يقول "الخوري بولس الفغالي": "إن عدد الذبائح يزيد على الأربعين ألفًا، وهو عدد مُبالَغ فيه، ويفترض حضور أربعة مئة ألف مؤمن. ولكن المؤرخ أراد بذلك، أن يشدد على طابع العيد الفريد"(1).
ج: 1- جاء في سفر الأخبار عن الفصح الذي أقامه حزقيا الملك: "وَكَانَ فَرَحٌ عَظِيمٌ فِي أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُ مِنْ أَيَّامِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ كَهذَا فِي أُورُشَلِيمَ" (2أي 30: 26).
وأيضًا جاء في سفر الأخبار عن الفصح الذي أقامه يوشيا الملك: "وَلَمْ يُعْمَلْ فِصْحٌ مِثْلُهُ فِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَيَّامِ صَمُوئِيلَ النَّبِيِّ. وَكُلُّ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْمَلُوا كَالْفِصْحِ الَّذِي عَمِلَهُ يُوشِيَّا وَالْكَهَنَةُ وَاللاَّوِيُّونَ وَكُلُّ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلَ الْمَوْجُودِينَ وَسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ" (2أي 35: 18).
وحزقيا الملك هو ابن آحاز، وقد صنع آحاز الشر في عيني الرب حتى أنه صنع مذبحًا على شاكلة مذبح الأوثان الذي في دمشق وأصعد عليه محرقات، وأزاح مذبح النحاس الذي صنعه سليمان، وأجرى تعديلات على منطقة الهيكل، فأبطل عبادة الرب، وأغلق أبواب الرواق، وأطفأ السرج، ونشر العبادات الوثنية في كل مكان في أورشليم، فتسلَّم حزقيا مملكة موبوءة بالفساد، تفشت فيها الوثنية، فقاد أكبر حملة إصلاح، وبدأ نهضة دينية وسياسية واقتصادية، وعمل المستقيم في عيني الرب، وفتح أبواب بيت الرب ورمَّمها وأعاد الكهنة واللاويين والعبادة للهيكل، وقال للشعب: "فَالآنَ فِي قَلْبِي أَنْ أَقْطَعَ عَهْدًا مَعَ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ فَيَرُدُّ عَنَّا حُمُوَّ غَضَبِهِ" (2أي 29: 10) وصنع فصحًا عظيمًا، وعظَّم الرب الصنيع معه، فعيد الفصح هو أهم أعياد اليهود، وقد أقامه الشعب لأول مرة قبل خروجهم من أرض مصر، فهو رمز للعبور من العبودية للحرية، ومن الموت للحياة.
ونقل حزقيا الملك المياه من خارج أورشليم إلى داخلها عبر قناة سرية حفرها في باطن الصخر بطول نحو 1800 قدمًا، وبنى سور أورشليم المتهدم وعلاّه، وقام بإنتاج عدد كبير من الأسلحة، ونظّم قوّاته للدفاع عن أورشليم، وعندما حاصر سنحاريب بجيش جرار أورشليم مستهزءًا بإله إسرائيل قال حزقيا لشعبه: "تَشَدَّدُوا وَتَشَجَّعُوا. لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْتَاعُوا مِنْ مَلِكِ أَشُّورَ وَمِنْ كُلِّ الْجُمْهُورِ الَّذِي مَعَهُ... مَعَهُ ذِرَاعُ بَشَرٍ، وَمَعَنَا الرَّبُّ إِلهُنَا لِيُسَاعِدَنَا وَيُحَارِبَ حُرُوبَنَا" (2أي 32: 7، 8) وفعلًا أرسل الرب ملاكه فضرب 185 ألفًا من جيش سنحاريب، وجاءت الوفود تهنئ حزقيا بهذا النصر العظيم، وعظَّم الرب حزقيا في أعين جميع الأمم، وأطال الله في عمره خمسة عشر عامًا.
أما يوشيّا الملك فهو ابن آمون الملك الشرير الذي مَلَكَ سنتين في أورشليم وفعل الشر في عيني الرب وانتهت حياته بالاغتيال، وجِد يوشيا هو منسَّى الذي مَلَكَ في أورشليم خمس وخمسين سنة، وصنع الشر في عيني الرب، فأعاد المرتفعات التي هدمها حزقيا وسجد لجند السماء وعبدها، وبنى مذابح لها في دار بيت الرب، وقدّم من أبنائه ذبائح بشرية، وانهمك بالسحر والعرافة، وصنع تمثال الشكل في بيت الرب (2أي 33: 1 - 7) ولم يكن في قلبه شيئًا من مخافة الرب، فجلب الرب عليه وعلى شعبه ملك أشُّور الذي أخذه بخزامة وقيده بسلاسل نحاس واقتاده إلى بابل، وفي أرض السبي طلب وجه الرب فاستجاب له وردّه إلى أورشليم فأزال الآلهة والمذابح الغريبة ورمَّم مذبح الرب وأمر يهوذا أن يعبدوا الرب إله إسرائيل، فيوشيا لم يرث عن أبيه آمون وجده منسَّى مملكة موبوءة بالفساد وقد تفشت فيها الوثنية مثلما حدث مع حزقيا.
وكان بين يوشيا وحزقيا نحو ستين عامًا، فيوشيا بن آمون بن منسَّى بن حزقيا، وعندما عمل حزقيا الفصح كان هو الفصح الأعظم منذ أيام سليمان من جهة فرح الشعب، وليس من جهة عدد الذبائح، فكان فرح عظيم في أورشليم لم يكن مثله منذ سليمان الملك، واستمر احتفال حزقيا أربعة عشر يومًا (2أي 30: 23) كما حدث في تدشين الهيكل في أيام سليمان الملك (1مل 8: 65)، وأيضًا حضر عدد ليس بقليل من مملكة الشمال، فحزقيا صاحب الفضل في محاولة الربط بين المملكتين بعد انقسام دام نحو مائتي عام، واحدى زوجاته كانت من الجليل، وأيضًا زوجة ابنه، وقد شعر بالمأساة التي تعرّضت لها مملكة الشمال على يد ملوك أشُّور، فحاول أن يضمد الجراح على قدر استطاعته، وكانت رسالته إليهم: "يا بَنِي إِسْرَائِيلَ، ارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ، فَيَرْجعَ إِلَى النَّاجِينَ الْبَاقِينَ لَكُمْ مِنْ يَدِ مُلُوكِ أَشُّورَ" (2أي 30: 6).
ومرّت الأيام والسنون ومات حزقيا وابنه منسَّى وحفيده آمون، ومَلَكَ يوشيا الملك الصالح الذي صنع فصحًا فاق فصح جِده الكبير حزقيا، حتى أن الكتاب قال أنه لم يُعمل فصح مثله منذ أيام صموئيل النبي، ويقول "القمص تادرس يعقوب" عن الفصح الذي صنعه الملك يوشيا: "كان الاحتفال عظيمًا، حُسب معادلًا لما حدث في أيام صموئيل، كما يُعتبر عملًا ليتورجيًا. بسبب قلب يوشيا الناري، بالرغم مما كان فيه الشعب من فتور، فقد اشترك كل خادم بدوره في العمل بكل قوة وهمّة ونشاطٍ وبروح الفرح، لم يكن يوشيا في غنى داود وسليمان ويهوشافاط وحزقيا، لكن جو الاحتفال المفرح لم يكن مثله منذ أيام صموئيل النبي. لقد ساهم الملك بروحه وغيرته، وأيضًا من ماله الخاص"(2).
إذًا فصح حزقيا كان الأعظم في حينه، ولكن بعد مرور نحو ستين عامًا وصنع يوشيا الفصح، فاق فصح حزقيا، وهذا يشبه تفوق بطل معين في رياضة بعينها حتى أنه سجّل فيها رقمًا عالميًا لم يسجله أحد من قبله، ولكن حتى جاء بطل آخَر بعد ذلك وسجّل رقم أعلى فإنه يحتل مركز الصدارة.
2- لم تقاس عظمة الفصح بعدد الذبائح التي قدّمت، لأنه لو أخذنا بعدد الذبائح فإن الفصح الذي أقامه سليمان الملك سيظل يحتل مركز الصدارة الأول، ولكن عظمة الفصح لا تُقاس بالكم بل بالكيف، وكيف قدّم الشعب ذبيحة الفصح؟ وقال المرنم لله: "لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. ذَبَائِحُ اللهِ هي روحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اَللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ" (مز 51: 16، 17). وقال الله على لسان إشعياء النبي: "لِمَاذَا لِي كَثْرَةُ ذَبَائِحِكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. اتَّخَمْتُ مِنْ مُحْرَقَاتِ كِبَاشٍ وَشَحْمِ مُسَمَّنَاتٍ، وَبِدَمِ عُجُول وَخِرْفَانٍ وَتُيُوسٍ مَا أُسَرُّ... لاَ تَعُودُوا تَأْتُونَ بِتَقْدِمَةٍ بَاطِلَةٍ. الْبَخُورُ هُوَ مَكْرَهَةٌ لِي... لَسْتُ أُطِيقُ الإِثْمَ وَالاعْتِكَافَ" (إش 1: 11-13). وقال يشوع بن سيراخ: "ليست مرضاة العلي بتقادم (بتقدمات) المنافقين ولا بكثرة ذبائحهم يغفر خطاياهم" (سي 34: 33).
3- عندما نقارن بين فصح حزقيا (2أي 30: 1- 27) وفصح يوشيا (2أي 35: 1 - 19) نلاحظ الآتي:
أ - عندما صنع حزقيا الفصح تأخر شهرًا عن موعده، فأرسل رسائل إلى جميع إسرائيل ويهوذا يدعوهم للحضور إلى أورشليم لعمل الفصح في الشهر الثاني (2أي 30: 1، 2). بينما عمل يوشيا الفصح في موعده " فِي الرَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الأَوَّلِ" (2أي 35: 1).
ب - عمل حزقيا الفصح بعد سقوط السامرة وسبي ملوك أشور لمملكة إسرائيل، فعبر حَملة الرسائل إلى سبطي أفرايم ومنسَّى حتى سبط زبولون يدعون الشعب للعودة للرب ليرجع إليهم ويترآف على سباياهم، فكانوا يضحكون عليهم ويهزأون بهم، معتبرين أنفسهم أنهم أصحاب العقيدة الصحيحة، ولكن قوم من أشير ومنسَّى وزبولون تواضعوا وأتوا إلى أورشليم، فتوبة الشعب في المملكة الشمالية لم تكن بالقدر الكافي، حتى أن كثيرين من أفرايم ومنسَّى ويساكر وزبولون لم يتطهروا وأكلوا الفصح، فصلّى حزقيا عنهم واستجاب الرب لصلاته وشفى الشعب (2أي 30: 18 - 20) بينما كان ليهوذا قلب واحد (2أي 29: 5 - 12)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. إذًا استعداد الشعب في أيام يوشيا كان أقوى وأفضل كثيرًا من أيام حزقيا الملك.
ج - ارتبط فصح حزقيا بحركة تطهير قوية، فأزال المذابح الغريبة من أورشليم ومذابح التبخير وطرحها في وادي قدرون (2أي 30: 14) وبعد إقامة الفصح " خَرَجَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ الْحَاضِرِينَ إِلَى مُدُنِ يَهُوذَا، وَكَسَّرُوا الأَنْصَابَ وَقَطَعُوا السَّوَارِيَ، وَهَدَمُوا الْمُرْتَفَعَاتِ وَالْمَذَابحَ مِنْ كُلِّ يَهُوذَا وَبَنْيَامِينَ وَمِنْ أَفْرَايِمَ وَمَنَسَّى حَتَّى أَفْنَوْهَا، ثُمَّ رَجَعَ كُلُّ إِسْرَائِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مُلْكِهِ، إِلَى مُدُنِهِمْ" (2أي 31: 1). بينما في فصح يوشيّا لم يكن الشعب محتاجًا لحركة التطهير القوية هذه "وأَزَالَ يُوشِيَّا جَمِيعَ الرَّجَاسَاتِ مِنْ كُلِّ الأَرَاضِي الَّتِي لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلَ جَمِيعَ الْمَوْجُودِينَ في أُورُشَلِيمَ يَعْبُدُونَ الرَّبَّ إِلهَهُمْ. كُلَّ أَيَّامِهِ لَمْ يَحِيدُوا مِنْ وَرَاءِ الرَّبِّ إِلهِ آبَائِهِمْ" (2أي 34: 33).
د - امتد الاحتفال بفصح حزقيا إلى أربعة عشر يومًا، فعيَّد الشعب سبعة أيام عيد الفطير، ثم عيَّدوا سبعة أيام أخرى (2أي 30: 21 - 23). أما في فصح يوشيا فقد احتفل الشعب سبعة أيام فقط (2أي 35: 7).
هـ - في فصح حزقيا قدّم ألف ثور وسبعة آلاف من الضأن، وقدم الرؤساء ألف ثور وعشرة آلاف من الضأن (2أي 30: 24)، وفي فصح يوشيا قدم ثلاثة آلاف من البقر وثلاثين ألف من الحملان، وقدّم الرؤساء ألفين وستمائة من الضأن وثلاث مئة من البقر، وقدّم رؤساء اللاويين خمسة آلاف من الضأن وخمسمائة من البقر. أمّا سليمان فقد فاق الاثنين في عدد الذبائح نظرًا لغناه ولذلك قدَّم اثنين وعشرين ألفًا من البقر، ومائة وعشرين ألفًا من الغنم.
و - كان دور اللاويين في فصح يوشيا أكبر من دورهم في فصح حزقيا، فكان اللاويون يفرزون الذبائح ويذبحونها، ويقدمون الدم للكهنة ليرشوه على المذبح، ويشوون ويطبخون ويقدمون للكهنة وللمُسبِحين وللبوابين، فيوشيا الملك قال للاويين: "اذْبَحُوا الْفِصْحَ وَتَقَدَّسُوا وَأَعِدُّوا إِخْوَتَكُمْ لِيَعْمَلُوا حَسَبَ كَلاَمِ الرَّبِّ عَنْ يَدِ مُوسَى" (2أي 35: 6)... "فَتَهَيَّأَتِ الْخِدْمَةُ، وَقَامَ الْكَهَنَةُ فِي مَقَامِهِمْ وَاللاَّوِيُّونَ فِي فِرَقِهِمْ حَسَبَ أَمْرِ الْمَلِكِ، وَذَبَحُوا الْفِصْحَ. وَرَشَّ الْكَهَنَةُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَمَّا اللاَّوِيُّونَ فَكَانُوا يَسْلَخُونَ... وَشَوَوْا الْفِصْحَ بِالنَّارِ كَالْمَرْسُومِ. وَأَمَّا الأَقْدَاسُ فَطَبَخُوهَا فِي الْقُدُورِ وَالْمَرَاجِلِ وَالصِّحَافِ، وَبَادَرُوا بِهَا إِلَى جَمِيعِ بَنِي الشَّعْبِ. وَبَعْدُ أَعَدُّوا لأَنْفُسِهِمْ وَلِلْكَهَنَةِ... وَالْمُغَنُّونَ... وَالْبَوَّابُونَ" (2أي 35: 10 - 15).
4- عدد الذبائح التي قدّمها يوشيا غير مُبالغ فيها، فإجمالي ما قدّمه يوشيا والرؤساء والكهنة 3800 من البقر، و37000 من الغنم والجداء، وبلا شك أن عدد الذين شاركوا في الفصح من مدن يهوذا وبنيامين ومنسَّى وأفرايم وغيرهم كان كبيرًا جدًا، من رجال ونساء وأطفال وشيوخ يزيد عددهم عن النصف مليون نفس، وقد استغرق الاحتفال سبعة أيام.
_____
(1) التاريخ الكهنوتي - أسفار الأخبار الأول والثاني وعزرا ونحميا والمكابيين الأول والثاني ص 167.
(2) تفسير سفر أخبار الأيام الثاني ص 492، 493.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1436.html
تقصير الرابط:
tak.la/6bapdry