كل الأمور التي تُرى هي أمور وقتية، تعيش في وقت معين، ثم تنتهي أو تزول، مثل المادة والعالم والجسد أما الأمور التي لا تُرى، أي غير المرئيات، فإنها أبدية لا تزول. فم هي إذن المرئيات؟ وما هي غير المرئيات؟...
** من الأشياء التي لا تُرى، الأبدية، أي الحياة في العالم الآخر. والذي يفكر في أبديته، إنما بالطبع يفكر في غير المرئيات، أي في، ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر على بال إنسان. سعيد ومبارك هو الذي يفكر في الأبدية. إنه بلا شك سوف يعدّ نفسه لها. وبالتالي سوف يبتعد عن كل ما يمنع تمتعه بها، وأقصد ذلك التمتع بالأمور التي لا تدخل تحت مستوى الحواس، وما فيها من فرح لا يُنطق به وعجيب. وهو فرح دائم، لا يستطيع أحد أن ينزعه منا.
وفى الأبدية توجد أيضًا المتعة بعشرة الله الذي هو أيضًا في عالمنا يرانا ونحن لا نراه... فليتنا ننشغل بالله الذي نعدّ أنفسنا للحياة في الأبدية، حيث تكون السعادة التي هي فوق إدراكنا...
** وفي الأبدية سوف نرى الملائكة الذين يحيطون بنا هنا، ونحن لا نراهم بعيوننا هذه المادية. وكذلك سوف نرى أرواح الأبرار القديسين من البشر الذين سبقونا إلى العالم الآخر... أما الآن، فإننا ننظر إلى كل هؤلاء بالروح وبالإيمان. ونستحي من حضرتهم بيننا، إن فعلنا خطية...
** الروح أيضًا هي من الأشياء التي لا تُرى. أما الجسد فإنه من المرئيات. لذلك فإن الشخص الروحي المحب لله، لا يعيش ناظرًا باستمرار إلى الجسد وطلباته، إنما بالأكثر إلى الروح، فيهتم بها وبغذائها الروحي، وبمصيرها الأبدي، وبما يربطها بالله ويجعلها دائمًا معه.
** والذي ينظر دائمًا إلى غير المرئيات، فإنه يهتم بالمعنويات، وبالإيمان، وعمل الخير. والإنسان الذي يعيش في الإيمان، إنما ينظر دائمًا إلى ما لا يُرى، وإلى الأبدية التي يشتاق إليها وهو لا يراها.
وفى كل أمورنا، ننظر إلى قوة الله غير المنظورة العاملة معنا، ولا ننظر إلى ضعفنا الظاهر والمشاكل التي أمامنا... إن موسى النبي لم ينظر إلى البحر العظيم الذي يراه أمامه، وإنما إلى قوة الله غير المرئية، التي تستطيع أن تشق البحر له بعصاه.
** ننتقل إلى الحديث عن المرئيات: لاشك أن في أولها المادة. والمادة وقتية، لا تدوم إلى الأبد بل تزول. إن لم نفارقها نحن، فهي ستفارقنا. ومهما كنزنا لنا كنوزًا من الماديات أموالًا وعقارات وحسابات في البنوك... فإننا سوف لا نأخذها معنا حينما نفارق هذا العالم. فخير لنا إذن أن نكنز لنا كنوزًا في السماء. فإنها ستبقى لنا حيث نلقاها هناك. وتلك الكنوز السمائية هي كل خير نعمله على الأرض، وكل إحسان نعطيه للغير.
** ومن الأشياء الوقتية أيضًا، هذا العالم الحاضر الذي سوف يزول وشهوته معه.
ومن هنا وجدنا أن الرهبان والنساك قد بدأوا حياتهم الروحية بالموت عن العالم أو بالبعد عن العالم. ولعل البعض منكم يسأل: ماذا أفعل أنا عمليًا: كيف اترك العالم وما فيه من المادة، وأنا أحيا في العالم؟ أقول لك: عش في العالم، ولكن لا تجعل العالم يعيش فيك. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). يمكنك أن تملك المادة، ولكن لا تجعل المادة تملكك. تعيش في العالم، دون أن تجعله يدخل إلى قلبك، وإلى فكرك ومشاعرك. تستعمل ما فيه من مادة. وأنت متحرر في الداخل من سيطرتها ومن محبتها.
وكل ما تفقده من أمور العالم، لا تحزن عليه، لأنه سوف لا يصحبك في اليوم الأخير. وردد باستمرار هذه العبارة "ماذا ينتفع الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!
** والإنسان الروحي الذي لا تملكه محبة الماديات. يعيش بلا شك سعيدًا ويتحرر من الشهوة ومن الخوف. وفي ذلك قال القديس أغسطينوس: "جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي أني لا أشتهى شيئًا ولا أخاف شيئًا". فالإنسان الذي ارتفع فوق مستوى الماديات، هو حصن منيع لا ينهدم. إنه فوق العالم، وفوق الجسد أيضًا. أليس الجسد المادي كذلك هو من الأمور المادية الزائلة. إذ سيأتي وقت سننطلق منه، ويأكله الدود، ويتحول إلى تراب!!
إذن عش في الروح، واهتم بها. فالروح من الأمور التي لا تُرى. وبالروح تخلص من شهوات الجسد. أما الأمور المرئية فلا تهتم بها، ولا تسبب لك همًا. وفي قمة هذه الأمور، المال. والعيب ليس هو في المال، ولكن في محبته. ذلك لأن كثيرًا من الأغنياء صنعوا به خيرًا. والبعض أعطى كل ماله للفقراء كالقديس أنطونيوس مؤسس الرهبنة. إذن استعمل المال، ولكن لا تتكل عليه، ولا تصل إلى الكبرياء بسببه. واكنز به لك كنوزًا في السماء... ولا تظن أن كثرة العطاء للفقراء والمحتاجين، إنما تقلل مالك. كلا، بل هي تمنحه بركة فيزداد.
** هناك نقطة هامة في تمييز غير المرئيات على المرئيات، وهى ما نراه في قصص الشهداء القديسين. وكيف أنهم تقدموا إلى الموت، غير ناظرين إلى العالم وكل ما فيه من متع أرضية مؤقتة، ورافضين الإغراءات التي عُرضت عليهم. ذلك لأنهم كانوا مركزين كل اهتمامهم في الحياة التي بعد الموت، الحياة الأبدية التي لا تُرى. ولكن فيها كل البركة وكل السعادة. وأيضًا كانوا لا ينظرون إلى الملكوت الأرضي، بل إلى الملكوت السماوي الذي لا يرونه بالعين المادية، لكنهم يرونه بالإيمان.
حقًا إن النظر إلى ما لا يُرى، ينجى العالم من كل المذاهب المادية، ومن كل الاتجاهات الإباحية غير الأخلاقية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/3dx2t4k