من أعماق قلبي أهنئ أخوتي المسلمين في مصر والعالم الإسلامي كله، بحلول شهر رمضان، شهر الصوم الذي تقترب فيه القلوب معًا، وتقترب إلى الله. وليكن صومًا مباركًا مقبولا عند الله... وبهذه المناسبة أحب أن أحدثكم عن الصوم بمعناه الحقيقي أو بمفهومه الروحي، وعن شروطه وما يجب أن تلتصق به من الفضائل، وكيف يكون بهذا مفيدًا للأفراد وللجماعة...
والصوم معروف في جميع الأديان، حتى في البوذية والهندوسية والكنفوشيوسية، وعند اليوجا بأسلوب أعمق في وسيلة لقهر الجسد لكي تأخذ الروح مجالها. وفي حياة المهاتما غاندي الزعيم الروحي للهند، نرى أن الصوم كان من أبرز الممارسات الواضحة في حياته، وكثيرًا ما كان يواجه به المشاكل...
ويخطئ من يظن أن الصوم هو مجرد فضيلة للجسد، أو أنه مجرد علاقة الإنسان بالطعام وموعده. فالصوم في حقيقته هو عمل للروح في تساميها عن المادة والطعام، ويعبر الجسد عن رغبة الروح بالصوم. الصوم إذن هو حالة روح زاهدة تُشرك الجسد معها في الزهد. وهكذا لا يكون الصوم هو الجسد الجائع، بل بالحري هو الجسد الزاهد. فليس الصوم هو جوع الجسد، بل هو تسامى الجسد، ومعه طهارة الجسد. ليس هو حالة الجسد الذي يجوع ويشتهى أن يأكل. بل الجسد الذي يسمو -ولو إلى حين- عن شهوة الأكل!
الصوم هو فترة ترتفع فيها الروح، وتجذب الجسد معها، لكي تخلصه من أحماله وأثقاله، ومن شهواته المادية، وتجذبه معها إلى فوق. فيعمل معها العمل الروحي بلا عائق. إذن الصوم هو فترة روحية يقضيها الجسد والروح معًا في عمل واحد هو عمل الروح! حيث يصلى الإنسان ليس فقط بجسد صائم، إنما بالأكثر بنفس صائمة: بفكر صائم عن الرغبات الخاطئة، وبقلب صائم عن الشهوات الرديئة، وبروح صائمة عن محبة الماديات. إذن هي فترة صالحة للاقتراب إلى الله أكثر من باقي الأيام.
الصوم إذن فترة مقدسة، تشعر فيها بمتعة روحية، وترى أن صلتك بالله قد زادت وتعمقت. إنها ليست أيامًا عادية، بل هي أيام لها طابع مثالي غير عادى يتميز بالتدرب على النمو الروحي.
لهذا كله، ينبغي أن نتأكد أن الصوم قد غيّر الكثير في حياتك إلى ما هو أفضل. فهل أنت يا أخي العزيز تدرك أن الصوم قد غيّر فيك شيئًا؟ أم تمر عليك أصوام خلال سنوات وسنوات، وأنت كما أنت، بنفس الصفات والضعفات؟!
إن أردت التغيير في حياتك فضع أمامك الفضائل التي ينبغي أن ترتبط بالصوم، حتى تستفيد روحيًا من صومك!
الصوم لابد أن تصحبه التوبة، بحيث يبعد الصائم عن الخطية، ويحرص على أن يكون فكره مقدسًا، وقلبه مقدسًا، وجسده أيضًا يكون طاهرًا. بحيث أنه كما يصوم الجسد عن الطعام، يصوم أيضًا عن كل شهوة خاطئة، وكل الملاذ المحرمة.
واعلم انه بدون التوبة، يرفض الله صومك ولا يقبله. وبهذا تكون لا ربحت سماءً ولا أرضًا. وتكون قد منعت جسدك عن الطعام بلا فائدة وبلا أجر سماوي. فإن أردت أن يقبل الله صومك، راجع نفسك، واعرف ما هي خطاياك وأرجع عنها وتب. وبهذا تُصلح ذاتك وتصطلح مع الله في صومك. وإن أبطلت الخطية خلال أيام الصوم، فاستمر في إبطالها بعده. فالتوبة ليست قاصرة على فترة الصوم فقط. إنما بالتدرب عليها أثناء الصوم، تتعود عليها فيتنقى قلبك، وتحتفظ بهذا النقاء كمنهج حياة.
وإذ تتوب في الصوم، اعدد نفسك للجهاد ضد الشيطان. ذلك أن الشيطان إذ يرى صومك وتوبتك، يحسد عملك الروحي ليفقدك ثمرة برك. وهكذا قد يقدم لك أثناء أيام الصوم إغراءات جديدة لم تكن متاحة قبلًا، وحيلًا عديدة يلتمس بها إسقاطك! فاحترس وقاوم كل ذلك. وإن رأيت الصوم فترة حروب روحية من عدو الخير، اجعلها أنت فترة انتصار روحي على كل الإغراءات.
والصوم كما تصحبه التوبة، تصحبه أيضًا الصلاة والعبادة. فليس الصوم هو الاكتفاء بمنع الجسد عن الطعام، فهذه ناحية سلبية. أما الناحية الايجابية فهي إعطاء الروح غذاءها. فالجسد يصوم، والروح تتغذى بالصلاة والترتيل والألحان والتسابيح، وبالقراءات الروحية والتأمل الروحي. واعلم أن صلاة روحية تصليها وأنت صائم وضعيف في جسدك، هي أعمق من عشرات الصلوات التي تصدر منك وجسدك مملوء بالطعام وصوتك يهز الجبل!
ولتكن صلواتك في الصوم هي من أعماق قلبك وبكل مشاعرك. ولا تحاول أن تريح ضميرك بمجموعة من التلاوات لا عمق فيها، ول هي خارجة من قلبك. وأعلم أن الصلاة -من واقع اسمها- هي صِلة... صلة قلب بإلهه.
فهل فترة صومك متصلة بالله؟ أم أن فكرك منشغل بأمور كثيرة، ووقتك لا ينال منه الله شيئًا، تشغله باللهو أحيانًا وبألوان من المتع العالمية؟! وهل صلواتك وقراءاتك الروحية أثناء الصوم هي أكثر مما في باقي الأيام؟ وهل تجد في الصلاة متعة روحية؟.
الصوم أيضًا لابد أن يصحبه ضبط النفس. لذلك احرص على أن تضبط نفسك ضد كل رغبة خاطئة، سواء أتتك من داخلك أو من حروب الشيطان. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). امسك إذن زمام إرادتك في يدك.
في الصوم قد يشتهى جسدك أن يأكل فتمنعه، وتنجح في منعه. استخدم هذه الإرادة في منع كل رغبة بطالة، وكل عادة رديّة، وكل تصرف خاطئ، وكل شهوة للجسد. أما الذي يملك إرادته في الامتناع عن الطعام، وينغلب مع باقي شهواته، فماذا تراه قد استفاد من صومه؟!
الصوم أيضًا تصحبه الصدقة والإحسان على الفقراء والمحتاجين. فالذي يشعر في الصوم بالجوع، يشفق على الجياع ويطعمهم. ولا يستطيع أن يأكل، إن شعر أن غيره لا يجد ما يأكله.
وهكذا يعمل الكثيرون في الصوم على إقامة موائد للفقراء. على أن الأمر لا يصح أن يقتصر على تقديم الطعام، إنما يحسن أيضًا الاهتمام بهذا الفقراء لكي يستطيعوا أن يعيّدوا حينما يأتي بالعيد. وذلك بأن تقدم لهم الملابس والمصروفات...
الصوم عن الطعام، يحسن أن يصحبه أيضًا صوم اللسان، وصوم القلب والحواس. وقد قال أحد الآباء "صوم اللسان خير من صوم الفم. وصوم القلب عن الشهوات خير من صوم الاثنين" أي خير من صوم اللسان والفم كليهما.
فهل لسانك صائم عن كل كلمة رديئة؟ وإن كنت كاتبًا، هل قلمك صائم عن كل خطأ في الكتابة؟ ولاشك أن القلب الصائم عن الخطية يستطيع أن يصوّم حواسه عن الخطأ بالنظر أو بالسمع وما إلى ذلك. ويستطيع أن يصوّم لسانه عن كل الكلام الشرير، لأن الكلام بلا شك صادر عما في داخل القلب.
والذي يريد أن يستفيد من صومه، تنفعه جدًا التداريب الروحية لتكون مصاحبة لصومه. فيدرب نفسه على ترك كل نقاط ضعفاته. كما يدربها على اقتناء ما ينقصه من الفضائل. فإن نجح في هذا التدريب، يكون قد خرج من الصوم بفوائد لا تُحصى.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/c663kzm