الفصل التاسع
الأمم وديانتها - أيوب
أجاد كاتب ألماني حديث عندما قال: (يمكن تأريخ ميلاد الوثنية في اللحظة التي فيها تم النطق بهذه المقولة المتعجرفة: "هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا". حتى يوسيفوس المؤرخ اليهودي القديم يعتبر نمرود أبو الوثنية والتي سمتها أن تجد القوة والسعادة في الخطية وليس في الله.
فمبدأ الوثنية الأساسي هو أن ترفض كل ما هو غير مرئي وتتعلق بكل ما هو زمني. وهكذا يمكن أن نكون نحن أيضًا وثنيين في القلب حتى وإن لم نكن هكذا في الذهن ولا نعبد الحجر أو الخشب.
وفي الواقع إنه لأمر مثير جدًا وملفت للنظر أنه لا توجد أمة أو قبيلة تم اكتشافها لا تعترف وتعبد كائن ما فائق وسامي، ولكن من أقصى الأمم بربرية ووحشية إلى أكثرها تهذبًا وتمدينًا، كلها تعوزه معرفة الإله الحي والحقيقي. والاستثناء الوحيد في العالم كله كان إسرائيل الذي لهم أعلن الله ذاته، بل واحتاجت إسرائيل لتعليم وإرشاد وتهذيب متواصل من العلا لحفظهم من الارتداد إلى الوثنية.
عبادة الأصنام هي ديانة الرؤية العيانية مقابل ديانة الإيمان. فبدلًا من الخالق غير المرئي، صنع الإنسان الاعتبار لكل ما كان مرئي، للشمس والقمر والنجوم بكونها علة كل شيء والضابطة لكل شيء، أو هو عيّن لكل شيء إلهه وبهذا كان له آلهة وأرباب كثيرين، بل هو أسبغ على أبطاله الحقيقيين أو الخياليين صفة الإلوهية. فعبادة السموات والتعبد للطبيعة وللإنسان هي وثنية وعبادة للأصنام.
ولكن أثناء كل هذا شعر الإنسان بعدم كفاية عبادته، لأنه خلف كل هذه الآلهة هو وضع مبدأ القضاء والقدر كشيء جامد لا يتحرك وغامض لا يمكن فحصه، يسمو ويتحكم على السواء في الآلهة والبشر. وفي الواقع كانت هذه مبادلة أو صفقة مرعبة صنعها الإنسان، أن يترك أبينا السماوي ومحبته ويتمسك بدلًا من ذلك بمثل هذه الأضاليل والمثبطات والإحباطات.
وأسوأ ما في كل هذا كان أن الإنسان تدريجيًا صار مطابقًا لدينه. فهو في البداية نسب رذائله إلى آلهته، وبعد ذلك اقتدي برذائل آلهته. يقينًا كانت الأمم الوثنية هي الابن الأصغر في مثل الابن الضال (لو 15: 12) والذي ترك بيت أبيه ومعه نصيب الخيرات التي تخصه -العلم والفنون والآداب والقوة الوثنية- ليجد نفسه في النهاية مضطرًا لأكل الخرنوب الذي كانت تأكله الخنازير ومع ذلك لم يكن قادرًا على أن يشبع جوعه منها!
تبارك الله لأنه استعلن لنا ذاته في يسوع المسيح الذي أرجع الابن الضال إلى بيت أبيه وقلبه!
![]() |
لكن بالرغم من كل ذلك، لم يترك الله نفسه بلا شاهد. فالبحث الداخلي للإنسان عن الله، صوت الملامة لضميره، محاولة أن يقدم ذبائح، وبقية التقاليد القديمة للحق بين البشر، كان يبدو أن كلها تشير إلى أعلى. ولذا كما أنه ليس كل الذين من إسرائيل هم إسرائيليون، كذلك الله أيضًا له في كل وقت من هم خاصته حتى بين الأمم الوثنية. أيوب، ملكي صادق، راحاب، راعوث، نعمان، يمكن أن يُذكروا كأمثلة لهذا.
سيمكننا أن ندرك بسرعة أن أعداد من كأنهم "ولدوا في غير الأوان" من بين الأمميين، يلزم أن عددهم كان الأكبر كلما صعدنا تيار الزمن واقتربنا أكثر من الفترة الزمنية التي كانت فيها التقاليد المبكرة لا تزال محفوظة في نقاوتها في الأرض. وأعظم مثال لهذا موضوع أمامنا في سفر أيوب والذي أيضًا يعطي أعظم صورة رائعة عن تلك الأزمنة المبكرة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
هناك شيئان يمكن أن نعتبرهما محسومين تمامًا من جهة سفر أيوب. فمناظره ولاعبيه الأساسيين كانوا موضوعين في أزمنة رؤساء الآباء وخارج نطاق أسرة إبراهيم والتسلسل المباشر له. إنها رواية لحياة أممية في زمن رؤساء الآباء المبكرين. ولكن أي شيء أكثر نبلًا وأعظم من جهة التقوى والروحانية يحتويه سفر أيوب لم يوجد "ولا حتى في إسرائيل".
هذا ليس الموضع لأن نتكلم عن رواية أيوب أو لنشير إلى عمق الفكر وحيوية وخصوبة التخيلات وجمال وعظمة اللغة التي بها كُتب. ويكفينا أن نأخذ مسح سريع جدًا للحياة الروحية والاجتماعية التي وُضعت أمامنا. بدون أن نشير إلى أقوال أليهو، واضح أن أيوب كانت لديه معرفة تامة عن الإله الحقيقي وأنه كان متضعًا وعابد جاد للرب. بدون أن تكون لديه معرفة "بموسى والأنبياء" هو عرف من تكلم عنه موسى والأنبياء.
الاعتراف بالله والذي يتسم بالوقار والإيمان، خضوعه وتوبته الروحية تشكل جزء من خبرته والتي نالت استحسان الله شخصيًا. ثم أن أيوب قدم ذبائح، وتكلم عن المجرب العظيم (الشيطان)، وتطلع إلى قيامة الجسد وتوقع مجيء المسيا. نحن تتبعنا الخطوط الظاهرة لديانة وتدين أيوب. وأصدقاؤه الذين جاءوا إليه، إن لم يشاركوه تقواه فعلى الأقل لم يتعاملوا مع آرائه بكونها أمور غريبة تمامًا ولم يسمعوا عنها من قبل. فهذه على الأقل صورة مباركة لفئة معينة في ذلك العصر.
إلى أي مدى تقدمت الثقافة والمدينة في تلك الأزمنة، يمكننا أن نستخرجه من مختلف الإشارات والتنويهات في سفر أيوب. أيوب نفسه كان رجل له ثروة عظيمة ومركز رفيع المستوى. وبلغة كاتب حديث: "شيخ القبيلة يحيا في أبهة وكرامة عظيمة... كان أيوب يزور المدينة مرارًا وهناك يُستقبل باحترام عظيم كملك وقاضي ومحارب متميز (أي 29: 7، 9). توجد إشارة إلى محاكم القضاء، عرائض مكتوبة ومختلف أشكال المرافعات القضائية (أي 13: 26؛ 31: 28).
لقد ابتدأ الناس في ملاحظة وتعليل ظواهر الطبيعة، والملاحظات الفلكية كانت مرتبطة بتأملات فضولية وغريبة عن التقاليد البدائية. نحن نقرأ في السفر عن عمليات تعدين المعادن والمباني العظيمة، القبور المدمرة... ثورات عظيمة حدثت أثناء زمن الكاتب للسفر، أمم كانت مستقلة انهزمت وقُهرت، وأجناس بأكملها أصابها البؤس والانحطاط"(20).
بل وليس لنا أن نغفل لمحات الحياة الاجتماعية المعطاة لنا في هذا السفر. فبينما كان هناك ظلم ونهب وقتل في الأرض، كان يوجد من حسن الحظ جانب آخر للصورة: "حِينَ كُنْتُ أَخْرُجُ إِلَى الْبَابِ فِي الْقَرْيَةِ وَأُهَيِّئُ فِي السَّاحَةِ مَجْلِسِي. رَآنِي الْغِلْمَانُ فَاخْتَبَأُوا وَالأَشْيَاخُ قَامُوا وَوَقَفُوا" (أي 29: 7-8). وجنبًا إلى جنب الاحترام اللائق الذي كان يُقدم لمن يستحقه، نجد أن العلاقة بين الغني التقي والفقير تُوصف هكذا: [11- لأَنَّ الأُذُنَ سَمِعَتْ فَطَوَّبَتْنِي وَالْعَيْنَ رَأَتْ فَشَهِدَتْ لِي. 12- لأَنِّي أَنْقَذْتُ الْمِسْكِينَ الْمُسْتَغِيثَ وَالْيَتِيمَ وَلاَ مُعِينَ لَهُ. 13- بَرَكَةُ الْهَالِكِ حَلَّتْ عَلَيَّ وَجَعَلْتُ قَلْبَ الأَرْمَلَةِ يُسَرُّ. (أي 29: 11-13). ].
يقينًا لا يوجد شيء في كل هذا نتمنى أن نراه متغيرًا حتى في أزمنة العهد الجديد! لكن الأكثر رعبًا بالمقارنة يلزم أن تكون عبادة الأوثان والفساد الذي أصاب الأغلبية الساحقة من البشرية، الوثنية التي ربما يكونوا قد ورثوها من قبل الطوفان والتي سرعان ما وصلت إلى نسب مهولة والفساد الذي واصل ارتفاعه على الدوام أثناء "أزمنة هذا الجهل".
_____
(20) Canon Cook, in Smith’s Dictionary of the Bible, vol. 1, p. 1097.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/gentiles.html
تقصير الرابط:
tak.la/34wymhv