St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-1
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الأول: عالم ما قبل الطوفان وتاريخ رؤساء الآباء الأولين - القمص أنجيلوس المقاري

11- الفصل الحادي عشر: دعوة إبراهيم - وصوله إلى أرض كنعان، ورحيله مؤقتًا إلى مصر (تك 11: 27 - 13: 4)

 

الفصل الحادي عشر

دعوة إبراهيم - وصوله إلى أرض كنعان، ورحيله مؤقتًا إلى مصر

(تك 11: 27 - 13: 4)

 

مع أبرام يمكن القول أن مرحلة جديدة تمامًا قد بدأت. كان له أن يكون أب لجنس جديد كان لوعود الله أن تُحفظ فيهم ومن خلالهم سوف تتحقق في النهاية. لذلك بدا من الضروري أنه عند دعوة أبرام كان له أن يهجر بيته القديم وأسرته ووطنه وشعبه. ودون أن نتكلم عن الأخطار التي كانت ستحيط بدعوته، فإنه كان مطلوب بداية جديدة بها يستأصل كل ما هو وراء. ولو كان بقي في أور الكلدانيين لكان على أفضل الأحوال حلقة جديدة في سلسلة قديمة.

بالإضافة إلى هذا فإن معاملات الله الخاصة وإيمان أبرام وصبره كما ظهر في طاعته الفورية للأمر الإلهي، كان الهدف من وراءها أن تؤهله ليكون رأس ترتيب جديد للأمور: "أبو كل المؤمنون". وأخيرًا كان المقصود من تاريخ أبرام وتاريخ نسله من بعده أن يعد الطريق للحقائق العظمى للإنجيل، يُظهر كما في رمز كل من بالإيمان والصبر يرثون المواعيد.

إلى هنا تدخل الله فقط كما في الطوفان وفي بلبلة الألسنة ليوقف محاولات الإنسان ضد مقاصد رحمته. لكن عندما دعا أبرام، تدخل الله شخصيًا وبقوة وهذه المرة كان تدخله بالرحمة وليس بحكم قصاص.

إن كل تاريخ أبرام يمكن ترتيبه في أربع مراحل، كل مرحلة تبدأ باستعلان شخصي للرب. الأولى عندما دُعي أبرام لعمله وإرساليته (تك12-14)، والثانية عندما تلقى وعد بوريث وقُطع معه عهد (تك 15-16)، والثالثة عندما توطد العهد بتغيير اسمه من أبرام إلى إبراهيم وبالختان كعلامة وختم للعهد (تك17-21)، والرابعة عندما جُرّب واُختبر وتكمل بتقديم إسحق (تك 22: 1- 25: 11). هذه إن جاز القول النقاط الأساسية في تاريخ أبرام والتي صعدها رئيس الآباء على التوالي والتي كل الأحداث الأخرى في حياته يمكن اعتبارها كدرجة صعود إليها.

وإذ ننزل بسلسة أنساب سام نجد أن أبرام يقف عاشرًا بين آباء ما بعد الطوفان. كان هو على ما يبدو الابن الثالث والأصغر لتارح، والابنين الآخرين كانا هاران وناحور. الأسرة أو بتعبير أكثر صحة قبيلة تارح أقاموا في أور الكلدانيين والتي هي الجزء الجنوبي من بابل. إن "أور الكلدانيين" مثلما اُكتشفت أيضًا حديثًا(22) تُعتبر الأقدم إن لم تكن الأكثر قدمًا بين مدن الكلدانيين. فهي تقع على بعد ستة أميال من نهر الفرات، ومن الغريب أن نسرد أنها في الحاضر في مكان ما حوالي 125 ميل عن الخليج الفارسي، رغم أنه كان يُفترض في وقت ما أنها تغتسل بمياهه، ويمكن أن يُعزى الفرق بسبب الترسيب السريع لما يصير تربة أو الطمي كما يُدعى. هكذا يلزم أن أبرام في شبابه كان يقف على شاطئ البحر ويرى رمله الذي لا يُحصى والذي سوف يشبهه نسله في العدد بعد عصور.

وتشبيه آخر وصف به نسله يلزم أنه كان أيضًا مألوفًا لذهنه. من المعروف جيدًا أن لمعان نور النجوم في السماء في الشرق وبالأخص حيث كان يقيم أبرام يفوق جدًا ما نعاينه في خطوط العرض لدينا. ربما كان هذا أول من أدى في تلك المناطق إلى عبادة الأجرام السماوية. ويلزم أن أبرام كان أكثر انجذابًا لتأملها من حيث أن المدينة التي كان يسكن فيها كانت مولعة بعبادة الأوثان تلك، لأن الموقع الحقيقي لأور قد تيقن من حادثة اكتشاف أحجار لا تزال هناك تحمل الاسم "هور" عليها.

St-Takla.org Image: The call of Abram (Genesis 12:1) - Bible Scroll. صورة في موقع الأنبا تكلا: دعوة إبراهيم (التكوين 12: 1) - بايبل سكرول.

St-Takla.org Image: The call of Abram (Genesis 12:1) - Bible Scroll.

صورة في موقع الأنبا تكلا: دعوة إبراهيم (التكوين 12: 1) - بايبل سكرول.

وهذه الكلمة تشير إلى "هوركي" الإله القديم للقمر، وأور الكلدانيين كانت المدينة العظيمة للقمر ومركز عبادة القمر الكلدانية! وأكثر الخرائب الشهيرة لتلك المدينة كانت تلك المختصة بمعبد القمر القديم لأور والذي من الاسم الذي على الطوب تم حساب التاريخ بكونه من ألفين سنة قبل الميلاد. وهكذا الطوب الذي عمره 38 قرن (وقت كتابة هذا الكتاب)، قد ظهر الآن إلى النور ليشهد لمدينة إبراهيم القديمة، وليشهد للتغير الهائل الذي يلزم أن أبرام اجتازه عندما -إيمانًا منه بكلمة الله- أطاع ما أمرته به.

لدى التقليد اليهودي خبرين متنوعين يبينان كيف أن أبرام تحول عن عبادة الأوثان المحيطة به وما جازه من اضطهاد بناء على ذلك. إن الكتاب المقدس لا يشبع رغبات مخيلتنا بمثل هذه الأمور، لكن لكونه صادق مع هدفه ومنسجم معه يسرد فقط ما يختص بتاريخ ملكوت الله. لكننا نتعلم(23) من (يش 24: 2، 14-15) أن أسرة تارح "سكنوا في عبر النهر منذ الدهر، نهر الفرات، "وعبدوا آلهة أخرى"، ويمكننا أن نفهم في الحال أي تأثير يلزم أن الظروف المحيطة بهم أثرت عليهم.

لقد كان من هذه المدينة أور دعا الله أبرام. وقبل هذا الحدث مات هاران أخو أبرام الأكبر. ونقرأ بعد ذلك أنه: "وَأَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ وَلُوطًا بْنَ هَارَانَ ابْنَ ابْنِهِ وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَأَةَ أَبْرَامَ ابْنِهِ فَخَرَجُوا مَعًا مِنْ أُورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتُوا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاك" (تك 11: 31)، حيث الكلمات التي كُتبت بالبنط العريض لا تترك مجالًا للشك بكون الدعوة الأولى لإبراهيم جاءته قبل موت تارح بوقت طويل وعندما كانت الأسرة لا تزال في أور (قارن اع 7: 2).

من حيث كون حاران دُعيت فيما بعد "مدينة ناحور" (تك 24: 10) يمكننا أن نخرج باستنتاج أن ناحور، أخو أبرام، استقر هناك هو وأسرته أيضًا وإن كان ربما في فترة متأخرة دون أن تتخلى عن عبادتها للأصنام. إنه لتأكيد رائع للرواية الكتابية أنه وإن كانت هذه المنطقة تنتمي لمنطقة ما بين النهرين وليس لمنطقة الكلدانيين، فمعروف عن سكانها أنهم احتفظوا لفترة طويلة بلغتهم وعبادتهم الكلدانية الخاصة بهم. لقد احتفظت حاران باسمها الأصلي وفي وقت الرومان كانت أحد ساحات القتال العظيمة التي فيها كابد الرومان الهزيمة على يد البارثينيين.

إن الرحلة من أور في أقصى الجنوب كانت طويلة ومملة وخطرة، ويلزم أن الوديان المثمرة حول حاران كانت تمثل إغراء شديد ليستقر فيها أية قبيلة تمتهن رعاية الغنم والماشية. لكن عندما جاء الأمر الإلهي لم يكن أبرام "معاندًا للرؤيا السماوية"، وربما وصول واستقرار ناحور وعائلته هناك وما جلبوه معهم من أصنامهم، قد يكون شكّل حافز إضافي لرحيل أبرام من هناك.

وحتى الآن، الله بتدبيره جعل الأمر أسهل لأبرام بالرحيل حيث أن والده مات في حاران وله من العمر 205 سنة. دعوة الرب الثانية لأبرام مثلما وردت في (تك 12: 1-3) عبارة عن أمر رباعي ووعد رباعي. كان الأمر محدد تمامًا في شروطه: "اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ" (تك 12: 1).

لكنه تركه إلى الآن بدون جزم من جهة الموضع الذي سوف يستقر فيه نهائيًا. ويلزم أن هذا الغموض كان يشكل عبئ إضافي ومن خلال الظروف التي اجتازها أبرام كان يشكل مشكلة وعقبة في طريق طاعة أبرام. لكن كلمة الوعد طمأنته. يلزم أن نلاحظ بوضوح أنه في هذه المناسبة كما في كل مناسبة أخرى في حياة أبرام، كان إيمانه يجعل طاعته تتميز بالعزيمة والتصميم.

وبناء على ذلك نقرأ: "بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي" (عب 11: 8). الوعد الذي عليه اتكل أكد له هذه الأمور الأربعة: "فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً"، "وَأُبَارِكَكَ" مع هذه الإضافة "وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ". "، "وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ"، وأخيرًا "وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ".

عندما نفحص هذه الوعود عن قرب أكثر، ندرك في الحال كيف يلزم أنها شكلت مع ذلك تجربة وامتحان آخر لإيمان أبرام، حيث أنه لم يكن فقط ماضيًا كغريب في أرض غريبة، بل كان في ذلك الوقت بلا بنين بالمرة.

إن الوعد أنه كان له أن يكون بركة يتضمن أن البركة إن جاز القول سوف ترتبط به ارتباطًا وثيقًا حتى أن سعادة أو تعاسة الآخرين ستتوقف بناء على العلاقة التي ستحكم علاقتهم بأبرام. ومن ناحية أخرى، من التعبيرات المميزة هنا "َأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ" بالجمع، "وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ" بالمفرد، يمكن أن نخرج باستنتاج أن القصد الإلهي بالرحمة يشمل كثيرين "من كل الأمم والقبائل والألسن".

وأخيرًا الوعد العظيم: "وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ"، يمضي إلى أبعد من التأكيد والطمأنينة الشخصية: "وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ"، فهي تلخص وتجعل الوعود السابقة بالخلاص النهائي أكثر تحديدًا، بتثبيتها على أبرام بكونه المنبع الذي كان للبركة أن تتدفق منه. إذ نراها في هذا الضوء تظهر البشرية كلها وإن كانت عبارة عن عائلات هائلة العدد، لكن تنحدر من نفس الأب الواحد، كان لها أن تتحد مرة ثانية في بركة مشتركة في أبرام ومن خلاله.

إذ يتكرر مرارًا كثيرة في سيرة أبرام، احتوى هذا الوعد فعلًا من البداية كل ملء القصد الإلهي بالرحمة في خلاص البشر. هكذا كان لنبوة "يفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام" أن تتحقق كما أظهر هذا بطرس الرسول في (أع 3: 25) وبولس الرسول في (غلا 3: 8، 14). كان عمر أبرام 75 سنة "لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ" واصطحب معه لوط وأسرته. ولو نضع جانبًا مختلف التقاليد التي تصف مكوثه طويلًا في دمشق وافتراض حكمه لها، نعرف من السفر أن أبرام دخل أرض الموعد بعد سنوات كثيرة، مثلما حدث مع حفيده يعقوب الذي رجع إليها بعد سنوات كثيرة، تاركًا عن يمينه لبنان الجميل والفخم وعن يساره مراعي جلعاد وغابات باشان الجبلية. واجتاز مباشرة على التلال وعبر الوديان إلى أن وصل إلى وادي مورة المبهج أو بالأحرى وصل بلوطة مورة ذات الأغصان الممتدة في وادي شكيم. وقد تكلم المسافرون بأكثر العبارات حماسًا لهذا الوادي، فقد كتب الأستاذ روبنسون قائلًا:

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

"في الحال هبطت الأرض إلى وادي يجري إلى الغرب تربته خصبة ذات طينة داكنة الخضار. ها منظر بديع ومجموع خضري يكاد لا يكون له مثيل يفرض نفسه علينا. كل الوادي كان ممتلئًا بحدائق الخضروات وبساتين فواكه من كل ثمار، ترويه ينابيع عديدة تتفجر في أجزاء مختلفة يتدفق مائها تجاه الغرب في جداول مياه مُنعشة، جاءت علينا فجأة كمنظر فاتن وخلاب الجمال. لم نر شيء يمكن أن نقارنه به في كل فلسطين".

وقال رحّالة آخر: "لا توجد هنا أدغال برية لكن يوجد على الدوام مجموع خضري، يوجد ظلال ليس للبلوط أو السنديان بل ظلال شجر زيتون زاهي في لونه، فاتن في شكله حتى أننا لأجله يمكن أن نتخلى طوعًا عن كل أنواع الشجر في الغابات".

هذا كان أول موضع استقر فيه أبرام في أرض الموعد، في وادي مورة أو بالأحرى في غاباته، والذي ربما اشتق اسمه من مالك المنطقة الكنعاني. لأنه كما أظهرت ملاحظة كاتب الوحي "وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض" (تك 12: 6)، لم تكن الأرض خالية من السكان بل كان يشغلها جنس معادي، ولو كان لأبرام أن يمتلكها، فيلزم أن يكون هذا أيضًا بالإيمان بالمواعيد.

هنا كان ظهور فعلي للرب لأبرام تحت شكل مرئي ما، وكان لأول مرة مرئيًا يُنقل الوعد في حضور الكنعانيين: "لنسلك أعطي هذه الأرض"، وأُضيف هنا القول: "فبنى هناك مذبحًا للرب الذي ظهر له" (تك 12: 7). وبهذا تكرست الأرض التي ظهر الرب عليها ووعد أبرام بها، وإيمان أبرام تم المجاهرة به علانية في أرض غريبة، وأمسك بوعد الرب المعُطى له.

من شكيم انتقل أبرام، ربما لأجل المراعي جنوبًا إلى جبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته بين بيت إيل وعاي. وهذه المنطقة بحسب كلمات روبنسون: "لا تزال واحدة من أفضل مناطق الرعي في كل الأرض". وبحسب اللغة المتألقة لدين ستانلي Dean Stanley:

"نحن هنا نقف على أعلى القمم المتتالية، حيث في ذروتها موضع منبسط كما لو كان على منحدرات صخرية أسفله ويتميز عنها ببساتين الزيتون والتي تتجمع على سطحها العريض أعلاها. من هذا العلو الذي يقدم قاعدة طبيعية لمذبح رئيس الآباء وظلال مناسبة لخيمته، يلزم كيف أن أبرام ولوط عملا مسح شامل للمنطقة... ومن هناك كان يمكنهم الاستمتاع بالمنطقة أفضل من أي موضع آخر في المناطق المجاورة".

وما لاقوه في نظرتهم المندهشة والمنبهرة من هذه النقطة سوف يتم وصفه في الفصل التالي. أثناء ذلك نلاحظ هنا أيضًا أن أبرام "بنى هناك مذبحًا للرب" (تك 12: 8)، ومع أنه لا يبدو أن الرب ظهر له بطريقة مرئية، لكن أبرام "دعا باسم الرب".

وبعد أن مكث هناك ربما لبعض الوقت، استمر أبرام في ترحاله: "ثم ارتحل أبرام ارتحالًا متواليًا نحو الجنوب" كغريب في أرض الموعد، ولم تكن علامات اقتنائه لها سوى مذابح يتركها تدل على تواجده هناك من قبل.

والآن امتحان جديد كان في انتظار إيمان أبرام. ومع أن إيمانه كان يبرهن على الدوام قوته فيما يختص بملكوت الله، لكن يخفق مرارًا وتكرارًا في أموره الشخصية. مجاعة كانت تعيث خرابًا في الأرض، وكما هو لا يزال الحال مع قبائل البدو في ظروف مماثلة، انحدر أبرام وأسرته إلى مصر، والتي كانت في كل الأوقات مخزن غلال الأمم الأخرى.

لا يليق بنا أن نتأمل إن كان هذا الانتقال كان شرعيًا أم لا بدون توجيهات سابقة خاصة من الله أم لا، لكن ما نعرفه هو أنه عرّض أبرام لأعظم خطر. مثلما أنه لا ينبغي لنا أن نقلل من قيمة مصاعب رؤساء الآباء، كذلك علينا ألا نغالي ونبالغ في إيمانهم وقوتهم. كان أبرام "إنسان تحت الآلام مثلنا" وله نفس ضعفنا.

عندما تكلم الله إليه آمن وصدق، وعندما آمن أطاع. لكن الله لم يقل له شيء مباشر بعد عن سارة، وفي غياب أي توجيه خاص، يبدو أنه كان يأخذ تدبير الأمور بنفسه وبحسب أسلوب تلك الأوقات والبلاد. ومن (تك 20: 13)، نعلم أنه عند أول خروجه من بيت أبيه، تم الاتفاق بينهما، أن تقول سارة عنه أنه أخوها، لأنه بحسب قوله "لم يكون هناك خوف الله" بين الأمم التي سوف يحتك بها في تنقلاته، وقد يقتلون أبرام بسبب زوجته(24).

إن الخداع -مثلما كان فعليًا في حقيقته- يكاد لا يبدو هكذا في أعينهما، لأن سارة كانت مرتبطة جدًا بزوجها (بصلة قرابة) لدرجة أنه يمكن أن تُدعى أخته. وباختصار، مثلما نفعل نحن غالبًا هذا الأمر، كان خداع بدأ بخداع ذاتي، ومع أن ما قاله كان يمكن أن يكون حقيقي بالمعنى الحرفي، لكن بالمعنى الروحي كان كذبًا.

لكن ليس لنا أن نتخيل أن أبرام كان عديم القلب والمشاعر بحيث يعرّض حياة زوجته للخطر لأجل سلامته الشخصية. على العكس، كان يبدو أن هذه أسرع وأسهل وسيلة في متناول يده يمكن أن يحمي بها شرفها أيضًا، فهي من حيث يُنظر إليها بصفتها أخت لرئيس كبير، فمن يود أن يطلب يدها عليه أن يلتزم ببعض إجراءات رسمية، يمكن أثناء السعي لتنفيذها يكون أمام أبرام متسع من الوقت ليهرب بزوجته.

نحن لا نقول هذا على سبيل الاعتذار أو التبرير لتصرف أبرام بل توضيحًا منا للموقف. والآثار المصرية القديمة هنا أيضًا تؤكد بصورة رائعة الرواية الكتابية. فهي تبرهن أن هجرة أجانب متميزين بعائلاتهم وتابعيهم لم يكن على الإطلاق أمر غير شائع. ورواية منها ترجع إلى زمن أبرام تمثّل وصول قبيلة كهذه، تم تقديمهم لفرعون الذي استقبلهم استقبالًا وديًا. أسمهم ومظهرهم وملابسهم تبين أنهم رعاة بدو من أصل سامي(25). ولوح آخر قديم يسجل كيف أن مثل هذا الغريب نال أعظم كرامة ومجد في الأرض.

ومن المرجح أن أبرام لاقى مثل هذا الترحيب الحار. لكن حيلته فشلت في تحقيق هدفها وتم أخذ سارة إلى بيت فرعون. ومن حيث أن أبرام سوف يصير أخو زوجة فرعون اقتنى في الحال مال ومواشي كثيرة. وبالطبع هذه الهدايا لم يكن في مقدور أبرام أن يرفضها، وإن كانت تزيد من جرمه وندمه وإحساسه بالخزي والعار.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

لكنه استودع ذاته بعمق ليستعيد تذكر خطواته والافتقار للإيمان الذي أثار مخاوفه في البداية قد يكون أخذ في التزايد والتصاعد. لقد تخلى أبرام في الوقت الراهن عن أرض الموعد وهو الآن كان في خطر أن يفقد أيضًا وعد أعظم. لكن الرب لم ينكر مثل أبرام من كان لها أن تكون أم النسل الموعود، فضرب فرعون وبيته ضربات عظيمة، تدريجيًا أدت بفرعون أن يتيقن أن ما آله إليه حاله وبيته كان بسبب سارة ذاتها.

بناء على هذا استدعى فرعون أبرام ووجه له كلام توبيخ، يلزم أن أبرام تبكت منه بشدة لكونه جاءه من عابد وثن. واعترافًا من أبرام بما فيها من حق لم يتمالك إلا أن يصمت. لكن تدخل الله لصالح أبرام حث فرعون على أن يصرفه بكل مقتنياته سليمة وكما تتضمن كلمات النص العبري تم مصاحبته بإكرام لحين وصوله حدود أرض مصر.

إنها ملاحظة حق وصدق لكاتب ألماني أنه بينما حدوث المجاعة في مصر كان مقصود منه أن يعلّم أبرام أنه حتى في أرض الموعد يعتمد الغذاء على بركة الرب بطريقة تعلّمه مسبقًا هذه الطلبة: "اعطنا هذا اليوم خبزنا اليومي"، فإن خبرته في مصر سوف تُريه أيضًا أنه في الصراع مع العالم الحكمة الجسدية لا تفيد بشيء، وأن المعونة جاءت فقط ممن "لم يدع إنسانًا يظلمهم، بل هو وبخ ملوكًا من أجلهم قائلًا لا تمسوا مسحائي ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 105: 14-15)، كما لو كان يود أن ينقل إلى ذهن أبرام هاتين الطلبتين: "لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير".

وهكذا عاد أبرام مرة ثانية إلى بيت إيل: "إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة بين بيت إيل وعاي، إلى مكان المذبح الذي عمله هناك أولًا ودعا هناك باسم الرب" (تك 13: 2-4). في واحدة من الأوجه كانت هذه الحادثة نموذج لما سيحل فيما بعد ببني إسرائيل. فمثله هم نزلوا إلى مصر بسبب المجاعة، ومثله تركوها تحت تأثير الخوف الذي حل على المصريين ولكن محملين بكل خيرات مصر.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(22) انظر مقالة "أور" في قاموس سميث الكتابي. فوجهة النظر السابقة التي تم تبنيها سابقًا والتي توجد أور في موضع مختلف تمامًا قد وضح تمامًا خطئها. 

(23) Van de Velde.

(24) توجد مخطوطة مصرية قديمة في المتحف البريطاني، والتي وإن كانت إلى حد ما من زمن متأخر عن زمن أبرام، لكنها تبرهن أن مخاوفه عند دخوله مصر كان لها ما يبررها. فهي تحكي كيف أن فرعون بناء على نصيحة مستشاريه أرسل قوات ليأخذ بالقوة زوجة أحد الرجال وبعد ذلك قتل زوجها. 

(25) توجد حادثة غريبة التزامن كون اسم هذا الرئيس هو "أبشاه" أي "أب الأرض" ويذكّرنا بإبراهيم "أب جمهور"، والصلة أو العلاقة الكلية للآثار المصرية بروايات الكتاب المقدس سوف يتم مناقشتها باستفاضة في الكتاب التالي لنا.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/call-of-abraham.html

تقصير الرابط:
tak.la/sp7xm82