تفتتح العروس الحديث بعد كل ما سمعته من حنان عريسها فتقول: "نَزَلْتُ إِلَى جَنَّةِ الْجَوْزِ لأَنْظُرَ إِلَى خُضَرِ الْوَادِي، وَلأَنْظُرَ: هَلْ أَقْعَلَ الْكَرْمُ؟ هَلْ نَوَّرَ الرُّمَّانُ؟ فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَقَدْ جَعَلَتْنِي نَفْسِي بَيْنَ مَرْكَبَاتِ قَوْمِ شَرِيفٍ." (نش 6: 11-12). إن الوِحْدَة هنا كاملة إلى حد أن حديثها يجمع بينهما معًا، فهي لم تنزل إلى جَنَّةِ الْجَوْزِ وحدها بل نزلت بصحبته، وهذه الوحدة التامة جعلت بعض المفسرين يظنون أن العريس هو المُتَحَدِّث، وسواء أكان الحديث صادِرًا عنه أو عنها، فالمهم أن وحدتها كاملة وأن حديث كل منهما يجمع بينهما. فهي تذهب إلى جنة الجوز معه ولأجله، وكلاهما يعملان في أُلفة بهيجة. وبينما هما مُنْشَغِلان معًا، إذا بشعبهما يكتشفهما وإذ بها تقول: "فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَقَدْ جَعَلَتْنِي نَفْسِي بَيْنَ مَرْكَبَاتِ قَوْمِ شَرِيفٍ" (نش 6: 12): قومها وقومه في آنٍ واحد. وفي هذا الحال من الوِحْدَة السعيدة تهيب بها بنات أورشليم: "اِرْجِعِي، ارْجِعِي يَا شُولَمِّيثُ. ارْجِعِي، ارْجِعِي فَنَنْظُرَ إِلَيْكِ." (نش 6: 13). وبهذا النداء نَعْرِف أنهن أدركن مَنْ هي ولماذا برز عريسها بين الأحبة: فهو الملك سليمان وهي سليمانة (إذ أن شولميث هو الاسم المؤنث لسليمان).
وتسأل العروس في شيء من الدهشة: "مَاذَا تَرَوْنَ فِي شُولَمِّيثَ؟" أو بعبارة أخرى ما الذي أعجبكن في شوليث؟ ودهشتها ترجع إلى أنها لا تتصور كيف يتنبه إليها أحد في حضرة العريس: إنها هنا أشبه بموسى الذي لم يدرك مدى لمعان وجهه عند نزوله من الجبل إلا حينما أخبره الشعب بذلك. فهي غير واعية بمدى انعكاس جماله عليها. وهذا درس رائع لنا جميعًا هو أن كثيرين مِمَّن لا يستطيعون أن يروا جمال ربهم، يمكنهم أن يروا انعكاس هذا الجمال على وجوه أحبائه، وهذا ما عَبَّر عنه أحد شيوخ البرية في نصيحته لتلاميذه بقوله: "إن كنتم لا تستطيعون الالتصاق بالرب مباشرةً فالتصقوا بِمَنْ يحبه".
وَتَتَفَرَّس بنات أورشليم بإعجاب في العروس مما يجعلها تقول "كَرَقْص فِي صَفَّيْنِ" - وتشير هذه الكلمات إلى رقصة "ماهانايم"(*) dance of Mahanaim التي كانت تؤديها أَمْهَر الراقصات وأجملهن في صفين متقابلين. وكأن العروس تستنكر هذا الإعجاب الموجه إليها، اعترافًا منها بأن ما نالته من نعمة لا تستحقها إنما يرجع إلى الملك الذي اختارها.
ولا تجد بنات أورشليم صعوبة في الإجابة عليها اعترافًا منهن بأصلها فيهتفن: "مَا أَجْمَلَ رِجْلَيْكِ بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الْكَرِيمِ!" (نش 7: 1). - أو بعبارة أخرى يا بنت الأمير. ثم يسترسلن في التغني بجمالها بتعبيرات شرقية أصيلة، فكل ما فيها جميل وكامل من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. فما أبعد هذا الوصف عما كانت عليه بطبيعتها! لقد كانت "من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية..." (إشعياء 1: 6). أما الآن فقد احتذت رجلاها "باستعداد إنجيل السلام"، وحتى شعر رأسها يعلن بأنها نذيرة حقًا - ألم تأسر خصلاته قلب الملك؟
ويتداخَل العريس ذاته فيقول: "مَا أَجْمَلَكِ وَمَا أَحْلاَكِ أَيَّتُهَا الْحَبِيبَةُ بِاللَّذَّاتِ!" (نش 7: 6). إنه يرى فيها جمال النَّخْلَةِ واستقامتها، ورشاقة الكرمة وتعلقها التسلقي (نش 7: 7-8)، وشذى شجرة الليمون وخضرتها. لقد جعلتها النعمة مستقيمة مُثْمِرَة كالنخلة - والنخلة للمُسَافِر في الصحراء أهم قيمة من الخبز لِمَا يحمله البلح من قيمة غذائية. والنخل أيضًا يظل مُثْمِرًا على مدى سنوات طويلة. لهذا نسمع المرنم في المزمور ينشد: "اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو، كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو. مَغْرُوسِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ، فِي دِيَارِ إِلهِنَا يُزْهِرُونَ. أيضًا يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَامًا وَخُضْرًا" (مز 92: 12-14). لماذا جعل الروح الأبرار بهذه الاستقامة وهذا الإثمار؟ لكي يكونوا شهودًا للعالم على بِرّ الله، والنخلة أيضًا رمز للنصر فهي ترفع رأسها الجميل عاليًا نحو السماء، لا تخشى حرارة الشمس ولا الهواء الملتهب الذي يهب عليها من الصحراء. ولجمالها اُخْتِيرَت لِتُزَيِّن هيكل سليمان. وعند استقبال المخلص بوصفه ملك إسرائيل، خرجت الجموع الهاتِفَة باسمه تَحْمِل أغصان النخيل.
والعروس لا تشبه النخلة فقط، بل تشبه الكرمة أيضًا. فهي في حاجة إلى الكَرَّام وتستجيب لعمله. ولثباتها فيه الذي هو الأصل الأصيل لكل أثمار تخرج العناقيد المحملة عذوبة، المُنْعِشَة للنفس: إنها دَسِمة منعشة لربها مالِك الكرمة، وهي دسمة منعشة أيضًا للعالم التعب الظامئ الذي وضعها فيه. والكرمة تعطينا دروسًا رائعة: إنها في حاجة إلى سَنَد تتعلق به، وحينما يُقَلِّمها البستاني تزداد إثمارًا، ومتى عُصِر ثمرها أعطى خمرًا منعشًا - وهذا الخمر من خلال الصلوات القدسية يصبح الدم الكريم الواهِب الحياة الأبدية.
← انظر كتب أخرى للمؤلفة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ثم يضيف العريس تشبيهًا آخر: "رَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ" (نش 7: 8). ولقد سبقت العروس وترنمت "كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ. تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ، وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي." (نش 2: 3). هنا تتضح لنا نتيجة التواصُل: فالثمر الذي أكلته منه قد عَطَّر أنفاسها، ويختتم العريس وصفه قائلًا: "وَحَنَكُكِ كَأَجْوَدِ الْخَمْرِ. لِحَبِيبِي..". فتقاطعة العروس "السَّائِغَةُ الْمُرَقْرِقَةُ السَّائِحَةُ عَلَى شِفَاهِ النَّائِمِينَ." (نش 7: 9).
ما أعجب النعمة التي أَضْفَت على عروس السيد المسيح كل هذه السمات: مستقيمة منتصرة كالنخلة التي يتزايد ثمرها كلما تَطَاوَلَت نحو السماء. رقيقة حنونة كالكرمة، مُنْكِرَة ذاتها إلى حد أنها تُضَاعِف ثمرها تحت الألم على حبيبها، وهي جالسة تحت ظله، فَيَسْرِي إليها عِطرهُ. فما أعظم عمل النعمة فيها! وما أعظم بهجتها، إذ تجد عريسها المجيد يجد راحته فيها ويتخذ منها -وهي السوسنة البرية (نش 2: 1)- عروسًا يجملها بنعمته وبفضائله. إنها الآن كلها له: "أَنَا لِحَبِيبِي، وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ." (نش 7: 10). وما دامت هذه هي الثِّمار الحلوة الناتجة من دخولها معه جنة الجوز واهتمامها به وبجنته، فلن تحتاج إلى مُطالبتها بالاستمرار في هذه الخدمة المُبَارَكَة، بل تُبَادِر إليها بنفسها: "تَعَالَ يَا حَبِيبِي لِنَخْرُجْ إِلَى الْحَقْلِ، وَلْنَبِتْ فِي الْقُرَى." (نش 7: 11). إنها الآن لا تخجل من أصلها الوضيع ولا تخاف من ذِكره، لأن المحبة تطرد الخوف خارجًا (1 يو 4: 18). وَأُبَّهَة الملك وعظمة مكانته سَتَتَمَتَّع بهما فيما بعد. أما الآن فالحلو أن تجعل الجنة مُثمرة وهو إلى جانبها، فتعطيه كل أنواع الفواكه النفيسة: القديمة والجديدة التي ادَّخَرَتهَا له، والأحلى من هذا كله أن ترضيه بحبها إياه. بل أنها الآن لا تكفيها أُلفة الخدمة، ولكنها تشتاق إلى حالة لا تستلزِم أية خدمات وأية إكرامات تسترعى انتباهه، فتنتقِص من بهجة شعورها بحضرته: "لَيْتَكَ كَأَخٍ لِي الرَّاضِعِ ثَدْيَيْ أُمِّي، فَأَجِدَكَ فِي الْخَارِجِ وَأُقَبِّلَكَ وَلاَ يُخْزُونَنِي." (نش 8: 1). إنها تَتَلَهَّف على العناية به والاستحواذ على كل انتباهه كما تعتني الأخت بأخيها. فهي على وعي عميق بِغِنَى مواهبه لها وأنها لا شيء بالنسبة له. وبدلًا من أن تَتَفَاخَر في زهو بما فعلته من خلاله، تشتهي لو أنه كان ممكنًا أن تعطيه بَدَلًا من أن تأخذ منه فقط. فالتكريس الحقيقي يطلب بالأولى أن يعطي، ويحسب كل شيء نفاية مقابل خدمة الله (في 3: 8). على أن هذا التلهف إلى خدمته لا يعميها عن الوعي بحاجتها إليه لإرشادها، وأنه هو وحده المُعلم والموجه لها: "وَأَقُودُكَ وَأَدْخُلُ بِكَ بَيْتَ أُمِّي، وَهِيَ تُعَلِّمُنِي، فَأَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ سُلاَفِ رُمَّانِي." (نش 8: 2). نعم. كم أشتاق أن أعطيك خير ما عندي، فأنا لا أطلب راحتي إلا تحت ظلك. "شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي، وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي." (نش 8: 3) - وليس هناك ما هو أقدس من هذا التواصل المنطلق بين العريس وعروسه معًا.
_____
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/song-of-songs/fruits-connected.html
تقصير الرابط:
tak.la/n3g7fn6