وُلِد " جان پول شارل إيمارد سارتر " في 21 يونيو 1905م من أسرة بروتستانتية في باريس، وكان والده ضابطًا بالبحرية الفرنسية وأمه ابنة لمدرس لغات يُدعى " شارل شويتزر"، وعندما كان " جان بول " في الثانية من عمره مات والده وهو في الصين، وتزوجت أمه برجل آخر، وتركته لدى أبيها، فأفتقد حب الأب والأم معًا، وشعر أنه غير مرغوب فيه، ولاسيما أن جده شارل كان ينفر ويسخر منه، وكان " جان بول " يتظاهر بالطاعة لجده بينما هو يبغضه، ونتيجة هذه الطفولة التسعة قال " سارتر": "لم أكن أحب شيئًا ولا أحدًا " كما قال " لقد فهم القارئ إنني أكره طفولتي وكل ما يتعلق بها " والأمر العجيب أن " سارتر " هنأ نفسه بموت أبيه الذي جعله حرًا فقال " لو كان أبي حيًا لكان تمدَّد عليَّ بملء قامته وسحقني، ولحسن حظي مات أبي عندما كنت صغيرًا. إن موت جان باتسيت (والده) كان الحدث الأهم في حياتي، لقد أعاد إليَّ حريتي" (1).
وعندما أحرق " سارتر " جزء من سجادة صغيرة وأراد أن يخفيها شعر وكأن الله يراه ويلاحقه فقال: "مرة واحدة شعرت بأن الله موجود حين كنت ألعب بعيدان الكبريت وأحرقت سجادة صغيرة، وفيما كنت أخفي جرمي أبصرني الله فجأة. لقد شعرت بنظراته داخل رأسي... أحسُ أنني مرئي منه بشكل فظيع وشعرت بأنني هدف حي للرماية، ولكن الإستنكار أنقذني. فقد اغتظت لفضوله المبتذل، لهذا رفضته وجدفت عليه فلم ينظر إليَّ أبدًا فيما بعد" (2) وبدأ " سارتر " يقتل في نفسه الإحساس بوجود الله، ولعل هذا الموقف يذكرنا بنيتشه عندما قال " في سن الثانية عشر رأيت الله في تمام جلاله".. هل قصد الله أن يشعر هذا وذالك بوجوده؟!.
وكان جد " سارتر " لديه مكتبة ضخمة عامرة بالكتب، فوجد " سارتر " فيها تسليته وسلواه، وكان ابن خالته " لويس شوتيزر " لاهوتيًا بروتستانتيًا، فأخذ منه جان الروح البروتستانتية الموغلة في الفردية، وفي سنة 1929م أنهى دراسته بدار المعلمين وحصل على شهادة الفلسفة، ثم درس الفلسفة في جامعة لوهافر، فأصبح أستاذًا داخليًا في المعهد الفرنسي في برلين، وقد تأثر " سارتر " بثلاثة من كبار الفلاسفة وهم "جورج هيجل"، و"كيركجارد"، و"عمانويل كانط " وأشتغل بالفلسفة، وكان أسلوبه في الكتابة سهلًا وممتعًا مما أعطاه نجاحًا وشهرة، وفي سنة 1939م عندما غزا هتلر فرنسا ودخلت القوات الألمانية فرنسا، تأذى جان بول من الاحتلال الألماني فالتحق بالفرقة (170) بالجيش الفرنسي، رغم أنه كان يعاني من حوَل شديد، وتعرَّض للسجن في تراف، ولكنه استطاع أن ينتحل صفة إنسان مدني ويخرج من السجن.
وفي سنة 1943م أصدر " سارتر " كتابه الضخم " الوجود والعدم " يدعو فيه إلى الفلسفة الوجودية، ويصف الوجود على " أنه صراع عبثي بين الحريات، فكل حرية تحاول أن تفني الأخرى، حتى تحتفظ باستقلالها السيادي" (3) وأعتبر الكثيرون أن هذا الكتاب مجرد طلاسم، وفي سنة 1945م عُيّن " جان بول سارتر " أستاذًا في معهد باستور، وأسس مجلة " الأزمنة الحديثة"، ويُعتبر " سارتر " زعيم الفلسفة الوجودية في القرن العشرين، وقد ألَّف عدة روايات، ففي سنة 1938م كتب رواية " الغثيان"، وفي سنة 1945م " عصر العقل"، وفي سنة 1948م " الأيدي القذرة"، وفي سنة 1956م " لعنة الطونا".
وفي كتابه " الوجودية مذهب إنساني " عارض " سارتر " الكثير من القيم الأساسية في فلسفة الغرب، ورفض الفلسفة الماركسية، كما رفض الفلسفات التاريخية بما فيها فلسفة هيجل المثالية، ونادى " سارتر " بالحرية، وأعتبر أن صديقه هو صديق الحرية، وعدوه هو عدو الحرية، وحارب النازية سرًا وجهرًا، وفي مسرحيته " الأيدي القذرة " سنة 1948م أنتقد الزعيم الشيوعي المزيف الذي يعمل لمصلحة نفسه، كما أنتقد استخدام السلاح النووي، ووقف مع أهل المجر في ثورتهم ضد الشيوعية، وأنتقد سياسية أمريكا ضد الزنوج، وقام بحملة رائعة ونظم مسيرات طلابية لمساندة الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي.
ج: كتب " جان بول سارتر " مسرحية الذباب وعرضها على مسرح " لاسيتي " في باريس سنة 1943م بينما كانت فرنسا محتلة من ألمانيا منذ عام 1940م، وتعتبر هذه المسرحية من أشهر أعمال سارتر، وأحداث المسرحية من أساطير هوميروس اليونانية القديمة، وكانت تهدف للثورة ضد الله، حتى يستطيع الإنسان أن يعيش حرًا، يفعل كل ما يريد بضمير مستريح، وأيضًا الثورة ضد الاحتلال الألماني للبلاد الفرنسية.
وتدور أحداث المسرحية في مدينة " أرغوس " Argos التي تتعبَّد للإله " جوبتر"، وكان حاكم المدينة " أغامنون " Agamnon يعيش مع زوجته " كليمنستر " وابنهما " أورست " وابنتهما " إلكترا " ولكن الزوجة خانت زوجها وقامت بقتله مع عشيقها " أوجيست " وتولى " أوجيست " حُكم المدينة، وأقنع شعبها بأنهم شركاؤه في الجريمة التي راح ضحيتها " أغامنون"، فشعر الشعب بالندم الشديد ووخز الضمير، وارتدوا ملابس الحداد السوداء، وأرسل الإله " جوبتر " سحابة كثيفة من الذباب الذي ظل يطن كتعبير عن ندم أهل أرغوس الذين سكتوا على إغتيال ملكهم " أغاممنون"، ويصوّر " سارتر " هذا الندم قائلًا " جدران ملطخة بالدم، وملايين الذباب، ورائحة مجزرة... وشوارع مقفرة... وديدان صعقها الرعب يلطم صدورها في أعماق بيوتها، وهذه الصرخات التي لا تطاق".
ويوضح الإله جوبتر أمرين وهما:
أ - أنه يدعّم سلطة الملك، لأنها صورة سلطة الإله، فيقول "لاوجيست": "لقد صنعتك على صورتي. إن الملك إله على الأرض، نبيل وكئيب كإله".
ب - أنه مسرور بخوف وخنوع أهل أرغوس، فهو يسيطر عليهم عن طريق وخز الضمير، فيقول "أن للخوف ووخز الضمير رائحة شهية في خياشيم الآلهة " وكل ما يشغل "جوبتر" أن يظل هذا الشعب خائفًا منه، وإن كانوا لا يحبونه، فقال لأوجيست عن هذا الشعب "لاشك أنهم لا يحبونني كثيرًا".
أوجيست: أنهم يخافونك.
جوبتر: هذا كل ما أريده. لست بحاجة إلى أن أُحب.
وأباح " جوبتر " لأوجيست أنه هو أيضًا لا يحب أحدًا، فكل هدفه من هذا الشعب أن ينشغلوا به فلا يجدون وقتًا يكتشفون ذواتهم، فيسعون نحو التحرُّر، ويقول "سارتر " إذا أنفجرت الحرية في قلب الإنسان لم يعد للآلهة أي سلطة عليه.
وبعد طول غياب يعود " أوريست " ابن الملك " أغامنون " الذي إغتالته يد الخيانة بواسطة زوجته وعشيقها أوجست، يعود " أوريست " إلى " آرغوس " وفي " إحتفالات التكفير " التي كان أهل آرغوس يقيمونها للتعبير عن ندمهم، وقفت " إلكترا " ابنة الملك " أغامنون " وأخذت تخطب في الجموع تطالبهم بالثورة ضد الطغيان، وكان هذا الخطاب موجهًا في الحقيقة للشعب الفرنسي لكيما يثور ضد الطغيان الألماني. وما أن انتهت " إلكترا " من خطبتها الحماسية التي شدت قلوب الجميع إليها، حتى شعر " أوجيست " بالخطر على حياته، وطرد " إلكترا " من القصر فلجأت إلى المعبد، وهناك التقت بأورست المختبئ هناك ليعد عدة الانتقام من أوجيست، فتعرَّفت " إلكترا " عليه وتعانقا، وأفصح كل منهما عن رغبته للآخر في الانتقام من هذا الملك الشرير، حتى لو كان هذا ضد إرادة " جوبتر " الذي يؤيد سلطة الملك بصورة مطلقة، ويراها أنها امتداد لسلطته.
وخوفًا من " أورست " على أخته " إلكترا " طلب منها أن تغادر المدينة، لكنها رفضت وقالت أنها كرَّست حياتها للانتقام من قاتل أبيها، وأيضًا إذا أنقضت الحرية على " أورست " أكتشف أن الحرية تتساوى مع وجوده، فهو لا يوجد إلاَّ بمقدار ما هو حر، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. ولذلك قرَّر " أوريست " تحدي سلطة الإله " جوبتر " وقتل أمه الخائنة " كليمنستر " مع عشيقها، وفعلًا نجح " أوريست " في قتل الاثنين. وهنا بدأت " إلكترا " تشعر بالجرم ووخز الضمير، ولجأت إلى الإله " جوبتر " لينقذها من فظاعة هذه الجريمة التي أنتهت بقتل أمها وعشيقها، وبذلت " إلكترا " كل جهدها لترضي الإله، أما " أوريست " الذي كانت شخصيته غير شخصية أخته، فقد قرَّر مواجهة الإله المزيف، وتحرير نفسه وشعبه من سلطة هذا الإله، عندئذ وبَّخ الإله " جوبتر" "أوريست " على جسارته وفعلته الشنعاء، أما " أوريست " فقد صمَّ أذنيه حتى لا يصاب بوخز الضمير ويخضع ويستسلم للإله كما حدث مع أخته، وفي تحدٍ قال " أوريست " للإله: أنك يا جوبتر ملك الآلهة، ملك النجوم والحجر ملك أمواج البحر ولكنك لستَ ملك البشر.
جوبتر: ألست ملكك أيها الدودة الوقحة؟ من خلقك إذًا؟
أوريست: أنت. لكن ما كان عليك أن تخلقني حرًا.
جوبتر: منحتك الحرية لتخدمني.
أوريست: لربما، إلاَّ أنها انقلبت عليك، ولا نستطيع بعد شيئًا، لا أنت ولا أنا. منذ أن خلقتني لم أعد ملكًا لك. أنك حتى هذه الساعة كنتُ حجابًا على عيني وسدادًا من الشمع في أذني، خلقتني لأنفذ خططك. وفجأة انقضت عليَّ الحرية وأتعبتني، وشعرت بنفسي وحيدًا كل الوحدة. ولم يبقَ شيء في السماء من خير أو شر، وما من أحد يلقي إليَّ أوامره.
ولنا هنا أن نتساءل: هل الإله الذي هاجمه " سارتر " هو إلهنا الصالح..؟! قطعًا لا، لأن الإله في ذهن " سارتر" (جوبتر) هو إله متسلط يستعبد الإنسان، لا يحب أحدًا، ولا يهتم بحب الإنسان له، بل كل ما يشغله أن يظل مسيطرًا على الإنسان، وأن الإنسان يظل يخافه ويخشاه، وهو يتحكم في الإنسان عن طريق وخز الضمير. أما إلهنا الصالح فهو الإله المُحب " الله محبة " الذي أوجدني من العدم لكيما أتمتع بالوجود معه، وعندما سقطت تنازل آخذًا صورة عبد وجاز في الموت، موت العار والسخرية، موت الصليب، لكيما يفديني ويرفع عني حكم الموت. أنه الإله الذي إنحنى تحت أقدامي ليغسلها، وهو الذي يظل لابثًا يقرع على باب قلبي منتظرًا أن أفتح له لكيما يهبني كل خيراته. أنه الإله الذي أعدَّ لي ملكوته وأنا أنتظره. أنه الإله الذي يدعونني دائمًا، دون أن يغتصب حريتي، وبحريتي أستطيع أن أقبل أو أن أرفض، وهو سيظل دائمًا وأبدًا يحترم ويقدس حرية الإنسان... هذا قليل من كثير في الفرق بين نظرة الإلحاد لله، والنظرة الحقيقية له.
ج: إن الحرية التي نادى بها " سارتر " ليست الحرية البسيطة المنضبطة، بل هي دعوة للتخلص من الماضي ودفنه، وأن يفعل الإنسان كل ما يشاء بدون خطوط حمراء، ويتجرد الإنسان من كل شيء فيقف عاريًا منفردًا أمام نفسه لا يدري من أين جاء ولا إلى أين يذهب، ويقول "الدكتور لويس عوض " عن فلسفة " سارتر " في الحرية: "الوجود عند سارتر في ذاته وجود بلا غاية، وجود سخيف في عالم لا معقول، والإنسان موجود لا أكثر ولا أقل، لا يعرف من أين أتى ولا إلى أين هو ذاهب، فهو بمثابة لقيط في مكان موحش، هو الطبيعة، لا يجد حوله أبًا ولا أمًا وليس له ما يعتمد عليه إلَّا نفسه، وكل ما يعرفه عن وجوده هو أنه محكوم ومُسيَّر... فلا فرق إذًا بين الإنسان هذا الذي يحكمه الجبر وتسوقه الطبيعة، وبين الحيوان الذي يحكمه الجبر وتسوقه الطبيعة، لا فرق بين الإنسان والحيوان إلاَّ في شيء واحد. وهذا الشيء هو الإرادة العاقلة... الإنسان عند سارتر مسئول، مسئول عن نفسه، مسئول عن غيره... وأول مظهر عملي لهذه المسئولية عند سارتر هو الحرية... الإنسان لا تكتمل إنسانيته إلاَّ إذا اكتملت حريته، وبمقدار ما هو حر يمكن تسميته إنسانًا، فواجب الإنسان الأول هو البحث عن الحرية... الحرية من كل نوع، الحرية في السياسة، الحرية في المجتمع، الحرية في الأخلاق" (4) فقد أكد سارتر على مسئولية الإنسان عن نفسه، فالإنسان الفقير هو مسئول عن فقره، والجبان عن جبنه، لأن الإنسان لا يولد بطلًا ولا جبانًا ولكنه هو الذي يصنع نفسه.
وقد أعلن " سارتر " عن إلحاده من خلال مسرحية "الغثيان"، ومسرحية "الشيطان والإله الطيب" حيث قال " لم يكن هناك غيري، لقد قررت وحدي الشر، ووحدي أخترعت الخير، أنا الذي عشت، أنا الذي أفعل المعجزات، أنا الذين أتهم نفسي، وأنا وحدي من أستطيع الغفران لنفسي، أنا الإنسان، إذا كان الله موجودًا فإن الإنسان هو العدم" (5) كما رأى سارتر العكس أي إذا كان الإنسان موجودًا فالله هو العدم.
وقال أيضًا " أن وجود الله يعطل وجودي أنا فالأفضل أن لا يكون الله موجودًا حتى أُوجد أنا" (6) وهكذا كان يجاهر " سارتر " بإنكاره الكامل لوجود الله والحياة الأخروية، والثواب والعقاب، فلا يوجد عالم غير عالم الإنسان، والإنسان هو المحور الرئيسي لفلسفة سارتر وأدبه. كما قال سارتر في مذكراته أن الجو الديني الكاثوليكي قد نجح في تنفيره من الدين، وقال عن "السيد المسيح" أنه سياسي يهودي حكم عليه الرومان بالإعدام لأسباب سياسية، ووصف " سارتر " الذين يعتقدون بوجود الله بأنهم " المؤمنون الجبناء القذرون".
ومفهوم الأخلاق عند " سارتر " ظهر في مسرحية " الشيطان والإله الطيب " فبين أن الإنسان يستطيع أن يصنع الشر، ثم يصنع الخير بمحض إرادته فيقول "أنك تخطئ. لقد علمتني أن الخير محال، وأنا أراهنك أنني سأفعل الخير، إنها أيضًا الطريقة الوحيدة لأكون وحيدًا، لقد كنتُ مُجرمًا، وهاآنذا أتغيَّر، إنني أقلب سترتي، وأراهن أنني سأكون قديسًا" (7) فسارتر يؤكد على الإنسان أن يختار أخلاقه، ولا تُفرَّض هذه الأخلاق عليه، فجوهر الأخلاق عند " سارتر " هي أن تكون صادرة من الإنسان ذاته، وتجسّد حريته ومسئوليته، ولذلك فهو يرفض الأخلاق التي مصدرها الدين، أو القيم.
ونظر " سارتر " للجسد على أن مزبلة وجيفة، ونظر للزواج والعائلة نظرة غير مقدَّسة، ولكيما تتصوَّر ما أقصده يا صديقي يكفي أن تقرأ كتاب " رأس إلى رأس " الذي تتحدث فيه مؤلفته " هيزال راولي " عن حياة سارتر وزوجته دوبوفوار، فعند زواجهما أفهم سارتر زوجته أن الإخلاص لشخص واحد كثمن لاستمرار العلاقة الزوجية هو كذبة تاريخية، وقبلت زوجته هذا على مضض، فكان مسموحًا لكل منهما أن يقع في حب أي إنسان، ورأيا أن هذه الفكرة " وجودية"، وتحمل المساواة بين الرجل والمرأة، وبذلك كان لسارتر عشيقاته، يترك الواحدة ليرتمي في أحضان الأخرى، والأمر العجيب أن زوجته "دوبوفوار" لم تتضايق من هذا، إنما كانت تساعده على إقامة هذه العلاقات مع النساء، وأيضًا " دوبوفوار " كانت تفعل هذا ولكن بصورة أقل من زوجها، وكم تألمت على فراق عشيقها "نيسلون" الروائي الأمريكي، الذي أحبها جدًا وأراد أن ينتزعها من أحضان " سارتر"، فلم ينجح وأصيب بالإخفاق، فافترق عنها، وبالكتاب تجد صورة لدوبوفوار في غرفة نيسلون تقف أمام مرآة الحمام تمشط شعرها وهي عارية تمامًا لا ترتدي سوى حذا متوسط الكعب، وهكذا كانت نظرة " سارتر " للحياة الزوجية من خلال قاعات الخلاعة ودور الفجور والحانات والسهرات الباريسية، وظل " سارتر " متزوجًا بدوبوفوار إلى نهاية حياته، وهو لا يكف عن مغامراته النسائية، ولا يشعر بالشبع والاكتفاء قط، لأن من يشرب من ماء هذا العالم يعطش أكثر.
ورغم علاقات "سارتر" العاطفية والاجتماعية المتشعبة، ولكن لأن الله لم يكن في حياته، لذلك كان يشعر بالوحدة القاتلة حتى قال: "أصحبت راشدًا وحيدًا، لا أب ولا أم ولا مقر لي، وأكاد أكون بلا إسم" (8) كما قال أيضًا " كل إنسان يولد بلا مبرر، ويستمر في ضعف، ويموت بلا هدف " وهكذا صارت الحياة في نظر من يلحد وينكر الوجود الإلهي، وعندما مُنح جائزة نوبل للسلام سنة 1964م لم يتقدم لاستلامها.
ولإلقاء المزيد من الضوء على فلسفة سارتر، نستقطع بعض الفقرات أو العبارات للكاتب "بولس سلامة" حيث يقول: "وللمذهب السارتري أركانه أيضًا، ما هي؟ أول شرط: الغش... وإستجابة داعي الحيوانية، وتلبية كل ما تمليه علينا شهواتنا، ونبذ كل التقاليد والتعاليم المجتمعية، وما تواطأ عليه الناس من الجهة الأخلاقية، وتحطيم القيود التي أبتدعتها الأديان والفلاسفة وتبنتها المدنية، فأركب رأسك أيها الإنسان إلى حيث تشاء ساعة تشاء، وكما تشاء، لأن الضمير والأخلاق والتقاليد ليست سوى ستار صفيق يحجب عنك حقيقة الوجود!!
أما الشرط الثاني فيوجب على الغشاش تطليق ماضيه وسلخ نفسه عنه، متجهًا إلى الأمام، إلى المستقبل، قافزًا القفزات السارترية المعروفة، باعتبار أن ماضيك أيها الإنسان قد تحجر ومات... وإنما يريدك سارتر على دفن ماضيك لئلا يقيدك... ولإيضاح هذا المعنى السارتري نضرب لك المثل الآتي: أن إحدى الراهبات، رفضت حضور حفلة تطويب أختها في روما (لئلا تسقط في الكبرياء) لمحت شابًا جميلًا في حصن الدير فكَلفت به... فبماذا ينصحها سارتر؟ ينصحها بتطليق الماضي كله والفرار مع الشاب الوسيم. فإذا عنَّ لها أن تتركه بعد قليل لترتمي في أحضان آخر أجمل منه، فلا بأس عليها فماضيها مات...
ويزعم " سارتر " أن هذه التجربة الوجودية هي التي تعلن لك حقيقة الوجود. الأشياء تكون ما يريك هواك، فلا حقائق ثابتة ولا قيم... فلا قواعد ولا أنظمة ولا أخلاقيات... بعد أن أنكر سارتر الله والروح، والثواب والعقاب، والقيم والحضارة والأخلاقيات، حق له أن يجلبب الوجود بالرداء الأسود الذي خلعه عليه... يقول لك صاحبنا: إذا كنت أيها القارئ مؤمنًا صالحًا فهذا وجودك الزائف، لأن في وسعك أن تصير سارتريًا... لقد أنكر وجود إله يخلق من العدم، ثم أعطى هذه الصفة للحرية، أليس الإنسان والحرية واحدًا..؟ وبرغم دمامة تلك الشوهاء (الحرية السارترية) فسارتر يقول أنها مصدر كل قيمة أو هي القيمة بالذات" (9).
_____
(1) رأفت شوقي - الإلحاد... نشأته وتطوُّره ج 1 ص 169
(2) القس أنجيلوس جرجس - وجود الله وصوُّر الإلحاد 85
(3) د. رمسيس عوض - ملحدوث محدثون ومعاصرون ص 71
(4) القمص بولس عطية بسليوس - دراسات في علم اللاهوت ص 265، 266
(5) ترجمة غياث حجار - الشيطان والإله الطيب ص 131
(6) القمص بولس عطية بسليوس - دراسات في علم اللاهوت ص 34
(7) ترجمة غياث حجار - الشيطان والإله الطيب ص 77
(8) القس أنجيلوس جرجس - وجود الله وصوَّر الإلحاد ص 85
(9) الصراع في الوجود ص 323 - 329
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/atheism/sartre.html
تقصير الرابط:
tak.la/xbf668a