ج: 1- جاء في سفر الأخبار عندما اشتبك يوشيا في حرب سنة 609 ق. م. مع "نخو" ملك مصر وهو في طريقه من مصر إلى كركميش، أصاب الرماة يوشيا إصابات بالغة، فطلب من عبيده أن يخرجوه من ساحة المعركة: "فَنَقَلَهُ عَبِيدُهُ مِنَ الْمَرْكَبَةِ وَأَرْكَبُوهُ عَلَى الْمَرْكَبَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي لَهُ، وَسَارُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَمَاتَ وَدُفِنَ فِي قُبُورِ آبَائِهِ. وَكَانَ كُلُّ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ يَنُوحُونَ عَلَى يُوشِيَّا. وَرَثَى إِرْمِيَا يُوشِيَّا. وَكَانَ جَمِيعُ الْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَنْدُبُونَ يُوشِيَّا" (2أي 35: 24، 25).
وجاء في سفر الملوك عن يوشيا الملك: "فِي أَيَّامِهِ صَعِدَ فِرْعَوْنُ نَخْوُ مَلِكُ مِصْرَ عَلَى مَلِكِ أَشُّورَ إِلَى نَهْرِ الْفُرَاتِ. فَصَعِدَ الْمَلِكُ يُوشِيَّا لِلِقَائِهِ، فَقَتَلَهُ فِي مَجِدُّو حِينَ رَآهُ. وَأَرْكَبَهُ عَبِيدُهُ مَيْتًا مِنْ مَجِدُّو، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَدَفَنُوهُ فِي قَبْرِه" (2مل 23: 29، 30).
فسفر الأخبار يتفق مع سفر الملوك في مكان دفن يوشيّا وهو أورشليم، وينفرد سفر الأخبار بذكر مدى حزن شعب يهوذا على ملكهم، ورثاء إرميا له، وندب المغنيين والمغنيات له، وينفرد سفر الملوك بذكر ساحة المعركة، وإنها كانت في مجدُّو، وأن يوشيا مات هناك ونقلوه ميتًا إلى أورشليم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهذا لا يتعارض إطلاقًا على ما جاء في سفر الأخبار، لأن سفر الأخبار لم يذكر مطلقًا أن يوشيا مات في أورشليم، بل قال: "وَسَارُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَمَاتَ". فقد جُرح يوشيا جروحًا بالغة الخطورة "فَنَقَلَهُ عَبِيدُهُ مِنَ الْمَرْكَبَةِ وَأَرْكَبُوهُ عَلَى الْمَرْكَبَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي لَهُ، وَسَارُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَمَاتَ" فعندما أركبوه المركبة الثانية كان في لحظاته الأخيرة يحتضر ولذلك أسرعوا به إلى أورشليم، وما بدأت المركبة في السير تجاه أورشليم حتى لفظ أنفاسه، بدليل ما جاء في سفر الملوك "وأَرْكَبَهُ عَبِيدُهُ مَيْتًا مِنْ مَجِدُّو". فكل من السفرين يكمل الآخر، وإن كان سفر الملوك أوضح أن يوشيا مات وهو ما زال في مجدُّو فإن سفر الأخبار أعطى شرحًا أكبر للحدث، حيث أوضح أن يوشيا صعد للقاء "نخو" ليس بقصد استقباله بل لمحاربته، وأنه كان متنكرًا وقت المعركة، وأُصيب من الرماة المصريين، وعندما أُصيب كان هناك فرصة ليتحدث مع جنوده ويعرب لهم عن رغبته في انسحابه من ساحة المعركة قبل موته (2أي 35: 21 - 23).
2- كان هناك صراع بين بابل وأشور، فتحرك "نخو" فرعون مصر لمساعدة أشور ضد بابل، بالرغم من العداوة التقليدية بين مصر وأشور، ولكن "نخو" خشى أن بابل بعد أن تلتهم أشور تتجه إلى مصر لتلتهمها أيضًا، وجاء في "التفسير التطبيقي": "كان الملك نخو (فرعون مصر) يزحف عبر مملكة إسرائيل إلى أشور، فقد تحالفت مصر وأشور لمحاربة بابل، التي كانت تهدَّد بأن تصبح القوة العالمية المتسلطة. ولعل يوشيا ظن أن الدولتين ستنقلبان عليه بعد معركتهما مع بابل، ولذلك حاول أن يعترض جيش مصر ويمنعه من المرور في أرضه. ولكن يوشيا قُتل وانهزم جيشه، وأصبحت يهوذا خاضعة لمصر (609 ق. م)"(1)(4).
3- عندما خرج يوشيا لمحاربة نخو لم يستشر الله في هذا، ولم يصغِ لتحذير "نخو" له الذي قال له: "مَا لِي وَلَكَ يَا مَلِكَ يَهُوذَا! لَسْتُ عَلَيْكَ أَنْتَ الْيَوْمَ، وَلكِنْ عَلَى بَيْتِ حَرْبِي، واللهُ أَمَرَ بِإِسْرَاعِي. فَكُفَّ عَنِ اللهِ الَّذِي مَعِي فلاَ يُهْلِكَكَ" (2أي 35: 21)... "ولم يُحَوِّلْ يُوشِيَّا وَجْهَهُ عَنْهُ بَلْ تَنَكَّرَ لِمُقَاتَلَتِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ لِكَلاَمِ نَخُوٍ مِنْ فَمِ اللهِ..." (2أي 35: 22، 23) ويقول: "القمص تادرس يعقوب": "لم يكن في قلب نخو أية عداوة من جهة يهوذا. لكن يوشيا أخطأ إذ دخل في معركة مع نخو، كان في غنى عنها... لقد أخطأ يوشيا بسبب تسرعه في الدخول في معركة مع نخو ملك مصر دون سبب. لم يستشر يوشيا الرب قبل دخوله في المعركة. أرسل إليه ملك مصر سفراءه ليحذروه من الدخول في المعركة، فمع كونه رجلًا بارًا وتقيًّا، لكن كان يليق به أن يحترم شريعة التعاون الدولي ولا يبدأ بالدخول في معركة لا لزوم لها، ويدعوه الترجوم: "فرعون الكسيح".
مع كل هذه الأعمال المجيدة، أخطأ يوشيا إذ لم يسمع كلام الله على فم نخو، دخل في معركة بين الأمم لم تكن تخص شعب الله. الدخول في معارك الناس، والمشاركة في سياستهم والانشغال في خططهم، يدفع إلى الفشل التام. يليق بنا أن نرجع إلى الله ضابط التاريخ، اليد العليا في كل ما يجري في العالم... أخطأ يوشيا فنال تأديبًا، إذ قُتل وهو في سن شبابه، لكن الله لم ينسَ عمله الصالح واستقامة قلبه. لا نعجب من بكاء إرميا ورثائه يوشيا، فقد رأى بروح النبوة ما سيحل بالشعب بعد موته"(2).
4- سمح الله بانتقال يوشيا الملك الصالح في سن مبكرة "كَانَ يُوشِيَّا ابْنَ ثَمَانِيَ سِنِينَ حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ إِحْدَى وَثَلاَثِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ. وَعَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وسَارَ فِي طُرُقِ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَحِدْ يَمِينًا ولا شِمَالًا" (2أي 34: 1، 2)... فلماذا سمح الله بهذا..؟. حتى لا يرى يوشيا الشر القادم والضياع والسبي وتهديم الهيكل الذي رمَّمه، وهكذا الإنسان الصالح يُضم إلى آبائه قبل مجيء الشر كقول الكتاب: "ورِجَالُ الإِحْسَانِ يُضَمُّونَ، ولَيْسَ مَنْ يَفْطَنُ بِأَنَّهُ مِنْ وَجْهِ الشَّرِّ يُضَمُّ الصِّدِّيقُ" (إش 57: 1).
5- إن كان يوشيا فقد حياته الأرضية بسبب تسرعه، لكنه لم يفقد حياته الأبدية لأنه كان رجلًا صالحًا وأرضى الرب بأعماله الحسنة، وإن كانت حياة يوشيا الملك الصالح قد تبخّرت سريعًا، فسيأتي ملك إسرائيل الحقيقي لكي ما يفدي إسرائيل من كل خطاياه وآثامه وينهضه من موت الخطية إلى جدّة الحياة، فيقول "هنري ل. روسييه": "وفي النهاية نأتي إلى حكم يوشيا. وهو آخر ضوء تبعثه الشمعة الأخيرة التي كادت أن تنطفئ، متبوعة بليل عميق حالك السواد قبلما يشرق من جديد ظهور الملك الحقيقي الذي بحسب مشورات الله، أنه لم يزل سراج داود مشرقًا بالنعمة بضياء لامع قبلما يختفي، مما يجعلنا نتوقع بركات مستقبلية. وتخبرنا الكلمة أن يوشيا "عمل المستقيم في عيني الرب وسار في طرق داود أبيه ولم يحد يمينًا ولا شمالًا" (ع2) "وطرق داود أبيه" هي ذات الكلمة المستخدمة التي قيلت عن اثنين من أجداده العظام يهوشافاط وحزقيا (ص 17: 3، 29: 2) وكلمة الله لا تُسرف في استخدامها لهذا المديح والتي تربط طرق الملوك الأمناء بالبدايات القديمة المجيدة لمملكة إسرائيل"(3).
_____
(1) التفسير التطبيقي ص 841.
(2) تفسير سفر أخبار الأيام الثاني ص 493 - 495.
(3) تأملات في أخبار الأيام الثاني ص 165.
(4) راجع أيضًا التفسير التطبيقي ص 983.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1437.html
تقصير الرابط:
tak.la/r9bf8vs