رجل الألم
مفهوم الألم
ماذا يقصد بالألم
مصدر الألم
أولًا: الألم والجسد
ثانيًا: الألم والأحداث الجارية
الأحداث والتصرفات
ثالثًا: الألم والشيطان
لماذا لم يستبعد الله الشيطان؟
رابعًا: الألم ومكائد الآخرين
خامسًا: الألم وعناية الله
سادسًا: الألم والخطية
الألم والإرادة الحرة
الألم وسر المسيح
1. المسيح المتألم مثال للمتألمين
2. بدد الخطية علة الألم
3. بآلامه قدم مفهومًا جديدًا الألم
مدرسة الألم
الحواشي والمراجع
كثرة ما خلفه لنا القديس من تراث روحي يفتح المجال للكشف عن الكثير من أفكاره، وقد تركت الحديث عن أفكاره من جهة الصدقة(36) وعناية الله(37) وإمكانية الإنسان إلا يؤذيه أحد ما لم يؤذ الإنسان نفسه بنفسه(38) والاتضاع(39) والموت(40).... الأمور التي سبق أن تعرضت لها كتابات سابقة وترجمة لأقوال أو كتابات القديس، والآن اكتفي بالحديث عن نظرته نحو الألم كمثال حي لتفَسيره.
عاش القديس يوحنا الذهبي الفم صاحب المشاعر الرقيقة وسط أتون النار، يشارك ابن الله آلامه، فجاءت أحاديثه وكتاباته عن الألم ليست نابعة عن فلسفة فكرية استقاها من الكتب ولا مجرد عظات نظرية يلقي بها أمام الآخرين، لكنها خبرة حياة عاشها طوال فترة خدمته.
وتزداد مرارة الألم أن الذي يشربه إنسان نشأ في طفولته وصبوته مدللًا... فقد نشأ في طفولته الابن الوحيد المدلل، ينعم بين أحضان أمه الشابة الأرملة تسكب فيه كل حبها وعواطفها. وجاءت صبوته وكذا شبابه حياة سهلة، لا يسمع إلا كلمات الإعجاب والإطراء، يمدحه معلمه وأصدقاؤه وزملاؤه علي نبوغه وفصاحته، لكنه ما أن دخل الدير حتى أحني بالحب ظهره ليحمل في رقة مشاعره أثقال كل نفس متألمة، وإذ قبل موهبة الكهنوت إنما قبل روح الأبوة الحانية، فدخل بالروح القدس آتون الألم مع كل ابن أو ابنة له. لم يكن يعرف الراحة ما دام يوجد قلب لا يزال غير مستريح، ولا أعطي لجفنه نعاسًا عميقًا ما دامت هناك عين غير قادرة علي النوم.
في أكثر من موقف عبر القديس لشعبه عن هذه الأبوة الحاملة للألم، فقال:
"أني أب مملوء حنوًا...
كل أم تصرخ وهي تتمخض في ساعة الولادة. هكذا أفعل أنا أيضًا. ليتكم تستطيعون معاينة النيران الملتهبة في قلبي، لتعرفوا أني احترق(41)...".
"أنى أب للجميع، لا أهتم بالقائمين فحسب، بل وبالساقطين أيضًا".
نستطيع أن نلتمس ما صار إليه بعد الكهنوت أن عرفنا أنه وهو في الدير قبل نواله درجة القسيسية حين سقط صديقه الراهب ثيؤدور في حب هيرموان بكاه بمرارة كما لو كانت تهدمت كل مدن العالم، وشاركه المرّ حتى دخل به الدير مرة أخري خلال التوبة الصادقة. وإذا أصيب الراهب ستاجيروس بمرض عصبي لم يهدأ قلبه حتى دخل به إلى الرجاء وحياة الفرح مرة أخري.
وما أن رسم كاهنًا حتى ثارت مشكلة التماثيل التي كادت أن تدفع بشعبه إلى الإبادة وحرق مدينتهم بسبب تحطيم تماثيلهم الإمبراطور احتجاجًا علي زيادة الضرائب، فتصدي للمشكلة يسند شعبه بروح الأبوة ويشاركهم آلامهم طوال فترة الصوم الكبير.
أما حياته الأسقفية فكما سبق أن رأينا لم تكن إلا سلسلة آلام متوالية. انهالت عليه اللطمات من كل جانب بغير حساب: من الأساقفة والكهنة الحاسدين له، ومن رجال البلاط الحاقدين عليه، من الإمبراطورة أفدوكسيا والإمبراطور بسبب جرأته وعدم تملقه لهما. وجاءت مشكلة الإخوة الطوال القامة دفعت به دفعًا إلى النفي في جبال القوقاز بأرمينيا يذوق مرارة السفر الشاق بجانب صحته المتوعكة والبرد القاسي وحرارة الصيف. لقد عاش أواخر حياته، محرومًا من شعبه، وحيدًا وسط الآلام حتى دفعت به إلى موت الجسد حيث أجهده الجند في الطريق...
والآن ماذا كتب رجل الآلام عن الألم؟
لم يسجل لنا القديس مقالًا عن "الألم" لكنه سكب خبراته الطويلة والأصلية في حياة الألم خلال عظاته ومقالاته ورسائله. وجاءت هذه الخبرات مزيجًا رائعًا من الواقع العملي الذي عاشه والحياة الإيمانية الصادقة التي سلكها عمليًا.
حين يكتب القديس أو يتكلم لا يخفي حقيقة مشاعر، سواء في لحظات ضعفه البشري أو قوته الإيمانية. فهو لا يدعي لنفسه العصمة من الضعف، لكنه أيضًا لا يقف عندها، إنما يسرع بالانطلاق نحو الصليب لكي يختبر الشركة مع المسيح المتألم، فيعبر فوق الآلام الزمنية ليدخل إلى قوة القيامة، لينعم بالوجود في حضن الأب.
كأسقف حكيم يعرف كيف لا يستسلم للألم بل يرتفع مع شعبه إلى الإيمان الحي العملي. يدخل معهم إلى الصليب ليجدوا في الألم مفاهيم لاهوتية جديدة، كما يفتح لهم الكتاب المقدس لا ليسمعوا عنه مجموعة من العظات أو بعض التفاسير، إنما لكي يدخل بهم إلى رجال الله القديسين المتألمين من العهدين القديم والجديد في صداقة قوية، خاصة أيوب البار، والثلاث فتية في أتون النار، ودانيال في الجب، والرسول بولس... يكشف لهم أعماق مشاعرهم ويحدثهم عن دقائق آلامهم... حتى ليشتهي الإنسان بالحق أن تكون له طوباوية الشركة معهم في آلامهم من أجل الرب.
الألم عند القديس يوحنا ذهبي الفم ليست مجرد مشاعر نفسانية أو تعب جسدي يرهق الإنسان، لكنه مرض يصيب غاية وجوده ويفسر رسالاته.
فالإنسان إذ يشعر بتعب داخلي أو بضيق في نفسه يحاول لا شعوريًا أن يعلل ذلك إلى اقرب حادث أو باعث خارجي. قد يبرر ألمه ما أصاب جسده من مرض أو ما حل به من فقر أو كوارث... وأحيانًا ينسب آلامه إلى ظلم الآخرين له أو تعديهم علي حقوقهم المادية أو المعنوية أو من حرمانه من العطف الأبوي أو الأموي أو الأخوي أو نتيجة تقصير من ينتظر منهم حنوا... لكن القديس يُطالبنا بنظرة أعمق: إلا وهي الدخول إلى حقيقة وجودنا والتعرف علي رسالتنا، عندئذ نتفهم الألم الذي يصيبنا ويفسد عمالنا وغاية وجودنا.
فالحديد مثالًا ليس له مشاعر، لكن الصدأ هو علة آلمه، إذ يفقد صلاحيته.
هذا ما أراد القديس أن يوضحه في مقدمة مقاله: "لا يستطيع أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذ الإنسان ذاته"، إذ يقول:
"كل شيء له عدو شرير يضره،
فالحديد يفسده الصدأ،
والصوف يفسده السوس،
وقطيع الخراف تهلكه الذئاب،
والخمر يفسد شدة الاختمار خواصه حين يصير "حامض" الطعم. والعسل يفقد خواصه عندما تزول عنه حلاوته الطبيعية، ويتحول إلى عصارة مُرّة،
وسنابل القمح يهلكها الجدب...
فما الذي يفسد صلاح الإنسان؟".
هذه هي نظريته... أنه يود أن يدخل بنا إلى أعماق المشكلة، بالتعرف علي المرض الحقيقي الذي يصيب سلام الإنسان الداخلي ويفقده حيويته وفرحه، وينحرف به عن هدفه، محطمًا صلاحه.
يتساءل القديس في أكثر من موضع... ما هو العدو الحقيقي الذي يحطم غاية الإنسان وصلاحه؟ هل الجسد أم أحداث الطبيعة، الشيطان أم مدبري المكائد أم القضاء والقدر؟
هل الألم من فعل الله أو هو من صنع الإنسان ضدنا أو هو ثمرة عمل الإنسان نفسه؟
هكذا اضطر القديس في كثير من أعماله أن يكشف عن الألم من جهة علاقته بالجسد، والأحداث الطبيعية، الله والشيطان والآخرين، وعلاقته بإرادة الإنسان نفسه...
من أثر الفلسفات الفارسية أن خرجت بعض الهرطقات تدعي المسيحية أمثال أتباع المانية، تهاجم الجسد بكونه عنصر الظلمة من صنع إله الشر، سر فساد الإنسان وعدوه الأول، يكتم أنفاس الروح ويحطم رسالتها وينحرف بها عن رسالتها ويفقدها صلاحها، وكأن الجسد هو علة الألم. لذلك أبدى قديسنا يدافع عن صلاح الجسد بكونه صنعة الله الجميلة، غير المسئول عن آلام النفس وفسادها دون شركة النفس معها، إذ يقول: "الجسد هو من صنع الله".
"الجسد مادة، والمادة غير مسئولة عن الأعمال الصالحة أو الضارة التي تصدر عنها، فكيف نقول أن الجسد هو مصدر الألم؟(42)".
"بحق لا يقدر الجسد أن يرتكب أضرارًا خطيرة بدون النفس، لكن النفس تقدر أن ترتكب هذه الأمور دون الجسد(43)".
لقد أبدى إعجابًا شديدًا بالجسد بكونه خليقة الله، الفنان الأعظم، إذ يقول مثلًا عن العين:
"خلق الفنان الأعظم، الله، العين بهذا الجمال الذي يبهر من يتأملها. هذه العين تحمل قوة لكي تختزن في داخلها مسافات شاسعة من خلال فتحة متناهية الصغر، فترى مناظر بلا عدد... من جبال وغابات وتلال وبحار وسموات(44)".
الجسد خليقة جميلة صالحة لا تحطم النفس بل بالعكس تسندها في تحقيق غاية الإنسان، بكونه آلة بالروح القدس صالحة، إذ يقول:
"النفس بالنسبة للإناء الخزفي (الجسد الترابي) إنما كالسائق للمركبة، والربان للسفينة، والموسيقار للقيثارة! إنما تمسك باللجام وتناور بالدفة وتلعب علي الأوتار لتؤدي غايتها وتحرج لنا نغمات فضائل عذبة متوافقة(45)".
مرة أخرى يتحدث عن أهمية الجسد في مساندة النفس، فيقول: "أن هلك الجسد ماذا يكون أثر ذلك علي النفس؟ أي تشويش وأمواج وعواصف تجتاحه...؟ حقًا لقد أوجد الله المعدة في أجسادنا كنوع من الطاحونة لكي تهبنا القوة المناسبة، وتعين قدرًا معينا لكي تطحنه كثيرًا كل يوم".
كما يتحدث عن أهمية النفس في إبراز صلاحية الجسد وجماله إذ يقول "ممكن أن يكون الحصان ممتازًا وسريع الحركة لكن لا يظهر هذا بدون راكبه".
أما انحراف الجسد عن غايته فسره ليس فساد الجسد في ذاته بل إهمالنا وتراخينا... بل النفس هي المسؤول الأول لأنها قائد الجسد...
"لقد وهبت لنا الأعين للنظر بها الخليقة فنمجد السيد الرب، لكننا أن كنا نسيء استخدمها، تصير خادمة للزنا.
أعطينا لسانا نعلم به ونسبح به الخالق، لكننا أن لم نحترز لأنفسنا يسير علة تجديف.
أخذنا الأيدي لنرفعها في الصلوات، فأن لم نتيقظ تعمل في الطمع والجشع.
وهبنا الأقدام لكي تسير في الصلاح، وبسبب إهمالنا تتسبب في أعمال شريرة(46)...".
وفي تعليقه علي (غلا 5: 12) "يا ليت الذين يقلقونكم يقطعون أيضًا". يتحدث عن أتباع ماني الذين يجعلون من الجسد مصدرًا للفساد يلزم التخلص منه... إذا يقول:
"هؤلاء يدعون الجسد غدارًا، من أصل شرير... إلا يلزمهم بذلك يفقأوا أعينهم لأن الشهوة تدخل إلى النفس عن طريقها؟ لكن الحقيقة أنه ليس العين ولا أي عضو آخر فينا هو الذي يلام إنما أرادتنا الفاسدة وحدها هي موضع اللوم.
أن كانوا لا يقبلون هذا فلماذا لا يبترون اللسان بسبب التجديف والأيدي بسبب السلب والأقدام بسبب السلوك الرديء، وبالاختصار يبترون كل أعضاء الجسد؟ فأن الأذن إذ يسحرها صوت المزمار غالبًا ما تؤثر علي النفس، والأنف تتنسم الرائحة اللذيذة تسبي الذهن وتجعله يثور نحو اللذة. لكن هذا القول شرير ومبالغ فيه وجنون شيطاني...
لنلاحظ هنا أن ما نرتكبه إنما هو خطية النفس. فأن إشباع شهوات الجسد ليس من عمل الجسد بل من عمل النفس. وأن أرادت النفس أن تميت هذه الشهوات لها السلطان المطلق في السيطرة علي الجسد.
أن ما يقولونه يشبه شخصًا رأى إنسانًا يقدح نارًا و يلقي وقودًا علي بيت و يشعل فيه، فيلوم النار لا الذي أشعلها, وذلك لأنها أمسكت بالوقود وارتفعت جدًا. كأن يليق بنا لا أن نلوم النار بل الذي أشعلها، فقد أعطيت لنا النار لكي نطهي الطعام ونضيء بها ونستخدمها في خدمات مماثلة وليس لحرق المنازل...
هكذا أيضًا الشهوة المزروعة فينا وجدت لأجل تشييد العائلات وضمان الحياة وليس الزنا والنجاسة والفسق. لقد أعطيت لكي يكون الرجل أبًا لا زانيًا، زوجًا شرعيًا لا فاسقًا، يترك من بعده ورثة لا أن يُحطم رجلًا غده. فأن الزنا لم يقم عن الطبيعة، إنما الخلاعة هي ضد الطبيعة...".
النفس هي المسئولة عن الجسد، هي قائده وسيده ومدربه وليس عدو للجسد وقاتل له... ففي تعليقه علي كلمات الرسول "أقمع جسدي واستعبده(47)" يقول: "لا يقول (الرسول) "اقتل" ولا "أعاقب"، فأن الجسد ليس موضوع بغضة، لكنه يقمعه ويستعبده. هذا هو عمل السيد لا العدو، المعلم لا الخصم، المدرب لا المقاوم(48)"
أن فساد أعضائنا علته فينا، أردنا أن نخطئ فأفسدنا حياتنا واشتركت النفس في سر فساد الإنسان... لكن الله كلي الحب لم يترك جسدنا يهلكه الفساد، بل حمل ناسوتنا بلا خطية، حتى بتجسده وآلامه وموته وقيامته يعيد إليه أمجاده الأصلية. في هذا يقول: "بسبب الخطية وضع الله جسد الإنسان تحت سيف الفساد، لكن هذه الصورة ليست نهائية، إنما يتجمد الجسد من جديد في جسد المخلص عند القيامة(49)".
وفي عظته الخامسة علي الرسالة إلى أهل أفسس يؤكد القديس ليس حاجة الجسد فقد وإنما حاجة النفس أيضًا إلى توجيه علوي من السماء حتى لا يكون في فساد. فالإنسان الذي يترك نفسه تعمل حسب هواها دون عمل روح الله القدوس يحسب إنسانًا "طبيعيا(50)"، والذي يترك جسده يعمل حسب شهواته دون عمل روح الله القدوس يحسب إنسانًا "جسدانيا". ليس فقط الجسد بل "والنفس تحتاج إلى توجيه سماوي، فأنها في ذاتها أن لم تقبل دافعًا من فوق لا يمكن أن تكون عظيمة وصالحة.
يكمل القديس حديثه قائلًا: "علي أي الحالات يلزم أن يكون لنا الروح معنا حتى ينال الراكب (النفس) قوة جديدة، فيعطي جمالًا للجسد والنفس".
يري الكثيرون أن سر الألم في حياة الإنسان هو فقدانه السلام بسبب تقلب الأحداث، فقد يصاب الإنسان بمرض أو يفقد بعض الممتلكات أو تهان كرامته ومركزه الأدبي أو يحتمل آلام الضرب أو النفي... مثل هذه الأحداث وما علي شاكلتها أو حتى مجرد الخوف من حدوثها يبعث في النفس آلامًا.
هذه النظرة دينوية اكتسبناها من حكم الجماهير، تحمل فكرًا سطحيًا لا يمس عمق الإنسان الداخلي وغايته الأصلية. وقد شبه القديس من لهم هذه النظرية بالذين يحكمون على صلاحية الفرس من لجامه الذهبي وسرجه الزاهي الألوان وعدة رأسه المرصعة بالجواهر والغطاء المضفر بحبل ذهبي... مع أن حقيقة صلاحيته تمكن في خفة حركته وقوة أقدامه وخطواته وشجاعته وقدرته علي التصرف بهدوء في ميدان المعركة وإنقاذ صاحبه أن حدثت هزيمة(51)...
يقسم القديس يوحنا الأحداث والتصرفات إلى ثلاثة أنواع:
أ. أحداث وتصرفات صالحة بطبعها مثل تصرفات الحب من احتمال لضعفات الآخرين والعطاء والستر علي خطايا الغير مع العفة والبساطة والحكمة إلخ...
ب. أحداث وتصرفات شريرة بطبعها مثل العداء والكراهية والحقد والزنا...
ج. أحداث وتصرفات سوية، ليست صالحة ولا شريرة في طبيعتها إنما يمكن أن تكون هكذا أو كذلك حسبما يوجهها الإنسان، أو كما يقول القديس:
"ليس هناك خير مطلق أو شر مطلق، إنما يتحدد ذلك حسب استعداد النفس".
هذه الأشياء قد تكون صالحة أو ضارة حسبما يستخدمها المرء. فالغني يمكن أن يكون أداة البخل أو الكرم. والفقر قد يدفع إلى التجديف أو الشكر.
هذه الأشياء التي ادعوها سوية هي: الغني والفقر، الصحة والمرض، الحياة والموت، والكرامة والهوان إلخ(52)...".
يستطيع المؤمن أن يجد في الأحداث المؤلمة سلامًا وتعزية. وقد سجل لنا القديس في إحدى رسائله للشماسة أولمبياس أحاسيسه عندما اشتدت به الآلام، إذ قال: "عندما أذكر هذه الأمور يومًا فيوم، إذ أتأملها علي الدوام أطير من السعادة، أثب بالفرح كمن وجد كنزًا عظيمًا قد خزن له. هذا هو حالي، وهذه هي مشاعري تجاه هذه الأمور. ذلك أسال سموك أن تفرحي بهذه الأمور وأن تسعدي وتثبي فرحًا وتمجدي الله الذي حسبني أهلًا أن احتمل مثل هذه الأشياء(53)".
هذه النظرة سلمها القديس وهو في أتون الألم، أثناء نفيه، معلنًا أنها سر المسيح البشرية وشقائها. لقد كتب أيضًا إلى الأسقف قرياقوس يقول:
"عندما استبعدت من المدينة لم أقلق، بل قلت لنفسي:
* أن كانت الإمبراطورة ترغب أن تنفيني، فلتفعل فأن للرب الأرض!
* وأن كانت تود أن تنشرني، فأني أرى إشعياء مثلًا!
* وأن أرادت إغراقي في المحيط أفكر في يونان.
* وأن ألقيت في النار أجد الثلاث فتية قد تحملوا ذلك في الأتون!
* وأن وضعت أمام وحوش ضارية أذكر دانيال في جب الأسود!
* وأن أرادت رجمي فأن اسطفانوس أول الشهداء يكون أمامي!
* وأن طلبت رأسي، فلتفعل فأن المعمدان يشرق قدامي!
عريان خرجت من بطن أمي، وعريان أترك العالم.
بولس يذكرني: أن كنت بعد أرضي الناس لست عبدًا للمسيح!(54)".
هكذا لا يرتعب القديس من النفي أو التعذيب أو الموت أو الفقر...
1. النفي: لم يرتعب القديس من النفي، إذ يرى في النفي "زيارة بلاد ومدن كثيرة"، كما يقول أيضًا: "إن أردت أن تفكر فيه فأنك كمسيحي ترى الأرض كلها إنما هي غربة(55)".
منظار جديد خلاله لا ترى النفي علة ألم جسدي أو نفسي، بل مجرد تغيير للموضع، أما تمتع بزيارة مناطق جديدة أو امتداد لحياة الغربة التي نعيشها أينما وجدنا، النفي في عينيه هو خروج من غربة إلى غربة.
2. اغتصاب الممتلكات: في نظر القديس الأمر يحتاج إلى رثاء من فقد ماله بل الذي اغتصب، لأنه يفقد صلاحه، في رأيه أن فاقد المال أن تقبل الحدث بشكر بغير تذمر ولا قلق يكون كمن قدم ماله المغتصب صدقة لله، بل وأعظم من ذلك، لأن حياة الشكر أفضل من تقديم الصدقة(56). ففي حديثه عن أيوب البار يقول(57): "إن تقديمه للفقراء من خيراته لم يكن له ثماره مثل تقديمه كلمة شكر أثناء بلاياه".
3. الفقر: يقول "ليس الفقر شرًا إنما هو هدم للشر أن صحبه تدقيق مع حكمة(58)".
4. المرض: يتحدث عن المرض قائلًا: "أي ضرر أصاب لعازر بسبب مرضه وقروحه وفقره وعدم وجود من بقية؟ المسيح تضفر له هذه الأمور إكليلًا من زهور النضرة؟(59)".
5. الموت: يسميه "نومًا عميقًا(60)"، ورقادًا ورحيلًا إلى الميناء وعبورًا من وطن إلى آخر(61).
يقول: "ماذا يخيفني؟ الموت؟ لا، لأنه ليس بمرعب لي دائمًا به نصل إلى الميناء الأمين(62)".
مرة أخري يقول: "أي ضرر أصاب هابيل بموته، مع أنه مات موتًا عنيفًا في غير أوانه وبيد أخيه؟ أليس علي حساب هذا صارت سمعه هابيل تجوب الأرض كلها؟(63)".
وفي رسالته إلى الشابة الأرملة يعزيها في زوجها يقول: "حقًا لو أنه هلك كلية أو انتهي أمره تمامًا... لكان ذلك كارثة عظمي وكأن الأمر محزنًا، لكن أن كأن كل ما في الأمر أنه أبحر إلى ميناء هادئ، وقام برحلة إلى الله الذي حقًا ملكه، لذا يلزمنا إلا ننوح بل نفرح!
هذا الموت ليس موتًا، إنما هو نوع من الهجرة والانتقال من سيئ إلى حال أفضل، من الأرض إلى السماء، من وسط البشر إلى الملائكة ورؤساء الملائكة، بل ليكون مع الله الذي هو رب الملائكة ورؤساء الملائكة...
ربما تشتاقين إلى سماع صوت زوجك والتمتع بحبه... حسنًا! أن الحب الذي كأن يمن به عليك أن تحتفظي به معك كما كأن قبلًا. لأن هذا هو قوة الحب أنه يحتضن الحاضرين معنا، القريبين في المكان، المنظورين، كما يحتضن البعدين لمسافات شاسعة ويكون قائمًا بينهم ويربطهم معًا، فلا يمكن لبعد الزمان أو المكان أو لشيء من هذا القبيل أن يكسر محبة الروح ويبددها".
الموت ليس موضوع حزن مادام الله يدعونا إليه لنرجع ونكون معه: "أعماق المسيحية هي انتظار الحياة بعد الموت وترجي الرجوع بعد الرحيل(64)".
أما سر نصرتنا علي الموت فهو السيد المسيح الذي غلب الموت وحطم الخوف منه" "أنه كراع شجاع أسر الأسد الذي كأن يرعب القطعان ويخرب الحظيرة، فكسر أنيابه وخلع مخالبه وحلق ذؤبته وتركه كلعبة مضحكة يلعب بها أولاده. هكذا أنتصر المسيح على الموت الذي كأن يثير ذعر البشرية، وسلب منه صفته المرعبة، حتى صارت البنات الصغيرات تلهون به(65) ".
في علاج مشكلة الألم قدم لنا القديس نظرة صادقة تجاه الجسد بكونه آلة برّ أن تمتع بقوة علوية يعين الإنسان علي بلوغ غايته ويكون سندًا للنفس. كما عالج مشكلة الأحداث المؤلمة التي يتعرض لها الإنسان، مقدما لنا نظرة إيمانية ترفع الإنسان فوق المخاوف وتدخل به إلى قوة الروح ليعيش وهو بعد في الجسد علي مستوي ملائكي. والآن ماذا يقول قديسنا بخصوص دور الشيطان تجاه الألم؟
لقد كتب ثلاث مقالات في هذا الشأن؟:
المقال الأول: "رد علي القائلين بأن للشيطان سلطان علينا".
المقال الثاني والثالث: "سلطان الإنسان علي مقاومة الشيطان".
وقد سبق أن ترجمت هذه المقالات ونشرت تحت عنوان "هل للشيطان سلطان عليك؟"
في هذه المقالات وغيرها أوضح النقاط التالية:
"لقد خدع الشيطان أبوينا الأولين وسمح للمياه أن تدخل سفينة حياتهم لتغرقها، لكن الله جعل المكسب أعظم من الخسارة، فأحضرها إلى العرش الإلهي. أن كأن الشيطان قد خدعنا فحرمنا من الفردوس، لكن الأب أرسل ابنه وأجلسنا في السموات(66).
الشيطان خدعنا، لكن الله أعلن عطيته التي لا يعبر عنها(67) ووهبنا سلامه الذي يفوق كل عقل(68).
أن كأن الشيطان كأن سببًا في حرمننا من الفردوس، فأن الله أعلن عنايته بالإنسان ليس فقط في تقديم الفردوس لنا، بل وأيضًا في حرماننا منه... إذ أهلنا لنعود إلى حال أفضل.
1. أكد القديس أن الله لم يترك العالم في يد الشيطان وألا كأن حالنا كحال المجنونين(69) الذين كأن في كورة الجرجسيين بل وأشر، لأن الله لم يسلمهما بالكامل لظلم الشياطين(70).
2. وفي المقال الثاني أوضح أن الشيطان لا يجبر الإنسان علي الهزيمة وإنما يخدع...
الإنسان خاصة بعد أن تمتع بالنعمة الإلهية يحمل قوة وسلطانًا لا يقدر عليهما الشيطان، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. أنه بلا شك "يقاومنا علي الدوام(71)"، وهو "مستعد مع جيوشه للقتال ضدنا بكل خبث(72)"، وقد "تسبب في هلاك الكثيرين(73) "، لكنه ليس هو سر آلامنا المطلق هو يثير الأضاليل ويوحي لنا بها ويشككنا، لكنه يعجز عن أن يلزمنا بها لا إراديًا. أنه لا يقدر أن يرغمنا على شيء، أو يسوق إرادتنا(74)".
"العدو بالنسبة للأبرار لا يقدر أن يفعل شيئًا إلا أن يخيف(75) ".
"الشيطان مخادع... يريد أن يضللنا بمناوراته"... أما علة سقوطنا فهو "الإنسان نفسه الذي ينجذب إليه. ويوافقه، وذلك بسبب عدم جهاده أو ضعف أرادته(76) ". أو كما يقول القديس: "أنه لا يكف عن الهجوم ضدك، لكنه أن لاحظ فيك أنك تشكر الله في كل تجربة عوض عن أن تجدف علي خالقك، فأنه للحال يكف عن أن يُجربك(77)".
مرة أخري يقول: "أن رآك الشيطان مرتبطًا بالسماء، ساهرًا، فأنه لن يجرؤ قط حتى أن يحدق فيك(78)".
"السيرة الطاهرة تسد فم الشيطان نفسه وتبكمه(79)".
"قد يقول قائل: ألم يؤذ آدم إذ أفسد كيانه وافقده الفردوس؟ لا، وإنما السبب في هذا هو إهمال من أصابه الضرر، وعدم ضبطه لنفسه وجهاده. فالشيطان الذي استخدم مكائد قوية مختلفة لن يقدر أن يخدع أيوب، فكيف استطاع بوسيلة أقل أن يسيطر علي آدم؟(80)".
شغل هذا السؤل القديس في كثير كتاباته، خاصة مقاله "سلطان الإنسان علي مقاومة الشيطان(81)"، وجاءت أجابته في اختصار:
1. الشيطان مضلل... لكن كثيرون غلبوه فصارت لهم تذكية وكرامة أفضل بكثير من المغلوبين، حتى ولو كان المغلبون كثيرين. إذ يقال "ولد واحد خير من ألف منافقين(82)".
2. أن كان المغلبون قد أصابهم أذى، فأن السبب هو كسلهم وليس الشيطان...
3. لو أن الله استعبد الشيطان لأنه مضلل وبسببه يتعثر كثيرون فهل يستبعد الله الخليقة الجميلة بسبب عثرة البعض فيها، وهل يستبعد الله أعضاءنا التي نستخدمها استخدامًا شريرًا... ولماذا؟ فأن البعض تعثر في الصليب(83) وفي الرسل(84). بل وتعثر اليهود في السيد المسيح نفسه(85).
أخيرًا يؤكد القديس أنه لا يبرئ الشيطان، لكننا نستفيد من وجوده ومن حربه ضدنا لكي نتزكى ونُكلل.
"إن كان الشيطان المملوء مكرًا هذا مقداره بعدما صب كل ما في جعبته، مستخدمًا كل أسلحته، وسكب كل شروره ضد إنسان بار ذا مركز عالي سام لم يسبب له أذى، بل بالحري كما سبق أن قلت قد أفاده، فكيف تقدر أن تتهم إنسانًا أو آخر أنه يحمل في يديه ضررًا لغيره وليس لنفسه...؟
لست بهذا أقول أنه لا يوجد من يضر غيره، إنما لا يصيب الضرر أحد بيد آخر بل بسببه هو... فقد أضر إخوة يوسف أخاهم، لكنه لم يصب يوسف بضرر. القي قايين شباكه ضد هابيل، لكن هابيل لم يسقط فيها...
(ماذا يفعل بك الآخرون؟)...
أيسلبون مالك؟ أذكر هذه الكلمات: عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك(86)"، وقول الرسول: "لأننا لم ندخل العالم بشيء، ووضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء".
هل أسيء إلى سمعتك، وقذفك البعض بشتائم لا حصر لها؟ أذكر القول: "ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنًا" وأيضًا: "افرحوا وتهللوا أن قالوا عليكم كلمة شريرة(87)".
هل أخذت إلى النفي؟ أذكر أنه ليس لك هناك موضع إنما يليق بك أن كنت حكيمًا أن تتطلع إلى العالم كله كأرض غربة...
هل يعاني إنسان من موت عنيف؟ ليذكر يوحنا الذي قطعت رأسه في السجن وأخذت علي طبق، وقدمت مكافأة لرقص زانية...
يأمل المكافأة التي تنالها علي حساب هذه الأمور، فأن هذه الآلام جميعها إذ تسقط علي إنسان من أخر ظلمًا إنما تنزع خطايانا وشرنا.
"عظيم إذن هو نفع هذه الأتعاب لمن يحتملها بشجاعة(88)".
هكذا إذ يدخل الإنسان إلى خبرة الحياة الأبدية يحمل نظرة جديدة نحو ظلم الآخرين و مكائدهم، تتحول الآلام التي يصبونها علينا إلى أفراح.
وقد أوضح القديس نظرتنا إلى صانعي المكائد وأعمالهم هكذا:
1. صانعوا المكائد إخوة لنا وليس أعداء... فأنه ليس لنا إلا عدو واحد هو الخطية التي تفسد سلامنا، أو هو الشيطان الذي يخرج ببث العداوة بين البشر(89). فعلي سبيل المثال: "لم ييأس بولس من خلاص راجميه بالحجارة أو ضاربيه بالعصي إذ يمكن أن ينالوا الملكوت(90)"، ويصيروا إخوة له.
2. الله يسمح بوجود هذه المكائد ضدنا لكي نتألم وإنما لنتكل... أنه يرى خلال آلامنا الأمجاد الأبدية التي توهب لنا.
"لعمري، أنك ما خسرت شيئًا، بل أخذت زيارة.
أنك ما ظلمت إنما تكللت، إذ صرت شبيها بالله(91)".
"أني أنظر السيوف فأتأمل السماء!
أتوقع الموت أفكر في القيامة!
أتطلع إلى متاعب هذا العالم السفلي فأضع في اعتباري المكافآت السماوية!
أدرك هذا لعدو فأتأمل الإكليل السماوي(92)".
مرة أخرى يقول: "أن كأن لا يقدر أحد أن يلومني علي فعل الخطية، فليقم العالم كله بحرب ضدي، فأن مثل هذه الحرب تجعلني بالأكثر ممجدًا(93)".
3. يرى القديس أيضًا في مكائد الآخرين فرصة لغسل الدم في دم السيد المسيح، وذلك بقبولنا لها من يدي الله بشكر كتأديب عن خطايانا، إذ يقول:
"إذا أخطأنا ينهض الله علينا أعداءنا لتأديبنا، لهذا يليق بنا لا أن نحاربهم، بل نحاسب أنفسنا ونثقفها.
لنتقبل الآلام كقبول الأدوية من الطبيب لأجل خلاصنا، وكقبول التأديب من الأب حتى نتمجد. لهذا يقول الحكيم ابن سيراخ: "يا بني إذا تقدمت لخدمة ربك فتأهب للتجارب واصبر".
"لا تقل أن شتمك وأساء إليك واستهزأ بك وسبك وصنع معك كل شر... فأنه قد أوجد لك فرصة لغسل خطاياك(94)".
4. أخيرًا فأن القديس يوحنا يجد في مكائد الآخرين فرصة للغلبة علي طبعة البشري، حيث يتدرب إنسان كيف يغلب غضبه.
في هذا يقول: "كان انتصار داود علي الطبيعة الإنسانية حين سامح شاول أبلغ اقتدارًا من غلبته علي جليات الجبار الصنديد. هذه الغلبة أشرف لأنها بدون سفك دم، وهي أمر عجيب. لقد خرج داود في أثر شاول شاكرًا الله لا لأنه لم يقطع رأس عدوه فحسب، وإنما لأنه أمات روح الغضب في شاول، فتخلص من روح الحقد وحطم عدوه (شيطان الانتقام) بحد السيف(95)".
كثيرًا ما وضع القديس يوحنا الذهبي الفم التساؤلات التالية وأمثالها قدام شعبه:
أن كان البشر يتألمون فأين عناية الله محب البشر؟
لماذا نري الصالح متألمًا، والشرير غنيًا وصاحب سلطان؟
لماذا يسمح الله لأولاده بالتجارب والضيقات؟
وجاءت إجاباته تحوي مقالات طويلة قمنا بترجمة بعضها وتبويبها ونشرها(96)، كما جاءت عرضًا في بعض عظاته. ويمكننا أن نلخص أفكاره في النقاط التالية:
1. يلزمنا أن نخضع لإرادة الله بغير مناقشات كثيرة فضولية فأن مقاصد الله غير مدركة حتى بالنسبة للسمائيين.
2. الله محب البشر، حبه ليس حب عاطفي، لا يقارن بحب الأم لرضيعها أو حب الزوج لزوجته أو الحبيب لمحبوبته. أنه حب علوي فائق، غايته الدخول بالإنسان إلى شركة المجد الأبدي... لذا فهو لا يريد لنا الألم، إنما يسمح لخيرنا لتأديبنا أو تركيبنا، للدخول بنا إلى الميراث الأبدي:
"إنه لدليل مزدوج علي محبة الله أن يسمح لكم بمثل هذه التجارب. هذه الكلمات تحمل تعزية عظيمة، إذ تعرفنا أن الأحزان هي من عمل الله، الضيقات من عنده(97)".
"الله أساسًا لا يعاقبنا، إنما يردنا أن نصير إلى حال أفضل(98)".
3. الله يسمح بالآلام للصالحين، فليس أحد مساويًا للرسول بولس ومع ذلك قضى حياته في آلام مستمرة، في تنهدات ليلًا ونهارًا... ليس ثمرة خطاياه ولكن من أجل انتظار المكافأة. والأشرار يتحملون الآلام للتأديب... وفي كلتا الحالتين نشكر الله لأنه لا يسمح بذلك عن أنتقم أو كراهية بل علامة رعايته واهتمامه بنا(99).
4. يليق بنا إلا نضيع وقتنا بكثرة التساؤلات إنما ننتفع عمليًا، حاملين قوة جديدة خلال اتحدنا بالله، فلا يصبنا شر، إذ يقول: "أن كنت تفحص أمور الله ولا تريد الخضوع لمقاصده العميقة غير المفحوص. أن حصرت هدفك في مجرد التساؤلات المملوءة فضولًا. فأنك تظل تتساءل عن أشياء أخرى كثيرة... مع أنه كان يجدر بنا لا أن نبحث في هذا كله بل نسلم لحكمة الله غير المدركة. فأن الإنسان المحب الملتصق بالله علي الدوام لا تؤذيه الأمواج مهما كثرت هذه، بل على العكس يخرج منها بقوة جديدة. أما الإنسان الضعيف المتخاذل فأنه يسقط كثيرًا حتى ولو لم يوجد ما يضايقه(100)".
"ليس هناك إلا سبب واحد حقيقي هو علة الحزن: "الخطية". "ليس شيء مؤلمًا غير الخطية، أما ما عداها من نفي وفقدان ممتلكات وتدابير مكائد وما أشبه ذلك إنما هو ظلال ودخان، هو نسيج عنكبوت بل وأوهى من ذلك. أني لا أكف عن القول أن أمرًا وأحدًا يحزننا هو الخطية(101)".
هكذا يرتفع الإنسان فوق كل الأحداث بل وفوق مكائد الناس وخداعات الشياطين، لكن أمرا واحد يهزم الإنسان هو "إرادته الشريرة". فالإنسان لا يقدر أن يؤذيه أحد ما لم يؤذ الإنسان نفسه.
الخطية التي يقبلها الإنسان بمحض أرادته تفسد اتزانه وتفقده قدرته علي تقدير الأمور، وتحرمه سلامه الداخلي النابع عن اتحاده مع الله... أنه بإرادته الحرة هو المسئول الأول عن آلامه الحقيقية.
في هذا يقول:
"لا تظنوا أننا نخشى الكمائن اللهم إلا إذا كنا نحن أعددناها لأنفسنا".
"الخير والشر هما في أيدينا".
"أني أؤكد لكم، واكرر بأعلى صوتي، مخبرًا إياكم عن ملجأ شاهق العلو: أن المسيحي لا يخشي أحد من سكان الأرض... بل ولا من الشيطان، إبليس الطاغية... ما لم يضر الإنسان نفسه أولًا".
"الله ليس مصدرا للألم، ولا الطبيعة، ولا القضاء والقدر، لكنه هو من عمل أرادتكم الحرة ورغبتكم(102)".
"في الواقع ليس الغني ولا الفقر يفسد حياتكم، إنما أرادتكم".
"قد يهينك العالم كله، لكنك أن لم تهن نفسك بنفسك لا تكون مهانًا. الخيانة الوحيدة الحقيقية هي خيانة الضمير(103)".
"لا تخف قط من السيف أن كان ضميرك لا يسيء إليك، ولا تخف من الحرب إن كان ضميرك نقيًا(104)".
ربط القديس الألم في حياة المؤمنين بشخص السيد المسيح الذي قبل الآلام من أجلنا بفرح، مقدمًا مفهومًا جديدًا للألم:
لقد شرب السيد الكأس حتى النهاية، وفي هذا كله لم يفقد هدوءه ولا صبره ولا شجاعته ولا حبه لمضطهديه، مقدما لنا مثالًا عمليًا حتى كما سلك هو نسلك نحن أيضًا.
"كان يمكنه أن يرسل صاعقة ويزلزل الأرض وييبس يد رئيس الكهنة، لكنه أراد يغلب بهدوء، معلما إيانا نحن البشر إلا نندفع قط(105)".
"أرجوكم أن تلاحظوا في هذا المجال (أحداث الصليب) كيف تمم المسيح كل هذه الأمور في هدوء". أمام التغيرات لم ينطق قط، مقدما لنا أعظم درس في التسليم وسمو النفس...
يسلم أحد التلاميذ المخلص، وبقية التلاميذ تهرب، والذين صنع معهم خيرًا يبصقون علي وجهه، وخادم رئيس الكهنة يلطمه والجند يوسعونه ضربًا، والمارة يشتمونه، واللصوص يهيجون عليه، وفي هذا كله لم ينطق بكلمة!
بصمته أنتصر، معلما إيانا أن نغلب الظلم بالصبر، فيكون ذلك موضع إعجاب العالم كله(106).
"يكفينا أن نقرأ هذه الأحداث ونتذكرها: إكليل الشوك، رداء الهوان الأرجواني، القصبة، اللطمات، البصاق، وكل أنواع السخرية. إذا تأملنا في هذه الأحداث لا نحتاج إلى شيء آخر يطفئ كل شعور بالغضب في قلوبنا(107)".
"المعصوم من الخطية قبل أن يموت لكي يعلمنا الاحتمال بشجاعة محتقرون الموت(108)".
"لقد صلى وسط آلامه ليعلمنا الصلاة، طالبين أن يبعد عنا المخاطر. وأن لم يتحقق هذا فأننا نتقبل أرادا الله الحلوة(109)".
"اجتاز هذا كله لكي يشارك آلامك كلها، غالبًا إياها بطريقة عجيبة لكي يعلمك ويرشدك إلا تخاف شيئًا من هذه المحن(110)".
بآلامه وصلبه وموته ودفنه أعطانا قوة جديدة، ليس فقط أن نتمثل به، لكنه حطم سلطان الخطية وكسر شوكة الشيطان وأمات الموت الروحي واهبًا لنا حياة جديدة فيه. بآلامه حطم سلطان آلامنا.
"ضرب السيد المسيح الموت.
قتل المسيح المضروب الموت، هازمًا ما كنا نظنه أبدي(111)".
"أني أتحدث عن أعظم الخيرات، أقصد الصليب الذي به خلص العالم(112)".
"أترون كيف حطم كل قوات الشيطان بدفعه طغيان الموت(113)؟".
كان الألم علته الخطية وسر فساد أرادتنا، دخل إلينا كمرض أصاب الإنسان بسبب انعزاله عن الله مصدر حياته وسر فرحه، لكن الرب دخل الآلام من جديد هو باب الطاعة للآب والحب. أطاع الأب وأحبنا مسلمًا نفسه للألم حتى الموت ذبيحة حب للآب باسمنا، فلم يعد الألم مرضًا يصيب الإنسان بعلته عن الله بل قوة ومجدًا، سر الطاعة والحب، تفوح منه رائحة الصلاح لا الفساد.
هذا المفهوم الجديد للألم لمسناه بقوة في مراسلاته الأخيرة وهو في النفي حين أعلن لأخوته الأساقفة وأبنائه يثب متهللًا بالألم، حاسبًا نفسه غير أهل لشركة الآلام مع المسيح... شركة الطاعة والحب.
ومن أقواله أيضًا:
"إنه يسمو بنفوسنا، حاسبًا هذه الآلام خاصة به، فأي فرح يشملنا أن نكون شركاء المسيح، ومن أجله نتألم؟"
"كما تألم من الناس نتألم أيضًا معه... لذلك يليق بكم إلا تقلقكم هذه الآلام بل بالأحرى تفرحكم...
هكذا يليق بنا أن نسلك في نفس الطريق حتى نشاركه في المجد والكرامة...
ما أمجد الآلام! بها نتشبه بموته!(114)".
"ليس شيء أقسى من الآلام الجسدية التي عانها الشهداء، لكن بسبب فرحهم بإلههم فأن ما لم يكن محتملًا للآذان أن تحتمل سماعه يصير بالنسبة لهم محتملًا، بل ويشتاقون إليه! فلو أخذت شهيدًا من علي الصليب أو من داخل أتون النار وكان لا يزال به أنفاس فستجد في داخله كنزًا من الفرح لا يعبر عنه".
"كيف يمكن أن يكون حزينًا أو مرتعبًا أو خائفًا من الخطر من يتذكر الإله الذي تنازل وأحبنا؟(115)".
وفي تعليقه علي كلمات الرسول: "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله(116)"، يقول: "أنه يعلمنا أن الآلام نعمة من أجل المسيح، هي عطية النعمة، عطية مجانية. لا تخجل من عطية النعمة هذه، فهي أعجب من قوة الإقامة من الأموات أو صنع المعجزات، فأنني أن فعلت هذه الأمور الأخيرة أكون مدينا (لله)، أما أن احتملت الآلام فيكون المسيح هو مدين لي. لذلك يليق بنا ليس فقط إلا نخجل منها بل بالحري نفرح أنه قد صار لنا هذه النعمة(117)".
أخيرًا يرى القديس أن الألم هو "مدرسة الفلسفة(118)"، ونقصد بالفلسفة "الحياة الفاضلة الإيمانية" يقول عنها:
"الألم هو معلمنا.
أننا لا نجلب الألم علي أنفسنا، إنما نحتمله بشجاعة متى تعرضنا له، لأنه دائمًا مصدر خيرات كثيرة(119)".
"هذه الحياة هي مكان للتدريب علي الألم، معركة، وبوتقة فيها تنصهر الفضيلة وتتنقى(120)".
"كما أن عنف الرياح يجعل شجر البلوط قويًا وأكثر صلابة، هكذا الروح النقية القديسة كروح أيوب الطوباوي لا تتزعزع تحت هجمات الآلام بل يقوي صبرها(121)".
"لا تشتهي حياة خالية من كل ضيقة، فأن هذا ليس فيه خيرك(122)".
"أن نشكر الله علي خيراته، فهذا وفاء لدين، أما أن نشكره علي الضيقات التي يسمح لنا، فهذا يجعله مدينا لنا(123)".
أخيرًا ينصحنا لكي ننجح في مدرسة الألم أن نحني ظهورنا عندما تهب رياح التجارب أي نقابلها باتضاع وهدوء وذلك "كالبحارة الذين يطوون القلاع عند هبوب الريح العاصف(124)".
_____
الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(36) راجع كتابنا الحب الأخوي: محبتنا للفقراء.
(37) أنظر القديس يوحنا الذهبي الفم: عناية الله.
(39) أنظر القديس يوحنا الذهبي الفم: أتضاع الفكر.
(41) In Hebr,hom 23:9.
(42) De Resur.Mort, In Col, hom 8:1
(43) In Ebh, hom 5.
(44) De statues, hom 2:3
(45) Deang. Porta 51:41.
(46) هل للشيطان سلطان عليك؟ طبعة 1972، الصليب 58.
(47) (1كو 27:9).
(48) In 1 Cor,hom 23:2.
(49) In Philip
(50) (1كو 2: 14).
(51) من يقدر أن يؤذيك؟ ص 17.
(52)Ego Dominus Deus.
(53)Epis 14 ad Oiymp.
(54) NpNf,Series2,vol9,p14.
(55)Pist.4,54,Epis.ad Oiymp.9,4.
(56) المؤلف: القيم الروحية لعيد النيروز ص 26.
(57) المرجع السابق ص 85.
(58)Ego Dom Deus.
(59) من يقدر أن يؤذيك؟ ص 22.
(60) يسوع والمفلوجان، ص 61.
(61)In Gen pG 53:345,338.
(62) الكنيسة تحبك، عظتان عن ايدبييوس، عظة 2.
(63) من يقدر أن يؤذيك؟ ص22.
(64) De Consol.mort.pg 56:299.
(65)De s. pelog.pG 50:579.
(66) (أف 2: 6).
(67) (2كو 15:9).
(68) (في 7:4).
(69) (مت 28:8).
(70) المقال الأول.
(71) Epist5:34.
(72) Epist.ad Olymp.7.
(73) De Prouid.
(74) In Gen,hom31:1.
(75) In Philip,hom4.
(76) In Acts,hom54:9.
(77) De Incomp,hom4.
(78) Ibid.
(79) مؤلف: الحب الأخوي طبعة 64، ص 84.
(80) من يقدر أن يؤذيك؟ ص 21.
(81) هل للشيطان سلطان عليك، ص 52-62.
(82) (ابن سيراخ 3:16).
(83) (1كو 18:1).
(84) (2 كو 16:2).
(85) (يو 39:9).
(86) (أي 1: 21، 1تى 6: 7).
(87) (لو26:6 ، مت 11:5).
(88) من يقدر أن يؤذيك، ص 20، 23، 25.
(89) القيم الروحية لعيد النيروز ، ص44.
(90) الحب الأخوي ، ص 108.
(91) القيم الروحية لعيد النيروز، ص 62.
(92) الكنيسة تحبك ، عظة 2.
(93) الكنيسة تحبك.
(94) الحب الأخوي ، ص323.
(95) القيم الروحية لعيد النيروز ص66.
(96) صدرت مقالاته فلي هذا الشأن ونشرت بالعربية تحت العناوين: العناية الإلهية، هل للشيطان سلطان عليك؟، يسوع والمفلوجان، من يقدر أن يؤذيك...
(97) In Hebr,hom29:1.
(98) In Ps.PG55:444,409.
(99) In Tim,hom 8.
(100) العناية الإلهية، ص12.
(101) In Acts,hom 14:4:hebr,hom 33:4:Epist.ad Olymp
(102) In Mat, hom 59:2.
(103) الكنيسة تحبك: عظتان عن اتروبيوس 2.
(104) المرجع السابق.
(105) In s. Phoce.
(106) In Joun 84, 85, Mat. 87.
(107) In Joan 84: 3.
(108) In Hebr ,28: 2.
(109) Pater, si Possible 4.
(110) العناية الإلهية، ص30.
(111) In Col,6:3.
(112) العناية الإلهية، ص15.
(113)In Hebr, 4:4.
(114) (في 3: 9- 12).
(115) القيم الروحية لعيد النيروز، ص17- 19 ، 32 ،42.
(116) (في 29:1).
(117) In Philip, hom 4.
(118) In Acts PG 60: 378.
(119) In Acts. PG 60: 302.
(120) Ad cos Qui Scand PG 52: 522,
(121) Ad Pop.Ant PG 49: 62.
(122) In Ps.PG 55: 317.
(123) In Ps PG 55: 121.
(124) In Acts, PG 60: 232.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/chrysostom/pain.html
تقصير الرابط:
tak.la/w554q35