديًا حيًا.
لم تستطع حنة أن تحتمل التجربة التي حلّت على الأسرة بإصابة طوبيت بالعمى، إذ قالت له: "أين صدقاتك وأعمال برّك؟ ما أتاك منها أنت تعرفه".
يليق بنا حين تحلّ بنا تجربة تبدو قاسية للغاية أن نطلب من الله أن يهبنا روح الحكمة، فكثيرون سقطوا في الجهالة والغباوة لسببٍ أو آخر.
لقد نصح أيوب زوجته حين طلبت منه أن يترك الله بسبب ما حلّ به، فقال لها: "تتحدثين كإحدى الجاهلات؟!" (أي 2: 14).
في غباوة قالت راحيل لرجلها يعقوب: "أعطني أبناء" (تك 30: 1) الأمر الذي لم يكن في سلطانه.
وفي غباوة طلبت امرأة فوطيفار ليوسف البار أن يضطجع معها (تك 39: 7).
وفي غباوة قالت حنة لرجلها البار: "أين صدقاتك وأعمال برّك؟ ما أتاك منها أنت تعرفه" (طو 2: 14).
في غباوة أغرت دليلة شمشون، أما هو ففقد طهارته وسلَّم نفسه للشهوات الجسدية.
من يُنقِذني من جسدي المائت
* لم يستطع ملوك إسرائيل أن يمنعوه من الذهاب إلى هيكل الربّ بأورشليم،
ولم تستطع نينوى أن تُلزِمه بالشركة في الأطعمة الوثنية.
ولم يقدر سنحاريب الملك أن يشلّ يديه عن دفن قتلى شعبه.
فالتجأ عدو الخير إلى بيت طوبيت وجسده.
أُصيب طوبيت بالعمى فَشَلّ حركته في العمل لينفق على الفقراء،
وعن حفر مقابر لدفن القتلى.
التزمت حنة امرأته بالعمل في الحياكة والإنفاق على الأسرة.
من أجل جهادها وإخلاصها وأمانتها، قَدَّم الذين استأجروها جديًا مع أجرتها.
وجد العدو فرصته لخلق جو من الخلاف العائلي.
صمَّم طوبيت على ردّ الجدي لئلا يكون مسروقًا.
انفعلت حنة عليه وعيَّرته أن صدقاته وخدمته للمقتولين ليست إلاَّ مظهرًا بلا روح.ٍ
تألم طوبيت وتوقَّف عن الحوار معها ورفع قلبه للصلاة!
قدَّم الاثنان درسًا لنا في الخلافات، إذ صمت الاثنان.
لم يستطع الخلاف أن يفسد حبّهما لبعضهما البعض.
وكلما مرَّت الأيام والسنوات ازداد حبهما لبعضهما.
صارا مثلاً رائعًا لابنهما كما لنا.
وأوصى طوبيت ابنه أن يخدم أمه، وأن يدفنها معه في قبره!
هكذا لم يُفقِد العمى طوبيت روح التسبيح، ولم يُفسِد النزاع حب الزوجين في الربّ!
طوبيت البار
وقطعة شعرية عن دفن الموتى
للأب برودينتيوس الروماني
يُقَدِّم لنا الشاعر المسيحي الغربي Aurelius Prudentius Clemens، قطعة شعرية رائعة عن دفن الموتى، وقد أبرز مشاعر طوبيت وهو يقوم بهذه الخدمة في نينوى عاصمة أشور حيث تعرَّض اليهود لاضطهادٍ عنيفٍ. منع الإمبراطور الأشوري أن يمد إنسان يده ليجمع جثث موتى اليهود أو القتلى ويقوم بدفنهم.
هذا الشاعر روماني مسيحي وُلِد في ولاية رومانية تُدعَى Tarraconensus (حاليًا شمال أسبانيا) في عام 348م، ومات في Iberian Peninsula بعد عام 405م، يُحتمَل أنه مات عام 413م. أما موطن ميلاده فغير أكيد[1].
في هذه القطعة الشعرية لم يتطلَّع الكاتب إلى دفن الموتى بمنظارٍ عاطفيٍ ضيقٍ، بكونه كشف عن الترفُّق بالإنسان حتى وهو جثة ملقاة على الأرض، لا يستطيع أحد أن يقترب إليها بناءً على الأمر الإمبراطوري أو الملكي الجاحف الذي ليس فيه أي اعتبار إنسانيّ.
كانت نظرة هذا الأب مُتَّسِعة للغاية، أذكر منها الآتي:
1. يتحدَّث الأب الشاعر عن طوبيت الممارس لهذا العمل بكونه شيخًا قديسًا، لا يعطي لنفسه عذرًا أنه شيخ طاقاته محدودة بسبب شيخوخته، بجانب أنه مسبي تحت سلطان الإمبراطور الأشوري الذي يجد مسرَّته في إذلال المسبيين، إنما وهو يتطلع إلى المائدة المُعدَّة للعيد، وإذا به يترك أهل بيته وربما أصدقاءه حول المائدة، ويعطي الأولوية للقيام بهذا العمل الذي يقاومه الإمبراطور الشرير. [69 - 76]
* والد القديس طوبيا، هذا الشيخ القديس العظيم في شجاعته
بينما كانت وليمة العيد مُعدّة،
حسب الالتزام بدفن (الموتى) له الأولوية. [69-72]
* بينما كان خدامه منتظرين (على المائدة)،
ترك الكؤوس وأطباق الطعام،
تمنطق وانطلق
وهو يبكي على جثمانٍ محزنٍ (مُلقَى على الأرض). [73-76]
2. كان طوبيت بجسده يعيش في السبي الذي يحرمه إلى حدٍ كبير من التحرُّك بحرية لإتمام هذا العمل المحبوب لدى الله. أما بفكره وقلبه وبكل إمكانياته الداخلية فكان يتطلَّع إلى السماء ليفعل ما يرضي إلهه.
لم يشغله أن يرى نور الشمس بعينيه الجسديتين إنما أن تتمتع أعماقه بالبصيرة الداخلية التي ترى النور الإلهي. لقد استرد طوبيت فيما بعد النظر الجسماني، وذلك بمسح عينيه بمرارة السمكة، أما البصيرة الداخلية فلم يفقدها قط، لالتصاقه بالنور الأبدي. لم يشغله موقف الإمبراطور منه، إنما رضا الربّ. إنه يَعْلَمُ أن مكافأة السماء سريعة وصالحة وعظيمة، ألا وهي التمتُّع بالأحضان الإلهية. [77-80]
* نال مكافأة سريعة من السماء،
ودُفِع له أجر عظيم صالح (من عند الرب)،
لأن عينيه التي لم تعرفا أشعة الشمس (إذ أُصيب بالعمى)،
أنارها الربّ بمسحة من مرارة كبد (السمكة). [77-80]
3. بعد ممارسته لهذا العمل الصالح، أي دفن الموتى أُصِيب بالعمى ولم يتذمَّر. وكان العلاج فيما بعد أن تُمسَح عيناه بمرارة السمكة علامة احتماله مرارة الآلام ليس ثمرة لخطايا معينة ارتكبها. حقًا ما كان يمكن لعينيه أن تسترد القدرة على البصر بدون مسحهما بالمرارة. كم بالأكثر ينال الشفاء الروحي لبصيرته الداخلية خلال مرارة الجهاد والصراخ إلى الله كي يتمتَّع ببهاء النور الإلهي الجديد كنعمةٍ مجانيةٍ. [81-84]
* هكذا يُعَلِّمنا الآب السماوي،
آلام الشفاء وقوته العظيمة.
فالنفس التي تنغمس في ظلمة الخطية،
تُبهر باشتعال النور الجديد. [81-84]
4. إنسان الله ينتهز كل فرصة كي يتعلم شيئًا جديدًا. [85-88]
* تعلَّم أيضًا أنه لا يتمتع أحد
بالنظر إلى الملكوت السماوي،
ما لم يحتمل الآلام،
بجراحاتها وظلمتها وأحزانها. [85-88]
5. يرى هذا الشاعر المسيحي الروحي أن طوبيت وهو يحمل جثث الموتى ليدفنها، يدرك أن الموت في نظر المؤمن بركة من قبل الله، فهو ليس حرمانًا من الحياة، بل دخول فيما وراء الحياة الزمنية. الموت في حقيقته انطلاق نحو الأعالي السماوية، ودخول إلى المجد من خلال الآلام والموت. [89-92]
* الموت في حقيقته هو بَرَكة،
آلامه تفتح الباب
لدخول المؤمنين إلى الأعالي السماوية،
إذ تقودهم آلامهم إلى المجد. [89-92]
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
6. كثيرًا ما يتطلَّع الإنسان إلى الموت أنه تدمير للجسد وفقدان لحيويته ونشاطه، خاصة إن تعرَّض لعذابات قبل موته أو لأمراضٍ خطيرةٍ. لكننا في المسيح يسوع الذي مات وقام لحسابنا، ندرك أن الجسد الذي يتعرَّض للعذابات والأمراض يستعيد هيكله في صورة مجيدة تليق بالحياة السماوية. [93 – 96]
* الأجسام التي تعاني من عذابات هكذا،
تستعيد هيكلها الذي فَقَد حيويته،
في الحياة التي بعد الموت
والتي بلا ضعفٍ. [93-96]
بالانطلاق من هذا العالم سيلتقي المؤمنون الأمناء في الالتصاق بالربّ وحفظ وصيته، دون القدرة على التمييز بين شيخ جبينه مملوء بالتجاعيد، وقدراته ضعفت بل وذبلت وبين شاب مملوء نشاطًا وحيوية، إنما يحمل الكل انعكاس بهاء الربّ عليهم دون تفرقة بين شيخٍ وطفلٍ، رجلٍ وامرأةٍ، شابٍ وشابةٍ، فالكل يحملون أيقونة المسيح التي لا تشيخ. [101-104]
* الشيخوخة بتدميرها خلال الغيرة الشديدة
لن تشوِّه جمال الجبين الجذَّاب.
ولن تُفقِد الأعضاء حيويتها النشطة.
ولن تتركها تتضاءل جميعًا وتذبل. [101-104]
7. الجسد القائم من الأموات: علامة ضعف الجسد ومعاناته من الإرهاق والتعب والمرض أنه يتصبَّب عرقًا، أما في الحياة الأبدية فلا يعرف الجسد القائم من الأموات العرق بعد، لأنه مُلتحف بالمجد!
في السماء نذكر ما حلّ بنا من أتعابٍ وآلام وأمراض وكيف كنا نعاني من العرق حين كنا نجاهد على الأرض. هذه الذكريات لا تُسَبِّب لنا ضيقًا هناك، بل نُمَجِّد الله الذي بمحبته قبل أتعابنا على الأرض شركة مع المصلوب، وصار لنا باب الأمجاد مفتوحًا. [105-112]
* المرض المُعدي المميت،
يُدَمِّر هنا أجسام البشر الواهنة،
يعاني (الجسم) من عذابات (المرض).
إذ يتصبَّب منه عرق العبودية القاسية. [105-108]
* الجسم وهو على عرشه في السماوات،
يصير منتصرًا وخالدًا.
سيذكر أبديًا ما كان يندبه،
الآلام التي سبَّبها لنفسه. [109-112]
8. إذ يتحدَّث الشاعر المسيحي عن بركة دفن الموتى، يُحوِّل نظره إلى الحشد الذي يودع الراقدين عند دفنهم، ويدهش للحشد المملوء حزنًا على انطلاق إنسانٍ من هذا العالم إلى الحياة السماوية. كان يليق بهم مع تألمهم على فراق الراقد لهم إلى حين، أن يشاركوه فرحه بالحياة الجديدة المتهللة في الربّ. [113-120]
* ما هذا الحشد الحزين للأحياء،
يتَّحِدون معًا، في تقديم مرثاة عقيمة؟
لماذا الحزن المُفرِط والمثير
الذي يتنافى مع الشرائع المفيدة والمستقرة. [113-116]
* ليت الحزانى النائحون يصمتون،
والأمهات الحزانى يكفّون عن النحيب.
ليته لا ينطق أحد بمرثاة عالية الصوت تفقد اتزانه.
فهذا الموت ما هو إلاَّ تجديد مبهج. [117-120]
9. إذ يحاول هذا الشاعر المؤمن أن يبهج قلوب النائحين يُوَجِّه حديثه إلى القبر الترابي ويطالبه بالبهجة بذلك الجسد الذي يرى في القبر ليس سجنًا للجسد، وليس موضعًا يفسد فيه الجسم ويأكله الدود. إنما يرى في القبر كأنه حضن لطيف ورقيق يضم الجثمان الميت، فقد كان هيكلًا لله وروح الله ساكن فيه (1 كو 3: 16). هذا الجسد مات من أجل الشهادة لكلمة الله المتجسد المصلوب.
يذكر برودينتيوس أن جسد السيد المسيح وُضِع في القبر يومًا ما، جعل منه بابًا ينطلق خلاله المؤمن إلى الجنة المفقودة.
إن كنا نعتزّ بقبور الموتى فنُزَيِّنها بالزهور، ونسكب عليها الطيب، فإن زينتها ورائحتها الجميلة تدركها السماء التي تُرَحِّب بنفوس المؤمنين وتنتظر قيامة أجسامهم ليتمتع المؤمنون بالحياة السماوية الخالدة. [125-132؛ 161-172]
* استقبليه أيتها الأرض لتحفظيه،
فإن حضنك اللطيف الآن يضمه،
إننا نطمئن لرعايتكِ لجسم الإنسان.
الجثث التي نضعها راقدة ونبيلة. [125-128]
10. الجسد هيكل الرب (1 كو 3: 16): إن كان الإنسان الأول قد اختار أن يُعطِي ظهره لله ويهرب من وجهه، فإن الله من جانبه يجري وراءه ويقيم منه مسكنًا مقدسًا له، فلا عجب إن تحدث الرسل عن المؤمنين كهيكل الله يسكنه روح الله. "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟" يتحدث الرسول بولس عن الجسد بكل وقارٍ أنه هيكل الله (1 كو 3: 16، 17)، يلزم تقديمه ذبيحة حية لله (رو 12:1)، موضع سكنى الله (أف 2: 21، 22)، موضع مجد الله (1 كو 20:6)، موضع القداسة (1 تس 3: 7، مز 93: 5)، موضع السلام (في 3: 7، حجي 2: 9، يو 16: 33)، موضع إعلان المسيح (رو 8: 29، 2 كو 4: 10، 11)، أعضاؤه آلات للبرّ (رو 6: 13)، يتشبَّه بجسد المسيح (في 3: 20-21، 1 يو 3:2).
* هذا الهيكل كان بيتًا للروح،
الذي انبثق من الآب الذي في السماوات.
لقد سكنت الحكمة المقدسة مرَّة في هذه الأعضاء.
والمسيح كان رأسها وقائدها. [129-132].
11. موت الجسد هو طريق عبورنا إلى الفردوس. يقول الشهيد كبريانوس [كثيرون من شعبنا يموتون بهذا الموت (الجسدي)، فيتحرَّرون من هذا العالم. هذا الموت الذي يحسبه (أهل العالم) كارثة، يراه عبيد الله رحيلاً إلى الخلاص. يموت الأبرار كالأشرار بلا تفرقة... لكن الأبرار يُدعون إلى الراحة، والأشرار إلى العقاب. سلام عظيم يوهب للمؤمنين، وعقاب لغير المؤمنين[2].]
* هوذا الآن قد فُتِح للأمين
الطريق البهي الذي يقود إلى الفردوس،
ويُسمَح الآن للإنسان أن يدخل الجنة
التي فقدها بسبب الحية. [161-164]
* إلى المسكن المقدس يا أيها القائد العظيم.
نسألك أن تأخذ نفس عبدك،
لكي تستريح في وطنها...
الذي تركته وذهبت إلى سبيٍ تجول فيه. [165-168]
12. حوَّل ربنا القبر إلى بيت العُرْسِ: إذ نزل ربنا إلى عالمنا وقَدَّم نفسه ذبيحة، لم يستنكف من أن يوضع جسده في القبر، ويُحَوِّل القبر إلى بيت العُرْسِ. يقول القديس مار يعقوب السروجي عن نزول الملائكة إلى القبر في صباح الأحد:
[في نهار الأحد فُتِح لهم باب السماء الذي كان موصدًا يوم الجمعة في وجه الملائكة لئلا ينزلوا إلى الجلجثة، فأسرعوا لينحدروا بثيابهم البيض، ليستقبلوا ملكنا الذي خلَّص المسبيين وعاد عند أبيه.
صار القبر الجديد بيت العُرْسِ، أُنشأ في الحديقة للعريس المذبوح، الذي أعاد العروس من حرب الأعداء.
اجتمع وحضر إلى الباب الحسن، الملائكة في ثيابهم البيض، والتلميذات بأطيابهن (لو 23: 56). سمعان ويوحنا يركضان بسبب الأخبار السارة (يو 20: 3-8). كليوباس وأخوه (سمعان) تنفتح أعينهما بخبز البركة لينظرا القيامة علنًا. الأصدقاء يكشفون عن وجوههم، والمبغضون يطأطئون رؤوسهم. حنان خجل، وقيافا لا يستطيع أن يتكلم.]
* إننا سنعتز بقبور الموتى،
ونُزَيِّنها بالزهور وأكاليل الورد.
ننحت الاسم على حجارتها.
ونسكب عليها أطياب البلسم [169-172]
الأب برودينتيوس[3]
استحسنت كتابة نص الأبيات الشعرية ببنط ثقيل بعد توضيح كل بندٍ حتى يمكن تجميعها معًا بسهولة.
_____
[1] On Ps. Hom. 16.
[2] On Ps. Hom. 35.
[3] Cf. VanderKam, James C. “Covenant and Pentecost." Calvin Theological Journal 37 (2002): 239–54.
[4] Cf. Davis, Jud. “Acts 2 and the Old Testament: The Pentecost Event in Light of Sinai, Babel and the Table of Nations.” Criswell Theological Review N.S., 7 (2009): 43–45.
[5] عظة 31: 2 (Ancient Christian Commentary, OT, vol.15)
[6] De Tobia, PL 14: 1: 760, B.
[7] City of God
[8] The Confession of St, Augustine 10:33:52.
[9] De Tobia, PL 14: 2: 761, C.
[10] De Mortalitate.
[11] Sermon on the New Testament.
حواشي الملحق:
[1] Wikipedia, the free encyclopedia.
[2] Treatise 7 On the Mortality, 15.
[3] Prudentius. (1962). The Poems of Prudentius. (H. Dressler, Ed., M. C. Eagan, Trans.) (Vol. 1, pp. 69–77). Washington, DC: The Catholic University of America Press.
← تفاسير أصحاحات طوبيا: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14
تفسير طوبيت 3 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير طوبيت 1 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/mfn8khq