St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   john-chrysostom-repentance
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب عظات عن التوبة: للقديس يوحنا ذهبي الفم - القمص أنجيلوس المقاري

5- العظة الخامسة عن التوبة، أُلقيت على أعتاب الصوم: يونان النبي - دانيال - الثلاثة فتية

 

محتويات: (إظهار/إخفاء)

مغزى الصوم
الصوم يحمينا كدرع
مثال أهل نينوى
التوبة تمحو كثرة من الخطايا
تجربة يونان
قضية يونان
نينوى خلصت بالصوم
الثلاثة فتية في أتون النار
الحث على الرزانة والصحو

1- إن اجتماعنا اليوم يكتسي ببهاء خاص، ولم يكن اجتماعنا قط غير مكتسٍ بهذا البهاء... لأي شيء نستطيع أن نُعزي هذا؟ أسالكم: أإلى الصوم؟ ليس إلى الصوم الذي تعودنا أن نحياه، لكن الذي قد أوشك الآن (على أن يبدأ)، فهو يجمعنا في البيت الأبوي، وهو يقتاد المؤمنين الذين لا يظهرون دائمًا نفس الحماس لأمهم (الكنيسة).

ولو أن الرجاء الوحيد المرتقب من هذه الفترة يكفي لكي يبث فينا مثل هذا الحماس (الروحي)، فكم ستنتعش تقوانا لو كان هذا الصوم مفتوحًا (أي دائمًا)؟

إن سلوكنا تجاه الصوم والكنيسة يشبه بالتقريب تصرف مدينة يُعلن فيها أن أميرًا مهيبًا سيزورها، فتطرد عنها كل فتور وتظهر في أوج نشاطها، ولكني أخشى لئلا تولد فيكم هذه المقارنة الخوف، فليس الصوم هو الذي ينبغي أن نخافه بل الشياطين.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

مغزى الصوم

إنه يكفي أن يقدم الصوم إلى أحد المصروعين بالشياطين، لكي في الحال يتجمد ويصير عديم الحركة مثل الصخر، إذ يتقيد بالخوف الذي يسببه الصوم. وأنتم تلاحظون رد الفعل هذا مضاعفًا لو أقرنتم الصوم بالصلاة، لأن المسيح علّمنا أن الشيطان لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (مت 9: 29)، وأيضًا يجب علينا أن نخص الصوم باستقبال مناسب أي بحماس وجدية وليس بخوف، لأنه يطرد أعداء خلاصنا ويثير خوفًا عظيمًا لمن يفسدون حياتنا (أي الشياطين).

لكن إذا لم يكن للصوم شيء من المهابة، فاحترسوا لئلا تسقطوا في السكر والإفراط. لأن هذه التجاوزات كفيلة باستعبادنا وتسلمنا -خلوا من أي دفاع- لطغيان الرذيلة كما لقوة رديئة النية.

إن الصوم بالمقابل يحررنا من قيود العبودية، ويضع نهاية لهذا الطغيان، ويستعيد لنا حريتنا الأصلية حيث أنه يحارب أعدائنا ويحررنا من عبوديتنا ويمنحنا حريتنا.

أي إثبات أكثر وضوح تنتظرونه أيضًا من حسنات الصوم تجاه الجنس البشري؟

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الصوم يحمينا كدرع

هل تريدون أن تعرفوا في أي شيء يكون الصوم موضع مجد وأداة للحماية وأمان للبشر؟ فقط تأملوا في الحياة التقوية المثيرة للإعجاب التي للمتوحدين... هؤلاء الرجال الذين هربوا من اضطراب العالم ليلتجأوا لقمة أحد الجبال وعاشوا هناك في مغاير في عزلة وهدوء كما في ميناء سلام، هؤلاء الرجال الذين تبنوا الصوم كرفيق لهم على مدى كل حياتهم، وقد حولهم الصوم هكذا إلى ملائكة ورفعهم إلى ذروة الحكمة. لكن لا تظنوا أن هذه الأعاجيب محفوظة فقط لهؤلاء المتوحدين، بل لكل سكان مدننا الذين إن مارسوا الصوم يمكن لهم أيضًا أن ينالوها.

موسى وإيليا، هذان النبيان الممجدان، عمودا العهد القديم اللذان كان لهما دالة عظيمة عند الرب، كانا يرجعان للصوم كلما أرادا لقاء الله والتحدث إليه، وكان الصوم يرفعهما بيده حينئذ إلى الله. لأجل هذا فإن الله أيضًا قد سارع بوضع الإنسان الذي خلقه في البدء تحت وصية الصوم وأوكل إلى الصوم خلاصه كما إلى أم ممتلئة عطفًا أو كما إلى سيد نبيل.

St-Takla.org Image: Arabic Bible verse: "So when they had all done this together, and had craved mercy of the Lord with weeping and fasting, lying prostrate on the ground for three days continually" (2 Maccabees 13: 12) - Designed by Michael Ghaly for St-Takla.org. صورة في موقع الأنبا تكلا: آية من الكتاب المقدس: "ففعلوا كلهم وتضرعوا إلى الرب الرحيم بالبكاء والصوم والسجود مدة ثلاثة أيام بلا انقطاع" (المكابيين الثاني 13: 12). - تصميم مايكل غالي لـ: موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org Image: Arabic Bible verse: "So when they had all done this together, and had craved mercy of the Lord with weeping and fasting, lying prostrate on the ground for three days continually" (2 Maccabees 13: 12) - Designed by Michael Ghaly for St-Takla.org.

صورة في موقع الأنبا تكلا: آية من الكتاب المقدس: "ففعلوا كلهم وتضرعوا إلى الرب الرحيم بالبكاء والصوم والسجود مدة ثلاثة أيام بلا انقطاع" (المكابيين الثاني 13: 12). - تصميم مايكل غالي لـ: موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

نعم، إذا نظرتم إلى هذه الوصية: "من كل شجر الجنة تأكل ولكن من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل" (تك 2: 16-17) - فهل تتعرفون وتميزون هنا وصية الصوم؟

إن كان الصوم قد ظهر كضرورة في الفردوس، فهو بالأولى ضروري جدًا خارج الفردوس، وإن كان ثمينًا ليمنع جرح، فكم بالأولى تزداد أهميته في حالة حدوث الجرح، وإن كانت أهوائنا آنذاك نائمة ومع ذلك تسلحنا بأسلحة مقتدرة، فكم بالأولى الآن تكون هناك حاجة ماسة جدًا وقد أُسلمنا إلى حرب شرسة ضد الأهواء مع الشياطين.

لو كان آدم قد أصغى إلى النهاية لهذا الصوت، لما سمع إطلاقًا هذه الكلمات: "لأنك تراب وإلى التراب تعود" (تك 3: 19)، وهو إذ قد تعدى هذه الوصية لذلك فهو لم يعد يعرف إلا الموت والتعب والعذاب واليأس وحياة أكثر إيلامًا من الموت ومزروعة بالأشواك والحسك والكدر والتعب وضيقات أخرى لا تُحصى.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

مثال أهل نينوى

2- وهكذا رأينا كيف عاقب الله من رذل الصوم. ولكن لنرى الآن كيف يُظهر رضاه لمن يحترم الصوم، وكما أنه لم يتردد عن أن يضرب بالموت كعقوبة لمن احتقر الصوم، فإنه أيضًا يُعيد إلى الحياة كل من يخضع نفسه للصوم. ولكي يبدد شكوككم من نحو فضيلة الصوم، فقد جعله قادرًا على الغفران للمجرمين المدانين للموت واقتادهم حينئذ إلى الحياة مع أن حكم الموت كان قد صدر والتنفيذ كان موشك.

هذه الأعجوبة لم يصنعها الصوم لشخص أو اثنين أو حتى لعشرين، ولكن لشعب مدينة بأكملها -لأهل مدينة نينوى. نينوى، تلك المدينة العجيبة والعظيمة قد صدر الأمر باستئصالها من أساسها ليُهوى بها في عمق الجحيم، وصارت مهيأة لاستقبال ضربة قاتلة ستنقض عليها- ضربة تليق بقوة السماء ولكن... الصوم خلَّصها من بين أنياب الموت واقتادها إلى الحياة. ولكن لنسمع القصة من الأول:

صار قول الرب إلى يونان: "قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة". إن الله من البداية قد أصرّ على عظمة المدينة لكي يتأثر النبي، لأن الله قد سبق ورأى مشروع هروب النبي، وهذه هي الرسالة التي كلفه بها: "بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى" [(يون 3: 4) - بحسب السبعينية].

يا رب لماذا أخبرت مقدمًا بالشرور التي ستنزلها بالمدينة؟

لكي لا تتحقق تهديداتي.

وهذا أيضًا لكي يقينا جهنم التي يهددنا بها، فهو يقول: اخشوا تهديدي إن كنتم لا تريدون أن تقع عليكم ضرباتي.

لكن لماذا خفضت المهلة لفترة قصيرة جدًا؟

هذا لكي تدركوا عظم فضيلة هؤلاء البرابرة - أقصد أهل نينوى، هؤلاء الذين كان يكفيهم ثلاثة أيام لكي يسكنوا الغضب الإلهي الذي سببته خطاياهم، وأيضًا لكي تتعجبوا من صلاح الله الذي اكتفى بتوبة ثلاثة أيام لتكفر عن خطايا بمثل هذه الفظاعة، ولكي لا تستسلموا على الإطلاق لليأس عندما تكونوا محملين بخطايا لا تُعد من الكثرة. لكن هل تظنوا أن أي إنسان متكاسل ومهمل يمكن له أن يصل لنتائج باهرة حتى إن كرّس وقت طويل للتوبة؟ إن كسله سيكون عقبة في طريق تصالحه مع الله، إلا أن الخاطئ الذي ينهض ويُظهر حماس عظيم يستطيع بفضل قوة توبته أن يمحو في وقت قصير خطايا متراكمة من سنوات طويلة مضت...

 وأيضًا ألم ينكر بطرس الرسول الرب ثلاث مرات؟ ألم يكن مستعد للقسم في المرة الثالثة؟ ألم يجفل أمام كلمات جارية حقيرة؟ فهل كان عليه أن يجاهد سنوات عديدة لكي يتوب؟

إطلاقًا! فقد قام في نفس الليلة التي سقط فيها. لقد أدركه المرض ولكنه استعاد صحته بسرعة. كيف تحقق هذا؟

لقد بكى وانتحب ودموعه لم تكن مظهرية بل كانت نابعة من عمق قلبه بندم صادق والإنجيل ذكرها هكذا: "وبكى بكاءً مرًا" (مت 26: 75)، حقًا فقد كان سقوطًا مريعًا، وهل يوجد خطية أكثر شناعة من الإنكار؟

(ولكن) بالرغم من شناعة هذه الخطية، فقد استعاد كرامته وسط التلاميذ، ونحن نرى في شهادة الرب لحب بطرس له شيء مميز، فهي تُظهر ضمنًا حبه الشديد للرب أكثر من سائر الرسل، إذ قال الرب له: "أتحبني يا بطرس أكثر من هؤلاء؟" (يو 21: 15)، وهل يوجد سؤال غير هذا يستطيع أن يدلنا على حبه الشديد للرب؟

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

التوبة تمحو كثرة من الخطايا

لكن هل تظنون أن الله كان له من الأسباب الوجيهة ليغفر لأهل نينوى متذرعًا بوثنيتهم وجهلهم؟

"لكن العبد الذي لا يعلم إرادة سيده ويفعل ما يستحق ضربات، يُضرب قليلًا" (لو 12: 48).

وإن كان هذا شيئًا لا تصدقونه فالله يقدم لكم هذا المثال الأخير لبطرس - ذاك العبد الذي كان يعرف بالضبط إرادة سيده، وهوذا أنتم ترون أي مكانة استعادها من جديد بالرغم من شناعة سقطته، وأخيرًا أرجوا ألا تقعوا في اليأس عندما تخطئوا، فهذا اليأس هو شيء أسوأ من السقوط، وليس السقوط هو المرعب بل إن عدم القيام من السقوط هو المرعب بالأكثر.

إن بولس الرسول أيضًا قد تأسف وأعلن متمررًا إن هذا الفتور (يقصد اليأس) جدير بالحزن الكثير: "لأني أخاف إذا جئت أيضًا أن يذلني إلهي عندكم وأنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزنا والعهارة التي فعلوها" (2كو 12: 21)، لكن أليس الصوم هو أكثر فترة مناسبة للتوبة؟

3- لكن لنرجع إلى يونان، فبعد أن سمع ما طلبه الله منه نزل إلى يافا ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب...

إلى أين تهرب يا يونان؟

ألا تذكر كلمات النبي: "أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين اختفي؟" (مز 138: 7).

أ إلى الأرض؟ ولكن "للرب الأرض وكل ملئها" (مز 23: 1).

أ إلى الهاوية؟ ولكن "إن فرشت في الهاوية فها أنت" (مز 138: 8).

أ في السموات؟ "ولكن إن صعدت للسماء فها أنت" (مز 138: 8).

إذًا أ إلى البحر؟ "ولكن هناك أيضًا تهديني يدك" (مز 138: 10).

لذلك فإن المأزق الذي وقع فيه يونان لا يختلف في شيء عما نقع فيه حينما نخطئ، فكل سقطة (خطية) تدفعنا لنوع من الجنون، وهكذا كل من يعانون الاضطراب العقلي أو السكارى يفقدون رشدهم ويغامرون متحدين العقبات التي توجد في طريقهم، لذلك إن وجد جرف أو هوة عميقة يسقطون فيها بلا تردد، وبنفس الطريقة فإن كل الذين يخطئون يتعثرون مشابهين السكارى إذ هم سكارى بشهواتهم الآثمة ولا يريدون شيئًا إلا أن يتمموها ولم يعودوا يشعروا لا بالحاضر ولا بالمستقبل.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

تجربة يونان

أتهرب من الرب يا يونان؟

حسنًا! انتظر فبعد قليل تعلمك الأحداث ما لم تستطع أن تتعلمه حتى من تواريك في عرض البحر ومراحم الله هي التي ستتولى هذا الأمر.

ما أن صعد يونان للسفينة حتى هاج البحر. تخيلوا خادم أمين وجد أحد رفقائه في العبودية هاربًا بعد أن اختلس جزءًا من ثروة سيدهما. إنه سيبذل كل جهده ليتعقب رفيقه دون تواني ويقتاده لسيده دون أن يسبب أي مضايقات لمن قد آووا رفيقه الهارب لديهم.

إن البحر يشبه هذا الخادم، فإذ قد فؤجئ وعلم بهرب يونان، لذلك في الحال وضع البحارة في إشكال عظيم إذ قد هيج عليهم أمواجه بعجيج شديد، وهددهم ليس بأن يقتادهم إلى المحكمة، بل بأن يبتلع السفينة وكل ما فيها إن لم يسلموا له رفيقه في العبودية. فماذا فعل البحارة حينئذ؟

لقد طرحوا كل الأمتعة التي كانت في السفينة إلى البحر، ولكن البحر لم يهدأ، لأن الثقل الحقيقي الذي هو النبي الهارب كان لا يزال موجودًا في جوف السفينة، وكان ثقيلًا جدًا ليس بأثقال الأوزان التي نتعامل بها، بل بثقل خطيته، لأنه لا شيء أكثر ثقلًا وأصعب حملًا مثل خطية عدم الطاعة...

وعن ثقل الخطية يقول لنا زكريا النبي إنها تشبه الرصاص، وداود النبي كتب: "إن آثامي قد طمت فوق رأسي كحمل ثقيل أثقل مما احتمل" (مز 37: 5)، والمسيح أيضًا يهتف جاذبًا انتباه الخطاة قائلًا: "تعالوا إليَّ يا جميع التعابى والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28).

لم يعد إذًا هناك أدنى شك في أن خطية يونان قد جعلت السفينة ثقيلة وتكاد تغرق، ولكن يونان كان نائمًا نومًا عميقًا، ليس نوم هدوء البال اللذيذ ولا نوم الراحة الشامل ولكن نوم الضيق الشديد واليأس العظيم، لأن خدام الله يلمحون ويميزون بسرعة خطاياهم، وهذا كان حال يونان الذي بمجرد أن أخطأ أدرك خطورة خطيته، وهذه أحد خصائص الخطية أنها تولد آلام وضيق في النفس التي أعطت ذاتها للخطية معاكسة بذلك الناموس الطبيعي. وبينما أن ولادة طفل تضع نهاية لآلام أمه، فالخطية بالعكس تبدأ آلامها الفظيعة لحظة ولادتها في القلب.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

قضية يونان

ماذا فعل حينئذ رئيس النوتية؟

لقد ذهب إلى يونان وقال له: قم اصرخ إلى الرب إلهك، إذ أن رئيس النوتية عرف بالخبرة أن هذه العاصفة لم تكن عاصفة عادية، ولكنها واحدة من ضربات الله، هذا فضلًا عن أن هيجان البحر كان شديدًا جدًا ويصعب على الجهود البشرية أن تسيطر عليه ومهارة رئيس النوتية مع فريقه لم تجدي نفعًا هنا، لأن ما هو حادث كان فعل ربان آخر قوته لا نهائية ويمسك بيده تدبير العالم أجمع. لذلك كان ينبغي للنجدة أن تأتي من فوق. وأيضًا فإن النوتية قد توقفوا عن التجديف ونشر القلاع وربط أجزاء السفينة بالحبال وسائر هذه الأمور وأوقفوا عمل كل شيء ورفعوا أيديهم نحو السماء يتضرعون إلى الله. ولما لم يظهر لهم أي تحسن في حالة الجو اتجهوا لإلقاء القرعة لمعرفة بسبب من هذه البلية. ومع أن القرعة وقعت على يونان إلا أن رفقاءه لم يتجهوا في الحال إلقائه في البحر، بل حولوا السفينة لمحكمة بالرغم من البحر الهائج والارتباك الذي كانوا غارقين فيه، وبدا وكأنهم ينعمون بهدوء كامل ووجهوا الاتهام ليونان وسمعوا دفاعه. وقد أُفتتح التحقيق بتدقيق شديد كما لو أن قرارهم النهائي كان من الضرورة أن يأخذ هذه الصبغة الرسمية حتى يخال للمرء أنه واقف فعلًا أمام هيئة محكمة...

ما هو عملك ومن أين أتيت؟ ما هي أرضك ومن أي شعب أنت؟

ولو أن البحر الهائج كان يصرخ ضده، والقرعة أقرّت ذلك بمنتهى الوضوح... بالرغم من هذه الشهادات الدامغة لم يتوقفوا عن نقض الحقيقة كما لو كانوا بالفعل محكمة عادية... فالبحارة المنعوتين بالجهل والوثنية احترموا السبل المعتادة للقضاة، وذلك بأن سمعوا اعتراف المشكو عليه بخطأ ما أمام أبواب محكمتهم. وبعد أن سمعوا الاتهام يسمعون الشهود ويفحصون أدلة الاتهام. كل هذا تم وسط الرعبة التي ألقتها عليهم العاصفة المخيفة المحيقة بهم. فالبحر بالكاد يسمح لهم أن يلتقطوا أنفاسهم، فهيجانه عنيف وأمواجه تهدر بلا توقف بصوت عجيجها.

يا أحبائي الأعزاء يحق لكم أن تتساءلوا لماذا تصرف النوتية هكذا بحذر شديد مع النبي؟

إنه الله هو الذي أوحى إليهم بذلك، وهو يريد أن يعلّم النبي درسًا في الرأفة والوداعة عن طريق النوتية، وكأنه يقول لهم: تمثّل بهؤلاء البحارة، الذين رغم جهلهم (ووثنيتهم)، فإنهم يحترمون حياة شخص لا يعرفوه، وقد حاولوا باستماتة أن يجنبوه الموت، أما أنت فعلى العكس قد تخليت عن المهمة التي أوكلتها إليك لإنقاذ مدينة بأكملها مع سكانها الذين لا يُعدون من الكثرة. إنهم لم يسارعوا لتنفيذ ما قررته القرعة، أما أنت فلم تُبد أي حزن أو شفقة على أهل نينوى وتريد أن توردهم التهلكة، وبالرغم من الأمر الذي قد أعطيته لك لتذهب إليهم وتبّلغهم ما أوصيتك به لتضعهم على طريق الخلاص فقد عصيتني، أما هؤلاء البحارة فعلى الرغم من أنه لم يوجد من يهذبهم، فقد اجتهدوا في أن يجنبوك عقوبة أنت تستحقها. وبالحق فإن يونان عندما أدان نفسه وأقرّ بخطيته وبعد أن أتهم وفضح البحر أمره بالإضافة إلى القرعة، بالرغم من كل هذا فإن البحارة لم يحاولوا أن يتخلصوا منه بسرعة، بل بالعكس فقد بذلوا كل ما في وسعهم لكي لا يسلموه للبحر المضطرب رغم ثبوت عصيان يونان...

إن الأمواج بل بالحري الله مزمع أن يعطي يونان درسًا آخر مستخدمًا هذه المرة ليس البحارة بل الحوت: "خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم".

لقد حاول البحارة الرجوع للبر بالسفينة ضاربين بذلك عرض الحائط بطلب يونان الأخير، ولكن العاصفة وقفت حائلًا ومنعتهم من ذلك.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

نينوى خلصت بالصوم

4- لقد سمعتم قصة هرب النبي والآن اسمعوه وهو يقرّ بخطيته من عمق أحشاء الحوت الذي ابتلعه، لأنه وإن كان يونان كإنسان قد خضع لهذه العقوبة، إلا أنه يخاطبنا بشهادته كنبي.

إن يونان قد ابتلعه حوت كبير بمجرد أن أُلقي في البحر، وهذا الحوت قد حفظه سالمًا ليقتاده إلى الله. ولقد عانى يونان من عنف الأمواج ورعبة الحوت الشره الذي استقبله في أعماقه. ونجا يونان وعاد للمدينة بعد أن تعلم الدرس الذي قدمته له الأحداث الخارقة للطبيعة.

ما أن وصل يونان للمدينة حتى أعلن حكم الله على المدينة كما يليق بخطاب ملكي يعلن عقوبة: "ثلاثة أيام وتنقلب المدينة". لقد أصغى أهل نينوى بانتباه لإعلانه هذا، ولم يستخفوا إطلاقًا بالتهديد الذي يحويه هذا الإنذار، وفي الحال صام الرجال والنساء والعبيد والسادة والأمراء وعامة الشعب الشباب والكهول، الكل صام بل إن الحيوانات أيضًا أُجبرت على الصوم. في كل مكان كان يوجد مسوح ورماد ونحيب وزفير، وحتى الملك قد ترك عرشه وارتدى المسوح وتغطى بالرماد، وهكذا رُفع الهلاك والعقاب الذي كان ينتظر المدينة.

لم يُسمع من قبل أن يوجد ملك وقد بدل ثيابه الأرجوانية بالمسوح، ولكن ما عجز عنه الثوب الأرجواني قد نالته المسوح، وما لم يستطع التاج أن ينجزه، أنجزه الرماد.

ألست أنا على صواب عندما أقول لكم لا تخافوا الصوم، بل خافوا السُكر والإفراط؟ لأنه بالحق فإن الشراهة هي التي هزت أساسات هذه المدينة، والصوم هو الذي أعاد تثبيتها.

وبالمثل فإن الصوم هو الذي خلّص دانيال حينما أُلقي في جب الأسود وجعلها مثل حيوانات مستأنسة مع أن هذه الحيوانات المتوحشة كانت تغلي وتزبد في داخلها وعينيها تقدح بالدم، ولكنها مع ذلك لم تهاجم الفريسة الواقفة أمامها، وهذه الحيوانات كانت بطبيعتها وحشية، إلا أنها على الرغم من جوعها الشديد إذ أنها لم تأكل طيلة سبعة أيام، كان يبدو عليها أنها كانت تطيع أمرًا أُملي عليها أن لا تهاجم النبي، وقد انصاعت لهذا الأمر.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الثلاثة فتية في أتون النار

خرج الثلاثة فتية أيضًا سالمين من الأتون الذي أُلقوا فيه في بابل وذلك بفضل الصوم، وكانت أجسادهم براقة أكثر من اللهب ذاته في أثناء الفترة الطويلة التي أُودعوا فيها للنار.

إن كانت هذه النار حقيقية فكيف لم تسارع لإجراء ما تجريه النار في المعتاد من تلفيات؟ ولو كانت الأجساد أجسادًا حقيقية، فلماذا توقفت النار عن التهامهم مخالفة بذلك طبيعتها؟ لماذا صارت الأمور هكذا؟

إن الصوم هو الذي أمسك النار عن التصرف بطبيعتها. أسألوه فهو يحل لغزكم، لأن هذا الأمر جدير بأن يكون لغزًا، فالجسد بالحق لا يقاوم النار، وأيضًا شيء غريب وعجيب أن يُسلّم الثلاثة فتية للنار ويخرجوا سالمين، فهذا بالفعل شيء غريب وعجيب جدًا. فلتبدوا إذًا إعجابكم بالصوم وتصافحوه!

ألا يكون جنون صرف أن نهرب من الصوم ونخافه وهو الذي يتحلى بقدرات مفيدة بهذا القدر، إذ أن الصوم هو الذي خلّص من الأتون ومن جب الأسود وهو الذي يطرد الشياطين ويحل الحكم الإلهي (بالعقاب)، وهو الذي يرفع غباوتنا ويقتادنا في النهاية للحق وهو الذي يجعلنا نستعيد رزانة أفكارنا.

لكن رُبَّ من يعترض أن الصوم يضعف الجسد حتى الهلاك!

لا، لأنه كلما ازداد ضعف الإنسان الخارجي، كلما ازدادت جدًا فرص تجديد ونمو الإنسان الداخلي. فإن أردنا أن نفحص الأشياء جيدًا وبتدقيق، فسنكتشف في الصوم مبادئ أساسية للصحة، وإن كنتم متشككين فيما أقول أسألوا الأطباء، فهم سيؤكدون كلامي، وهم الذين يقولون أن التنسك أساس الصحة، وهم يعددون أمراض كثيرة مثل النقرس والصداع النصفي والسل والسكتة والاستسقاء وكل الالتهابات لها منشأ من التخمة والإفراط في الأكل كما لو كانت التخمة والإفراط سيول ملوثة تلوث الجسد وصحة النفس.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الحث على الرزانة والصحو

5- إذًا فلا تنبذوا الصوم لأنه يقينا أمراضًا كثيرة. إن تركيزي على هذه النقطة ليس عن وهم، إذ أنني أرى الناس حولي متخوفين ومرتعبين من الصوم كما لو أنهم سيقترنون بامرأة مشاكسة. وعندما أراكم اليوم منهمكين في إدمان الخمر والعربدة والشراهة فلا أستطيع أن أمنع نفسي عن أن أحثكم بكثير من الإقناع ألا تفضلوا هذه الشراهة بأضرارها الكثيرة على مميزات النسك.

عندما ينبغي للمرء أن يشرب جرعة من دواء ليمنع سوء الهضم، فمن السخافة أن يبدأ بعده مباشرة بالإفراط في الأكل، فمرارة الدواء تبقي بينما تُفقد كل منفعته، لأن فاعلية الدواء هي في التقليل الشديد للأكل إذا كانت المعدة متخمة، والأطباء ينصحوننا في مثل هذه الظروف أن ننام دون أن نتعشى، لكي نعطي الدواء الفرصة لكي يعمل بكفاءة من اللحظات الأولى. ونفس الشيء يسري على الصوم، فإن شربتم اليوم الخمر بإفراط، وفي الغد تداركتم هذا وأخذتم دواء ضد إدمان الخمر فسلوككم هذا باطل وغير مجدٍ، فليس فقط أنتم لم تحتملوا الحرمان الذي يقتضيه الصوم، بل أيضًا لم تجمعوا ثمار أتعابكم لأن فضيلة الصوم ستضمد الجروح الناتجة عن إدمان الخمر، وبالمقابل إذا أعددتم جسدكم معوّدين إياه على الرزانة والتيقظ فستطهروا أنفسكم بخلاصكم من جزء عظيم من أخطائكم.

إن طريق الصوم لا يمر بالشراهة فلا يجب بالأولى أن نتخلى عن الصوم لنغرق في الإفراط، وإلا فندرك نفس أضرار الإهمال، والذي يزيد من شراهته رغبةً في سرعة نقاهته، فإن الحال يؤدي به إلى انتكاسة أكثر خطورة من المرض الأول.

هذا بالضبط ما يحدث لنا إذا كنا في غير أوقات الصوم نغرق في إدمان الخمر والشراهة فنلاشي كل ما أصلحه وقوّمه التنسك.

كثيرون هم اليوم الذين يستعدون لمجابهة الصوم بما يليق بالاستعداد للقاء حيوان متوحش، ولكن المروّض لكي يواجه الوحش يحمي الأجزاء الهامة من جسده بمختلف أسلحة الدفاع.

إن هؤلاء الناس الذين أحدثكم عنهم يحترسون من الصوم بأن يسلّموا أنفسهم لإفراط الموائد ويغرقون أنفسهم في درب من الجنون كلما دنوا من فترة الهدوء والتأمل التي للصوم.

إنني متأكد من أنه لو سألتكم لماذا امتنعتم عن الذهاب للحمامات العامة اليوم لأجبتم: لكي نبدأ الصوم بجسد طاهر. وبالمثل إذا سألتكم لماذا تسكرون هكذا بهذه الكيفية تجيبونني قائلين: إن هذه عادتنا استعدادًا لفترة الصوم.

لكن ألا تجدوا أن هذا متناقض أن تبدأوا موسمًا جميلًا كهذا بجسد طاهر ولكن بنفس دنسة ومخبولة بالسكر؟

إنني أستطيع أن أواصل الكلام أيضًا مطولًا عن هذا الموضوع ولكني سأكتفي بهذا لأنني أعتبر أن كلامي كافٍ لتوضيح سلوك مؤمنين قادرين على الاعتدال (في كل شيء).

إنني عندما أتحدث في الهيكل فإنني أشابه شباب رعاة الغنم الذين يلعبون بالناي بقصبة رقيقة جدًا تحت بلوطة أو شجر حور، وبالمقابل فإن الله عندما يتحدث إلينا فهو يغرق سامعيه في دهش عميق مثل فنان عجيب يسحر جمهوره بأنغام قيثارته الذهبية، ولكن الله يسحر نفوسنا ليس بالأنغام بل بأقواله وأعماله، فالتلاميذ الذين يريدهم المسيح هم: "من عمل وعلّم يُدعى عظيمًا في ملكوت السموات" (مت 5: 19).

مثل هذا الذي نتحدث عنه يكون حقًا عظيمًا في ملكوت الله. ليتنا ننال الحكم بأهليتنا بفضل صلواته وصلوات كل كنيسته بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له الملك مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-repentance/jonah-daniel.html

تقصير الرابط:
tak.la/yj5vcxr