محتويات: (إظهار/إخفاء) |
بناء حكيم الإيمَان المحبَة الرجاء في الأبدية أمور أخَرى |
أود أتأمل معكم في تعليم القديس بولس الرسول عن البناء الروحي، كما ورد في رسالته الأولى إلى كورنثوس، حيث قال:
"حسب نعمة الله المعطاة لي كبنّاء حكيم، قد وضعت أساسًا، وآخر يبني عليه. ولكن فلينظر كل واحد كيف يبني عليه. فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع، الذي هو يسوع المسيح. ولكن إن كان أحد يبني على هذا الأساس ذهبًا فضة احجارًا كريمة، خشبًا عشبًا قشًا، فعمل كل واحد سيصير ظاهرًا لأن اليوم سيبينه. لأنه بنارٍ يُستعلن. وستمتحن النار عمل كل واحدٍ ما هو. إن بقى عمل أحد قد بناه عليه، فسيأخذ أجرة. إن احترق عمل أحد فسيخسر أما هو فسيخلص ولكن كما بنار" (1كو10:3-13).
فما هو الذهب والفضة والأحجار الكريمّة؟
ومَاهو القش؟ وما هي النار؟
في الترجمة الإنجليزية (New King James V.) وردت عبارة (بنّاء حكيم) هكذا: A wise master builder، أي معلم بناء حكيم. والقديس بولس كمعلم في البناء جعل السيد المسيح أساسًا لكل بناء روحي في عقيدتنا. المسيح هو الأساس في فدائه لنا، وفي كل عمل فعله لأجلنا.
ولكن ماذا نبني نحن على أساس هذه العقيدة؟
هنا يبدو الخلاف بين شخص وآخر، حسب سلوك كل منهما:
شخص يكون بناؤه من ذهب وفضة وأحجار كريمة. إذا ما اختبر بنار الضيقات والتجارب لا تفقده خلاصه، بل يكون في حالة أفضل. لأن النار لا تحرق الذهب بل تنقيه من أية شوائب.
أما إن كان بناؤه من خشب أو عشب أو قش، فسوف يحترق. القش يحترق بسرعة، والخشب يحترق في فترة أطول. والعشب يحترق مع دخان. وهكذا يضيع العمل كله وبالكاد يخلص.
فلنتأمل معًا كل هذه الأنواع من البناء، وإلى أي شيء تشير.
![]() |
نبدأ أولًا بالبناء السامي، الذي من ذهب وفضة وأحجار كريمة:
هذا الذي لا تقدر النار عليه. لا شك أن هذا البناء يشير إلى الفضائل الثلاث الكبرى التي ذكرها الرسول في (1كو13:13) أعني: الإيمان والرجاء والمحبة، تضاف إليها صفات أخرى.
لكي يكون لك بناء روحي ثابت، لا يفنى أو يحترق، ولا يتزعزع، ينبغي أن يكون لك إيمان حقيقي.
والمقصود بالإيمان ليس مجرد الإيمان العقلي، إنما الإيمان العملي.
ملايين من الناس تؤمن إيمانًا عقليًا. بل أن القديس يعقوب الرسول يقول "أنت تؤمن أن الله واحد. حسنًا تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون" (يع19:2). يقصد مجرد إيمانهم بوجود الله، بينما أفعالهم كلها شر. لذلك يقول الرسول في نفس الإصحاح أن الإيمان بدون أعمال ميت (يع17:2، 20).
والإيمان العملي على درجات أعظمها الإيمان الذي ينقل الجبال.
وعن هذا الإيمان تحدث السيد الرب في (مر23:11) وفي (مت20:17؛ 21: 32).
وتاريخ الكنيسة حدثنا كثيرًا عن الإيمان، وأبطال الإيمان.
إن كان لك إيمان عملي قوي في حياتك، فالرب يقول:
"إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شيء مستطاع للمؤمن" (مر23:9).
أي أنك بالإيمان لا يقف ضدك شيء بل يد الله تعمل معك عجبًا. ما أجمل قول الرب لمرثا- من جهة موت وإقامة أخيها لعازر- "ألم أقل لك إن آمنت، ترين مجد الله" (يو40:11).
وبولس الرسول يقول في هذا الإيمان "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في13:4)...
ومن أهمية الإيمان أن السيد المسيح كان في كثير من معجزات الشفاء التي يجريها، يسأل الشخص أولًا: هل تؤمن؟ كما فعل مع الأعميين (مت 9: 27-29). أو أنه يقول لمن شُفي "إيمانك قد شفاك" (لو48:8) (مر 10: 51-52).
وعجيب أنه قيل إن السيد الرب لم يصنع معجزات في وطنه وكان ذلك بسبب عدم إيمانهم، إذ شكوا فيه (مر3:6-5).
بعض الناس يكون عندهم شك، لذلك لا تحدث لهم معجزة. لا بُد أن الإيمان يكون أقوى من الشكوك.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
الإيمان هو الثقة بما يُرجى، والإيقان بأمور لا تُرى (عب1:11).
تثق بأن الله قادر أن يعمل، وأنه يحبك ويريد أن يعمل من أجلك. لذلك فإنك لا تضطرب ولا تخاف ولا تشك.
أيضًا تؤمن بأشياء لا تراها بعينيك "وطوبى لمن آمن دون أن يرى" (يو 20: 29)...
تؤمن أن الله يرى كل شيء تعمله، ويسمع كل ما تقوله، ويسجل كل شيء، حتى أفكار العقل ورغبات القلب، والنيات والخفيات. فإن آمنت بكل هذا إيمانًا كاملًا، تستحي أن تعلم خطية وتخاف، لأن الله يرى ويسجل.
والإيمان الحقيقي يشمل إيمانك أن الخطية موجهة إلى الله.
كما قال داود النبي للرب في المزمور الخمسين "إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت". وكما قال يوسف الصديق "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟!" (تك9:39).
ذلك كله لأن الخطية عصيان لله ومخالفة له، ورفض لعمل الروح القدس في القلب، وعدم استجابة لعمل النعمة. وأيضًا عدم استحياء من الله الذي يراك، أونسيان لله أثناء الخطية.
هنا أمور أخرى تتعلق بالإيمان من جهة المغفرة والخطية.
كأن تؤمن أن الخطية لا تغفر إلا بالفداء، وبوضعها على السيد الرب ليمحوها بدمه. فكأنك بالخطية تضع ثقلًا آخر على صليبه، أو قطرات مرّة في كأس ليشربها...
ولابد أن تؤمن أنه بدون نقاوة القلب لا يعاين أحد الرب وتؤمن بأنه فقط أنقياء القلب هم الذين يعاينون الله (مت8:5).
وتؤمن بأنك ستقف يومًا أمام منبر الله العادل لتعطي له حسابًا عن كل ما فعلته خيرًا كان أم شرًا (2كو10:5). وهذا ما تعلّمه الكنيسة لك كل يوم في صلاة النوم حيث تقول "هوذا أنا عتيد أن أقف أمام الديان العادل مرعوب ومرتعد من أجل كثرة خطاياي...". وأمامك قول الرب "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو3:13، 5).
والإيمان يشمل أيضًا أن تؤمن بكل وصاياه وتعاليمه، وتلتزم بها... هذا هو الإيمان الذي يدخل في البناء الذي هو من ذهب وفضة وأحجار كريمة.
وماذا إلى جوار الإيمان أيضًا؟ هناك المحبة وأهميتها.
لا يكفي أن تؤمن فقط بالله، بل بالأكثر أن تحبه أيضًا.
وعندما سُئل السيد المسيح عن الوصية الأولى في الناموس قال إنها المحبة: المحبة نحو الله والناس: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك" (مت36:22- 39).
من أجل هذا قال الرسول عن الوصايا الثلاث الكبرى: الإيمان والرجاء والمحبة "ولكن أعظمهن المحبة" (1كو13: 13).
وقال "المحبة لا تسقط أبدًا" (1كو8:13).
وقيل في سفر النشيد عن المحبة "مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها" (نش7:8).
عندك إيمان، هذا حسن. ولكنه يُبنَى بالمحبة، كما يقول الرسول "الإيمان العامل بالمحبة" (غلا6:5). ويقول "لو كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال وليس لي محبة فلست شيئًا" (1 كو 13: 2).
لذلك يقول الرب "يا ابني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي" (أم26:23). محبة من القلب. من ثمارها حفظ الوصايا.
ولهذا يقول الرب "من يحبني يحفظ وصاياي".
ويقول أيضًا "إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي" (يو10:15). والقديس أوغسطينوس يقول "تحب. ثم تفعل بعد ذلك ما تشاء". أي تفعل ما تشاء داخل محبة الله. وقد جعل الرسول المحبة هي الأولى في ثمار الروح (غل22:5).
والمحبة المطلوبة هي أن تحب الله أكثر من كل شيء وأكثر من كل أحد- بل أكثر من العالم كله...
من جهة العالم يقول القديس يوحنا الرسول "إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب" (1يو15:2). ويقول القديس الرسول "إن محبة العالم عداوة لله" (يع4:4).
ويقول السيد الرب "من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني. ومن أحب أبنًا أو أبنه أكثر مني فلا يستحقني" (مت37:10).
وقد أعطاك الكتاب مثلًا في أبينا إبراهيم الذي أحب الله أكثر من ابنه وحيده الذي تحبه نفسه. وقبل أن يقدمه محرقة، من فرط محبته لله وطاعته له (تك22).
فإن أردت أن تبني حياتك بناءً روحيًا، على محبة الله، أسأل نفسك في صراحة تامة: هل تحب شيئًا أو شخصًا أكثر من الله؟ هل يوجد ما ينافس الله في قلبك؟
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
أتذكر قصة في الافتقاد حدثت معنا منذ حوالي 55 سنة.
كنا خدامًا في مدارس الأحد. وذهبنا لافتقاد أحد الأخوة، الذي لم يعد يحضر إلى الكنيسة. وجلسنا معه، وظل كل واحد منا يسأله عن السبب في انقطاعه عن اجتماعات الكنيسة، ما هو؟ وكثرت أسئلتنا. ولكن خادمًا روحانيًا من بيننا قال له "لا أريد أن أتعبك بأسئلة كثيرة. إنما أريد أن أسالك سؤالًا واحدًا. هل أنت الآن تحب الله، كما كنت تحبه من قبل؟!"
وطبعًا كان هذا هو جوهر الموضوع. لأن محبته لله لو كانت كما هي، لما تغيَّب عن الكنيسة. ولهذا حسنًا قال الله لراعي كنيسة أفسس "عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى" (رؤ4:2).
إن محبة الشهداء لربنا، هي التي جعلتهم يبذلون حياتهم لأجله.
كان كل واحد منهم يحب الله، أكثر من نفسه، وأكثر من حياة الدنيا. محبة جعلته يستقبل الموت بفرح. وقد قال الرب "ليس حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو13:15).
نعم، هذه هي المحبة. لأن كثيرين يقولون إنهم يحبون الله، ولكن حينما تأتي ساعة التجربة، يظهر إن كانوا يحبون الله حقًا أم لا. "لأنه ستمتحن النار عمل كل واحد ما هو" (1كو13:3).
والنار ربما تكون الإغراءات أو الضيقات أو حروب الشياطين... ربما تكشف عندك شهوة معينة تمنعك عن محبة الله، إذ تحب هذه الشهوة أكثر من محبتك لله!!
قلنا من الذهب والفضة والأحجار الكريمة: الإيمان والمحبة هناك أيضًا الرجاء في الحياة الأبدية.
لو أنك تفكر في أبديتك، ما كنت تخطئ.
من أجل هذا، علّمتنا الكنيسة أن نضع الأبدية أمامنا كل يوم حيث نقول في صلاة النوم "لو كان العمر ثابتًا، وهذا العالم مؤبدًا، لكان لكِ يا نفسي حجة واضحة"... "لكن توبي يا نفسي ما دمتِ في الأرض ساكنة، لأن التراب في القبر لا يُسبّح...".
حقًا، إذا فكرّ الإنسان باستمرار في أبديته، وفي الوقوف أمام منبر الله العادل، لكانت تملكه المخافة فلا يخطئ...
* من الأحجار الكريمة التي تبني بها حياتك: الشركة مع الروح القدس. هذه التي ذكرها القديس بولس الرسول في (2كو14:13).
أي أنك تكون في شركة مع الروح القدس في كل عمل تعمله، وفي كل فكر يجول بذهنك، وكل رغبة تكون في قلبك. اسأل نفسك في كل هذا: هل الروح يشترك معك أم لا؟ فإن كان لا، ابتعد عن كل شيء لا يشترك الروح القدس معك فيه.
* هناك أيضًا الثبات في الله.
إن الرب يقول "اثبتوا فيّ وأنا فيكم" (يو4:15). ويقول "اثبتوا في محبتي" (يو9:15). ويشبه هذا الثبات بثبات الغصن في الكرمة، لكي يأتي بثمر...
إن الشخص الثابت في الرب، لا يتزعزع بسرعة. والرسول يقول "إذن يا إخوتي الأحباء، كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم ليس باطلًا في الرب" (1كو58:15).
* أيضًا من الأحجار الكريمة التي تبني بها روحياتك: العمق.
العمق في صلاتك، في تأملاتك، في فهمك للكتاب، أيضًا في خدمتك واهتمامك بالآخرين، وفي كل عمل روحي تعمله.
القش:
إن كان الأمر هكذا، فما هو القش الذي يحترق؟
* كمثل من القش: السطحية في الحياة الروحية التي بلا عمق. مثل عبادة بلا فهم، وتناول لمجرد العادة، واعتراف بدون توبة، تأخذ به حلًا عن القديم، لتفتح حسابًا جديدًا من نفس النوع!
* مثاله أيضًا صلاة بدون خشوع، وبدون عمق، وبدون عاطفة، مجرد سرد لكلمات، حذّر منها مار اسحق بعبارة "قل أنا ما وقفت أمام الله لكي أعدّ ألفاظًا...!"
* من أمثلة القش أيضًا: قراءة للكتاب المقدس بدون فهم ولا تأمل. أو سماع عظات بلا تنفيذ، بل مجرد حضور... أو عبادة ينطبق عليها قول الرب "هذا الشعب يعبدني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا" (إش 29: 13).
* إنها مجرد مظهرية، أو لون من التدين لكسب مديح الناس. وليس عن فضيلة ومحبة للخير... مجرد قش...
* تأتي التجربة الروحية، وتحرق كل هذا القش، ويقع الإنسان ويسقط، ويضيع كل عمله بلا فائدة.
إنها نار اختبار، تختبر عمل الإنسان، ومدى صلته بالله في كل ما يعمل. وهل فضائله ثابتة في محبة الله أم لا؟!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/dialogue-with-god/foundation-construction.html
تقصير الرابط:
tak.la/hcxp7hj