لسنا نعرف ما الذي حدث حتى نسيت العروس فرحتها إلى حد أنها صَمَّت أذنيها عن حديث عريسها. قد يرجع السبب إلى الغرور الروحي الذي ملأها لكل ما نالته من نعمة، أو أنها اكتفت بالبركات التي حصلت عليها بدلًا من التطلع إلى مُعطيها. ويبدو من حديثها هنا أنها فقدت الوعي بتراجعها، لأنها عادت تركز انتباهها على نفسها إلى حد أنها لم تَلْحَظ غياب عريسها، لقد كانت مستريحة وحدها فلم تسأل أين ذهب ولا فيما انشغل، وفوق ذلك فقد كان باب مخدعها مُغْلَقًا بالترباس. ورغم هذا كله لم يكن قلبها بعيدًا عنه. لقد كانت في صوته نغمة عذبة ترددت أصداؤها داخل نفسها. فهي ما زالت "جَنَّةٌ مُغْلَقَةٌ، وَيَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ" (نش 4: 12) له، ولكن المصيدة هذه المرة أكثر خطرًا وأشد وَسْوَسَة. فلنتمعن في حديثها: "أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ. صَوْتُ حَبِيبِي قَارِعًا: «اِفْتَحِي لِي يَا أُخْتِي، يَا حَبِيبَتِي، يَا حَمَامَتِي، يَا كَامِلَتِي! لأَنَّ رَأْسِي امْتَلأَ مِنَ الطَّلِّ، وَقُصَصِي مِنْ نُدَى اللَّيْلِ»." (نش 5: 2). كم من مرة يقف العريس مَوقِف الخاطِب القارِع الباب كما يصفه يوحنا الرائي: "ها أنذا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي" (رؤ 3: 20). حقًا إنه من المؤلم أن يقف خارِج باب مُغْلَق وأن يضطر إلى القَّرْع. والأشد ألمًا أن يقرع ويظل يقرع عبثًا على باب أي قلب سبق أن وُهب له، والمؤلم هنا حالة العروس: حالة الاكتفاء الذاتي والرغبة في الاسترخاء مع أن كلماته مليئة بالحنان: "اِفْتَحِي لِي يَا أُخْتِي، يَا حَبِيبَتِي، يَا كَامِلَتِي". لقد منحها المواهب العديدة. وغسلها ونقاها وجددها.. وهو الآن يلح عليها أن تفتح له، ولماذا امتلأ رأسه من الطَّلِّ؟ لأنه الرَّاعِي الصَّالِحُ (يو 10: 1) الذي يذهب وراء الضالين فوق الجِبَال المُظْلِمَة: بعضهم لم يسمع صوته مطلقًا، والبعض الآخر كان آمِنًا في الحظيرة ثم ضَلّ: وقلبه الذي لا يمكن أن يُنسى، وحبه الذي لا يمكن أن يخبو بدفعانه إلى طلب الضالين أينما ذهبوا. فهل تتركه يذهب وراءهم بمفرده؟ ألم تكن إلى جانبه؟ ألم تواجه بفرح وشجاعة خُدُورِ الأُسُودِ وَجِبَالِ النُّمُورِ (نش 4: 8)؟ فماذا جرى؟ لأن كلماته المليئة بالحنان لم تجد غير إجابة مُحْزِنَة: "قَدْ خَلَعْتُ ثَوْبِي، فَكَيْفَ أَلْبَسُهُ؟ قَدْ غَسَلْتُ رِجْلَيَّ، فَكَيْفَ أُوَسِّخُهُمَا؟" (نش 5: 3).
وَكَمْ هو مُحْزِن أن نزهو بالاجتماعات والمؤتمرات، ونتلذذ بما يقدمون لنا فيها من أطايب، فنحس بأننا غير مستعدين لمغادرتها كي نقوم بالمجهود الموضوع علينا طلبًا للضالين! وكم هو مُوجِع أن نستكين إلى ما نحسه من راحة في الإيمان، ونتناسى أنه علينا أن نجاهد الجهاد الحسن في سبيل هذا الإيمان. ونزهو بالنقاء الذي نلناه بسبب الإيمان، غير مبالين بالغارقين في الأوحال. ألا تعوزنا المحبة إن نحن خلعنا ثيابنا وغسلنا أرجلنا، في الوقت الذي يريدنا فيه أن نخرج معه إلى الطرق والشعاب؟ ألا تعوزنا البسالة إن نحن تَزَيَّنَّا بالصليب الذهب ونسينا حَمْل الصليب الخشب؟
وإذا لم يجد من عروسه استجابة فورية "مَدَّ يَدَهُ مِنَ الْكَوَّةِ، فَأَنَّتْ عَلَيْهِ أَحْشَائِي." (نش 5: 4). ولكن يا للأسف! لقد كان الباب مُغْلَقًا بمترسة، وعلى ذلك اضطرت إلى التحرك: "قُمْتُ لأَفْتَحَ لِحَبِيبِي وَيَدَايَ تَقْطُرَانِ مُرًّا، وَأَصَابِعِي مُرٌّ قَاطِرٌ عَلَى مَقْبَضِ الْقُفْلِ. فَتَحْتُ لِحَبِيبِي، لكِنَّ حَبِيبِي تَحَوَّلَ وَعَبَرَ. نَفْسِي خَرَجَتْ عِنْدَمَا أَدْبَرَ" (نش 5: 5-6).
ويبدو من حديثها أنها -حين قامت- انشغلت أولًا بِدَهْن نفسها بالمر السائل، بدلًا من أن تُسَارِع إلى الترحيب بربها المنتظر خارجًا. انتبهت بالحري إلى تزيين نفسها قبل الاستجابة له. فاضطرت مرة أخرى إلى الخروج بمفردها للبحث عنه. وكانت اختبارًاتها هذه المرة مليئة بالألم: "طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ. دَعَوْتُهُ فَمَا أَجَابَنِي. وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ. ضَرَبُونِي. جَرَحُونِي. حَفَظَةُ الأَسْوَارِ رَفَعُوا إِزَارِي عَنِّي." (نش 5: 6-7): لقد كانت غفلتها الأولى عن عدم خبرة. ولو أن سقطتها الثانية نَتَجَت عن سهوها، لكان على الأقل أن تَنْتَبِه لنداء عريسها وَتُسَارِع إلى طاعته. فاعتياد التباطؤ في الطاعة ليس بالأمر الهَيِّن خصوصًا بالنسبة للمؤمن، ولقد حذر الله منه: "ارجعوا عند توبیخي. ها أنذا أفيض لكم روحي. أعلمكم كلماتي، لأني دعوت فأبيتم. ومددت يدي وليس من يبالي بل رفضتم كل مشورتي. فأنا أيضًا أضحك عند بليتكم.. حينئذ يدعونني فلا أستجيب. يبكرون إليَّ فلا يجدونني.." (أمثال 1: 23-25).
← انظر كتب أخرى للمؤلفة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
على أن سقطة العروس لم تكن نِهائية رغم كونها موجعة لأنها ثَابَت لفورها. فخرجت في الظلام تبحث عن عريسها. وَنَادَت عليه فلم يجبها. وحين رآها الحراس ضربوها وجرحوها، ويظهر أنهم قيَّموا خطأها أكثر من تقييمها له. وهذا من غير شك موقف البعض منا، إذ يحدث أن مؤمنًا يعمَى عن ضعفاته بينما يراها الآخرون. وكلما عَلَت مكانتنا بإزاء سیدنا، تَزَاید توبيخنا لأي فشل - وإذ وجدت العروس نفسها مجروحة مُهانة فاشِلَة قريبة من اليأس استنجدت ببنات أورشليم. فروت لهن قصة أحزانها، واستحلفتهن أن يبلغن حبيبها أنها لم تَخُن عهده ولا تناسَت حبه: "أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ إِنْ وَجَدْتُنَّ حَبِيبِي أَنْ تُخْبِرْنَهُ بِأَنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا." (نش 5: 8). وَيَتَّضِح من إجابتهن أنهن لم يتعرفن على عروس الملك المحزونة القلب السائرة في الظلام ولو أنهن التففن إلى جمالها: "مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ! مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ حَتَّى تُحَلِّفِينَا هكَذَا!" (نش 5: 9). وهذا السؤال الدال على أن حبيبها لا يزيد على غيره يستثير عمق أعماقها إلى حد يجعلها تنسى نفسها، لِتَنْسَاب من قلبها الصفات الأخَّاذة من المجد والجمال التي لعريسها فتهتف: "حَبِيبِي أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ. مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ. رَأْسُهُ ذَهَبٌ إِبْرِيزٌ. قُصَصُهُ مُسْتَرْسِلَةٌ حَالِكَةٌ كَالْغُرَابِ. عَيْنَاهُ كَالْحَمَامِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ، مَغْسُولَتَانِ بِاللَّبَنِ، جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا. خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ الطِّيبِ وَأَتْلاَمِ رَيَاحِينَ ذَكِيَّةٍ. شَفَتَاهُ سُوْسَنٌ تَقْطُرَانِ مُرًّا مَائِعًا. يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، مُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ. بَطْنُهُ عَاجٌ أَبْيَضُ مُغَلَّفٌ بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ. سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ، مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ. طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ. حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ. هذَا حَبِيبِي، وَهذَا خَلِيلِي، يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ." (نش 5: 10-16).
ومن الشيق هنا أن نقارن بين هذا الوصف وبين ما قاله دانيال النبي عن "قديم الأيام" (دا 7: 9-10)، ويوحنا اللاهوتي في رؤياه (رؤ 1: 13-16)، لنرى كيف يقدم كل ما يراه من السمات المميزة لرب المجد، فيزداد وعينا بأن الصلة التي تربط بيننا وبينه صِلَة شخصية باطنية. فدانیال نَبَّأنا بأن قديم الأيام جالس على عرش الدينونة. لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي. وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة. نهر نار جری وخرج قدامه... سلطانه سلطان أبدي...، أما في سفر الرؤيا فنرى ابن الإنسان مُتَسَرْبِلًا بثوبٍ إلى الرجلين ورأسه وشعره أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج وعيناه كلهيب نار، ولكن العروس ترى عريسها في عنفوان الشباب "وَقُصَصُهُ مُسْتَرْسِلَةٌ حَالِكَةٌ كَالْغُرَابِ". وعينا الفادي القائِم من الموت كلهيب نار، بينما تصفهما العروس كحمامتين على مجاري المياه. ويخبرنا الرائي بأن صوته كصوت مياه كثيرة. ويخرج من فمه سیف ماضٍ ذو حدين، في حين أنها ترى شفتيه كالسوسن تَقْطُران مُرًّا مائِعًا وحلقه حلاوة. ويصور لنا يوحنا وجه الفادي كالشمس وهي تضيء في قوتها. ولبهاء طلعته سقط يوحنا على الأرض. أما العروس فَتَتَغَنَّى به بوصفه "طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ". فَالأَسَدُ الخارِج مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا (رؤ 5: 5) هو في نظر عروسه المُختارة ملك فتترنم بآيات جماله(2) بانطلاقة قلبية إلى حد يَسْتَثير بنات أورشليم إلى البحث عنه معها ليتأملن جماله هم أيضًا، فيسألنها: "أَيْنَ ذَهَبَ حَبِيبُكِ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ؟ أَيْنَ تَوَجَّهَ حَبِيبُكِ فَنَطْلُبَهُ مَعَكِ؟" (نش 6: 1). فتجيبهن على الفور "حَبِيبِي نَزَلَ إِلَى جَنَّتِهِ، إِلَى خَمَائِلِ الطِّيبِ، لِيَرْعَى فِي الْجَنَّاتِ، وَيَجْمَعَ السَّوْسَنَ. أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِي. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ." (نش 6: 2-3). فبالرغم من عُزْلَتها وتوجعها تعرف تمامًا أنها محور حبه، وتعلن أنها له وأنه لها. وقد تَغَنَّت من قبل بالحب الذي يجمعها بحبيبها، ولكنها في المرة الأولى تركز انتباهها أولًا على كونه لها. أما هنا فتفكيرها فيما له من حق عليها أولًا، وسنری نموًا أعلى للنعمة فيها حين تنسى نفسها تمامًا فتؤكد "أَنَا لِحَبِيبِي، وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ." (نش 7: 10) وهنا يَتَمَلَّكنَا العجب إذ ما كادَت تَتَرَنَّم به وتعلن جهرًا أنها له، حتى ظهر العريس نفسه. والأعجب أنه لم يؤنبها بكلمة، بل عاد يردد كلمات الحنان والمحبة ويمتدحها لبنات أورشليم:
"أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي كَتِرْصَةَ (مدينة جميلة من السامرة)، حَسَنَةٌ كَأُورُشَلِيمَ، مُرْهِبَةٌ -أو بالحري ساطعة- كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ. حَوِّلِي عَنِّي عَيْنَيْكِ فَإِنَّهُمَا قَدْ غَلَبَتَانِي.." (نش 6: 4-5). وَيَسْتَرْسِل في التغني بها إلى أن يوجه حديثه إلى بنات أورشليم فيقول لهن: "هُنَّ سِتُّونَ مَلِكَةً وَثَمَانُونَ سُرِّيَّةً وَعَذَارَى بِلاَ عَدَدٍ. وَاحِدَةٌ هِيَ حَمَامَتِي كَامِلَتِي. الْوَحِيدَةُ لأُمِّهَا هِيَ. عَقِيلَةُ وَالِدَتِهَا هِيَ. رَأَتْهَا الْبَنَاتُ فَطَوَّبْنَهَا. الْمَلِكَاتُ وَالسَّرَارِيُّ فَمَدَحْنَهَا. مَنْ هِيَ الْمُشْرِفَةُ مِثْلَ الصَّبَاحِ، جَمِيلَةٌ كَالْقَمَرِ، طَاهِرَةٌ كَالشَّمْسِ، مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ؟" (نش 6: 8-10).
وهكذا نرى العروس وقد استعادَت مكانتها وأعلن العريس أنها مُختارة قلبه وزميلته وصديقته، ولا أحد سواها يُشاركها قلبه وحبه. أما هي فقد علمتها الآلام التي جازَتها قيمة التواصل والوحدة مع عريسها.
_____
(2) ولقد قال عنه إشعياء: "أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالًا مِنْ بَنِي الْبَشَرِ" (مز 45: 2) - وهذه الأوصاف من مُخْتَلَف رجال الله تؤكد لنا وِحدة الروح الذي ألهمهم جميعًا، وبالتالي تؤكد الترابط الوثيق بين الأسفار الإلهية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/song-of-songs/rebreaking-communication.html
تقصير الرابط:
tak.la/kmcmg9n