موضوع تأملنا اليوم في سفر النشيد، هو عبارة قالها الرب عن كنيسته، وردت مرتين في السفر في (نش 3: 6) (نش 8: 5):
* "مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6).
* "مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها" (نش 8: 5) إنه تأمل في جمال الكنيسة، وفي جمال النفس البشرية المحبة لله. وكيف أنها طالعة من البرية، وطالعة في جمال، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر، كأعمدة من دخان صاعدة من المجمرة.
وسوف نتناول هذا الوصف: كأغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم، وكأغنية تُنشد للكنيسة المنتصرة، أو كأغنية تُنشد لقديسي البرية.
يمكن أن تؤخذ عبارة "الطالِعة من البرية" على كنيسة العهد القديم، التي طلعت من برية سيناء، واتجهت إلى كنعان، مستندة على ذراع حبيبها.
مسيرة الكنيسة في البرية، كانت مسيرة عجيبة حقًا إذ خرج الشعب بلا طعام ولا شراب، ولا ملابس كافية لتلك الرحلة الطويلة، ولا باقي الاحتياجات اللازمة، مجرد خروج على أسم الله بالإيمان وليس أكثر.
وضعوا أرجلهم في البحر، مستندين على زراع حبيبهم، الذي سندهم في عبورهم، سند المياه من هنا، وسندها من هناك. ومشت الكنيسة في البحر، مستندة على حبيبها، وعاشت في البرية.
* عاشت بالإيمان، الذي يرى ما لا يُرى..
وفي قلب كل واحد رن قول الرب "وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر. وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك. ثيابك لم تبل عليك، ورجلك لم تتورم هذه الأربعين سنة " لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (تث 8: 2 – 4).
حقًا إن الإنسان الذي يحيا في الإيمان، مستندًا على الله حبيبه، يمكن أن يختبر عجائب في عمل الله معه..
يمكن أن يفجَر له الله ماء من الصخرة (خر 17: 6)، ويمكن أن يحول له الماء المر إلى ماء حلو (خر 15: 23 – 25). ويمكن أن يشق له في البحر طريقًا (خر 14: 21، 22) ويمكن لهذا المؤمن أن يختبر محبة الله له: يظلله السحاب بالنهار، ويضئ له عمود النار بالليل (خر 13: 21، 22) ويمكن أن يحميه الرب من جميع أعدائه.
وهذا كله حدث لتلك الطالعة من البرية. وانهزم أمامها سيحون ملك الأموريين (عد 21: 23 – 26)، كما انهزم أمامهم عوج ملك باشان (عدد 21: 33- 35).. حتى لكان شعوب الأرض يتأملون كل هذا ويقولون في عجب: " مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟!
أيضًا النفس المستندة على حبيبها، يسقط عن يسارها ألوف، وعن يمينها ربوات، وبعينها تنظر وتتأمل مجازاة الأشرار (مز 91: 7، 8) الرب يظلل على يدها اليمنى، فلا تضربه الشمس بالنهار، ولا القمر بالليل (مز 121: 5، 6).
مشكلتنا في الحياة أننا لا نستند على حبيبنا!! قد تستند على مواهبنا، على قوتنا وذكائنا، على غنانا! ونستند على زراع بشري، وعلى حكمة بشرية! وربما نستند على الشيطان وكل حيله!!
وقد ننجح نجاحًا مؤقتًا، الهزيمة أفضل منه! وقد نفشل..
أما الذي يستند على الله الذي يحبه، فيمكنه -كالثلاثة فتية- أن يمشي في أتون النار ولا يحترق.. كانت النار تحيط بهم، ولم تكن لها قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق. حدث ذلك لأنهم كانوا مستندين على حبيبهم، الذي كان ماشيًا معهم في وسط النار، وكان شبيهًا بابن الآلهة (دا 3: 25، 27).
لعل الملائكة في ذلك الوقت كانوا ينظرون إلى نفوس هؤلاء الفتية في النار، وهم يُغَنّون "مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها"؟! لقد طلعوا من النار، وكأنهم خارجون من أحد البساتين وإحدى الفراديس!
داود النبي جرب الاستناد على ذراع حبيبه حينما قال "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام علىّ قتال، ففي هذا أنا مطمئن" (مز 27: 3). وحينما قال "الرب يرعاني فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، وإلى ماء الراحة يوردني.. أيضًا إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا (مز 23). ولماذا لا أخاف؟ لأنك أنت معي نفسي مستندة على ذراع حبيبها.
وهكذا أيضًا الكنيسة في العالم، تعيش مستندة على ذراع حبيبها. لاحظوا أنه قال "مستندة على حبيبها ولم يقل مستندة على القوي الجبار.. حقًا أن حبيبها قوي جبار. ولكن عبارة حبيبها هنا لها عمقها العاطفي، ولها قوتها أيضًا، إذ يُقال في نفس النشيد "المحبة قوية كالموت. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" (نش 8: 6، 7) ولأنه يحب هذه النفس، ويحب هذه الكنيسة، لذلك يفعل كل شيء لأجلها، وبقوة النفس التي تستند على حبيبها، تعيش مطمئنة، في سلام..
تغني قائلة: وإن قام علىّ قتال، فأنا مطمئنة (مز 27: 3) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). ولماذا أنت مطمئنة أيتها النفس؟ ولماذا كانت الكنيسة كلها مطمئنة؟ لأنها مستندة على حبيبها. "شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني" (نش 2: 6 ). رحمته تحيط بي من كل ناحية. إنها مطمئنة لأنها في حضن الله. فمهما صادمتها المشاكل والعقبات والحروب، لا تهتز ولا تضطرب. وإنما تقول في ثقة المستند على حبيبه "إن كان الله معنا، فَمَنْ علينا"..؟
هذا النشيد أيضًا هو أغنية للكنيسة المنتصرة..
يمكن أن يقال هذا النشيد في السماء، في استقبال الكنيسة التي جاهدت على الأرض وغلبت. الكنيسة التي عاشت في هذا العالم، في البرية القفرة.. في تعب وشقاء في الطريق الكرب، ودخلت إلى الفردوس من الباب الضيق (مت 7: 14) ولذلك يستقبلها الملائكة قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية.. ؟!
العالم بالنسبة إليها كان برية، أقفرت من تنعمُّات العالم وملاذه، ومن لهوه وعبثه وضجيجه. لأنها أطاعت قول الكتاب "لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم.. إن العالم يمضي وشهوته معه" (1 يو 2: 15، 17). أما هي فأجابت الرب يقول المزمور لكي يزهر لك جسدي في أرض مقفرة، ومكان بلا ماء وموضع غير مسلوك (مز 63: 1).
هذه الكنيسة طالعة من البرية، لكي يختطفها الرب على السحاب، وتكون مع الرب كل حين (1تس 4: 17).
نعم: مَن هذه الطالعة من البرية، التي لم تعش في فراديس وفي جنات، كما عاش سليمان وهو يعزي نفسه بخيرات العالم قائلًا "بنيت لنفسي بيوتًا، وغرست لنفسي كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه. قنيت لنفسي عبيدًا وجواري.. جمعت لنفسي فضة وذهبًا. اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعُمات بني البشر.. ومهما اشتهته عيني لم أمسكه عنهما" (جا 2: 4-10).
أما الكنيسة فرفضت أن تستوفي خيراتها على الأرض (لو 16: 25).
إنما تعبت على الأرض، لكي تتمتع في السماء. عاشت على الأرض في طقس لعازر المسكين عاشت فقيرة، ولكن مستندة على حبيبها. كما قال بولس الرسول " مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين.." (2 كو 4: 8، 9).. "كحزانى ونحن دائمًا فرحون. كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10).
هذا النشيد يمكن أيضًا يصلح لقديسي البرية، فهو:
هؤلاء القديسون يسبحون الرب في كل يوم تسبحه جديدة. وفي كل يوم يهمس الملائكة في آذانهم قائلين: "ها باركوا الرب يا عبيد الرب، القائمين في بيت الرب في ديار بيت إلهنا. في الليالي أرفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب" (مز 134: 1، 2).
يستمع الملائكة إلى هذه الصلوات " الطالعة من البرية، ويقولون للرب " طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد (مز 84: 4).
أهل العالم – حتى إن دخلوا الكنيسة – قد يسرحون في أمور العالم أثناء الصلاة. أما هؤلاء القديسون -فحتى إن شغلوهم بشيء من أمور العالم- فإنهم أثناءها يسرحون في الله. عاشوا في البرية القفرة، بدون أي معونة، مستندين على حبيبهم واستطاعوا أن يقدسوا البرية بصلواتهم وبحياتهم. حتى تحولت البرية إلى سماء ثانية. واجتذبت إليها طالبي الروح من أقصاء الأرض كلها..
عاشوا في طقس الصلاة الدائمة. ولقّبوهم بملائكة أرضيين وبشر سمائيين. فعندما تصعد أرواح هؤلاء القديسين إلى السماء. فلاشك ستجري الملائكة لاستقبال أرواحهم الطاهرة بهذا الهتاف "مَن هذه الطالعة من البرية".
سليمان الحكيم -كاتب سفر النشيد- أتراه في حلم ورؤيا - أبصر جماعات السواح والمتوحدين والرهبان طالعة من البرية، فاستقبلها بهذا النشيد "مَن هذه الطالعة من البرية؟!"
يوحنا كاسيان حينما زار براري مصر، قال إن المسافر من الإسكندرية إلى طيبة (الأقصر)، لم يكن صوت التسبيح والألحان والصلوات ينقطع من أذنيه طول الطريق وذلك لكثرة الأديرة والقلالي والمغارات المنتشرة في كل مكان في البرية، يسكنها أولئك القديسون الذين أحبوا الرب فأحبوا الوحدة. وعاشوا كملائكة الله على الأرض.. كل شبر من تلك الأرض المقدسة، قد باركه القديسون ودشنوه بصلواتهم ومزاميرهم. حبّات الرمال تقدست، إذ وطئتها أقدامهم الطاهرة.
هذه الحياة المقدسة الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، صاعدة إلى عرش الله، يهتف لها سكان السماء قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية؟!
إن الحياة التي شهدها العالم في براري مصر، في القرنين الرابع والخامس، كانت كأنها الحلم! نسمع عنها الآن، وكأنها قصة.. ! كيف عملت النعمة في نفوس أولئك القديسين بكل تلك القوة وبكل ذلك العمق؟! وكيف كانت أرواحهم في كل يوم، كأنها على سلم يعقوب صاعدة إلى السماء ونازلة منها.. وفي كل درجة تصعدها على ذلك السلم الروحاني، يصرخ السمائيون في عجب وإعجاب "مَن هذه الطالعة من البرية"؟!
إنه منظر عجيب حقًا، حينما نرى ملائكة نازلة من السماء إلى الأرض. ولكن الأعجب منه أن نرى بشرًا لهم صورة الملائكة صاعدين من الأرض إلى السماء.. ! وليس فقط فرادى قلائل، وإنما جماعات عديدة لها نفس الصورة، نفس القداسة والبر والشفافية، نفس الزهد والعفة. فيصرخ الجميع لمرآها "مَن هذه الطالعة من البرية؟!" ووجه العجب الكبير أن هؤلاء الصاعدين كالملائكة، لهم أجساد مادية، وقد سكنوا في هذا العالم في وسط شهوته. هم بشر تحت الآلام مثلنا (يع 5: 17) ولكنهم عاشوا صورة لله ومثاله.
هل دخلوا النار كالثلاثة فتية، ولم يحترقوا. أم هم قد صعدوا من النار كأعمدة من دخان، معطرة بالمُر واللبان.
هذه هي الكنيسة طالعة من البرية. الأشرار يهبطون إلى أسفل، أما الأبرار فيطلعون إلى فوق. دائمًا الكنيسة طالعة إلى فوق.
مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر" (نش 3: 6).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/b2x9ndm