هل لأن الصوم وصية إلهية علينا أن نطيعها؟ ولماذا أمر الله بالصوم؟ إن الله لا يأمرنا بشيء إلا لخيرنا. إذن لابد هناك فوائد لنا من الصوم من أجلها أمرنا الله به ثم ما هو الصوم؟ هل هو مجرد علاقة بين الجسد والطعام؟ أم هو في الأصل علاقة مع الله.
نعم يا أخوتي, إننا لو فصلنا الصوم عن الله, لا يصبح فضيلة علي الإطلاق, فنحن من أجل الله نأكل, ومن أجل الله نصوم. من أجل الله نأكل, لكي نأخذ من الأكل طاقة نستطيع بها أن نخدم الله والناس. ونحن من أجل الله نصوم, لأن الصوم يقربنا إلي الله بالأكثر.
** في الصوم يكون الجسد تحت سيطرتنا, ولا نكون نحن تحت سيطرة الجسد, وكما نمنع الجسد عن الطعام, نمنع النفس أيضا عن الخطايا والآثام, فنكون أثناء الصوم, لسنا فقط بجسد صائم, وإنما أيضا بنفس صائمة. وعن أي شيء تصوم؟ يذكرني هذا بقول أحد الآباء الروحيين: صوم اللسان خير من صوم الفم. وصوم القلب عن الشهوات الرديئة هو خير من صوم الاثنين. وفي الصوم أيضا لا ننجس عقلنا بفكر رديء.
** وفي الصوم اكتساب لفضائل كثيرة: منها تقوية الإرادة, وضبط النفس والتدرج علي ترك خطايا محبوبة لنا وعادات خاطئة, ومنح الروح فرصة بعيدا عن رباطات الجسد, وفي الصوم أيضا التدرج, تدرج علي فضائل معينة. وهكذا يكون الصوم فترة روحية, أو فترة مقدسة. ولا يكون الصوم مجرد جوع للجسد, بل يكون غذاء للروح.
** فمن الفضائل المصاحبة للصوم: التوبة. والصوم من غير توبة, لا يكون مقبولا عند الله, ولا يستفيد منه الإنسان. والخطية التي يرتكبها الشخص أثناء صومه تكون أبشع. لأنها تدل علي أنه لم يبال بقدسية أيام الصوم. ذلك لأن شهر الصوم هو شهر بر وقربي إلي الله. فعلي الصائم أن يتخلص من الأخطاء التي تبعده عن الله وعن الناس, ويتخلص من الكراهية ومن الحقد, ومن خطايا النرفزة, ومسك سيرة الناس. ويتدرج أيضا علي مقاومة الوقت الضائع الذي هو جزء من حياته. ويخرج من الصوم بحياة أفضل, ويكون أكثر نقاوة وطهارة قلبا وفكرا وجسدا.
** فهل شعرت يا أخي الصائم, بأن الصوم قد غيرك إلي الأفضل! أم خرجت من الصوم, وأنت كما أنت بنفس الطباع, ونفس الأخطاء!! إن كان الأمر هكذا فماذا استفدت من صومك؟!
كم أصوام يا إخوتي مرت علينا علي مدي أعوام طويلة, ونحن كما نحن؟! إن الصوم بلا شك له فوائده الكثيرة, هذا إذ كنا نصوم فيه بطريقة روحية سليمة, وبالرغبة في النمو الروحي بواسطته, وتعميق الصلة مع الله تبارك اسمه.
** وشهر الصوم أيضًا هو شهر رحمة, يشعر فيه الصائم بالجوع فيشفق علي الجياع, وهكذا تنمو فيه فضيلة العطاء وتستمر معه. الجياع موجودون طوال العام وليس في شهر الصوم فقط. إذن إذا بدأت فضيلة العطاء في شهر الصوم, يجب أن تستمر حتى تصبح منهج حياة, وأنت حينما تعطي, إنما تعطي من المال الذي أعطاك الله إياه, وأصبحت مجرد مؤتمن علي تدبيره ليس لخيرك فقط إنما لخير الآخرين أيضًا. أنت تعطي فيعطيك الله بالأكثر, وإذا أمسكت يديك فأنت الخاسر. وما أصدق قول الشاعر عن الأموال:
فهي بالإنفاق تبقي وهي بالإمساك تفني
إنها مثل قدح من القمح تلقيه في الأرض فيعطيك طنا من الغلة. إن الفقراء هم رعية الله. أعطاك لتعطيهم, وبالنسبة إليك هم إخوتك في البشرية. فإن كنت لا تعطي في فترة الصوم, فمتى ستعطي أذن؟!! والصوم أيضا هو فترة تتفرغ فيها لله بالأكثر. هي فترة أكثر للصلاة وللتأمل ولانشغال الفكر بالله. وهنا أسأل في صراحة: ما هو نصيب الله في صومك؟ هل مشاغل الدنيا ومشاكلها تملأ فكرك أثناء الصوم؟ وتتوه في دوامة العمل, ودوامة الأخبار, ودوامة الأحاديث... وتشغل فكرك بالتافهات؟ ولا يبقي وقت لله في مشغولياتك. إن كنت إنسانًا روحيًا, فعليك أن تقول لجسدك أثناء الصوم: أنا لست متفرغا لك الآن. بل أنا مشغول بعملي الروحي, وطعامي الحقيقي هو كل كلمة تخرج من فم الله. يا أخي إن يوم الصوم الذي لا تفكر فيه في الله وفي وصاياه, أشطبه من أيام صومك. لا تجعل مسئولياتك تطغي وتستقطب كل أفكارك. بل اجعل لها حدودا, فتقوم بها ولكن بحيث لا تنسيك واجباتك نحو الله. وليتك في برنامج صلاتك, أن تصلي من أجل الآخرين أيضا, من أجل كل محتاج إلي المعونة.
** إن الصوم ليس هو إرغاما لك علي عدم الأكل, بل هو ارتفاع منك عن شهوة الأكل. وأن يكون صومك بغرض روحي. ويصير الصوم فترة تخزين روحي للعام كله. ومن هنا تختلف أيام الصوم عن باقي أيام السنة.
** إن الصوم هو فترة ترتفع فيها الروح فتجذب معها الجسد, وتخلصه من أحماله وأثقاله. فلا نهتم بما للجسد بل بما للروح. نريد أن تكون أرواحنا مع الله, وألا يعوقها الجسد فنخضعه بالصوم, لكي يرتفع عن المستوي المادي ويتحد مع الروح في عملها. وهنا يكون عمل الجسد أثناء الصوم هو مجرد تمهيد للروح, أو تعبير عن مشاعر الروح. ويصبح الجسد روحيا في منهجه. وتكون فترة الصوم هي فترة روحية يقضيها الجسد والروح معا في العمل الروحي, إن أخطر ما يتعب البعض في الصوم: أن الجسد لا يتغذي والروح أيضا لا تتغذي! فيكون الصوم بذلك فترة حرمان متعبة! إذن لابد من غذاء الروح أثناء الصلاة, وغذاء الروح هو في صلاة القلب, وفي التأمل, وفي القراءات الروحية, وفي التسابيح والتراتيل... والروح إذا تغذت تستطيع أن تحمل الجسد معها.
** إنك تغذي جسدك كل يوم ومرات عديدة, وبأنواع شتي من الأطعمة. فهل تغذي روحك هكذا؟! وأنت تعطي جسدك مقويات عددية. فهل تعطي روحك كذلك؟! ليتك تهتم بروحك علي الأقل كما تهتم بجسدك.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/pjgtv8g