الفصل الثاني
قايين وهابيل - طريقان وجنسان (تك4)
اللغة التي بها يخبرنا السفر عن الحدث الثاني العظيم في التاريخ مرة أخرى غاية في البساطة. اثنان فقط من أبناء آدم وحواء تم ذكرهما: قايين وهابيل. ليس معنى ذلك أنه لا يوجد أبناء سواهما، بل لأن تطور التاريخ الكتابي مرتبط بهذين الاثنين. لأن الكتاب المقدس لا يقر أنه يعطي تاريخًا مفصلًا عن العالم ولا حتى يعطي سيرة كاملة للأشخاص الذين يقدمهم.
فهدفه هو أن يضع أمامنا تاريخ ملكوت الله وهو لا يصف ولا يذكر سوى الأحداث والأشخاص الضروريين لذلك الهدف. وبالنسبة لابني آدم وحواء كان قايين الأكبر وعلى قدر ما نستنتج هو البكر لكل أبنائهم. وعلى مدى التاريخ وفي الشرق إلى هذا اليوم الأسماء الأصلية تُعتبر مهمة ولها مغزى عميق. وعندنا دعت حواء ابنها البكر قايين (أي اقتناء) قالت: "اقتنيت رجلًا من عند الرب" (تك 4: 1).
من الواضح أنها قرنت وربطت ميلاد ابنها بالتحقيق المباشر للوعد المختص بالنسل الذي كان له أن يسحق رأس الحية. كان هذا التوقع -لو جاز لنا المقارنة- طبيعي من جانبها كمثل العودة السريعة للرب يسوع التي توقعها بعضًا من المسيحيين في العصر المسيحي الأول. وهو وضح أيضًا كم تغلغل هذا الوعد عميقًا في قلبها وكم كان إيمانها حي ومنتعش بتحقق الوعد وكم كان توقها حارًا وملتهبًا له.
لكن إن كانت هذه هي تصوراتها، فيلزم أنها خابت سريعًا. ربما لأجل هذا السبب بعينه أو لعله تم إخبارها تمامًا بما سيحدث له (!)، أو بناء على أسباب أخرى نجهلها، تم تسمية الابن الثاني لآدم وحواء، كما جاء في السفر "هابيل" والذي يعني "نسمة" أو زائل.
ما ورد عن هذين الشابين له أهمية كتابية ويتلخص في المقولة: "كان هابيل راعيًا للغنم وكان قايين عاملًا في الأرض". نلتقي بهما بعد ذلك بكون كل واحد منهما قدم قربانًا للرب، قدم قايين "من أثمار الأرض" وهابيل "من أبكار غنمه ومن سمانها"، "فنظر الرب إلى هابيل وقربانه"، وربما جعل قبوله لها بعلامة ظاهرية ومرئية، "ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر" (تك 4: 3-5).
ولكن بدلًا من أن يفتش عن سبب رفضه ويحاول أن يزيله، استسلم قايين لمشاعر الغضب والغيرة. والله من باب رحمته أظهر أمامه خطيته، وحذره من خطورتها وأشار عليه بطريق الإفلات منها. لكن قايين اختار لنفسه المسار الذي يسلك فيه. وإذ التقى بأخيه في الحقل، قادته كلمات الغضب لأن يرتكب جريمة قتل، وعاينت الأرض أول موت وأكثر ما جعله مرعبًا أنه كان موتًا عنيفًا وبيد أخ.
![]() |
مرة أخرى صوت الرب يدعو قايين للحساب ومرة أخرى يقسّي قايين قلبه، وهذه المرة يكاد ينكر ويجحد سلطان الله. لكن اليد القديرة للديان كانت على القاتل غير التائب. إن آدم، إن جاز القول، قد كسر أول وصية عظيمة، أما قايين فقد كسر الأولى والثانية. آدم اقترف الخطية، أما قايين فقد أخطأ واقترف جريمة قتل.
كتحذير لغيره ولكن كشاهد (ومثل حي) للكل، طُرد قايين من وظيفته التي اختارها من قبل كفلاح للأرض، وأُرسل ليهيم تائهًا وهاربًا على وجه الأرض، وهكذا لو لجأنا إلى التشبيه، طُرد إسرائيل إلى كل الأراضي عندما صلبوا وقتلوا بأيديهم الشريرة من دمه "يتكلم أفضل من هابيل".
لكن حتى هذه العقوبة التي كانت أعظم من أن يحتملها قايين لم تقوده إلى التوبة، بل هو فقط كان يخشى عواقبها ونتائجها. و "لكي لا يقتله كل من وجده" وضع الله علامة على قايين مثلما فعل لليهود وسط كل الاضطهادات التي عانوها بكونهم شعب لا يمكن إفنائه(1). فقط في حالتهم الرب الكريم له مقاصد رحمة تجاههم، لأنهم سيرجعون مرة ثانية إلى الرب إلههم "وكل إسرائيل سوف يخلص" (انظر رو 11: 26)، "فماذا يكون اقتبالهم إلا حياة من الأموات" (رو 11: 15).
لكن بالنسبة لقايين قيل عنه "فخرج قايين من لدن الرب وسكن في أرض نود" أي أرض عدم الراحة أو القلق والانزعاج. وآخر ما قرأناه عنه لا يزال متوافقًا مع كل حياته السابقة، فهو "كان يبني مدينة. فدعا اسم المدينة كاسم ابنه حنوك" (تك 4: 17).
والآن توجد بعض دروس نلمحها من مجرد قراءة سريعة لهذه الرواية. هكذا نلاحظ الفرق في قربان الأخوين، الأولى من ثمار الأرض والثانية ذبيحة حيوانية. وأيضًا تقدمة قايين وُصفت بعبارات عامة، أما التي لهابيل فقد قيل عنها "من أبكار غنمه". الأولى (أي الأبكار) كانت اعترافًا بأن الكل هو من الله، ومن سمانه، أي من أفضل ما لديه.
كذلك نلاحظ أيضًا كيف أن الله يحذر بأمانة وكيف أنه بتعطف ويشير على قايين إلى طريق للمهرب من سلطان الخطية. ومن ناحية أخرى فإن فعل القتل الذي اقترفه قايين يقدم شرح مرعب للكلمات التي علّمها الرب لنا أن مشاعر الغضب المرّة ضد الأخ هي في حقيقتها قتل (مت 5: 22)، مبيّنًا لنا -إن جاز القول- النتيجة النهائية للعناد والغضب والغيرة والحسد.
لكن هناك درسًا آخرًا علينا أن نتعلمه من هذه الرواية وهو أن خطيتنا يقينًا في النهاية سوف تقبض علينا (وتفضحنا)، وأنه لا توجد عقوبة مهما كانت مرعبة كان يمكن لها أن تغير قلب إنسان أو تغير حاله ومجرى حياته. إلى هذه يمكن أن نضيف الحقيقة المرّة التي سيدركها بعد فوات الأوان كل الأشرار أنه كما طُرد قايين في النهاية من الأرض التي اقتناها، كذلك يقينًا كل من يطلبون نصيبهم في هذا العالم سيجدون أن آمالهم قد أُحبطت حتى في تلك الأشياء التي لأجلها ضحوا بالجانب الأفضل (السماوي).
في هذا الأمر يبدو أن التعليم الكتابي الذي للمزمور التاسع والأربعين هو على خلفية رواية قايين وهابيل. لو من هذه الدروس الواضحة انتقلنا إلى العهد الجديد لأجل مزيد من الضوء على هذه الرواية، سنجد في رسالة يهوذا تحذيرًا عامًا من المضي "في طريق قايين"، بينما يوحنا الرسول يجعل الرواية مناسبة وفرصة للحث على المحبة الأخوية: "لَيْسَ كَمَا كَانَ قَايِينُ مِنَ الشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ" (1يو 3: 12).
لكن المعلومة الأتم نشتقها من رسالة العبرانيين، حيث نقرأ من ناحية أنه "بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ"، ومن الناحية الأخرى أنه "بِالإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلَّهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ اللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!" (عب 11: 6، 4). هنا أخذنا الكتاب (معه) كما لو إلى أعلى نقطة في حياة الأخوين، إلى ذبيحتهما وأخبرنا عن وجود إيمان في واحد وغيابه في الآخر.
هذا يُظهر ذاته كذلك في أسلوب ونوع ذبيحتهما. لكن الإيمان الذي كان الدافع لذبيحة هابيل، والافتقار إلى الإيمان الذي ميّز ذبيحة قايين، يلزم بالطبع أنه كان موجودًا وظهر من قبل في تصرفات حياتهما. من ثمَّ قال يوحنا الرسول أيضًا: "كَانَ قَايِينُ مِنَ الشِّرِّيرِ"، قاصدًا بهذا أنه سلّم نفسه على طول الخط لسلطان ذلك المجرب الذي أسقط من قبل أبوينا الأولين.
قليل من التأمل والتفكير سوف يشرح هذا وفي نفس الوقت يلقي مزيدًا من الضوء على شخصية وتصرف قايين. بعد السقوط تغير وضع الإنسان تجاه الله تمامًا. في جنة عدن كان رجاء الإنسان في تثبيت حالته والتقدم والرقي لأعلى متوقفًا على طاعته التامة. لكن الإنسان عصى وسقط. ومن ثمَّ رجائه للمستقبل لم يمكن بعد أن يكون مشتقًا من طاعته التامة والتي فعليًا كانت مستحيلة في حالته الساقطة. وإن جاز القول وُضع أمامه طريق العمل والفعل أمامه، وانتهى الطريق بالخطية بالموت.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
والله في نعمته اللانهائية فتح الآن أمام الإنسان طريقًا آخر، إذ وضع أمامه طريق الإيمان. والوعد الذي أعطاه الله مجانًا للإنسان كان وعد بمخلص سوف يسحق رأس الحية ويفني أعماله. فكان في إمكان الإنسان الآن إما أن يتبنى هذا الوعد بالإيمان وفي هذه الحالة يتعلق به ويضع قلبه عليه أو أن يرفض هذا الرجاء ويحيد عنه.
لذا لدينا هنا من بدء افتتاح تاريخ الملكوت، لدينا طريقان مختلفان -من جهة العالم وملكوت الله- كانا على الدوام يقسمان الناس. ولو سألنا أنفسنا ماذا سيفعلون من رفضوا رجاء الإيمان، كيف سيُظهرون رفضهم في سلوكهم الخارجي؛ نجيبهم أنهم سوف يختارون طبيعيًا العالم كما كان آنذاك وسوف يشبعون ويكتفون به ويحاولون أن يثبتوا أنفسهم في الأرض، زاعمين ومدعين بأنها أرضهم، يتمتعون بملذاتها وشهواتها ويطورون فنونها.
ومن الناحية الأخرى من يتبنون المواعيد سوف يعتبرون أنفسهم غرباء ونزلاء على هذه الأرض، وفي قلبهم وسلوكهم الخارجي يُظهرون أنهم يؤمنون ويصدقون وينتظرون تحقق الوعد. نحن نكاد لسنا بحاجة للقول أن واحدًا منها يصف تاريخ قايين وذريته والآخر هابيل ومن بعده شيث وذريته. لأنه حول هذين الاثنين، قايين وشيث، بكونهما يمثّلانهم، كل أبناء آدم سوف يجمعون أنفسهم بحسب ميولهم الروحية.
وإذ نراها في هذا الضوء، فإن علامات وإشارات الكتاب واضحة تمامًا مهما كانت قصيرة ومختصرة. فعندما نقرأ أن "قايين كان عاملًا في الأرض"، "وهابيل راعيًا للغنم" يمكننا أن نفهم أن اختيار المهنة لا يعتمد على ظروف طارئة أو عرضية، بل يتوافق تمامًا مع آرائهما وشخصيتهما. اختار هابيل حياة الغربة، بينما قايين اختار حياة القنية المستقرة والاستمتاع بالأرض.
وبقدر اقتراب تاريخ حياتهما من الحدث المرعب الذي أدى إلى فقدان الجنة، ومن إعطاء أول وعد، كلما هذا سيُظهر أن اختيار نمط الحياة لديهما ستكون له أهمية أكبر. وتوافقًا مع هذا تمامًا سنجد قايين فيما بعد ليس فقط بنى مدينة، بل أيضًا دعاها على اسم ابنه ليشير إلى استقراره في تملك والاستمتاع بالعالم كما كان.
ونفس الميل نجده ينكشف بسرعة في ذريته حتى إلى لامك الخامس بعد قايين، حيث نجده أنه اتخذ أبعاد هائلة حتى أن الكتاب اعتبر أنه من غير الضروري بعد تتبع علامات نمو هذا الميل وتطوره. بناء على ذلك التسجيل المنفرد عن نسل قايين توقف مع لامك وبنيه ولم يعد هناك بعد أي كلام يُذكر في السفر.
قبل أن نتابع بمزيد من التفصيل خط سير هذين الجنسين- لأنهما بمعنى روحي متميزان تمامًا - سنلاحظ من أول مدخل التاريخ الكتابي تقديم الذبائح للمرة الأولى. فمن وقت هابيل فصاعدًا، تقديم الذبائح في تطابق ووضح متزايد موضوع أمامنا بكونه الطريق المعيّن للاقتراب والتمسك بالشركة مع الله، حتى إلى نهاية التاريخ الكتابي لدينا ذبيحة ربنا المبارك ومخلصنا يسوع المسيح والتي كل الذبائح قد أشارت إليها.
وليس الأمر هكذا فقط، بل كما أن التذكر المعتم للحالة الأفضل التي منها سقط الإنسان ولرجاء الخلاص الذي حُفظ بين كل الأمم الوثنية، كذلك أيضًا تم تذكر ضرورة تقديم الذبائح. حتى الطقوس الدموية للبربريين، بل الذبائح الوحشية بالتضحية بأفضل البنين المحبوبين ألم تكن هي إلا صرخة يأس للاحتياج الشديد الذي يشعر به الناس بالتصالح مع الله بالذبائح، بالتخلي عما كان عزيزًا وتقديمه عوضًا عن مقدم الذبيحة؟
هذه هي الأعمدة التي انكسرت بطريقة مرعبة لما كان من قبل هيكلًا، تقاليد مشوهة بطريقة فظيعة للحقائق التي أعلنها الله من قبل. فليتبارك الله لأجل نور إنجيله الذي به تعلّمنا "الطريق والحق والحياة" بل عرفنا من هو "حمل الله الذي يرفع خطية العالم".
_____
(1) علينا أن نضع في الاعتبار أن الكاتب يهودي ألماني متنصر، مع العلم أنني قرأت ذات مرة على ما أتذكر عن فريدريك ملك بروسيا طلب من صديق له أسقف أن يذكر له كلمة واحدة تدل على صدق الكتاب المقدس، فقال له: "اليهود" فبالرغم مما تعرضوا له من اضطهادات مريعة على مدى العشرين قرنًا، لكن لم ينجح أحد في استئصالهم، بل ولم يذوبوا وسط الشعوب التي تغربوا بينها كما يحدث مع غيرهم...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/cain-abel.html
تقصير الرابط:
tak.la/pvdw8sf