|
محتويات: (إظهار/إخفاء) |
|
كلنا نحتاج للتوبة مثال القديسين فَلْنَتُب الآن في أعماقنا فلنهرب من اللامبالاة لنجعل لحياتنا معنى بتولية النفس لنمارس الصلاة شروط الصلاة المثابرة والاتكال على الله |
1- يقتاد الرعاة قطعانهم دائمًا إلى المراعي التي تقدم عشبًا أكثر كثافة، ولا يغادرون ذلك المرعى إلا بعد أن يكون القطيع قد أنهى تمامًا على كل عشب أخضر موجود فيه، ونحن مثلهم نقتاد قطيعنا لمرعى التوبة، ونحن الآن في اليوم الرابع، وسنستمر أيضًا ليس اليوم فقط، لأن المرعى لا يزال غزيرًا ويتيح لنا الكثير من الاكتشافات والمنافع.
يلجأ القطيع يوميًا عندما تكون حرارة الشمس في أوجها إلى الاحتماء تحت الأشجار الوارفة بحثًا عن ظل هم في مسيس الحاجة إليه، وهناك تحت ظل الأشجار يستسلم القطيع لنوم عذب جدًا. وبنفس الطريقة نحن نجد ميناء الراحة في قراءة الكتب المقدسة عندما نكون متضايقين أو نعاني من يأس شديد، والكتب المقدسة بعد أن تسكّن ألمنا تمنحنا عزاء أكثر عذوبة عما يكونه الظل للقطيع.

هذه التعزية نجدها بالتأكيد عندما نتعرض لخسارة مادية أو عندما يموت لنا ولد أو في كل ظرف آخر، بل إننا نجد هذه التعزية أيضًا عندما نخطئ ونتوب.
هوذا رجل جربه الشيطان وسقط في الخطية، فأكله الندم بعد ذلك، ولكن إذ تلح عليه الخطية حتى أنه يختنق شيئًا فشيئًا من جراء اليأس المفرط نتيجة تأنيب ضميره اليومي.
من الممكن لهذا الإنسان أن يستمر في عدم استجابته لتعزيات من حوله، ولكن إن ذهب للكنيسة، يجد أن فيها كثيرين من أمثاله قد صاروا قديسين بعد أن قاموا من الخطية التي قد سقطوا فيها واستعادوا كرامتهم (الإنسانية) الأولى، وبالتالي سيجني من هذا تعزية عظيمة له.
لقد ارتكبنا العديد من الخطايا أمام من هم مثلنا، ومع ذلك فإن حياء مختلط بخزيٍ يمسكنا عن إفشاء ما اقترفناه، ثم إن أي منفعة أو تعزية سننالها إن أخبرنا بها أحد... لكن عندما تكون تعزيتنا من الله نفسه ونلمسها في ضمائرنا، نجد أن حزننا مهما كان شديدًا يتلاشى بسرعة...
لأجل هذا فإن سقطات بعض الأبرار قد سُجلت لنا كتابة لتخدمنا كمثال سواء كان مسلكنا لا غبار عليه أو سواء أخطأنا، فنحن نستطيع أن ننال منفعة عظيمة جدًا في كلا الحالتين.

![]() |
نعم، فإن كان الذي أخطأ رأى أن شخصًا معادلًا له قد سقط واستطاع القيام من سقطته فحتمًا سينجو من اليأس. وهذه الأمثلة تعضد أيضًا من حذر المسيحيين الأتقياء والشخصيات النبيلة، إذ أنهم عندما يرون أن الرجال الذين كانت فضيلتهم تضعهم في مركز أعلى مما عليه أتقياء المسيحيين في الفضيلة وقد سقطوا في الخطية، فإنهم يضاعفون من احتراسهم وحذرهم لئلا يسقطوا مثلهم، وبذلك يستمروا في جهادهم بحماس ويظهرون عزمًا ثابتًا. وهكذا سواء كنتم أبرارًا أو خطاة ستتحولون عن اليأس لأنكم ستُعضدون في عزائمكم أو إن سقطتم في هوة الشر ستقومون بسرعة.
عندما نكون تعابى فإن العزاء الذي من الممكن أن يقدمه لنا واحد نظيرنا فهو وقتي، وبعد لحظات نعود من جديد لنفس الضيق واليأس، ولكن إن منحنا الله تعزية بمثال أُناس آخرين قد أخطأوا ثم تابوا وخلصوا فهو يعطينا شهادة واضحة عن صلاحه ويبدد كل خوف من جهة خلاصنا ويستنهض فينا الرجاء بتعزية دائمة تنطبع في أعماقنا.
إن قراءة العهد القديم تعطي لنا عزاءًا حقيقيًا وبلسمًا ضد اليأس الذي يأتي من الإحساس بالإثم أو من نكبة عظيمة، إذ لو كنا ضحايا لمصادرة ممتلكاتنا أو للسلب أو للسجون أو للعذاب أو لكل الأنواع الأخرى من البلايا، فلو رجعنا للشهود الأبرار الذين عانوا في ظروف مماثلة تمامًا للتي لنا وقد صمدوا فيها لتمالكنا أنفسنا بسرعة وتبعنا خطواتهم.
نعم فإن مثال آلام الآخرين من الممكن أن تزيد من آلام من يتألم أو حتى توّلد ألم لم يكن موجودًا من قبل، لكن هذا بالتأكيد لا يحدث إلا في الأمراض الجسدية، وهنا نذكر حالة الأشخاص الذين رأوا من يناظرهم في آلام العيون ويتألمون إذ يرونهم وقد استعادوا بصرهم دونهم. ولكن فيما يختص بالضرر الروحي فرد الفعل يكون بطريقة مختلفة تمامًا إذ أنه بالعكس، فإن نحن تشاركنا فكريًا مع آخرين عاشوا نفس هذه الآلام فنحن حتمًا نجد قوة للتغلب على اليأس الحادث، وهل نحن أفضل من بولس الذي أراد أن يستنهض عزيمة المؤمنين فاقتبس لهم مثال القديسين ليس فقط من معاصريهم بل أيضًا ممَّن انتقلوا، فإنه عندما كان يشجع العبرانيين المتراخين الذين كانوا على وشك السقوط في الفخ، فحدثهم عن دانيال والثلاثة فتية وإيليا وأليشع وكان وصفه لهم هكذا: سدوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار، نجوا من حد السيف، وآخرون تجرّبوا في هزء وجلد ثم في قيود وحبس، رُجموا، نُشروا، طافوا في جلود معزي معتازين مكروبين مُذلين وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم (انظر عب 11: 33-34، 36-38).
إنها تعزية بالحق أن يشارك المرء بضيقه وألمه مع آخرين، لأنه عندما يرى المرء ألمه وهو منفرد في وحدته، فإن بليته تبدو دائمًا وكأنها بلا علاج، ولكن على العكس إن وجد له رفقاء يشاركونه ألمه، فما كان مستحيل في السابق يبدو له الآن ممكنًا.

2- إذًا فلتكن الكتب المقدسة لنا حصنًا ضد الشرور التي تهاجمنا، وفيها نجد نبع لا ينضب وعزاءً عظيمًا، لأننا منها نتعلّم أن آخرين قد تألموا أكثر منا، ونكتشف فيها كيفية نجاتهم من هذه الشرور وحفظهم رزانتهم حتى إننا ننعم هكذا بالهدوء ونقاوم بالأخص اللامبالاة والكبرياء، ونكتشف كيف أظهروا لنا في تعبهم اتضاعًا ومسكنة -هذا دون أن نخوض في الحديث عن مظاهر تقواهم- وهذا ليس بالشيء العجيب، بل شيءٌ طبيعيٌ، لأن هذه التجارب تجبر من يجوزها أن يتحلى بالاتضاع والمسكنة حتى ولو كان لهم قلب من صخر.
ولكن ما أن تنقشع البلية، فإن النفس التقية التي لم تحول نظرها قط عن الله تسعى ألا تسقط فيما تبارى اليهود في عمله، أي نسيان أفضال الله، ولذلك فإن النبي أيضًا استهزأ بهم قائلًا: إذ قتلهم طلبوه ورجعوا وبكروا إلى الله (مز 78: 34)، وموسى النبي الذي عرف بني إسرائيل حق المعرفة لم يكف عن الإكثار من هذه النصيحة: إذا أكلت وشبعت فاحترز لئلا تنسى الرب (انظر تث 6: 12- 13)، ومع هذا فكثيرًا ما وقع المحظور: أكلت وشبعت وسمنت ورفضت الإله (تث 32: 15).
ما من شك أن القديسين كونهم يظهرون تقوى وحكمة في اللحظات التي تبلغ فيها بلاياهم ذروتها فهذا شيء يثير الإعجاب، لكن الذي يثير الإعجاب بالأكثر هو أنهم يستمرون بنفس غيرتهم وتواضعهم عقب انتهاء الزوبعة.
أليس من الصفات الأساسية للحصان هو أن يكون قادرًا على التزامه بمشية معتدلة دون أن يكون هناك حاجة لاستخدام اللجام؟ فإن كان الحصان لا يلتزم إلا باللجام، فليس في هذا مجال للإعجاب به، إذ أنه يعتدل في جريه باللجام وليس من ذاته، ويلذ لي أن أطبق هذا الكلام على النفس.
أي استحقاق أن تكون النفس متعقلة إن كان هذا عن اضطرار لأجل الضيقة؟ وبالمقابل فعندما تنقشع التجارب، أي أن لجام الخوف قد انتهى فأنا انتظر إثبات حكمتها وكياستها، ولكن أخشى أن الاتهام الذي حملته على اليهود ينطبق علينًا نحن أيضًا.
أليست أبواب الكنيسة ضيقة جدًا من أجل جموع المؤمنين الذين يتوافدون عليها وذلك عندما يصدمنا فيضان أو مجاعة أو وبأ أو طقس قاسي البرودة أو الجفاف أو النار أو هيجان البربر (أو الغوغاء)؟ فهل ستكون حكمة عظيمة منا في تلك اللحظات أن نحتقر خيرات العالم؟ فلا شهوات الغنى ولا طموح المجد ولا حتى اشتهاء الرفاهية، ولا أي فكرة سيئة (أي شريرة) تشغل تفكيرنا في تلك اللحظات إذ نكون مأخوذين بتقوى شديدة وغارقين في دموع غزيرة وفي الصلاة.
في هذه الظروف نجد أن المستبيح يبدو متعقلًا، والمخاصم يسارع للصلح، والبخيل يبدأ في إعطاء الصدقة والمشاكس والمتكبر يُبدي قدرًا من السلاسة ومسكنة مفاجئة، ولكن ما أن يرفع الله غضبه عنا وترتد عنه هذه البلايا وبمجرد أن يحل الهدوء محل العاصفة حتى نسقط ثانية في أهوائنا السابقة، لذلك لن أكف إطلاقًا عن أن أحذركم من هذه التصرفات ولكن جهودي تضيع عبثًا إذ تطردون إنذاراتي من ذاكرتكم كمن يطرد خلسة شذرات حلم مزعج.

لهذا فأنا أشدد الآن أكثر من أي وقت مضى على أن مخاوفي التي سبق وأخبرتكم بها تتحقق الآن ونجتذب لأنفسنا بلايا أكثر شدة من تلك التي أصابت الذين سبقونا وأخشى أن الله يوجَّه لنا ضربة لا نقوم بعدها. تخيلوا إنسانًا تعوّد المعيشة في الخطية ونال الغفران عن خطاياه من الله ولم يستفد من هذا العفو في التحول عن الشر، لذلك يتوقع أن الله سينزل به بلايا عظيمة تحطمه تمامًا دون أن تعطيه أي فرصة للتوبة بعد، وهذا هو ما حدث لفرعون بالفعل. فبعد أن استنفذ لمرات عديدة طول أناة الله، ودون أن يجني أي فائدة، لذلك تلاشى واختفى تمامًا من على وجه الأرض هو وكل جيشه، وهذا ما تعرض له اليهود أيضًا قبل أن يبددهم إذ قد تولد فيهم فراغ عديم الدواء فقال المسيح بشأنهم: كم مرة أردت أن أجمع أولادك... ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا (لو 13: 34-35).
إنني أخشى أن نقاسي نحن نفس التجارب لأننا لم نعرف الثبات في الحكمة بالرغم من أمثلة بلايا الآخرين، بل حتى بالرغم من بلايانا الخاصة.
هذا الكلام لست أوجهه فقط لكم أنتم المؤمنين الحاضرين هنا، بل أيضًا أوجهه لهؤلاء الذين قد فترت غيرتهم قليلًا، والذين نسوا مرارًا الماضي، وأوجهه لمن لم أكف عن أن أُكثر لهم هذه النصيحة، فوقت التجارب قد مضى، وليظل محفورًا في ذاكرتكم تذكار هذه البلايا لكي تشهدوا بعرفان وشكر دائم لله الذي خلصكم منها.

3- هذا هو ما قلته لكم حينئذ، والآن أكرر نصائحي وأنا أوجهها لكم ومن خلالكم إلى آبائكم ولنستلهم لنا قدوة من سلوك القديسين الذين صمدوا في التجارب، وعند عودة اليسر لهم لم يسلكوا بلا مبالاة، ومن المؤسف أنه ممكن بالفعل ملاحظة عدد كبير من الناس قد صاروا كسفن خفيفة جدًا تنقلب لأقل نسمة ريح فتغرق.
وحقًا فإنه وإن كان الفقر ثقيل علينا جدًا لدرجة أنه يبتلعنا عدة مرات، إلا أنه يتنازل عن مكانه للرفاهية التي ما من شك تنعشنا مرة ثانية إلا أنها تغرقنا أيضًا في لامبالاة شديدة. لهذا السبب فأنا أحثكم أن تتفرغوا بالتمام لخلاص نفوسكم، لأنه ما أن تأتي جهودكم بثمارها حتى يمكنكم أن تقاوموا كل الشرور التي تهاجمكم سواء أكانت مجاعة أو مرض أو وشاية أو فقد لأملاككم، وكل هذه التجارب ستظهر لكم بصورة أخف بفضل وصايا الله والرجاء الذي تستمدونه من وعود الله. وفي الظروف المواتية فإنكم ستصيرون أغنياء ولديكم أولاد وسيبتسم لكم الحظ، فتصير حياتكم بلا معنى وتجتذبوا لأنفسكم همومًا كثيرة.
إذًا فلنهرب من طموح الغنى كهروبنا من الفقر، وليسهر كل منا على أن يعطي نفسه كل الاهتمام والعناية اللائقين بها، ويجعلها مؤهلة للاضطلاع بشئونها اليومية ومستقبلها الروحي بآن واحد، لأن حلول الأجل قد اقترب حيث نظهر ونقف كلنا أمام منبر المسيح المخيف، ولن يستطيع أحد حينئذ الهرب، بل سننقاد للمسائلة عن كل ما اقترفناه من تجاهل لدموع الأيتام إلى الوقاحة المخزية التي دنسنا نفوسنا بها إلى تأوهات الأرامل (من ظلمنا لهن) وأيضًا إلى الإهانات التي أوقعناها على الفقراء وسلبنا للمتسولين، وفي مقدوري أن أذكر فظائع أخرى من هذا القبيل، وغير أفعالنا فإن أفكارنا أيضًا سيتم فحصها: لأن كلمة الله تفحص الأفكار ونيات قلبنا (عب 4: 12)، وداود نفسه ألم يقل: "أنت فاحص القلوب والكلى يا الله البار" (مز 7: 10)؟ ألم تقرأ أيضًا بالإضافة لذلك أن ابن الإنسان سيجازي كل واحد حسب عمله؟(مت 16: 27).

وبحسب رأيي فإن هذا الكلام موجّه ليس فقط إلى المسيحيين الذين يعيشون في العالم، بل أيضًا إلى الذين قد اعتزلوا في الجبال من أجل حياة الوحدة، فهم أيضًا مطالبين بحفظ جسدهم من كل نجاسة، وبالأولى حفظ روحهم من كل التجارب الشريرة. إن بولس الرسول لم يُقصر كلامه للنسوة، بل جعله يسري أيضًا على الرجال وعلى كل الكنيسة وذلك عندما أكد على أن العذراء ينبغي أن تكون طاهرة نفسًا وجسدًا، وأضاف أيضًا: "لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو 11: 2) - يا ترى أي عفاف يقصد: "لا دنس فيها ولا غضن" (أف 5: 27).
إن أولئك العذارى اللاتي انطفأت مصابيحهن كن عفيفات بالجسد وليس بالقلب إذ لم يوجد من قد أفقدهن بكوريتهن، ولكن الحاصل أن حب الغنى قد ضيعهن عفتهن. كان جسدهن طاهرًا، لكن أرواحهن قد استولت عليها أفكار الزنا وتزاحمت فيها الدسائس الفاسدة وشهوة المال والقسوة والغضب والغيرة والتكاسل ونكران الجميل والتكبر، وبالاختصار كل الأحاسيس التي تغير من بهاء طهارتهن، وأيضًا فإن بولس الرسول قال: "العذراء تهتم لتكون مقدسة جسدًا وروحًا" (1كو 7: 34)، وأيضًا قال: "لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو 11: 2)، وكما أن الجسد يتدنس بالزنا، فالنفس أيضًا تتدنس بالمفاسد المتعمدة والأحاسيس المدمرة والأفكار المخالفة للصواب.
إن الذي يشدد على بتولية جسده، ولكن في ضميره يحسد أخيه فهو ليس بعفيف إذ قد أضاع عفته بحسده، وأيضًا الذي هو مولع بالمجد الباطل لا يستطيع أن يدّعي البتولية فكبرياؤه تفسد بتوليته، لأنه بمجرد أن هذه الأحاسيس تتسلل إلى داخل القلب فإنها تدنس الطهارة، وبالاختصار كل إنسان يدمر عفته بمجرد إصابته بمرض روحي.
لهذا السبب فإن بولس الرسول طرد كل المفاسد المهلكة، وهو يحدد البتولية التي ربطنا بها بهذه الكلمات: ينبغي لنا بمنتهى حرية الإرادة أن لا نسمح لأي فكر فاسد أن يدنس نفوسنا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

4- وماذا أقول أيضًا؟ هل تريدون معرفة كيف نحصل على غفران خطايانا، وكيف نخلص؟ إجابتي لكم في جملة واحدة: مارسوا الصلاة من عمق قلوبكم، واجمعوا من أثمارها التواضع والوداعة، لأن الرب قال: "تعلّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت 11: 29)، وأيضًا داود النبي قال: "ذبيحتي لله قلب منكسر ومتواضع وتائب فلا ترفضه يا الله" (مز 51: 19)... وهذا ما يقبله الله باشتياق عظيم - ذاك الذي هو نفس وديعة ومتواضعة وشاكرة.
كونوا منتبهين لهذا يا أحبائي، وعندما تكونوا ضحايا لحادث مروِّع فلا تبحثوا عن ملجأ عند الناس، ولا تعتَّدوا بمساعدةٍ من المائتين، بل ارتفعوا فوق كل هذا واستودعوا أنفسكم من الداخل لطبيب النفوس، إذ أنه الخالق الوحيد لنا والذي يفحص كل أعمالنا، وليس أحد غيره يستطيع أن يشفي قلوبنا، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يتخلَّل ضميرنا ويدرك ما في ذهننا ويعزي نفوسنا، وإن لم يكن في قدرته أن يعزينا فباطلة هي كل جهود البشر، ولكن إن تقوينا بمعونة الله، نستطيع أن نجابه كل خلافنا مع الناس دون الخوف من الضرر أو الأذى لأنه يشدد قلوبنا فلا يستطيع إنسان أن يزعزعها.
عندما نبتغي أن ننال حظوة ووصال مع شخص ما، فإنه يجب علينا أولًا أن نكوِّن علاقة مع البوابين ثم نمتد ونطورها بعلاقة مع أصدقائه وجيرانه ونستعين بكل الطرق، ولكن فيما يختص بالله فالأمر مختلف تمامًا، فلا حاجة لمثل هذه الطرق والوسطاء ولا حتى المال مهم في دعوتنا إياه إذ أنه يقبل صلاتنا دون أن يطلب مقابل مادي، بل يكفيه صرخة تنبع من عمق قلوبنا ومصحوبة بدموعنا لكي يجتذبنا إليه في الحال تحت مظلة رحمته.
عندما نقدم طلباتنا للبشر فنحن دائمًا نكون في قلق لئلا يكون أحد من أعدائنا أو معارضينا أو حتى أصدقاء ذلك الشخص الذي نلتمس منه هذه الطلبة له مصلحة ولو من بعيد في هذا الطلب، فيبدد ويفسد كل فرص النجاح لاستجابة هذه الطلبة، ولكن بالنسبة لله فالوضع مختلف، فلا يوجد مجال لمثل هذه الوساوس، والله يقول إنه إن كان أحد يود أن يسألني شيئًا، فليأت إليَّ دون وسيط ويدعوني من عمق قلبه حتى دون أن يحرك شفتيه: "متى صليت فادخل مخدعك وأغلق بابك وصلي إلى أبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي في الخفاء يجازيك علانية" (مت 6: 6).

يقول الله: إنني لا أزداد رفعة حينما تدعونني، لكن هل يلبي أحد غيري طلبكم؟ وما أريده هو أن أكرمكم وأجعل الأرض كلها تشهد مكافأتكم.
فلنتبع تعليماته ولا نصلي باستكبار، ولنبعد من صلاتنا كل رغبة في الانتقام من أعدائنا ونتحاشى أن نصف لله الدواء الذي ننتظره منه. نعم لنسلك هكذا، لأنه عندما نقف أمام المحكمة في العالم، فنحن نرتضي بأن نشرح للمحامي الموكل عنه كل ظروف وملابسات قضيتنا، ونترك له اختيار طريقة الدفاع بحسب خبرته وكفاءته...
أفلا يجب أن نتصرف بنفس الطريقة بالأولى جدًا إن كان هذا يختص بالله؟ اشرحوا لله قضيتكم وأخبروه عن أتعابكم، ولكن امتنعوا عن تحديد طريقة العلاج التي ترغبونها فهو يعرف تمامًا كل تعاستكم.
كثيرون هم الذين يقدمون طلبات عديدة في صلواتهم ويقولون يا رب اعطني صحة، ضاعف ثروتي، انتقم لي من عدوي... يا لسخافة هذه الكلمات!
أرجوكم أن تتجاهلوا مثل هذه الطلبات في توسلاتكم، بل ادعوا الله كما فعل العشار: اللهم ارحمني أنا الخاطئ (لو 18: 13)، وهو دائمًا يعرف كيف يجد السبيل لمساعدتكم. اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره والباقي كله يُزاد لكم" (مت 6: 33).
لنعكف إذًا يا أحبائي الأعزاء على الصلاة بجدية واتضاع ولنقرع صدرنا مثل العشار فنحصل على ما نبتغيه.
إن دعونا الله ونحن فريسة للغضب والثورة فنحن نجعله ينفر ويستاء منا. إن تخاصمنا مع أحد والقلب امتلأ بالضغينة فلنصلي لأنفسنا ولمن أساء إلينا، لأنه إذا أردتم أن تجتذبوا لكم إنعامات القاضي لتأمين خلاص نفوسكم فاحترسوا من أن تثلبوا عدوكم أمامه، لأن هذا يختص بمبدأ السيد الرب، فهو يفضل أن يستجيب من يقدمون طلباتهم بدون ضغينة بعد أن يصلوا من أجل أعدائهم بروح السلام. وكلما ثابرتم على هذا، كلما عمل الله على ملاحقة عدوكم إن لم يتب.

5- وفي الختام فلنجتهد يا إخوتي أن نقطع بغضتنا ونبدد كل حزننا عندما نكون محل وشاية من شخص ما، وبالأحرى فلننهمك في التأمل والشكر لله منتظرين بصبر حميد تدخله.
ولكن هل يستطيع الله أن يكمل إحساناته بدون صلاتنا؟ ألا يستطيع الله أن يمنحنا حياة خالية من الآلام والأحزان؟ ولكنه يسمح بهذا من أجل محبته لنا.
من الممكن للمرء أن يسأل الآن: لماذا يتركنا الله نعاني من الأحزان ولا يسرع في الحال لنجدتنا؟
إن هدفه أن يستحثنا للمواظبة على الصلاة له، إنه يريد أن نسارع بدون توقف سعينًا لمعونته، ولكي نلجأ إليه ونطلب تعضيده دائمًا، وهذا يفسر لكم وجود الآلام الجسدية والعقم والمجاعة، فكل هذه البلايا تحثنا على دوام الالتصاق به بحيث إنه بفضل هذه الضيقات الوقتية نستطيع الحصول على الحياة الأبدية، لذلك يجب أن نشكر الله الذي سمح بهذه الضيقات لأنها منعطفات رقيقة يستخدمها لخلاص نفوسنا.
تخيلوا مثلًا إنه ذات يوم قدم لكم شخصًا ما خدمة ولو بسيطة، وفيما بعد ولو عن غير عمد سببت له ضيقًا ولو تافهًا، فإنه لن يتردد عن سبَّك بسرعة وسيندم على الصنيع الذي أسداه لك. هذا يحدث أحيانًا إذ يُرى من يغتاب من كان قد قدم له خدمة سخية، ولكن هذا الوضع مختلف تمامًا مع الله، فالله على الرغم من إحساناته يُرفض ويُهان، ومع ذلك فهو يسعى لإقامة علاقة مع من أهانوه، ولكم في اليهود مثلًا: "يا شعبي ماذا صنعت بك؟" (مي 6: 3).
إن اليهود رفضوه إلهًا عليهم وهو لم يتوقف عن أن يدعوهم شعبه، وبينما هم يقاومون سلطته فهو يحاول أن يتصالح معهم وهو لم يلفظهم قط، ولكنه يجتذبهم إليه ويسألهم: يا شعبي ماذا صنعت بك؟ هل صرت ثقلًا عليك؟ هل ضايقتك؟ ليس لك حق في أن تدّعي هذا، فحتى لو كنتم متأصلين في عمل هذا الشر، فليس لكم أن تتحولوا هكذا عني، "فأي ابن لا يؤدبه أبوه" (عب 12: 7)، فمهما حدث ليس لكم أن تحزنوا مني. ثم يقول لهم بعد ذلك: "ماذا وجد آباؤكم فيَّ من جور؟" (إر 2: 5)، يا لها من كلمات عجيبة، فهي تعني بطريقة ما: في أي شيء أنا أخطأت؟
يا للعجب، إن الله نفسه هو الذي يسأل البشر هذا السؤال. إن العبيد لا يحتملون أن يسمعوا مثل هذه اللغة من فم سيدهم. ثم لاحظ جيدًا إنه لم يقل: ماذا وجدتم أنتم فيَّ من جور. ولكنه قال: ماذا وجد آباؤكم فيَّ من جور؟ وأنتم لن تستطيعوا بكل الطرق أن تكدروني مع أنكم قد فقتم قليلًا كراهية آبائكم لي، لأني لم أعط آبائكم الفرصة إطلاقًا إن يمسكوا نقيصة على عنايتي بهم، ولم أُظهر من نحوهم أي إهمال قط.
لاحظ أيضًا إنه لم يقل فقط: ماذا وجد آباؤكم فيَّ ليعاتبوني؟ ولكنه قال: ماذا وجد آباؤكم فيَّ من ظلم؟
بعد أن مضت كل السنوات التي عاشوا أثنائها تحت حكمي هباءً، وبعد أن بحثوا كثيرًا لم يجدوا فيَّ شيئًا شاذًا...
هذه الأسباب تجعلنا نلتجئ إليه بالأكثر في كل الظروف طالبين تعزيته عندما نكون مكتئبين، وطالبين خلاصه وشفقته عندما نكون فريسة للبلية، وبالاختصار طالبين عونه في كل ما يصيبنا من تجارب.
أيًا كان الضيق الذي نعانيه، وأيًا كانت خطورة الوضع، فالله يستطيع أن يُصلح كل شيء ويرفع كل بلية، ثم أننا مدينون لصلاحه اللانهائي بالأمان الكامل والقوة والكرامة والصحة والحكمة والرجاء وكره الشر، فلنمتنع إذًا عن التذمر كعبيد حمقى ونلوم سيدنا (الرب) ولنشكره على إحساناته ولا ننسى على الإطلاق أن الشر الوحيد الذي لنا أن نخشاه فوق كل شيء هو أن نهين الله ونضايقه.
فإن كان لنا مثل هذه المقاصد باتجاه الرب فنحن سنرتفع فوق المرض والألم والسخرية والعقم وكل البلايا الأخرى، وبعد أن نستمتع على مدى حياتنا بسعادة تامة نحصل على الخيرات الأبدية بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي يملك في المجد مع الآب والروح القدس الآن ودائمًا وإلى دهر الدهور آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-repentance/prayer.html
تقصير الرابط:
tak.la/5wmb7k7