محتويات
أحب أن أقول أولًا أن الجسد ليس خطيئة في ذاته:
ليس الجسد شرًا في ذاته، لأسباب عديدة:
1) لو كان الجسد شرًا، ما كان الله قد خلقه. ونلاحظ أنه خلق الله الإنسان -وله هذا الجسد- ونظر الله إلى كل ما عمله، فإذا هو حسن جدًا" (تك31:1).
2) لو كان الجسد شرًا في ذاته، ما كان السيد المسيح قد تجسد، ولبس جسدًا مثلنًا. وقيل عنه "والكلمة صار جسدًا" (يو14:1).
3) لو كان الجسد شرًا، ما كان الكتاب يقول "ألستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم..." (1كو19:6). وما كان يقول أيضًا "ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء للمسيح" (1كو15:6).
4) لو كان الجسد شرًا، ما كان الكتاب يقيم هذا الجسد!! يقول "ويكفي أن الإنسان قد احتمله على الأرض، ولا داعي أن يحتمله أيضًا في الأبدية!!
5) لو كان الجسد شرًا، ما كان الله يمجد هذا الجسد في القيامة، فيقوم جسدًا روحيًا وجسدًا سماويًا (1كو15: 44، 49). "يقام في قوة، وفي مجد، ويلبس عدم موت" (1كو15: 43، 53). بل يكون ممجدًا في شبه جسد الرب الممجد، ما يقول الرسول عن الرب "الذي سيغير شكل جسد تواضعنا، ليكون على صورة جسد مجده" (في21:3).
6) لو كان الجسد شرًا، ما كان الكتاب يقول "قدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة..." (رو1:12). بل ما كان يقول "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو20:6).
وعلى الرغم من كل هذا يتحدث الكتاب ضد الجسد (رو8). و"أعمال الجسد" (غل19:5). والاهتمام بالجسد، والسلوك حسب الجسد (رو8: 1-9).
فعن أي جسد يتكلم؟ إنه لا يتكلم عن الجسد في ذاته، أو الجسد بصفة عامة، إنما عن الجسد الخاطئ.
* إنه الجسد الذي يقاوم الروح...
هذا الذي قال عنه الرسول "لجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر، حتى تفعلون ما لا تريدون" (غل17:5).
هذا الجسد الخاطئ، ذكر الرسول في نفس الرسالة أمثلة عديدة من أعماله الخاطئة (غل5: 19-21).
* الجسد الخاطئ هو الجسد الشهواني.
وشهواته مادية ونجسة. ولذلك يقول الرسول "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد" (غل16:5). وشهوة الجسد قد تكون "الزنى والنجاسة والدعارة" (غل19:5). وقد تكون شهوة البطنة هي في الطعام والشرب والسكر. أو قد تكون في شهوة أمور حسية نتحول إلى عادة مسيطرة أو إلى إدمان، مثل التدخين والمخدرات...
* والجسد الخاطئ هو الذي يقود الروح والنفس إلى الخطأ.
فحينما تخطئ حواسه، تشرك معها نفسه وروحه،فيتدنس الإنسان كله روحًا وجسدًا. كما قال الرب "مَن نظر إلى امرأة وليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه" (مت28:5). فهناك اشتراك بين الجسد في نظره، وبين النفس في شهواتها، والروح التي يمثلها القلب...
انظروا إلى سليمان كيف أخطأ حينما استسلم إلى شهوات الجسد.
وقال "بنيت لنفسي بيوتًا، غرست لنفسي كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس... جمعت لنفسي أيضًا فضة وذهبًا. أخذت لنفسي مغنيين ومغنيات، وتنعمات بني البشر: سيدة وسيدات... ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما" (جا2: 4-10). وهكذا عاش حياة جسدانية. وسقط عن طريق النساء (1مل11). بل تقول عنه الكتاب إن "نساءه أمان قلبه وراء آلهة أخرى. ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب" (1مل4:11).
وهكذا استطاع جسده أن يهوي بروحه إلى عمق الخطية.
ولم يمجد الله في روحه، ولا في جسده. بل سقط كله!
حقًا ما أعمق العبارة التي قالها القديس بولس الرسول:
"ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت؟!" (رو24:7).
قد لا يخطئ الجسد كله، ولكن يخطئ عضو واحد منه، فيتدنس الجسد كله، ويدنس الروح معه أيضًا.
* خذوا اللسان كمثال، وهو عضو صغير.
ولكن كما يقول القديس يعقوب الرسول "هكذا اللسان أيضًا، هو عضو صغير ويفتخر متعظمًا. هوذا نار قليلة، أي وقود تحرق. فاللسان نار، عالم الإثم... الذي يدنس الجسم كله. ويضرم دائرة الكون ويضرم من جهنم" (رسالة يعقوب 3: 5، 6).
انظروا كم هو عدد الخطايا، التي يقع فيها الإنسان لسقطات اللسان، كما يقول الكتاب "كلامك تتبرر، وبكلامك تدان" (مت37:12).
بل باللسان يتنجس الإنسان، كما يقول الرب"... بل ما يخرج من الفم، هذا ينجس الإنسان" (مت11:15).
وكما نذكر دنس اللسان، نذكر دنس العين أيضًا.
فإن كانت محبة العالم هي عداوة لله كما قال القدس يعقوب الرسول (يع4:4)... فهوذا القديس يوحنا الرسول يقول "إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب, لأن كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العين، وتعظم المعيشة" (1يو2: 16،15).
شهوة العين التي وقعت فيها أمنا حواء، لما نظرت إلى الشجرة فإذا هي "بجهة للعيون، وشهية للنظر" (تك6:3).
وما أكثر الخطايا التي تقع فيها العين.
حينما ينظر الإنسان نظرة شهوة، أو نظرة غضب أو حقد، أو نظرة جسد أو انتقام، أو نظرة كبرياء أو استهزاء بالغير، أو ينظر نظرة ماكرة، أو نظرة قاسية... وتتعدد الخطايا، وتظهر صورتها واضحة في العين.
وما أكثر الأعضاء الأخرى التي تخطئ...
اليد التي تسرع إلى الضرب، أو إلى القتل، أو إلى السرقة، أو إلى خطايا أخرى عديدة...
والقدم التي تسرع إلى أماكن الخطية...
أو ملامح الوجه، التي تظهر عليها الكبرياء، أو الغضب، أو القسوة... وكل هذه ناتجة عن نزوات الجسد أو انفعالاته أو شهواته...
لهذا كله ولغيره، تحدث الكتاب عن إخضاع الجسد.
* لعل من أهم الآيات وأخطرها في إخضاع الجسد، هو قول القديس بولس الرسول "بل أقمع جسدي واستعبده. حتى بعد ما كرزت لآخرين، لا أصير أنا لنفسي مرفوضًا" (1كو27:9). إنها عبارة مرعبة يقولها هذا القديس الذي صعد إلى السماء الثالثة (2كو2:12). والذي تعب أكثر من جميع الرسل (1كو10:15). لكي يرينا بهذا خطورة الجسد وأهمية إخضاعه وقمعه واستعباده...
* من الأقوال البارزة أيضًا في إخضاع الجسد، هي قول الرسول "ولكن الذين هم لمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل24:5). أي أن كل شهوة للجسد ضد السلوك بالروح، يدقون فيها مسمارًا ويصلبونها، فلا تتحرك فيهم فيما بعد.
ومن الوسائل الهامة لإخضاع الجسد، فضيلة الصوم.
سواء من جهة إخضاع الجسد بالامتناع عن الطعام، وبتحمل الجوع، أو بالامتناع عما تشتهيه من الأطعمة، كما قال دانيال النبي في صومه "لم آكل طعامًا شهيًا، ولم يدخل فمي ولا خمر" (دا3:10). وإن لم تستطيع الامتناع الكامل، فلتقلل.
وكما تمنع جسدك عن الآكل، تمنعه عن الشهوات الأخرى.
ومن وسائل إخضاع الجسد، ضبط الحواس، واللسان.
ضبط النظر، والشم واللمس. وكما قال الرب في العظة على الجبل "إن كانت عينك اليميني تعثرك فاقلعها والقها عنك. وإن كانت يديك اليميني تعثرك، فاقطعها والقها عنك" (مت5: 29، 30). على الأقل تقطع شهواتها...
من وسائل ضبط الجسد أيضًا السهر.
ونقصد به السهر في الصلاة والعبادة. كما قال الرب "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة" (مت41:26). وكما قال أحد الآباء "اغصب نفسك في صلاة الليل، وزدها مزامير"...
ومن وسائل ضبط الجسد: الزهد والنسك.
على الأقل البعد عن الترفيهات والكماليات، وعن المبالغة في الزينة العالمية، فقد ركز الرسول على "زينة الروح الوديع الهادئ، الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1بط4:3)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. المهم هو أن تتزين بالروح بالفضائل. كما يقول عنها في النشيد "معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر" (نش6:3).
وليعرف الإنسان أن الجسد ليس للمتعة والترفيه.
بل هو لتمجيد الله، كما قال الرسول "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو20:6).
الروح مثلًا تصلي، والجسد يشترك معها في الوقفة الخاشعة، وفي رفع اليدين وحفظ الحواس، وفي الركوع والسجود. نقول ذلك لأن البعض يخطئون ويظنون أن الله "إله قلوب" فقط فلا يهتمون باشتراك الجسد!! وقد يصلون وهو جلوس، وربما وهم مستلقون على الفراش!!
أو بعض الأجانب لا يخلعون أحذيتهم في دخولهم إلى الهيكل ناسين قول الكتاب "اخلع حذاءك من قدميك، لأن المكان الذي أنت واقف عليه موضع مقدس" (خر5:3). (يش15:5).
كما قال الرسول عن خدمته "في أعاب أسهار في أصوام" (2كو5:6). وأيضًا في الأتعاب أكثر. بأسفار مرارًا كثيرة. بأخطار في البرية، بأخطار في البحر. في تعب وكد، في أسهار مرارًا كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مرارًا كثيرة، في برد وعري." (2كو11: 23-27).
آباؤنا كانوا في خدمتهم وفي بذلهم كالشمعة التي تذوب لكي تضيء للآخرين. لذلك نوقد الشموع أمام أيقونات القديسين، لأن حياتهم كانت نورًا، ولأنهم بذلوا أنفسهم في خدمتهم وعبادتهم.
ولذلك فالكنيسة ترفع الشهداء فوق درجات القديسين الآخرين، لأنهم تألموا كثيرًا من أجله. وكما يقول الكتاب "إن كنا نتألم معه، فلكي نتمجد معه أيضًا" (رو17:8).
كان القديس الأنبا بولا يتعب كثيرًا بالجسد وفي جهاده الروحي، حتى ظهر له الرب وقال له "كفاك تعبًا يا حبيبي بولا "فرد القديس "وماذا يكون تعبي إلى جوار ما بذلته لأجلنا يا رب".
حتى يستريح روح الله في داخلنا، إذ يجد أجسادنا هياكل مقدسة له... وحتى بطهارة الجسد نقدم للناس الصورة الإلهية، وأيضًا نستطيع التقدم إلى الأسرار المقدسة، ونتطهر بها أيضًا...
ومن مظاهر هذه الطهارة العفة، والحشمة.
هؤلاء القديسون الذين مجدوا الله في أجسادهم، مجد الله أجسادهم كذلك.
مثال ذلك جسد العذراء الذي اصعده إلى السماء.
وكذلك البركة التي كانت تمنح لهذه الأجساد، حتى أن عظام أليشع كان لها البركة التي ميت فقام (2مل21:13).
وقد مجَّد الله أجساد القديسين حتى في حياتهم.
مثل وجه موسى النبي الذي أضاء بنور مقابلته للرب الجبل، حتى أن الشعب لم يستطع النظر إيه، فوضع على وجهه برقعًا، ليمكنهم النظر إليه (خر34: 30-35).
ومثل وجه استفانوس الشماس الذي أثناء محاكمته "شخص إليه جميع الجالسين في المجمع ورأوا وجه كأنه وجه ملاك" (أع15:6).
ومن أمثلة ذلك المناديل، والعصائب التي كانوا يأخذونها من على أجساد الرسل فتشفي الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة (أع12:19).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/righteousness/body.html
تقصير الرابط:
tak.la/4q69kky