ونعنى به العمق في كل شيء: العمق في الصلاة، وفي التوبة، وفي العبادة عمومًا، وعمق الكلمة وتأثيرها، وعمق الخدمة، وعمق العطاء، وعمق الإيمان، وعمق المحبة والصداقة، وعمق الشخصية بصفة عامة.
** فمن جهة الصلاة كثيرون يصلون، ولكن ليس كل إنسان يصلى بعمق وتكون صلاته مقبولة. وهنا يعجبني قول المرتل "من الأعماق صرخت إليك يا رب" يقصد صرخت إليك من عمق القلب والعاطفة، من عمق الاستغاثة، وأنا في عمق ضعفي وعجزي وعدم قدرتي. من عمق قلبي طلبتك. من عمق الإيمان والثقة بأنك ستستجيب.
فليس المهم إذن في طول الصلاة وإنما في عمق المشاعر التي فيها. والصلاة التي بعمق فيها شعور بالصلة بالله. وهى صلاة بعاطفة وبفهم وتأمل وتركيز، صلاة بحرارة، وبإيمان... صلاة بروح وليست مجرد ألفاظ. فليس المهم في الصلاة مقياس الطول، بل مقياس العمق. هكذا ينبغي أن تكون صلواتنا، ونحرص أن تخرج من أعماقنا.
** ومن أمثلة الصلاة التي بعمق، صلاة إنسان مريض بمرض خطير، وهو في ساعاته الأخيرة وعلى حافة الموت. أنه حينما يصلى فمن أعماقه يتطلع إلى أبديته كيف تكون، أنها صلاة مصيرية لذلك تقال بعمق.
** إن عملًا واحدًا من أعمال الخير يعمله الإنسان بعمق، ربما توزن حياته كلها. ويبقى هذا العمل خالدًا، ويسجل في التاريخ من أجل عمقه.
مثال ذلك العمق الذي قدم به أبونا إبراهيم ابنه كمحرقة أمام الله. إنه كان في تقدمته هذه في عمق المحبة لله، وفي عمق الطاعة له، وفي عمق التسليم للإرادة الإلهية. كان في أعماق شعوره يحب الله أكثر من ابنه الذي ناله بعد صبر سنوات طويلة.
ومن أمثلة العمق في العطاء أيضًا من يقدم عشور أمواله إلى الله، وهو في منتهى العوز والاحتياج، أو يقدم بكور مرتب كان ينتظره منذ زمن ليسدد ديونه... ومن عمق العطاء أيضًا من يقوم بخدمة غيره أو إعانته في أهم أيام الامتحانات، وهو في حاجة إلى كل دقيقة... أو الذي يقدم أحد أعضاء جسده، تبرعًا لمريض محتاج إليه، حبًا في هذا المريض وإشفاقًا عليه... ومن عمق العطاء أيضًا الذي يستدين ليعطى إنسانًا معوزًا.
** أما من جهة العمق في الخدمة، فنذكر أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد شعبها من أكلة لحوم البشر، لكي يدعوهم إلى الإيمان.
وهناك أمثلة عديدة لأشخاص أبرار كانت لهم خدمات عميقة، وهم لم يكونوا من رجال الدين، ولا ممن يعظون على المنابر. بل كان لهم العمق في العمل الفردي، وكان كل من يلتقي بهم يجذبونه إلى محبة الله، ويلهبون قلبه بكلمات النعمة التي تخرج من أفواههم.
ومن أمثلة ذلك الذين يخدمون في حل المشاكل العائلية، بكل تعب وعمق ومثابرة. وقد يقضى الواحد منهم أيامًا طويلة، يسهر ويحاور ويقنع لكي يدخل سلام الله إلى البيت وتحل المشاكل.
ومن أمثلة الذين يخدمون بعمق، أولئك الذين يعملون كل الجهد لجذب الأولاد المتسكعين في الشوارع أو في المقاهي أمام دور اللهو، ويحولونهم إلى أشخاص صالحين.
** ومن أمثلة العمق: عمق الكلمة التي تأتى بفاعلية كبيرة. مثال ذلك إنسان يكلمك بكلمة نصيحة أو حتى كلمة تحذير. فتلمس هذه الكلمة قلبك، ولا تفارق ذهنك إطلاقًا. تتمشي معك في الطريق، وتصاحبك في نومك وفي صحوك. وتعمل فيك عملًا كثيرًا. إنها كلمة قد خرجت من العمق، ووصلت إلى العمق. وكان لها تأثيرها وفاعليتها وقوتها. وأصبحت تعمل عملًا عميقًا مثلها.
** العمق في العبادة. كثيرون يهتمون بالمظهر الشكلي في العبادة دون عمقها. فقد يقوم الإنسان بصوم يرهق فيه جسده، ولكن بغير عمق في العمل الروحي أي في الانتصار على النفس وفي ضبط الإرادة والحواس والفكر. ولا يكون لهذا الصوم أي تغيير في حياته وطباعه وأخطائه. أما الذي يصوم بعمق روحي، وتصوم نفسه مع جسده، فهذا ينجح في حياته الروحية.
كذلك نفس الوضع بالنسبة للقراءة الروحية وعمقها وتأثيرها. فليس المهم أن تقرأ كمية كبيرة. وإنما ما تتركه هذه القراءة في نفسك من عمق وتأثير. ما أعجب الذين يكونون من علماء عصرهم في الكتب المقدسة، ولكن ليس لهم عمق فيها، لا في الفهم ولا في التطبيق، ولم يستفيدوا شيئًا.
** من جهة العمق في التوبة: نقول أن كثيرين تابوا ورجعوا كما كانوا، لأن توبتهم لم تكن بعمق. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). أما الذين تابوا بعمق، فقد كانت التوبة نقطة تحول مصيرية في حياتهم. لم يعودوا إلى الخطية مرة أخرى. بل تدرجوا من التوبة إلى النمو في حياة البر حتى وصلوا إلى درجات عالية من السمو الروحي.
إن الذين لهم خطايا يكررونها، لم يتوبوا بعد. والذين لا تصحب توبتهم مشاعر الانسحاق والندم، والشعور بعدم الاستحقاق، هؤلاء ليس لهم عمق في التوبة، وما أسهل رجوعهم إلى الخطية.
من جهة العمق في الصداقة والحب. قد يوجد صديق لك تدوم صداقته أعوامًا طويلة. ثم بسبب نقطة معينة أو وشاية، أو خبر غير صحيح قد سمعه، ينقلب ويتغير لأن صداقته لم تكن بالعمق الكافي ولا بالمحبة العميقة. أما المحبة العميقة فهي مثل محبة الأم لرضيعها. وأعمق مثال للمحبة، المحبة التي تبذل حتى ذاتها.
** أما من جهة عمق الشخصية، فنقول إن الشخصية العميقة لها عمق في التفكير والتدبير، وعمق في الذكاء والفهم. الشخص منهم له ذكاء شمولي، يشمل كل شيء. إذا بحث موضوعًا، يفكر فيه من جميع زواياه، ويعمل حسابًا لكل النتائج وردود الفعل. وإذا تكلم يتكلم بعمق. وكل مسئولية تعهد إليه، يتناول كل شيء فيها بعمق. وكذلك التلميذ الذي يذاكر بعمق، فأنه يذاكر بفهم وتركيز، وبعقل منتبه، لا ينسى. ليس المهم عنده عدد ساعات مذاكرته، إنما عمق الفهم والحرص.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/mqcq2g5