الباب الثالث: قراءة سير القديسين
قراءة سير القديسين Hagiography من أهم الوسائط الروحية التي تستخدمها النعمة لتنمية علاقتنا مع الله، إشعال محبتنا له وملكوته.
وهي تقدم لنا التنفيذ العملي للمبادئ الروحية.
ربما تبدو لنا كثير من الوصايا والتعاليم وكأنها مبادئ نظرية. ولكننا نراها في سير القديسين في الواقع العملي، منفذة بصورة واضحة وفي ظروف مناسبة لها.
وهكذا ترينا سير القديسين أن وصايا الرب سهلة وممكنة، وليست مثاليات نظرية.
فكثيرًا ما يقول البعض في استغراب: من يستطيع أن ينفذ هذه المثاليات؟! هل حقًا يمكن لإنسان أن يحول الخد الآخر لمن يلطمه على خده؟! (مت 5: 39). هل يمكن أن يصلي إنسان كل حين ولا يَمِل (لو 18: 1)؟! وأن يصلي بلا انقطاع! (1تس 5: 17). وهل يمكن أن يعطي الإنسان كل ماله للفقراء؟! (مت 19: 21). هذه الأسئلة مع الكثير من أمثالها، نراها جميعًا مجابة وممثلة في سير القديسين.
ولقد سمح الله أن يقدم لنا هؤلاء القديسون أمثلة عالية في كل فضيلة من الفضائل بلا استثناء.
وبطريقة مذهلة حقًا، تدعو إلى الإعجاب الشديد بروحانية أولئك الأبرار، حتى وكأنهم كانوا ملائكة أرضيين، ارتفعوا فوق مستوى المادة والجسد، وعاشوا بالروح مع الرب، في حياة نصرة كاملة على كل حروب العدو. أو نقول أنهم عادوا إلى الصورة الإلهية التي خلق بها الإنسان منذ البدء... فحياتهم تشجع كل إنسان أن يسير في النهج الروحي، بلا خوف، وبلا تردد.
بحيث نقول في ثقة حينما نقرأ عنهم:
الله قادر أن يعيننا كما أعانهم...
حياة البر إذن ممكنة وسهلة ومتاحة، لكل من يطلبها. ونعمة الله مستعدة أن تعمل في كل قلب، وترفعه إلى أسمَى درجة، مهما كانت حالته الأولى... فروح الله الذي كان يعمل، ويقود النفوس نحو الله، ويمنحهم كل الإمكانيات والمواهب.
فما عمله القديسون، هو ما عمله روح الله معهم. أترانا نقرأ عنه أم عنهم في هذه السير؟
أما القصص التي وردت في سير القديسين، إنما تحكي "عن شركة الروح القدس" (2كو 13: 14) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). أو هي قصة (الله مع الناس). عمل الله معهم، أو عملهم معه. يبدأ الله فيستجيب الناس، أو يتجه الناس نحو الله، يجذبهم إلى أحضانه بكل قوة. أو هي صورة لتلك العبارة في سفر النشيد "اجذبني وراءك فنجري" (نش 1: 4).
لقد كان لسير القديسين تأثير عميق في الجميع على مدى الأجيال.
فقصة حياة القديس الأنبا أنطونيوس التي كتبها القديس أثناسيوس الرسولي، كان لها تأثير عجيب في أهل رومه، حتى كانت سببًا في انتشار الرهبنة هناك. ولما قرأها القديس أوغسطينوس تأثر بها جدًا، وقادته إلى التوبة. كذلك فإن تأثير سير الرهبان في برية شيهيت، جذب إليهم السواح من كافة البلاد، ليروا هؤلاء الذين عاشوا على الأرض وكأنهم في السماء... فجاءوا إليهم، ليسمعوا من أفواههم كلمة منفعة، وكتبوا قصصهم أو بعضًا منهم، فحفظها التاريخ.
إن هؤلاء القديسين لم يكتبوا أي كتاب عن حياتهم. ولكن حياتهم كانت هي أشهى كتاب.
كانت التاريخ الحي الذي قرأه جيلهم، وعاش به ونقله إلى باقي الأجيال.
والوحي الإلهي نفسه نقل إلينا سير كثير من الأنبياء والرسل، حتى تسمت بأسمائهم بعض الأسفار المقدسة، التي شرحت لنا عمل الله فيهم، ورسالتهم التي كلفهم الله بها، وسيرتهم المقدسة.
وقد اهتمت الكنيسة جدًا بسير القديسين.
فوضعتها في كتاب اسمه السنكسار Synaxarium (القبطية: cuna[arion)، لكي تقرأ منه في كل قداس إلهي، سيرة واحد منهم أو أكثر، لتعزيتنا وتعليمنا. وتقرأ أيضًا على المؤمنين جزءًا آخر من سير آبائنا الرسل الأطهار من (الأبركسيس``Pra[ic )، أي سفر "أعمال الرسل". وما أكثر ما تقيم الكنيسة أعيادًا لأولئك القديسين، تحتفل فيها بذكراهم، وتعيد على الآذان والأذهان سيرهم وفضائلهم.
وكذلك أيقوناتهم في الكنائس، وما يوضع أمامها من شموع، إنما تعيد إلى الذاكرة سير أولئك القديسين، لتكون غذاء للروح ومجالًا لتأمل فضائلهم. وما أجمل قول ماراسحق:
"شهية هي أخبار القديسين، مثل الماء للغروس الجدد".
إنها غذاء روحي لا يستغني عنه أحد، يجلب لنا الشعور بمحبة الله، ومحبة طرقه التي تؤدي إلى الملكوت... وتجعلنا أيضًا نحب الفضيلة، ونحب أولئك الأبرار، ونتخذهم لنا آباء وشفعاء، ونحرص أن نعمق علاقتنا بهم، وكأنهم أحياء يعيشون معنا على الأرض، نتحدث إليهم ونطلبهم.
ومن محبتنا لهم ولسيرتهم، نَتَسَمَّى بأسمائهم.
ونشكر الله أنه في أيامنا هذه، كَثُرَ التَّسَمِّي بأسماء القديسين، نُسَمِّي بها أطفالنا، لينشأوا محبين للقديسين، وأيضًا اعترافًا منا بمحبتنا لهم وإعجابنا بسيرتهم... ونفس الوضع حينما يدخل أحد في حياة التكريس، راهبًا أو كاهنًا، يَتَسَمَّى باسم أحد هؤلاء القديسين، اعترافًا منا بالسيرة المقدسة التي لهذا الاسم الحسن.
وأود في هذا المقال أن أسجل بعضًا من التأثير الروحي لسير القديسين:
1- التأثير الأول هو القدوة:
وهذا ما قاله القديس بولس الرسول " اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله. انظروا إلى نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم" (عب 13: 7).
وهنا نجد أمامنا منهجًا واسعًا جدًا. فكل فضيلة يريد إنسان أن يقتنيها، نجد مجموعة من القديسين يرشدونهم بحياتهم إلى كيفية السلوك فيها، ويقدمون لنا مثالًا عمليًا، وحافزًا يجذبه إليها... على أنني أحب هنا أن أضع ملاحظة هامة وهي:
علينا أن نقتدي بالقديسين فيما هو ممكن لنا.
فمثلًا قد لا تكون حياة الاستشهاد متاحة. ولكننا نقتدي بالشهداء في قوة إيمانهم، في شجاعتهم، في احتمالهم للإيمان، وفي الاستعداد للأبدية، وعدم محبة العالم ولا التمسك به... وكل هذا ممكن لنا.
وقد لا نستطيع الصلاة الدائمة، كما كان يفعل القديس أرسانيوس الكبير، أو القديس مقاريوس الإسكندارني... ولكن على الأقل ليكن لنا محبة الصلاة والاستمرار فيها على قدر قامتنا الروحية.
ولنعلم أن حياة قديسي البرية غير حياتنا في العالم. فلا نقلدهم في طيّ الأيام صومًا، الأمر الذي أتقنوه بعد سنوات طويلة من التدريب الروحي، وساعدتهم عليه حياة السكون...
إنما ليكن اقتداؤنا بهم في تلك الفضائل العالية تحت إرشاد روحي، وبتدرج حكيم.
وهناك فضائل أخرى متاحة للجميع، مثل الاتضاع، والوداعة، والهدوء، وخدمة الآخرين واحتمالهم، وعدم الغضب، وما يشبه ذلك.
أما الصمت الكامل، فلا يناسبك، إنما تأخذ منه: الكلام عند الضرورة، والكلام بقدر، واختبار الكلمة المناسبة، والكلمة البناءة النافعة...
فلا تقلد الفضيلة تقليدًا كاملًا لا يناسبك ولا تقدر عليه. ولا ترفضها بالتمام في يأس. وإنما خذ منها بقدر، وبحكمة، وبتدرج، وتحت إرشاد...
خذ الفضيلة في روحها، لا في شكلها:
فحينما تقرأ مثلًا عن قديسي التوبة، حاول أن تكون مثلهم في حرارة توبتهم، وفي عدم عودتهم مطلقًا إلى الوراء. وتمثل بهم في انسحاق قلوبهم وفي دموعهم. ولكن لا تقلد تقليدًا حرفياَ الذين قادتهم التوبة إلى الرهبنة مباشرة مثل بيلاجية ومريم القبطية وموسى الأسود، وأوغسطينوس...
خذ محبة التائب لله، وعودته إليه، وعميق ندمه، واشمئزازه من الخطية... ولكن عش في حدود شخصيتك وإمكانياتك، وما أعطيته من النعمة...
سواء ما تقدمه سير الشهداء والمعترفين من التمسك بالإيمان، إلى حد الموت من أجله، أو قبول كل صنوف التعذيب، برضى وفرح وصبر...
أو ما تقدمه سير أبطال الإيمان الذين دافعوا عن العقيدة، بكل قوة وكل فهم، محتملين في سبيلها السجن والنفي والتشريد وكافة ألوان الاضطهاد، كالقديس أثناسيوس الرسولي مثلًا: الذي نفى عن كرسيه أربع مرات، واتهموه اتهامات شنيعة، وصدرت ضده أحكام، وقيل له "العالم كله ضدك يا أثناسيوس"...
نقرأ عن ذلك فيتبكت هذا الجيل، الذي لا يبالى بالخلاف في المذهب أو العقيدة، وينسى ما تحمله القديسون من آلام في سبيل ذلك!!
كانت المجامع المحلية والمسكونية تقام بسبب نقطة خلاف واحدة. ويبذل القديسون كل جهدهم في الدفاع عن الإيمان وفي إثبات العقيدة السليمة. والآن من أجل زواج أو طلاق، يمكن أن يغير إنسان مذهبه، بكل سهولة وبلا مبالاة، أو بجهل!! أو يختلف شخص مع أحد رجال الكهنوت، فيترك الكنيسة كلها، بكل إيمانها وعقيدتها. ولا يبالى بكل جهاد القديسين في سبيل ذلك الإيمان.
لذلك نحن محتاجون إلى قراءة سير القديسين أبطال الإيمان، لتغرس في نفوس الجميع أهمية الإيمان والثبات فيه، ونبذ ما يُسَمَّى بـ"اللاطائفية"!!
إن الكنيسة ليست طائفة، ولا هي مجموعة طوائف، ولكنها جماعة المؤمنين بإيمان سليم في كل تفاصيله...
هذا الإيمان الذي استشهد من أجله قديسون في جميع الأجيال، والذين تألم بسببه وتعذب عدد كبير من القديسين. ومن بينهم رهبان عاشوا في البرية الجوانية. ولكن عاشوا في الأيمان. وما أجمل الرمز الذي يحويه تكفين الأنبا بولا السائح في رداء البابا أثناسيوس بطل الإيمان...
فكلما نقرأ عن هذه القمم العالية، وما وصلوا إليه، تتضع نفوسنا في الداخل، ونشعر أننا لا شيء إلى جوارهم...
حينما نقرأ عن القديس الأنبا إبرام في العطاء، ألا تنسحق نفوسنا؟ هذا الذي كان يعطي كل شيء. ولا يبقى لنفسه شيئًا. حتى أن البعض أعطاه مرة قطعة قماش أسود ليفصلها ثوبًا له بدلًا من جلبابه البالي، فوهب قطعة القماش هذه لأرملة زارته... أو ماذا نقول عن الأنبا يوحنا الرحوم الذي باع كل ما كان له وأعطاه للفقراء، ولما لم يجد شيئًا يملكه، باع نفسه عبدًا، وتبرع بثمن نفسه للفقراء..!! ألا تتضع نفوسنا، حينما نقارن عطاءنا بعطاء هؤلاء؟!
حقًا إن سير القديسين تطرد من نفوسنا كل محاربات الكبرياء والمجد الباطل، إن حاربنا العدو بها.
إن حاربتنا أفكار من جهة خدمتنا، وقارنا أنفسنا بسيرة بولس الرسول الذي تعب أكثر من جميع الرسل (1كو 15: 10). وبشر في أورشليم، وفي إنطاكية، وآسيا الصغرى، واليونان، وفي رومة، ووصل إلى أسبانيا. وأسس كنائس لا حصر لها، وذاق متاعب لا توصف (2كو11). وكان يكتب رسائل، حتى وهو في السجن (أف 4: 1)... ألا تنسحق أنفسنا بهذه المقارنة وأشباهها؟!
ومهما انسحقنا لن نصل إلى اتضاع القديسين.
هؤلاء الذين على الرغم من كل فضائلهم، قيل إنهم كانوا يبكون على خطاياهم!! القديس مقاريوس الكبير بكى وأبكى كل المجمع معه. القديس موسى الأسود، القديس بيشوي، القديس باخوميوس الكبير... ماذا كان يبكي كل هؤلاء؟
القديس أرسانيوس الذي كان يقف ليصلي وقت الغروب، والشمس خلفه، ويظل واقفًا في الصلاة حتى تشرق مرة أخرى من أمامه، يقال إنه سقطت رموش عينيه من كثرة البكاء. وكان يبلل خوصه بالدموع!! فأين هو اتضاعنا نحن مهما اتضعنا؟!
القديس مكاريوس الكبير مؤسس الرهبنة بالإسقيط سألوه بعد رؤيته لسائحين في البرية الجوانية، فقال "أنا لست راهبًا ولكني رأيت رهبانًا"..!!
القصص أمامنا لا تنتهي فلعلنا نكتفي بهذه...
إننا نُحَارَب بالكبرياء، حينما نقارن أنفسنا بأمثلة حية، نظن أننا أعلى منها!! أما حينما نقرأ سير القديسين، فحينئذ يستد كل فم، وندرك أننا لا شيء...
تعلمنا الطريق الصحيح الذي نسلك فيه...
ما أجمل ما نقرؤه عن داود الملك، حينما أراد أن يشتري مكانًا لبناء الهيكل ووافق أرونه اليبوسي أن يهبه كل شيء بلا مقابل، حينئذ رفض داود وقال " لا، بل أشترى منك بثمن. ولا أصعد للرب إلهي محرقات مجانية" (2صم 24: 24).
إننا نتعلم الحكمة أيضًا من أبيجايل: كيف أنها تمكنت من توبيخ داود النبي بطريقة ربحته بها (1صم 25: 23-35).
نتعلم الحكمة من سير آباء البرية، حتى من الشباب. الذين فيهم أمثال القديسين الأنبا يوحنا القصير الذي قيل إن الإسقيط كله كان مُعَلَّقًا بإصبعه. ومثل تادرس تلميذ باخوميوس ومن حكمة الشيوخ مثل الأنبا أغاثون والأنبا ايسيذورس وغيرهم... إن حكمة الآباء كنز لمن يتعلم...
إنه صعود إلى فوق بغير حدود... مثال ذلك بولس الرسول بكل مواهبه وخدمته وصعوده إلى السماء الثالثة. ومع ذلك يقول " ليس أني نلت أو صرت كاملًا، ولكني أسعى لعلِّي أدرك. أنسى ما هو وراء، امتد إلى ما هو قدام. اسعى نحو الغرض" (في 3: 12-14).
الدرجات العليا التي وصل إليها القديسون في كل فضيلة، تحثنا على أن نمتد إلى قدام، ولا نكتفي مهما وصلنا. فالطريق أمامنا طويل طويل... والنعمة مستعدة أن تأخذ بأيدينا لنقطع فراسخ أولًا... على آثار هؤلاء القديسين، إذ تعطينا سيرهم حرارة لا تخمد ولا تنطفئ...
نتعلم كيف تكون اعترافاتنا أكثر دقة، إذ نكتشف تقصيرات عديدة في حياتنا، بالمقارنة بسيرهم...
نتعلم أيضًا أسلوب التخاطب مع الله في الصلاة، عندما نقرأ صلواتهم، وما فيها من دالة، وما فيها من اتضاع، ومن حب وحرارة...
نتعلم أيضًا أسلوبهم في التعامل مع الناس، وطريقتهم في مواجهة الحروب الروحية، وأسلوب الانتصار عليها.
إن الذي يقرأ سير القديسين، يصير على الدوام في تغير مستمر، إلى أفضل: أسلوبه يتغير كلامه يتغير، معاملاته تتغير، محاولًا أن يصل إلى تلك الصورة عينها...
وبعد، أنا لست أدَّعي مطلقًا أنني وفيت هذا الموضوع حقه، فهو يحتاج إلى كتاب أو كتب. وكل ما ذكرته هو مجرد أمثلة.
وأترك لك أيها القارئ العزيز هذا الخضم الواسع من التأمل في فوائد سير القديسين.
فلا شك أن هذا الموضوع قد يشمل الحياة الروحية كلها...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/khxxr5j