محتويات: (إظهار/إخفاء) |
العطاء الصلاة الصوم الخدمة معاملة المُسيئين آخر كلمة |
كلنا مطالبون بالكمال، حسبما قال السيد المسيح له المجد:
"كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت 5: 48).
على أن الكمال المطلق هو لله وحده. أما نحن فأقصى ما نصل إليه هو الكمال النسبي، نسبة لمقدراتنا، وما يمنحه الله لنا من النعمة.
وهذا الكمال، المطلوب منا هو الممكن، أي ما يمكننا عمله.
طفل صغير في بداية التعليم يدرسونه الجمع والطرح في علم الحساب. فينجح في الامتحان ويحصل على الدرجة النهائية. نقول إنه وصل إلى درجة الكمال في الرياضة (الحساب) طبقًا لمستواه، على الرغم من أن مستواه يعتبر لا شيء إذا ما قورن بالمستويات العليا في الرياضيات. ولكنه حصل على الكمال النسبي.
وفي هذا الكمال النسبي، أذكر قول القديس بولس الرسول:
"إن كان ممكنًا، فحسب طاقتكم، سالموا جميع الناس " (رو 12: 18).
هنا الرسول لا يطلب الكمال المطلق، إنما الممكن. فيقول "إن كان ممكنًا " ويقول أيضًا "حسب طاقتكم "...
المفروض أن نعيش في سلام مع جميع الناس. ولكن يحدث أحيانًا أن زوجة لا تستطيع إطلاقًا أن تعيش في سلام مع حماتها، إن كانتا في بيت واحد. فبدلًا من أن يتكرر الشجار كل يوم، من الأفضل أن ينفصلا: كلًا منهما في بيت. كما قال ابرآم أبو الآباء للوط ابن أخيه "لا تكن مخاصمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك...اعتزل عني إن ذهبت شمالًا، فأنا يمينًا، وإن يمينًا، فأنا شمالًا" (تك 13: 8-9).
![]() |
لذلك فإن ربنا يسوع المسيح كان يلوم الكتبة والفريسيين قائلًا:
"إنهم يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل، ويضعونها على أكتاف الناس. وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم" (مت 23: 4).
ومن أجل أنهم طالبوا الناس بغير الممكن، قال لهم "إنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس. فلا تدخلون أنتم، ولا تدعون الداخلين يدخلون" (مت 23: 13).
هذا الأمر يلزم لكل المرشدين الروحيين، وكل الوعاظ والمعلمين: أن لا يطالبوا الناس بما هو فوق طاقتهم، من جهة الوصايا والتعليم. كما نقول أيضًا للآباء والأمهات ومن يعملون في مجال التربية.
اعطوهم إذن الممكن الذي يقدرون عليه...
والسيد الرب قال مرة لتلاميذه "إن لي أمورًا كثيره لأقول لكم...ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن" (يو 16: 12).
وفي التجارب يقول القديس بولس الرسول:
"الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون".
بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كو 10: 13).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
في مثل الوزنات "أعطى كل واحد على قدر طاقته" (مت 25: 15)...
ليس تمييزًا أعطى الواحد خمس وزنات، والآخر وزنتين، والثالث وزنة. وإنما كل واحد على قدر طاقته". وفي الربح كان كذلك أيضًا. وأخذ صاحب الوزنتين نفس البركة التي أخذها صاحب الخمس وزنات " نعمًا أيها العبد الصالح والأمين. كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير.ادخل إلى فرح سيدك " (مت 25: 21، 23). ولو أن صاحب الوزنة الواحدة كان قد تاجر وربح وزنة، لأخذ نفس البركة...!
الله إذن يحاسب كل واحد حسب الطاقات التي عنده.
وهناك نفس البركة للكل، إذا اتوا بنتيجة حسب إمكانياتهم.
نفس الوضع نقرأ عنه في مثل الزارع (مت 13: 3-9، 23)
لقد قال الرب عن الذي زرع في أرض جيدة إنه "يأتي بثمر: البعض مائة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين". الكل اعتبر أنه يصنع ثمرًا جيدًا، حتى الذي أتى بثلاثين فقط! كل من الثلاثة حسب طاقته كل واحد وصل إلى الكمال الممكن، حسب طبيعة الأرض، وحسب السماد والري، وطبيعة البذرة، وعناية الزارع.
إن الله في محاسبته للناس، يضع أمامه بلا شك اختلاف المستويات والإمكانيات:
كل واحد له مستوى معين. وهو يجاهد حسب هذا المستوى.
ولذلك نقرأ عبارة لطيفة كتبها مار اسحق فقال "لمعرفة الله باختلاف النفسيات عند الناس، لذلك أوجد طرقًا عديدة للخلاص. حتى أن الذي لا يستطيع أن يسلك في طريق معين، يسلك في طريق آخر...".
ماراسحق كان راهبًا يمثل حياة الوحدة الصارمة جدًا. ومع ذلك لم يطالب الكل بنفس مستواه في الوحدة التي يحياها ويعلم بها. بل وضع درجات: الراهب الذي في المجمع، الراهب المبتدئ في الوحدة، والذي يحفظ حبس الأسابيع، ثم المتوحد...على درجات...".
ليس كل راهب يستطيع أن يعيش في مغارة. وليس ساكن المغارة يستطيع أن يحيا في طقس السياحة. إنما كل واحد حسب طاقته. وهناك من يعيش في مجمع الرهبان راهبًا صالحًا، مثلما كان يعيش القديس تادرس تلميذ الأنبا باخوميوس الكبير...
وكل من هؤلاء يصل إلى الكمال الممكن...
وهناك مَن لا يدخل في حياة الرهبنة، ويتزوج وينجب أبناء، ويصل إلى درجة الكمال النسبي والممكن.
هكذا عاش آباؤنا الكبار: نوح، وأيوب، وإبراهيم وإسحق ويعقوب. وكان بين الأنبياء موسى المتزوج، وإيليا البتول. وكان بين الرسل بطرس المتزوج، ويوحنا البتول.
وبين المشهورين بالعطف على الفقراء: كان الأنبا ابرآم أسقف الفيوم، وأيضًا إبراهيم الجوهري العلماني صاحب وظيفة في الدولة.
كل واحد -حسب طاقته، وحسب ظروفه، وحسب دعوته- عاش في حياة الكمال الممكن، بحياة روحية صالحة مقبولة أمام الله.
وهناك مَن يتزوج وتموت زوجته، فيترمل، ثم يتزوج للمرة الثانية (بعد ترمله) وتكون حياته مقبولة أمام الله، ويصل أيضًا إلى الكمال النسبي. وأمثلة ذلك كثيرة عند بعض الأنبياء أيضًا مثل إبراهيم أبي الآباء (تك 25:1).
إن الله ينظر إلى إمكانيات كل شخص، وليس إلى إمكانيات غيره. والناس يتنوعون في مستوياتهم، حتى الروحية منها:
فهناك مثلًا الشخص المبتدئ، وهو غير المختبر الناضج، وكلاهما غير الإنسان الروحي صاحب المواهب التي منحه الله إياها.
والناس يختلفون أيضًا من جهة السن: فما يستطيعه الشاب، غير ما يقدر عليه الشيخ، غير ما يستطيعه الطفل.
كذلك ما يستطيعه المريض، غير ما يستطيعه القوي في صحته.
أيضًا الذي نال نعمة خاصة من الله، غير الإنسان العادي.
والكمال الممكن لكل هذه النوعيات من الناس يختلف من واحد إلى آخر "كل واحد على قدر طاقته" (مت 25: 15).
نجد أيضًا أن مستوى الوصايا في العهد القديم، غير مستواها في العهد الجديد...حسب طاقات الناس في القدرة على التنفيذ.
فالله هو هو، ومقاييس الكمال عنده هي هي...
ولكن مستوى شعب يعيش في جو تنتشر فيه الوثنية وتعدد الآلهة، غير جو العهد الجديد الذي انقرضت فيه عبادة الأصنام، بل أيضًا العهد الجديد الذي ساد فيه عمل النعمة، وسكن الروح القدس في الناس (1كو 3:16)، وأصبح يرشدهم إلى كل الحق ويعينهم.
هذا غير زمن تأخر فيه موسى النبي على الجبل مع الله، فصنع الشعب لهم عجلًا ذهبيًا وعبدوه!! (خر 32: 2-6).
لذلك فمستوى الوصايا التي أعطيت للناس في العهد القديم كانت على قدر طاقتهم...وهكذا قيل إن موسى النبي قد سمح لهم بالطلاق من أجل قساوة قلوبهم (مت 19: 8) على الرغم من أنه "من البدء لم يكن هكذا".
وداود النبي تزوج ثماني زوجات. ومع ذلك قيل عنه إن قلبه كان كاملًا مع الرب (1مل 11: 4). إنه الكمال النسبي الممكن.
لقد منعت في العهد الجديد تلك الأمور التي كان مسموحًا بها في العهد القديم، لأن الحال كله قد تغير، في ظل إمكانيات النعمة، وزوال الجو الوثني وعبادة الأصنام التي أثرت حتى على سليمان الحكيم (1مل 11: 3-4).
والآن فلنتناوَل بعض الفضائل. ونرى ما هو الكمال فيها، وما هو الممكن، مع اختلاف الدرجات:
الكمال المُطلق في العطاء هو لله وحده.
ولكن ما هو الكمال النسبي الذي للإنسان؟ وما درجاته.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
الكمال النسبي هو في قول الرب "إن أردت أن تكون كاملًا، أذهب وبع أملاكك واعط الفقراء. فيكون لك كنز في السماء. وتعال اتبعني" (مت 19:21).
وقد نفذ القديس أنطونيوس هذه الوصية في كمالها وكماله.
ولكن ليس كل أحد يقدر أن ينفذها كما فعل القديس أنطونيوس.
فلا يقل أحد "لقد ضعت بسبب عدم تنفيذ الوصية"!!
كلا، إن الله يطالبك بالممكن، وهو أيضًا على درجات.
اعط ما تستطيعه. اعط من أعوازك، كما فعلت الأرملة التي دفعت الفلسين وامتدحها الرب (لو 21: 3-4).
فإن لم تستطع أن تعطي من أعوازك، نفذ وصية أخرى وهي "من سألك فاعطه" (مت 5: 42). أو نفذ ما قيل في العهد القديم: "لا تمنع الخير عن أهله، حين يكون في طاقة يدك أن تفعله. لا تقل لصاحبك "اذهب وعد غدًا فأعطيك، وموجود عندك" (أم 3: 27-28).
لاحظوا أن عبارة "في طاقة يدك أن تفعله" تعني (الممكن)، ومثلها عبارة "وموجود عندك". فإن لم تستطع كل هذا:
على الأقل أيضًا صل من أجل أولئك المحتاجين، مع تحويلهم إلى الهيئات الخيرّة التي تعتني بأمثالهم. وبهذا تكون قد أعطيت ولو بطريق غير مباشر. أما إن كنت لا تفعل هذا ولا ذاك: لا الكمال النسبي ولا الممكن، ولا العطاء غير المباشر، يكون ضميرك إذن مقصرًا.
الكمال هو أن "تصلي كل حين ولا تمل" (لو 18: 1).
إن لم تستطع هذا الكمال، فاتجه إلى الممكن، وهو صلاة الأجبية أي سبع صلوات في اليوم.
فإن لم يكن هذا بإمكانك، فعلى الأقل ابدأ اليوم بالصلاة، كذلك الصلاة آخر اليوم قبل النوم، مع رفع قلبك بصلاة قصيرة خاطفة، من قلبك، ولو بكلمة أو كلمتين...تطلب فيها من الله البركة أو المعونة أو المغفرة، أو تعبر بها عن عواطفك نحو الله...
صلّ بقدر إمكانك. إن لم تقدر على الوضع الكامل، فلا تهمل الممكن.
الصوم هو انقطاع عن الطعام، يعقبه أكل خال من الدسم الحيواني. والكمال في الصوم يتعلق بفترة الانقطاع والبعد عن المشهيات، كما قال دانيال النبي "لم آكل طعامًا شهيًا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر.ولم أدّهن" (دا 10: 3).
فإن لم تستطع، فإن الكنيسة -من جهة الممكن - أعطت إعفاءات - في حدود المعقول- للمرضَى والعجائز والحبالَى والمرضعات والأطفال. ولكن لا نتخذ هذا التصريح سببًا للتسيب، إن كانت الصحة تحتمل.
في إحدى المرات صام القديس الأنبا بيشوي حوالى عشرين يومًا بانقطاع شديد. ثم نظر من قلايته فرأى راهبًا شابًا مبتدئًا قد انقطع يومًا واحدًا عن الطعام وهو لا يتمالك نفسه في السير. فسأل الله عن أجر هذا الشاب المسكين؟ فقيل له " مثل أجرك تمامًا. لأنه لو أعطيت له النعمة التي أعطيت لك، لصام مثل صومك."
إذن في مقياس الكمال الممكن، علينا أن نراعي مقدار النعمة التي يحصل عليها الإنسان من الله.
الكمال في الخدمة، أن يصل الخادم إلى حياة التكريس الكامل، فتكون حياته كلها لله. ولكن ليس كل إنسان يستطيع أن يصل إلى هذا التكريس الكامل. فظروف كل إنسان العائلية والمادية تختلف عن الآخر. بل يحدث بالنسبة إلى البعض أن يعمل عملًا إضافيًا ليكمل بأجر هذا العمل احتياجات الأسرة.
إذن، ما هو "الممكن"؟
هو أن يعطي وقت فراغه لخدمة الرب. فإن لم يستطع، فعلى الأقل ساعة كل يوم. فإن لم يقدر فعلى الأقل كل من يرسله الله إلى طريقه، يقوم معه بالخدمة التي يستطيعها.
ويكون مستعدًا في قلبه أن يخدم كل أحد بقدر طاقته.
الكمال في ذلك هو قول الرب "أحبوا أعداءكم. باركوا لاعينكم، أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (مت 5: 44). فإن لم تستطع هذا، فما هو الممكن؟
هو قول الكتاب "إن جاع عدوك فاطعمه، وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه" (رو 12: 20). أي يخجل منك، ويأسره إحسانك إليه.
فإن لم تستطع أن تحول الخد الآخر لمن يلطمك (حسب وصية الرب) (مت 5: 39) فعلى الأقل احتمل اللطمة الأولى، ولا تنتقم لنفسك وترد بالمثل. وصلّ أن الله يغفر له، ويبعد شره عنك.
إن سِرت في (الممكن)، وليس في الكمال،
فلا تحول (الممكن) إلى التسيب...
لا تقصر في تنفيذ الوصية، وتغير تقصيرك بالأعذار، وبأنه لم يكن في إمكانك غير هذا كلا، بل ليكن لك ضمير صالح أمام الله وأمام نفسك، في صدق وتدقيق. لئلا تصل إلى تدليل النفس في هروبها من الوصية وفي استهتارها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/dialogue-with-god/perfection-possible.html
تقصير الرابط:
tak.la/37mpd8p