محتويات
أخذ يوسف إلي مصر، عبدًا في بيت فوطيفار رئيس الشرطة. وهنا يقول الكتاب:
"وكان الرب مع يوسف" (تك 39: 2).
ولعلك تسأل: كيف كان الرب معه، وقد أصابه، وقد ترك الرب أخوة يوسف يفعلون به ما فعلوه حتى صار عبدًا. ونفس هذا الأمر تعجب منه جدعون، حينما قال له ملاك الرب "الرب معك يا جبار البأس.." فأجاب جدعون "أسألك يا سيدي: إذا كان الرب معنا، فكيف أصابتنا كل هذه (البلايا)؟! وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا؟! (قض 6: 12، 13). أما الإجابة علي مثل هذا التعجب، فهي:
إن الرب لم يمنع التجارب عن يوسف، إنما كان معه فيها. لم يخرجه منها، وإنما حفظه داخلها. كان الرب معه، حينما فكر أخوته في قتله. لم يمنع عنه تآمرهم، بل حفظه من القتل، فتحول إلي الإلقاء في البئر. وكان معه في البئر، فأخرجوه منها وباعوه للإسماعيليين. وكان معه إذ باعه الإسماعيليون إلي فوطيفار، لأن خيرًا كثيرًا كان ينتظره هناك... فيقول الكتاب:
"بارك الله في بيت فوطيفار، من أجل يوسف".
"وكانت بركة الرب علي كل ما كان له في البيت وفي الحقل" (تك 39: 5). وهكذا عندما دخل يوسف بيت فوطيفار، دخلت البركة بيت فوطيفار. وهذا ما اعتدنا أن نقرأه في سير القديسين. إذ كانت حياتهم بركة لغيرهم. بل كانوا هم أنفسهم بركة حيثما حلوا. كما قال اله لأبينا إبراهيم: "أباركك... وتكون بركه" (تك 12: 2). بنفس المنطق نقول إن إيليا النبي كان بركه في بيت أرمله صرفة صيدا، وملأ الخير بيتها أثناء المجاعة (1 مل 17: 15، 16). وكان أليشع النبي بركة في بيت المرأة الشونمية. وبسببه أعطاها الله ابنًا، وأقام الابن من الموت (2مل 4). ولكن كيف ولماذا كان يوسف بركة في بيت فوطيفار؟ يقول الكتاب:
"ورأي سيده أن الرب معه، وأن كل ما يصنع كان الرب ينجحه" (تك 39: 3).
إنها بركة من الله أن يجعل أولاده ناجحين في كل شيء. ويكون كل منهم حسبما ورد في المزمور الأول "وكل ما يعمله ينجح فيه" (مز 1: 3). كذلك يليق بأولاد الله أن يعرفوا ويعترفوا أن الله هو سبب نجاحهم. هو الذي ينجحهم. وليس ذكاؤهم أو قدرتهم أو خبرتهم... وماذا كانت نتيجة إنجاح الرب ليوسف. يقول الكتاب إن يوسف وجد نعمة في عيني سيده "فوكله علي كل بيته وعلي كل ما كان له" (تك 39: 4).
أي أن يوسف لم يصبح مجرد عبد، بل صار الوكيل المتسلط علي كل شيء.
إذن الله لم يمنع عنه التجربة التي جعلته عبدًا. ولكن داخل التجربة جعله سيدًا وهو عبد! أما سيده فقد "ترك كل ما كان له في يد يوسف. ولم يكن معه يعرف شيئًا إلا الخبز الذي يأكل" (تك 39: 6).. وطبعًا لم يشعر يوسف مطلقًا بذل العبودية التي يشعر بها عبيد آخرون. لأنه صار وكيلًا لا عبدًا...
إنه درس لنا: أننا لا نفكر في الوضع الذي نحن فيه، ما دام الرب معنا في هذا الوضع.
دانيال النبي أيضًا، كان أحد أسري الحرب في بابل في قصر نبوخذ نصر الملك. ولكن الله كان معه. ومع ذلك جاء الوقت الذي حدث فيه ان "نبوخذ نصر خر علي وجهه وسجد لدانيال.." (دا 12: 46). ونال دانيال كرامه بعد أن أخرجوه من جب الأسود "ونجح في ملك داريوس وفي ملك كورش الفارسي" (دا 6: 28). ونفس الوضع بالنسبة إلي نحميا الذي كان أيضًا أسير حرب وساقيًا في قصر الملك أرتحششتا. ونال نعمة في عينيه فساعده علي بناء أسوار أورشليم (نج 2). وبصورة مشابهة تقريبًا، كان يوسف عبدًا ذا كرامة في بيت فوطيفار.
ولكن وسط هذه الكرامة، حسده الشيطان، وبدأ يعمل...
نعم، عن وجدت نفسك في راحة، أحترس من حسد الشياطين، فالشيطان لم يسترح حينما وجد يوسف في راحة. وبدأ يحيك له تجربة لم يتعرض لها يوسف من قبل. كان يوسف شابًا في عنفوان شبابه. حينما ألقاه أخوته في البئر كان عمره 17 سنه تقريبًا (تك 37: 2). وعندما حدثت له التجربة في بيت فوطيفار كان العشرين أو العشرينيات من عمره "وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر" (تك 39: 6). وهنا بدا الشيطان يحيك له الشباك من جهة امرأة فوطيفار خصي فرعون (تك 39: 1).
"وحدث أن امرأة سيده رفعت عينيها إلي يوسف" (تك 39: 7).
بدأت تشتهيه وتطلب منه الخطية، وتلح في ذلك. وتكلمه يومًا فيومًا... ولم يسمح لها" (تك 39: 10). وهنا كانت نقاوة يوسف درسًا لجميع الأجيال... إن الشهوة قد تكون صعبة المقاومة في هذه السن. وحينما يسعي هو إليها، يحتاج إلي جهاد نفسه. ولكن حينما تسعي الشهوة إليه، وتلح عليه، تكون المقاومة أصعب...
أما يوسف فقد حفظ عفته وطهارته، ولم يلتمس لنفسه الأعذار في الخطأ...
وما أكثر الأعذار: المرأة هي سيدته ولها سلطان عليه، ويمكن أن تسبب له مشاكل وأضرارًا إذا رفضها وشعرت أن كرامتها قد أهينت. ومع ذلك فقد رفض، ولكنها ألحت عليه يومًا فيومًا. فأعتذر أولًا بوفائه نحو زوجها الذي هو سيده وقال لها "هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت. وكل ما له قد دفعه إلي يدي. وليسهو في هذا البيت أعظم مني. ولم يمسك عني شيئًا غيرك، لأنك امرأته. فكيف أصنع هذا الشر العظيم..؟!" (تك 39: 8، 9). ولكن المرأة لم تأبه بحق زوجها علي يوسف، ولا بحق زوجها عليها، واستمرت في إلحاحها. وهنا ارتفع يوسف إلي مستوي أعلي في الحوار، وهو حق الله. فقال:
"كيف أصنع هذا الشر العظيم، وأخطئ إلي الله" (تك 39: 9).
← وهنا يوجد قصيدة ذلك الثوب، ستجدها في هذا الرابط هنا في موقع الأنبا تكلا.
هذا هو يوسف البار الذي في طهارة قلبه وعفة جسده أرتفع فوق مستوي الخطية، وقال عبارته الخالدة: "كيف اصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلي الله؟!" (تك 39: 9).
أعتبر أن الخطية موجهة أصلًا إلي الله، وليست فقط ضد امرأة فوطيفار، ولا ضد زوجها. وهذا هو المستوي العالي في الروحيات، الذي عرفه داود بعد سقوطه، فقال للرب في مزمور التوبة "إليك وحدك أخطأت. والشر قدامك صنعت" (مز 50: 4). أما يوسف فقد كانت هذه الحقيقة أمامه قبل السقوط، فمنعته عن السقوط. فاعتبر الخطية شرًا عظيما واعتبرها موجهة إلي الله.
كان هذا الشاب البتول أكثر عفة من داود الذي كانت له ثماني زوجات!!
كانت الطهارة التي في قلبه، اقوي من الإغراء الذي عرف بضميره النقي أن الزنى شر عظيم، قبل أن يسلم الله لوحي الشريعة إلي موسى النبي، وفيها الوصية السابعة "لا تزن" (خر 20: 14). لقد نفذ الوصية قبل أن تكتب في التوراة بمئات السنين. وكان في ذلك شاهدًا علي الشريعة الطبيعية، شريعة الضمير النقي التي سبقت الشريعة المكتوبة بآلاف السنين...
لقد فضل يوسف نقاوة القلب والجسد، مهما تكون النتائج، أو نقول:
فضل أن يكون أمينًا لله، ولو ألقي في السجن!
فضل العار والسمعة الرديئة، والاتهام الظالم الذي اتهمته به امرأة فوطيفار، عن أن يخطئ إلي الله... فضل أن فقد محبة سيده، الذي يثق أن يد الله معه، وكان يعتقد أنه بركة لبيته..! من أجل أن يستمر طاهرًا، فقد مركزه، وفقد حريته... فقد الراحة والغني، وألقي في السجن...
حقًا إن البر له ثمن يدفعه الأبرار.
ولم يكن يوسف مجرد درس في الطهارة والعفة بل هو أيضًا في اتباع الموقف السليم مهما كانت النتائج صعبة. ومثله كان يوحنا المعمدان، حينما قال لهيرودس "لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك.." (مت 14: 4)، ولو كانت النتيجة قطع رأسه.
الغريب أن تلك المرأة الفاسدة، أخذت موقف المتعدي عليها!!
لما أمسكته من ثوبه، فترك ثوبه في يدها وهرب، "نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة: انظروا قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا. دخل إلي ليضطجع معي، فصرخت بصوت عظيم. وكان لما سمع أني رفعت صوتي وصرخت، أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج إلي خارج"!! ولما رجع زوجها إلي بيته، كلمته بنفس الكلام (تك 39: 13-18)!
وانطبق عليها المثل القائل "ضربني، وسبق فاشتكي"!
حاولت إغراءه فلم تستطيع. فأرادت أن تنتقم منه من جهة، وتغطي خطيتها من جهة أخري، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهكذا أضافت إلي فسادها الظلم والقسوة والكذب والرياء... وما أكثر ما تعرض بعض القديسين.
لم لمثل هذا اتهام... مثال ذلك القديس مقاريوس الكبير والقديس افرآم السرياني... حقًا إن الباطل له طرقه وحيله وقوته!!
وبدا أن الباطل قد انتصر علي الحق، من جهة فوطيفار أيضًا.
نعم، من العناصر المؤلمة في هذه المأساة: أن فوطيفار لم يفحص المر. لم يحقق لم يدقق، لم يسأل يوسف عما حدث. بل صدق كلام امرأته. ولم يذكر بركة يوسف السابقة وأمانته، وكيف أن الله كان معه. وكانت أذنا فوطيفار أكثر تأثيرًا عليه من عقله وهنا يقول الكتاب:
"فحمي غضبه... وأخذ يوسف ووضعه في بيت السجن" (تك 39: 19، 20).
إنه رئيس شرطة فرعون (تك 39: 1)، في مركز كبير يماثل وزيرًا للداخلية أو مديرًا للأمن العام له سلطان أن يلقي في السجن.." وضع يوسف في المكان الذي كان أسري الملك محبوسين فيه". ولم يدافع يوسف عن نفسه. وللمرة الثانية كان كشاة تساق للذبح، وكنعجة صامته أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (أش 53: 7).. بل ربما كان احتقار سيده له، أقسي عليه من السجن الذي يدخله! احتقاره له كشاب فاسد، خان الأمانة والثقة، وتجرأ علي امرأة سيده الذي أحسن إليه!!
ألقاه رئيس الشرطة في السجن. وتصوروا سجينًا موصي عليه من رئيس الشرطة، ومتهمًا بأنه أن يدنس شرف زوجة رئيس الشرطة!! مثل هذا كيف تكون معاملته في السجن؟! أتري كان يجول في ذهنه وقتذاك، أهذه عاقبة الطهارة والعفة؟ وأين حماية الله له؟! والعجيب أنه بعد إلقائه في السجن، يقول الكتاب:
"وكان الرب مع يوسف، وبسط إليه لطفًا" (تك 39: 21). وربما يتساءل البعض منا في عجب: أي لطف هذا يا رب، الذي تحمل فيه يوسف الاتهام الظالم، والسمعة الرديئة، والسجن، مع الطرد من وظيفته؟! وكأني بالله المحب يهمس في قلب يوسف.
لا يهم أين توجد. المهم أن أكون معك حيثما توجد.
إن دخلت السجن، فأنا فيه معك: أرعاك وأحفظك، وأبسط لك لطفًا. وكأني بيوسف الوديع يجيب: مبارك أنت يا رب. أنا بالإيمان مطمئن لرعايتك. ليس فقط داخل السجن، بل أيضًا "أن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا، لأنك أنت معي" (مز 23). إن الحرية خارج السجن، هي السجن الحقيقي، إن كنت لست معي وأنا معك، إن كنت قد أطعت تلك المرأة وبعدت عنك. أما السمعة الرديئة التي ألصقوها بي، وما يقوله بيت فوطيفار عني، فكلها أمور لا تهمني. لأن كل ما يهمني هو ما تقوله أنت يا رب عني... وفعلًا عاش يوسف في السجن في وضع ممتاز وعجيب. وربما لم يتمتع به سجين من قبل. وفي ذلك يقول الكتاب:
"ولكن الرب كان مع يوسف، وبسط إليه لطفًا. وجعل نعمه له في عيني رئيس بيت السجن. فدفع رئيس بيت السجن إلي يوسف جميع الأسري الذين في بيت السجن. وكل ما كانوا يعملون هناك، كان هو العامل. ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئًا البتة مما في يده. لن الرب كان معه. ومهما صنع كان الرب ينجحه" (تك 39: 21- 23).
وكما كان يوسف في بيت فوطيفار، هو العبد المتسلط علي كل شيء... هكذا صار في بيت السجن، هو السجين المتسلط علي كل شيء...
وكما كان فوطيفار قد ترك كل شيء في يديه، هكذا أيضًا رئيس بيت السجن قد ترك كل شيء في يديه. وكما كان في بيت فوطيفار، كل ما يعمله ينجح فيه، هكذا كان في بيت السجن كل ما يعمله ينجح فيه. والسبب في كل ذلك أن الرب كان معه. وسنري نفس الوضع حينما يلتقي بفرعون: سيترك فرعون أيضًا كل شيء في يديه. وأيضًا كل ما يعمله سينجح فيه...
لم يكن يوسف السجين الوحيد، الذي كان الرب معه في سجنه...
كان القديس بولس الرسول سجينًا، وكان يصلي ويسبح الله في سجنه. وقد نجاه الله من السجن (أع 16: 25، 26). وقد كتب كثيرًا من رسائله في السجن... وإن كان بولس الرسول قد كتب بعض. ورسائله أملاها عليه الروح القدس الناطق في الأنبياء، إذن روح الله كان معه في السجن. وكان القديس بطرس الرسول سجينًا. وكان مطمئنًا جدًا لدرجة أنه نام نومًا ثقيلًا. حتى أن الملاك الذي أنقذه، ضربه في جنبه ليوقظه (أع 12: 6، 7). وكان القديس يوحنا الرسول منفيًا في جزيرة بطمس. وكان الله معه. ورأي في منفاه عرش الله وملائكته، وكشف له الرب في المنفي أشياء كثيرة. إن أولاد الله لا يخافون السجون، لأنها لا تسجن أرواحهم. لأن أرواحهم تكون مع الله، يعزيها الله في سجنهم. حياة يوسف الصديق فيها آلام. وكانت فيها أيضًا تعزيات، وكان فيها عمل الله معه. والسجن كان هو الطريق الذي تعرف فيه يوسف علي رئيس سقاه فرعون الذي كان معه في السجن، وعن طريقه تعرف علي فرعون الذي أحبه وجعله متسلطًا علي كل أرض مصر. فكيف حدث هذا؟!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/jacob-joseph/bondage.html
تقصير الرابط:
tak.la/p4qqa9a