" قبضوا على يسوع وأوثقوه" (يو18: 12)
"ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه، ومضوا به إلى حنان أولًا لأنه كان حما قيافا الذي كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة. وكان قيافا هو الذي أشار على اليهود أنه خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب" (يو18: 12-14).
كيف يتم تقييد السيد المسيح بهذه الصورة العجيبة؟! وهل هو مستحق لذلك؟!
من الذي يستحق الربط والوثاق؟
أليس إبليس هو الذي يستحق أن يوثق ليستريح العالم من شروره..؟!
أليس الإنسان الخاطئ هو الذي يستحق أن يوثق، إذ سلّم نفسه إلى رباطات الخطية والموت..؟!
لذلك كُتب عن الشيطان: "والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم، بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام" (يه 6).
وكُتب عن الشيطان أيضًا أن السيد المسيح بعد أن أتم الفداء "قبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة" (رؤ20: 2). إلى أن يحل الشيطان من سجنه زمانًا يسيرًا في نهاية العالم، قبل إلقائه بصفة نهائية في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت.
وقال بطرس الرسول لسيمون الساحر الذي طلب أن يقتني موهبة الرسولية بدراهم "فتب من شرك هذا، وأطلب إلى الله عسى أن يغفر لك فكر قلبك. لأني أراك في مرارة المر ورباط الظلم" (أع8: 22، 23).
فالشيطان يربط الإنسان ويوثقه برباطات الخطية، والسيد المسيح يريد أن يحل الإنسان من هذه الرباطات.
كذلك كان الشيطان قبل مجيء المخلّص يربط الناس في أجسادهم. إذ كان له سلطان على البشر بعد سقوط الإنسان. لهذا قال السيد المسيح عن المرأة المنحنية التي شفاها من مرضها: "وهذه وهي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة. أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط" (لو13: 16).
جاء السيد المسيح وقال: "روح الرب عليَّ، لأنه مسحني.. لأنادي للمأسورين بالإطلاق.. وأرسل المنسحقين في الحرية" (لو4: 18). فجاء لكي يحرر البشر من وثاق الظلمة ولكي يخرج "من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة" (إش42: 7).
· هل خوفًا من أن يهرب؟ أليس هو الذي سلّم نفسه لهم بإرادته..؟!
· هل خوفًا من أن يبطش بهم؟.. أليس هو الذي أبرأ ملخس عبد رئيس الكهنة..؟
· أم إظهارًا لسطوتهم وقدرتهم في القبض عليه؟.. أليسوا هم الذين سقطوا على الأرض عندما قال لهم: "أنا هو" وقت القبض عليه..؟!
· هل أوثقوه لكي لا يصنع المزيد من المعجزات بيديه، والتي بسببها آمن الكثيرون؟ أليس هو الذي أبرأ الكثيرين بكلمة من فمه المبارك، وليس بيديه فقط.. وأظهر سلطانه على الطبيعة وعلى كل شيء. ولم يصنع المعجزات وهو حر فقط، بل وهو مسمَّر على الصليب، حينما أخفت الشمس شعاعها في عز النهار، وتحوّل النهار إلى ليل لمدة ثلاث ساعات متصلة، وماجت الأرض مرتعدة. وأكثر من ذلك كله صنع معجزة القيامة وهو ميت بحسب الجسد، ومدفون في القبر لمدة ثلاثة أيام، والأختام موضوعة على القبر الذي كان يحرسه عساكر الرومان.
ربما كانت هذه كلها هي دوافعهم في أن يوثقوا الرب يسوع، بل وأكثر منها.. ولكن الرب سمح بذلك كله لكي يصير تقييده ووثاقه عوضًا عن الإنسان الخاطئ الذي أوثقته الخطية وجعلته مقيدًا وفقد حريته الحقيقية.
لقد قبِل السيد المسيح أن يفقد حريته -بحسب الجسد- في وقت الآلام والصلب، لكي يحرر الإنسان من رباطات الخطية مظهرًا أن الحرية الحقيقية هي الحرية من الشر. ولهذا قال لليهود: "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو8: 36).
تكلّم المفكر الفرنسي الوجودي (جان بول سارتر) عن حرية الإنسان.. ونادى بتحرير الإنسان من سيطرة الله عليه -حسب زعمه- والتي مظهرها الوصايا الإلهية.
ولكن الوصية في حقيقتها، ليست قيدًا على الإنسان.. بل هي المحرر له من سلطان الشر والخطية.
وكان ينبغي على سارتر أن يتأمل كيف اختار الله الكلمة المتجسد أن يفقد حريته من أجل تحرير الإنسان.
فليس الله هو ذلك الإله الذي يسلب حرية الإنسان بعد أن خلقه حرًا.. بل هو ذلك الإله الذي دفع حريته وحياته -بالصليب- ثمنًا لتحرير الإنسان بالكامل "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16).
إن كان اليهود قد قبضوا على السيد المسيح، وأوثقوه.. فقد حدث نفس الأمر في حياة شمشون نذير الرب وقاضي إسرائيل.. وذلك حينما حضر إليه شيوخ إسرائيل وقالوا له إن الوثنيين يهاجمون أرضهم، ويتلفون ممتلكاتهم، ويقتلون بنيهم أو يأخذونهم كأسرى بسبب ما فعله هو بالوثنيين.
وحينما سألهم شمشون عما يقترحونه أو يطلبونه.. أجابوه بأن الحل في نظرهم هو أن يقبضوا عليه، ويسلموه موثقًا إلى الوثنيين، لأن هذا هو الشرط الذي طلبوه ليمتنعوا عن إيقاع الأذى بهم..
وقد وافق شمشون في شجاعة نادرة على طلبهم. ليريحهم من جهة، وليظهر لهم قدرة الرب من جهة أخرى.
ومع ذلك أحضر شعبه حبالًا جديدة متينة وأوثقوه بها. وقبل هو أن يتم تسليمه للأعداء فداءً عن شعبه.
وحينما وصل شمشون موثقًا بالحبال إلى محلة الوثنيين، فرحوا جدًا وهتفوا وشعروا أن غريمهم القوي قد وقع أسيرًا في أيديهم في النهاية. ولكن فرحتهم لم تتم، إذ حل روح الرب على شمشون، فانحلّت وثاقاته المتينة، وصارت الحبال القوية كأنها خيط رفيع أمام قوته العجيبة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وإذ كان الجند قد تجمهروا من حوله.. أبصر أمامه على الأرض فك حمار، فالتقطه وضرب به ألف جندي من الوثنيين وانتصر عليهم. وحرر المأسورين من شعبه، وصنع الرب خلاصًا عظيمًا على يديه في ذلك اليوم.
كان شمشون في كل ذلك رمزًا للسيد المسيح الذي أظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة.
فقد سمح لليهود أن يقبضوا عليه ويوثقوه، ويسلّموه إلى قضاء الموت بيد الحاكم الوثني الروماني. وتقبل كل ما وجه إليه من إهانات في اتضاع وتسليم من أجل خلاصنا.
وقد تخيل الشيطان في حماقته أن السيد المسيح قد وقع أسيرًا بين يديه.. ولكن السيد المسيح إذ انتصر على الصليب حطّم مملكة الشيطان وحرر المأسورين.
ففي ضعفه الظاهري كان قويًا منتصرًا على مملكة الظلمة. كما أنه انتصر على الموت، وحطّم شوكته، وقام منتصرًا من الأموات. تحرر بسهولة من الموت إذ لم يكن ممكنًا أن يُمسك منه.
كان "فك الحمار"الذي انتصر به شمشون على أعدائه رمزًا إلى "الموت" الذي حطّم به السيد المسيح الموت. وقد دخل السيد المسيح إلى أورشليم في بداية أسبوع الصلب راكبًا على أتان. دخل من باب الضأن في أورشليم ليكون تحت الحفظ مثل خروف الفصح، لأنه هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم كله. وبدخول السيد المسيح إلى أورشليم بهذه الصورة قَبِلَ الموت بإرادته. وقَبِلَ أن يدخل إلى صراع الموت ليحطّمه ويبيد سلطانه "إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عب2: 14، 15).
وقد تكرر موقف مشابه في حياة شمشون. حينما أرادوا أن يسخروا منه في عيد الإله داجون، وأتوا به إلى المعبد لإذلاله هناك. ولكنه وقف بين عموديّ المعبد الأساسيين، ورفع يديه على مثال الصليب ودفع العمودين بقوة فانهار معبد الوثنيين على من فيه وكان عدد الذين قتلهم في موته أكثر من الذين قتلهم في حياته.
وكان في هذا يرمز إلى السيد المسيح الذي في موته على الصليب هدم مملكة إبليس وحرر البشر من سلطانه وفتح الجحيم وأخرج أرواح الذين رقدوا على الرجاء وأدخلهم إلى الفردوس ورد آدم إلى مرتبته مرة أخرى..
كان موت المسيح هو أعظم انتصار على الشيطان، بالرغم مما بدا فيه من ضعف ظاهري.
فعلى الصليب انتصرت المحبة، وانتصر البر، وأخذ العدل مجراه فانتصرت العدالة، وانتصرت الحياة على الموت لأن الحياة في المسيح، كانت أقوى من الموت الذي لنا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/tied.html
تقصير الرابط:
tak.la/n93sf38