الصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية وبها وضع الله حدودا للجسد لا يتعداها. وبالامتناع عن الأكل يرتفع الإنسان فوق مستوي الجسد ويرتفع أيضا فوق مستوي المادة, وهذه المادة هي حكمة الصوم ولكن حينما ينهزم الإنسان أمام الجسد حينئذ يأخذ الجسد سلطانًا عليه, ويظل الإنسان يقع في خطايا عديدة من خطايا الجسد, واحدة تلو الأخرى.
† والصوم عرفته كل الشعوب, وهو معروف في كل ديانة حتى في الديانات الوثنية والبدائية والذي يقرأ عن البوذية والبراهمية والكونفشيوسية, وعن اليوجا أيضا يري أمثلة واضحة عن الصوم وعن قهر الجسد لكي تأخذ الروح مجالها, والصوم عندهم تدريب للجسد وللروح أيضًا.
وفي حياة المهاتما غاندي الزعيم الروحي الشهير بالهند نري الصوم من أبرز الممارسات الواضحة في حياته وكثيرا ما كان يواجه به المشكلات. وقد صام مرة مدة طويلة متواصلة حتى قال الأطباء: إن دمه بدأ يتحلل.
وبالصوم اكتشف اليوجا بعض طاقات للروح.. تلك الطاقة الروحية التي كانت محتجبة وراء الاهتمام بالجسد. وقد عاقها الجسد عن الظهور, ولم يكتشفوها إلا بالصوم ويري الهندوس أن غاية ما يصلون إليه هو حالة النِرفانا Nirvana أي انطلاق الروح من الجسد للاتحاد بالله ولا يمكن أن يدركوها إلا بالنسك الشديد والزهد والصوم.
† بالصوم يشعر الإنسان بضعفه فيلجأ إلي الله لكي يقويه. فالصوم إذن هو فترة صالحة يتوسل به الإنسان أن يتدخل الله لكل مشكلاته لكي يحلها, وفي فترات الصوم الممزوج بالصلاة يقترب الإنسان إلى الحياة التي ترضي الله سبحانه وروحيات الإنسان يمكن أن تكون في أي وقت, ولكنها في فترة الصوم تكون أعمق وتكون أصدق وتكون أقوي.
† والذي يدرك فوائد الصوم وفاعليته في حياته وفي علاقته بالله إنما يفرح حقا بالصوم ولا يكون من النوع الذي يصوم وفي أثناء الصوم يشتهي متى يأتي وقت الإفطار بل إنه حينما يحين الإفطار يشتهي الوقت الذي يعود فيه للصوم من جديد. والإنسان الروحي يفرح بأيام الصوم, أكثر مما يفرح بالأعياد التي يأكل فيها ويشرب.. ومن فرح الروحيين بالصوم لا يكتفون بالصوم العام, إنما يضيفون إليه أصوامًا خاصة بهم.. شاعرين أن روحياتهم تكون أقوي في فترة الصوم ولعلنا نتذكر أن الآباء الرهبان -من محبتهم للصوم- جعلوه منهج حياة وبه صارت حياتهم منتظمة.
† إن الصوم الحقيقي هو الذي يتدرب فيه الصائم علي ضبط النفس ويستمر معه ضبط النفس كمنهج حياة فيضبط نفسه في أيام الفطر كما في أيام الصوم.. وهكذا يكون الصوم نافعا له ويعتبر بركة لحياته ولا يري في الصوم صعوبة بل يراه نعمة.
† إن الصوم يصل إلي كماله بالجوع وفي احتماله وما أكثر الفضائل الروحية التي يحملها الجوع.. ففيه يشعر الإنسان بضعفه فيبعد عن الغرور والشعور بالقوة وفي ضعفه تقوده مسكنة الجسد إلى مسكنة الروح.. ويصل إلى فضيلة الاتضاع وفي شعوره بالضعف يحتاج إلي قوة تسنده فيلجأ إلى الله بالصلاة وهكذا يرتبط الصوم بالصلاة وصلاة الإنسان وهو جائع صلاة أكثر عمقًا، وقد عرضنا هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في كتاب روحانية الصوم للبابا شنودة الثالث. أما الجسد الممتلئ بالطعام لا تخرج منه صلوات ممتلئة بالروح في الواقع أن الجوعان يشتاق أن يصلي. أما الشبعان فكثيرا ما ينسي الصلاة ولعلنا نلاحظ أن غالبية المتدينين يصلون قبل الأكل بل نري قليلين من الذين يصلون بعد الانتهاء من الأكل وقد شبعوا.
† إن الصوم مفيد للإنسان صحيا فالذي يتعب الجسد ليس هو الصوم بل الأكل أي كثرة الأكل والتخمة وعدم الضوابط في الطعام بل الصوم هو فترة راحة لبعض أجهزة الجسد إنها فترة تستريح كل أجهزة الجسد الخاصة بالهضم والتمثيل: كالمعدة والأمعاء والكبد والمرارة هذه التي يرهقها الأكل الكثير والطعام المعقد في تركيبه, كما يتعب الجسد أيضا أنه بعد الإفطار يبدأ في تناول المسليات والترفيهات وما أشبه, فترتبك أجهزته.
† وما أخطر اللحوم بشحومها ودهونها في إزادة نسبة الكوليسترول Cholesterol في الدم وخطر ذلك في تكوين الجلطات حتى أن الأطباء يشددون جدًا في هذا الأمر ويقدمون النصائح في البعد عن الدسم الكثير حرصا علي صحة الجسد وبخاصة بعد سن معينة وفي حالات خاصة.
† ومن فوائد الصوم أنه يساعد علي التخلص من السمنة والبدانة والترهل, فالمعدة كلما تعطيها أزيد من احتياجها تتسع لتحتمل ما هو أكثر ويزداد اتساعها في حالات الترهل وكثير من الأطباء ينصحون من أجل صحة الجسد بإنقاص وزنه, ويضعون له حكما يسمى Regime (رجيم) ويقولون: الإنسان البدين لن يضبط نفسه في الأكل بعد أن كان يأكل بلا ضابط والصائم يقلل أو ينقص من وزنه بدون أمر من طبيب حقا أنها لمأساة أن يقضي الإنسان جزءًا كبيرًا من عمره يربي أنسجة لجسده ويكدس في هذا الجسم دهونًا وشحومًا، ثم يقضي جزءا آخر من عمره في التخلص من هذه الكتل التي تعب كثيرًا في تكوينها واقتنائها. لعل هذا يذكرني بالتي تظل تأكل إلي أن يفقد جسدها رونقه ثم ينصحها الأطباء أن تصوم وتقلل الأكل وتتبع رجيم.
† صوموا إذن لتستفيد أجسادكم صحيًا ولا تفقد رونقها، وفي نفس الوقت تسمو الروح وتقترب من الله.
† إن الصوم يساعد علي علاج كثير من الأمراض.. ومن أهم الكتب التي قرأتها قديمًا في هذا المجال كتاب لعالم روسي ترجم إلي العربية سنة 1930 م. باسم التطبيب بالصوم.
† إن الصوم أيضًا يجعل الجسد خفيفًا ونشيطًا فالصوم إذن ليس مجرد علاج للروح, إنما هو علاج للجسد أيضًا فيجب أن تتحرروا من فكرة أن الصوم يتعب الصحة, هذه الفكرة التي تجعل بعض الأمهات من حنوهن الزائد علي صحة أبنائهن يخفن عليهن من الصوم فتفرح الأم أن تري ابنها سمينا وممتلئ الجسم, وتظن أن هذه هي الصحة! بينما قد يكون العكس هو الصحيح.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/67j6txs