الفصل الثالث:
شيث وذريته - نسل قايين (تك4)
لم يكن ممكنًا أن يبقى موضع هابيل شاغرًا لو كان لمقاصد رحمة الله أن تُنفّذ. بناء على ذلك أعطى الله لآدم وحواء ابن آخر دعته أمه بوعي شيث، أي "مُعيّن" أو بالأحرى "تعويض" إذ قالت "لأن الله قد وضع لي نسلًا آخر عوضًا عن هابيل" (تك 4: 26). لكن قبل أن يذكر الكتاب تاريخ شيث وذريته، يتتبع ذرية قايين إلى الجيل الخامس والسادس.
قايين كما عرفنا من قبل مضى إلى أرض نود، تائهًا وهاربًا وفي حالة قلق وانزعاج، وهناك بنى مدينة ويمكن وصفها عن حق بكونها وضع أول أساسات المملكة التي يسود فيها "روح الوحش". علينا أن نتذكر أنه ربما قد مرت قرون منذ بدء الخليقة وأن الناس تكاثروا على الأرض. وغير هذا الاستيطان لقايين، لا شيء يبدو أنه حدث واعتبر السفر أنه من الضروري تسجيله سواء أسماء ذريته التي وردت مثل بني شيث، وهكذا نتتبع ذرية قايين إلى لامك الخامس من قايين والذي فيه وصلت بآن واحد وتطورت لذروتها كل شخصية وميول جميع ذريته.
وجاء علينا تقريبًا بطريقة مفاجئة أنه -في خلال أجيال قليلة وفي حياة الإنسان الأول فيها (قايين)- تم التخلي تقريبًا عن كل وصية وكل فرض أقامه الله وذلك علانية وبلا حياء، فساد على الأرض العنف والشهوة والشرور. كان أول كسر مباشر لترتيب إلهي نقرأ عنه هنا هو ظهور تعدد الزوجات بين البشر إذ قيل لنا "واتخذ لامك لنفسه امرأتين" (تك 4: 19)، ويقينًا من البدء لم يكن الأمر هكذا.
![]() |
ولكن لن يتوقف الوضع عند هذا الأمر. فقد احتفظ لنا السفر بما خاطب به لامك زوجتيه، والذي يُعتبر أقدم قطعة شعرية وتم تسميتها "أغنية السيف للامك"، وهي تنفث بروح التحدي والتباهي وثقته في قوته الشخصية، وبروح النقمة والقتل ولم يعد هناك ذكر واعتراف بالله سوى في الإشارة للانتقام ممن يقتل قايين، والتي منها يتكهن لامك بسلامته الشخصية.
بل وليس بدون غرض خاص أن السفر ذكر أسمي زوجتي لامك وبناته. لأن أسمائهم تشير إلى "شهوة العيون وشهوة الجسد"، مثلما أن المهن التي شغلها بنيه تشير إلى "تعظم المعيشة". وأسمي زوجتيه كانا "عادة" وتعني جمال أو زينة، وصلة وتعني "المحجوبة" ربما بسبب ضفائر شعرها، أو لوجود شيء يتجاوب مع الاسم من واقع أغنيه لها، بينما دُعيت أحد بنات قايين نُعمة وهي تعني "جميلة، أو فاتنة".
وهنا نأتي على واحدة من الملامح الأخرى والمهمة في تاريخ ذرية قايين. فحرف واختراعات بني لامك تشير إلى ثقافة فنون ومجتمع مستقر في حالة دائمة. فالابن الأكبر لعادة هو يابال "الذي كان أبًا لساكني الخيام ورعاة الواشي" (تك 4: 20)، بمعنى أنه هو الذي جعل من حياة رعي الماشية حرفة منتظمة. ابنه الثاني يوبال: "الذي كان أبًا لكل ضارب بالعود والمزمار"، بينما توبال قايين ابن لامك من صلة كان "الضارب كل آلة من نحاس وحديد"، وإذ نضع في اعتبارنا أغنية السيف للامك والتي أعقبت مباشرة السرد الكتابي لمهن بنيه، نجد مبررًا وتفويضًا لنا في تحديد الثقافة والمدنية التي قدمتها عائلة لامك بكونه من الأساس عديمة التقوى (وهناك من يقول إنه كان الله ينتقم لقايين سبعة أضعاف، فهو بما لدى بنيه من اختراعات النحاس والحديد يمكن أن ينتقموا له سبعة وسبعين). وأنه ليس فقط بكونها ثقافة ومدنية لأُناس أشرار، بل أيضًا لكونها اُحترفت بمعزل عن الاتكال عن الله وفي تعارض مع المقاصد العظيمة التي له مع الإنسان.
علاوة على ذلك، من اللافت للنظر جدًا أننا نلاحظ في جنس قايين تلك الأمور التي فيما بعد شكلت السمات الأساسية للوثنية، مثلما نجد بين أكثر الأمم تمدينًا في العالم القديم مثل اليونان وروما. إذ كما لو كان مكتوب على حياتهم الأسرية أسماء عادة وصلة ونعمة، وعلى حياتهم المدنية "أغنية السيف للامك" والتي تشكل الفكرة الأساسية للمجتمع الوثني القديم، وعلى ثقافتهم ومهنهم، ملخص السير الحياتية التي يقدمها السفر لنا عن ذرية قايين.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وكما أن حياتهم دُفنت في الطوفان، كذلك طوفان عظيم قد اكتسح الوثنية، اكتسح حياتها وثقافتها ومدنيتها من الأرض، وتُرك فقط على قمة الجبل الفُلك الذي فيه أغلق الله على من آمنوا وصدقوا تحذيراته ووعوده. والمفارقة والمقارنة تصير أكثر تميزًا عندما نلتفت من هذا السجل لبني قايين إلى الذي لشيث وذريته.
بل الاسم الذي أعطاه شيث لابنه "أنوش" ويعني "الهشاشة أو الضعف يقف كشهادة ضد عجرفة وإدعاء بني قايين [فالكلمة اُستخدمت لتعبر عن الإنسان في العبرية من واقع هشاشته وضعفه كما في النصوص (مز 8: 4؛ 90: 3؛ 103: 15)]. لكن بالأخص هذا الفرق الحيوي ظهر بين الجنسين في الكلمات التي تلت الإشارة إلى ميلاد أنوش: "حينئذ ابُتدئ أن يُدعى باسم الرب" (تك 4: 26).
بالطبع لا يمكن الافتراض أنه قبل هذا الوقت كان التسبيح لله والصلاة له غير معروفين بالمرة على الأرض. فذبائح قايين وهابيل تبرهن العكس تمامًا. لذا يلزم أنها تعني أن الفرق الجوهري الذي كان موجودًا على طول الخط بين الجنسين بات واضحًا أيضًا الآن خارجيًا بتميز واعتراف علني وبالتسبيح لله من جانب أبناء شيث.
وبهذا نكون قد وصلنا إلى أول فترة عظيمة في تاريخ ملكوت الله بفصل علني ومرئي بين فريقين، عندما الذين من الإيمان خرجوا من بين العالم ومن مملكة هذا العالم. ونتذكر كم أنه بعد قرون كثيرة، عندما جاء من دمه يتكلم أفضل من هابيل، تابعيه دُفعوا هم أيضًا لينفصلوا عن إسرائيل بحسب الجسد، وكيف أنه في إنطاكية دُعيوا أولًا مسيحيين. مثلما أن ذاك ميّز بداية تاريخ كنيسة العهد الجديد، كذلك هذه المقدمة للاعتراف العلني بالرب من جانب بني شيث، كان يشكل بداية تاريخ ملكوت الله في ظل العهد القديم.
ولكن هذا الفصل والخروج من العالم، هذا البدء بالدعاء باسم الرب، هو ما ينبغي لكل واحد منا إلى هذا اليوم أن يعمله لنفسه لو هو سيحمل الصليب ويتبع المسيح ويدخل في ملكوت الله.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/seth-cain-offspring.html
تقصير الرابط:
tak.la/hk67hm2