لقد عرفنا في بداية هذا النشيد الرائع أن تَلَهُّفات العروس لم يمكن إشباعها إلا بتسليمها غير المشروط لعريس نفسها، وحين رَضِيَت بالتسليم لم تجد صليبًا كانت تخشى ثقله، بل وجدت ملك المحبة الذي أرضَى أعماق تطلعاتها ووجد فيها راحته في آن واحد، على أن العالم أوقعها في حبائله، وبالتالي تَبَاعَد عنها حبيبها. فعزمت بقلب ثابت على الخروج للبحث عنه، واعترفت باسمه، فنجحت في أن تجده وعاد التواصل بينهما. وظل تواصلهما منقطعًا فترة. وبالتصاقها بالسيد المسيح شاركته الأمان والمجد، وهي تثير انتباه بنات أورشلیم نحوه شخصيًّا. وبانشغالها الكلي فيه، وبرغبتها في انشغال الآخرين به، تكتشف أن عريسها الملكي يَجِد بهجته فيها ويدعوها إلى الخدمة معه بلا خوف من خُدُورِ الأُسُودِ وَجِبَالِ النُّمُورِ (نش 4: 8).
على أنها -رغم ما بلغته- تسقط مرة أخرى، وسقوطها لا يرجع إلى غرور العالم، بل بالحري إلى التراخي الروحي. فكانت استعادة التواصل في المرة الثانية أكثر مَشَقَّة. ولكن بما أنها عَاوَدَت البحث عن عريسها باهتمام بالغ، واعترفت به بصورة دفعت الآخرين إلى الرغبة في البحث عنه معها، كشف لها عن ذاته وأعاد التواصل بنفسه - فأصبح التواصل هذه المرة منطلقًا بلا عائِق. ونتيجة لذلك رأينا الرضى والفرح المتبادلين بين العريس وعروسه، كما رأينا إدراك بنات أورشلیم لمكانة العروس وجمالها. ثم في الجزء الأخير من هذه الأنشودة العظمی نرى العروس متكئة على حبيبها، ضارعة إليه أن يربطها إلى ذاته بأكثر وثوق ومنشغلة تمامًا بكرمه. وَتَفْتَتِح بنات أورشليم هذا الجزء بسؤالين: "مَنْ هذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا؟" (نش 8: 5). وطريقة السؤال تشير إلى أن العروس هي التي تستثير انتباههن إلى العريس: فوحدتهما وتواصلهما أصبحا واضحين.. والبرية هنا ليست مُخيفة، لأن حضرة العريس تملأوها عزاء. والعروس لا تحس بوحشية البرية لأنها مُستندة على حبيبها بكل ثقة المحبة. إنه قوتها وعزتها وبهجتها وجائزتها، وهي كنزه الخاص ومركز حنانه، فكل إمكانيات حكمته وسلطانه لها. ومع كونها في سَفَر فهي مرتاحة. ومع كونها في برية، فهي مبتهجة طالما هي مستندة عليه.
ومع ما في استعلانات النعمة والمحبة من عجب للقلب المُسْتَرْشِد بالروح القدس خلال صِلَة العريس بالعروس، فالسيد المسيح الابن الوحيد هو أكثر من عريس لشعبه. فذاك الذي قال "قَبْلَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يو 8: 58) يطلب حقه على العروس منذ ولادتها وليس عند خطبتها فقط. فقبل أن تعرفه كان يعرفها. وهو يُذَكِّرها بهذه الحقيقة فيقول: "شَجَرَةِ التُّفَّاحِ شَوَّقْتُكَ، هُنَاكَ خَطَبَتْ لَكَ أُمُّكَ، هُنَاكَ خَطَبَتْ لَكَ وَالِدَتُكَ" (نش 8: 5). وهو يبتهج بجمالها، ولكن هذا الجمال ليس السبب بقدر ما هو الأثر لمحبته، فهو قد رفعها حين لم تكن لها مسحة من الجمال. والحب الذي رفعها وَجَمَّلها ووجد مَسَرَّتَهُ فيها حب ليس فيه ظِلُّ دَوَرَانٍ (يع 1: 17). والعروس تَعْتَرِف بهذه الحقيقة بكل فرح، فتهتف:
"اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ، كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ. لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ(3). الْغَيْرَةُ (أو بالحري الحب الملتهب) قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ. لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ." (نش 8: 6). لقد كان رئيس الكهنة في العهد القديم يحمل أسماء الأسباط الاثني عشر على قلبه، وكان كل اسم محفور كخاتم في الحجر النفيس الدائم المُختار من الله، كما أن كل خاتم كان موضوعًا داخل إطار من الذهب الخالص. كذلك كان رئيس الكهنة يحمل الأسماء عينها على كتفيه إشارةً إلى أن محبة رئيس الكهنة وقوته عربونان لصالح أسباط بني إسرائيل. والعروس مشتاقة إلى أن يحملها -على نفس النمط- ذاك الذي هو نبيها ورئيس كهنتها وملكها، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ. وليس شوقها ناتجًا عن شكوكها، ولكنها عرفت (مع الأسف) عدم ثبات قلبها. فهي تريد أن تربط إلى قلب حبيبها وساعدِه بإطارات من الذهب الذي هو علامة اللاهوت. لهذا سبق المرنم فقال في المزمور: "أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِوُثُقٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ" (مز 118: 27). وأنه من السهولة بمكان أن يضع الإنسان الذبيحة على المذبح الذي يقدسها، ولكن الضغط الإلهي مطلوب: أي وثق المحبة للاحتفاظ بها على المذبح. والعروس منا تريد أن توضع وَتَتَرَسَّخ على القلب والذراع اللذين لذاك الذي أصبح من الآن فَصَاعِدًا كل شيء لها، لا تثق فيما بعد إلا في محبته ولا تتغذى إلا بقوته.
ألسنا جميعًا في حاجة إلى أن نَتَعَلَّم الدرس من هذا الموقف؟ وأن نصلي كي لا نتكل على ذراع بشر، ولا نَرْتَكِن على الخيل والمركبات؟ فَحِصْننَا هو الرب. والعروس تستمر في تطلعها، فتعلن أن لهيب المحبة لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ. وهذه هي المرة الوحيدة التي ترد فيها كلمة "الرَّبِّ" في هذا السفر. ولكن كيف يمكن عدم وضعها هنا؟ فالمحبة من الله والله محبة.
ويستجيب العريس لتلهفها فيجيبها قائلًا: "مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ، وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا. إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ، تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا." (نش 8: 7). فالمحبة التي ولدتها النعمة في قلب العروس، هي بالذات إلهية ثابتة، لن تستطيع المياه أن تطفئها ولا السيول أن تغمرها. فالآلام والأوجاع والأحزان قد تكون اختبارًات قاسية تُمَحِّص هذه المحبة، ولكنها لن تطفئها. لأن مصدرها ليس إنسانيًا ولا طبيعيًّا: إنها كالحياة "مختبئة مع المسيح في الله" و"من سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف... ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا..." (رومية 8: 35-37). ومحبتنا راسخة بمحبة الله لنا. والنفس التي أنقذتها النعمة فعلًا، وعرفت بالاختبار مدى هذا الإنقاذ، لا تترك محبة الله لأي سبب مهما كان.
← انظر كتب أخرى للمؤلفة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وإذ تَحَرَّرَت العروس السعيدة من قلقها على نفسها، تطلب الإرشاد والأُلْفَة في الخدمة مع ربها بخصوص أولئك الذين لم يصلوا بعد إلى مرتبتها فتسأل: "لَنَا أُخْتٌ صَغِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا ثَدْيَانِ. فَمَاذَا نَصْنَعُ لأُخْتِنَا فِي يَوْمٍ تُخْطَبُ؟" (نش 8: 8). وما أجمل وعيها بالوِحدة مع عريسها البادية في تعبيرها "لَنَا أُخْتٌ" وليس "لِي أُخْتٌ". إنها الآن لم تَعُد لها أية صِلات خاصة ولا أية اشتياقات ذاتية: إنها واحد معه. ونرى النعمة واضحة في هذا السؤال: فقد أدركت أن العريس هو مُدَرِّبها، فلا تعمل شيئًا بمفردها لأختها الصغيرة، بل تطلب مشورته وترغب في تشاركه.
كم مِنْ القلق والاضطراب يمكن لأولاد الله تفاديهما إن هم اتخذوا نفس الموقف! فكثيرًا ما نُرَتِّب أحسن الخطط وننفذها بأحسن ما نراه، ونحن نحس طول الوقت بثقل المسئولية المُلْقَاة علينا فنطلب معونة الله، ولو أننا جعلناه دائمًا مُدَرِّبنا وَمُرشدنا في الخدمة من البداية، وتركنا المسئولية في يديه فلن يرهقنا القلق والاضطراب.
والأخت الصغيرة هنا رمز إلى المؤمنين الذين لم ينضجوا بعد في السيد المسيح. وإجابة العريس كلها تطمين وقوة: "إِنْ تَكُنْ سُورًا فَنَبْنِي عَلَيْهَا بُرْجَ فِضَّةٍ. وَإِنْ تَكُنْ بَابًا فَنَحْصُرُهَا بِأَلْوَاحِ أَرْزٍ." (نش 8: 9). إنه هو أيضًا يتحدث بصيغة الجمع: فهو لن ينفذ أهداف نعمته بعيدًا عن عروسه، بل سيعمل معها ومن خلالها. وما سيعمله للأخت الصغيرة مرهونٌ بما ستكونه. فإن كانت سورًا مُؤَسَّسًا ثَابِتًا، فَسَتَتَزَيَّن بأبراج من الفضة. أما إن كانت كالباب الذي يتحرك ويهتز، فستكون في حاجة إلى مُحاصرة قوية لتثبيتها وحمايتها.
فتتهلل العروس لوعيها بمحبة عريسها وتهتف "أَنَا سُورٌ" (نش 8: 10). وهذا دليل على أنها عرفت الأساس الذي انبنت عليه.
ولكن ما الدرس الذي يربط بين هذا التهليل وبين الآيات التالية؟ "كَانَ لِسُلَيْمَانَ كَرْمٌ فِي بَعْلَ هَامُونَ. دَفَعَ الْكَرْمَ إِلَى نَوَاطِيرَ، كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَدِّي عَنْ ثَمَرِهِ أَلْفًا مِنَ الْفِضَّةِ. كَرْمِي الَّذِي لِي هُوَ أَمَامِي. الأَلْفُ لَكَ يَا سُلَيْمَانُ، وَمِئَتَانِ لِنَوَاطِيرِ الثَّمَرِ" (نش 8: 11-12). والأهمية التي نراها في هذه الآيات أن ما أصبحته العروس بالنعمة أكبر أهمية مما أدته من عمل: إنها لم تعمل لتنال الخطوة، ولكن لوثوقها من الخطوة أطلقت لمحبتها العنان لتتحقق بالخدمة. إن في تصميمها على أن يأخذ هو ألفًا من الفضة، دليل على أن كرمها يجب أن لا يَقِل ثمره عن ثمر كرمه الذي في بعل هامون. لقد كان كرمها هي نفسها، وأرادت لربها الثمر الكثير، وأرادت أيضًا أن العاملين في الكرم -رفقاءها في الخدمة- ينالون أجرهم المناسب لذلك لن تَكُمَّ ثَوْرًا دَارِسًا (تث 25: 4؛ 1 كو 9: 9؛ 1 تي 5: 18) وستعطيهم كَيْلًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا في أحضانهم (لو 6: 38).
إلى متى تستمر هذه الخدمة البهيجة؟ لا نَعْرِف. فذاك الذي ينادي خدامه ليفلّحوا له كرمه، هو الذي يعرف وحده مدى هذه الخدمة. وسيمنحهم الراحة إن عاجلًا أو آجلًا، حين ينتهي حر النهار ويكمل آخر صراع، فيرن صوت العريس في أذني حبيبته: "أَيَّتُهَا الْجَالِسَةُ فِي الْجَنَّاتِ، الأَصْحَابُ يَسْمَعُونَ صَوْتَكِ، فَأَسْمِعِينِي." (نش 8: 13)، ولقد انتهت الخدمة بين الأصحاب، فتعالي لتنالي إكلیل البر الموضوع لكِ. والعريس ذاته سيكون أجرك الأعظم. ويا لفرحة العروس إذ تُسْمِعهُ صوتها، فيطفر قلبها لملاقاته وهي تهتف: "اُهْرُبْ يَا حَبِيبِي، وَكُنْ كَالظَّبْيِ أَوْ كَغُفْرِ الأَيَائِلِ عَلَى جِبَالِ الأَطْيَابِ." (نش 8: 14)... فما أحلى ربنا وهو حالٌ بيننا بروحه القدوس ونحن نخدمه هنا على هذه الأرض، ولكن الأشواك هنا كثيرة في كل طريق.. ومن اللائق أن نتألم معه هنا لِنَتَمَجَّد معه هناك (رو 8: 17)، على أن يوم مجيئه قريب حين يخرجنا من حياتنا الأرضية مع رفقائنا، ليرفعنا إلى قصر الملك العظيم. هناك لن يجوع أحد ولن يعطش، ولن تشرق الشمس لأن الخروف الذي في وسط العرش سيطعمهم ويسير بهم إلى ينابيع الماء الحي. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم (رؤ 7: 16).
_____
(3) نحن الآن نعرف أن المحبة أقوى من الموت لأنها انتصرت عليه.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/song-of-songs/communication.html
تقصير الرابط:
tak.la/qbf6ark