الفصل العاشر:
الجدول الزمني للتاريخ المبكر للكتاب المقدس - بداية تاريخ معاملات الله مع إبراهيم ونسله
ربما قبل أن نتابع تاريخنا قد يكون مستحبًا تفسير مختصر للجدول التاريخي المُعطى في (بداية) هذا الكتاب وبصفة عامة التاريخ المبكر للكتاب المقدس. سنلاحظ أولًا أن السنوات يتم عدها من قبل المسيح، وبالطبع أعداد السنين تقل كلما ابتعدنا عن خلقة العالم وكلما اقتربنا من ميلاد مخلصنا يسوع. وهكذا لو حسبنا أن سنة الخلق كانت 4004 قبل المسيح، فالطوفان الذي حدث بعد 1656 سنة سيقع في سنة 2348 قبل الميلاد.
علاوة على ذلك سنلاحظ أننا أعطينا تأريخين لنفس الأحداث والتي الاختلاف بينها يصل لمئات السنين، واحد بحسب هاليس والآخر بحسب أشير، وأضفنا ما يقابل من النص العبري للعهد القديم. إن تفسير الاختلاف بينهم هو أن حساباتنا للتواريخ الكتابية يمكن أن نشتقها من أحد ثلاث مصادر.
لدينا في الحقيقة أسفار موسى الخمسة في ثلاثة أشكال مختلفة أمامنا. أولًا لدينا النص العبري الأصلي للعهد القديم، يليه توجد ترجمة يونانية تمت قبل زمن الرب يسوع بوقت طويل وكان اليهود عادة يستخدمونها في زمن السيد المسيح، ولأجل هذا السبب أيضًا كان عادة يتم الاقتباس منها في العهد الجديد. وهذه الترجمة تُعرف باسم الترجمة السبعينية، ويُفترض أن رقم سبعين هنا مشتق من عدد من قاموا بترجمتها. وأخيرًا لدينا التوراة السامرية، وهي أسفار موسى الخمسة المستخدمة بين السامريين.
ومن حيث أن سلسلة الأنساب تختلف في الثلاثة من جهة أعمار رؤساء الآباء، ينشأ هنا السؤال: أيًا منهم ينبغي الأخذ به؟ فكل واحدة لها المدافعين عنها، لكن أكثر علماء النقد يكادوا يكونوا متفقين الآن تمامًا في الاستنتاج -مثلما توقعنا فعلًا- أن النص العبري يحتوي على التواريخ الحقيقية. وعن النسختين الأخريين، النسخة السامرية لا يمكن بالمرة الثقة بها حتى أننا لأجل مقاصد عملية يمكننا أن نخرجها تمامًا من حساباتنا.
يختلف التأريخ السبعيني عن النص العبري في إطالة عمر رؤساء الآباء جزئيًا قبل الطوفان، إنما بالأساس بين الطوفان ودعوة إبراهيم، والنتيجة هي أن الطوفان تم تأخيره 586 سنة عما في النص العبري، بل وميلاد إبراهيم تأخر 878 سنة، فيكون الفرق الكلي يصل إلى ما لا يقل عن 1245 سنة! وليس من العسير أن نخمن السبب لماذا المترجمون اليونانيون قد غيروا هكذا الأرقام الأصلية. كان من الواضح أن رغبتهم أن يجعلوا ميلاد إبراهيم متأخرًا قدر المستطاع بعد الطوفان.
ومن بين هذين التأريخين، الذي للنص العبري، يمكن لأجل التسهيل والإفادة أن ننعته بكونه القصير، والذي للسبعينية ننعته بكونه الطويل، وبطريقة عامة يمكن أن يُقال (مع بعض التعديلات والتي ستأخذ وقت طويل لشرحها) أن هاليس قد تبنى التأريخ الطويل أو اليوناني، بينما أشير تبنى القصير أو العبري. يمكن أن يكفي هذا على موضوع استغرق الكثير جدًا من المناقشة(21).
إنه أكثر أهمية جدًا أن نفكر في ملكوت الله، في التاريخ المعُطى لنا في الأسفار المقدسة، لأننا الآن في بداية ظهوره الحقيقي. إن كان الله في البدء تعامل مع البشرية عمومًا، ثم مع جزء من الجنس البشري (نسل سام)، وأخيرًا مع جزء من الأمم، فهو الآن اختار وأقام لنفسه شعبًا خاصًا من خلاله ينفذ مقاصد رحمته تجاه كل البشر. كان لهذا الشعب أن يتدرب من مهده إلى أن حقق كل إرساليته والتي كانت عندما جاء مشتهى كل الأمم.
![]() |
هنا ثلاث نقاط تتطلب منا انتباه خاص:
1- اختيار وإفراز ما صار شعب لله. خطوة بخطوة نرى في هذا التاريخ لرؤساء الآباء عملية الاختيار والفرز هذه من جانب الله. كليهما يتميز بهذه السمة المضاعفة: أن الكل يتحقق ليس بطريقة عادية وطبيعية، بل كما لو كان بطريقة فائقة للطبيعة، وأن الكل هو من النعمة. هكذا دُعي إبراهيم وحده من بيت أبيه، هو بمفرده تم فرزه واختياره.
ميلاد إسحق وارث المواعيد كان بنوع ما فائق للطبيعة، بينما من الناحية الأخرى تم رفض إسماعيل الابن الأكبر لإبراهيم. ونفس الفرز والاختيار يظهر في تاريخ عيسو ويعقوب، بل وعلى مدى كل تاريخ رؤساء الآباء. لأنه من البداية كان للجنس المختار أن يتعلم ما هو الدرس العظيم لكل الأسفار أن كل شيء يأتينا من الله وهو من النعمة - أنه ليس من عمل إنسان بل عمل الله، ليس هو بأسلوب عادي، بل بتدخله الخاص.
بل وليس لنا أن نخفق في أن نلاحظ خاصية أخرى في تعاملات الله. لو نستخدم تشبيه العهد الجديد، كانت حبة الخردل التي كان معين لها أن تنمو وتصير شجرة تتآوى في أغصانها كل طيور السماء. في أبرام قُطع الساق ليصير جذر وحيد. هذا الجذر نبت أولًا وصار أسرة رئيس الآباء ثم امتدت في أسباط إسرائيل (أبناء يعقوب) وأخيرًا أزهرت وأثمرت في الشعب المختار. بل حتى هذا كان مجرد وسيلة لغاية.
إن جاز القول كانت إسرائيل تقتني ثلاثة تيجان منفصلة. كان لها الكهنوت في هارون والكرامة الملكية في داود وذريته والوظيفة النبوية. لكن في الأيام الأخيرة كان للتيجان الثلاثة للكاهن والملك والنبي أن تتحد على رأس شخص من هو حقًا يسوع "النبي الذي مثل موسى"، الكاهن الأبدي "على طقس ملكي صادق"، والملك الحقيقي والأبدي "ابن داود"، وفيه كل مواعيد الله التي أُعطيت بوضوح متزايد من آدم إلى سام ثم إبراهيم ويعقوب، في الناموس وفي رموز العهد القديم وأخيرًا في نبواته، صارت "النعم والأمين" إلى أن تسكن كل الأمم في مساكن كنعان.
2- نلاحظ فرقًا في أسلوب الاستعلان الإلهي في عصر رؤساء الآباء مقارنة بالفترة السابقة. فسابقًا تكلم الله إلى الإنسان إما من الأرض أو من السماء، بينما الآن هو فعليًا يظهر لهم وذلك بالأخص كما ملاك الرب أو ملاك العهد. المرة الأولى ظهر فيها الرب لأبرام كانت عندما دخل أرض كنعان طاعة للدعوة الإلهية التي أفرزته ليكون جد لشعب الله (تك 12: 7).
بعد ذلك ظهر له الرب مجددًا وكان إظهار ذاته في شخص ملاك العهد يميز كل مرحلة في تاريخ العهد. وهذا الظهور لم يُمنح فقط لإبراهيم بل أيضًا لهاجر ويعقوب وموسى وبلعام وجدعون ومنوح وزوجته ولداود، بل حتى في مرحلة ختام التاريخ اليهودي نفس ملاك الرب هذا لا نزال نجده يشفع لأجل إسرائيل العاصي والمرتد بهذه الكلمات: "يَا رَبَّ الْجُنُودِ إِلَى مَتَى أَنْتَ لاَ تَرْحَمُ أُورُشَلِيمَ وَمُدُنَ يَهُوذَا الَّتِي غَضِبْتَ عَلَيْهَا هَذِهِ السَّبْعِينَ سَنَةً؟" (زك 1: 12).
وكلما تتبعنا خطواته بمزيد من التدقيق، كلما اقتنعنا أكثر أنه لم يكن ملاك عادي بل إنه الرب الذي كان يسره أن يستعلن ذاته بهذا الأسلوب في العهد القديم. وسوف تكون لنا مناسبات متكررة للرجوع إلى هذا الموضوع المهم جدًا. وأثناء ذلك قد يكون أمر شيق معرفة أن اليهود منذ القديم كانوا أيضًا يعتبرون الرب بأنه الشاكيناه أو الحضور المرئي لله - وهو نفسه الذي ظهر في عامود السحاب والنار وفيما بعد في الهيكل في قدس الأقداس، بينما الكنيسة القديمة تكاد تكون متفقة في كونها تعبد فيه ابن الله الأقنوم الثاني في الثالوث المبارك. لا يمكننا تصور أي موضوع أكثر نفعًا وله بركة أعظم من تتبع خطوات ملاك الرب في العهد القديم.
3- السمة العظمى الرئيسية لرؤساء الآباء كانت إيمانهم. حياة رؤساء الآباء تنُبئ أو تمثل مسبقًا كل تاريخ إسرائيل واختيارهم الإلهي. وبحسب كلمات كاتب ألماني حديث، وسط كل الأحداث المتباينة، كانت السمة الثابتة جدًا في تاريخ رؤساء الآباء هي "إيمانهم الذي يمسك بكلمة الوعد وبقوة هذه الكلمة تخلوا عن كل ما هو مرئي وحاضر، مقابل ما هو غير مرئي ومستقبلي". لكن "في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض" (عب 11: 13). ولا يزال الأمر هكذا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
فبدون إغفال الامتياز العظيم لمن انحدروا من إبراهيم، لكن بالمعنى الحقيقي فقط "من هو من إيمان إبراهيم، هو من أبناء إبراهيم"، فإن كنتم للمسيح فأنتم إذًا نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة" (غلا 3: 29). ولو نتبنى كلمات شاعر ألماني: "ما الذي يميز كل واحد داخل الحظيرة هل الإيمان الذي لا يرى، ولكنه كما لو كان يرى يتكل ويثق بك أيها الرب غير المرئي!".
_____
(21) The modern Jews count the year of the Creation from 3761 B.C., so that, in order to calculate the Jewish era, we have to add to our Christian era the number 3761.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/timeline-abraham.html
تقصير الرابط:
tak.la/m8swj86