من النسيان ما هو ضار وما هو نافع. والنسيان الضار ليس هو موضوعنا في هذا المقال. ومن أمثلته: أن ينسى المرء واجباته الدينية أو مسئولياته العملية. أو أن ينسى وعوده أو عهوده أو بالأكثر أن ينسى إحسانات الله إليه. وما يشبه ذلك وهو كثير.
على أن النسيان ليس كله شرًا. فقد سمح به الله من أجل نفع الإنسان وفائدته، لو أنه أحسن استخدامه. فالإنسان الحكيم يعرف ما الذي ينبغي أن ينساه، وما الذي ينبغي أن يتذكره. وسنحاول في هذا المقال أن نشرح بعض المجالات التي يحسن فيها النسيان:
فمن فوائد النسيان مثلًا أن ننسى إساءات الناس إلينا.
ننساها لكي نستطيع أن نسامح وأن نغفر ونصفح. ولكي لا يملك الغضب على قلوبنا بسببها. وننساها لكي نهرب من شيطان الحقد ومن شيطان الكراهية إذا ثبتت في أذهاننا.
فالذي ينسى أخطاء الناس إليه، يمكنه أن يقابل الكل ببشاشه، ويملك السلام قلبه، ولا يختزن فيه شرًا من جهة أحد. لذلك، إذا أساء إليك أحد، لا تحاول أن تسترجع في ذهنك إساءته إليك، ولا تتحدث مع الناس عما فعله بك ذلك المسيء، ولا تفكر في أية إهانة لحقت بك. لئلا يرسخ كل ذلك في ذاكرتك ويتعبك..
ولا تنسَ فقط أخطاء الناس إليك، وإنما كل أخطائهم عمومًا..
لأنك لو تذكرت على الدوام أخطاء الناس، لاسودت صورتهم في نظرك، ولعجزت أن تجد لك من بينهم صديقًا! إنه يندر أن يوجد أحد ليست له أية أخطاء. فلو أننا تذكرنا لكل أحد أخطاءه، لما استطعنا أن نتعامل مع أحد. وربما يدخل الشك إلى قلوبنا من جهة الناس جميعًا. وربما لا نستطيع أن نتكلم باحترام مع كل أحد.
من هنا تبدو فائدة نسيان أخطاء الناس.. كما يجب أن ننسى لهم أخطائهم، لكي نطلب من الله نسيان خطايانا.
وفى نفس الوقت الذي ننسى فيه أخطاء الناس، علينا أن نذكر خطايانا الخاصة لكي نصل إلى التوبة وإلى الاتضاع. موقنين تمامًا أنه إن نسينا خطايانا، سيذكرها لنا الله. أما إن ذكرنا خطايانا فسوف يغفرها لنا الله. إذن فليذكر كل أحد خطاياه، وينسى خطايا غيره. بعكس المتكبر الخالي من الحب، الذي دائمًا ينسى نقائصه، ودائمًا يذكر نقائص غيره، أو يتحدث عنها.
من فوائد النسيان أيضًا أن ننسى فضائلنا، حتى لا نقع في الكبرياء والإعجاب بالنفس... فإن عملت خيرًا، أو إن شاءت نعمة الله أن تعمل خيرًا بواسطتك، فلا تذكر ذلك ولا تتذكره. لئلا يجلب لك التذكار مديحًا من الناس، تستوفى به أجرك على الأرض، دون أن يختزن لك الأجر في السماء.
فالذي يفعل خيرًا، عليه أن يخفى الأمر، ليس فقط عن الناس، إنما حتى عن نفسه هو، بالنسيان.
حقًا، إن الذي يذكر فضائله، أو يُظهر فضائله، إنما يقع في الغرور والخيلاء، ويفقد الكثير من ثوابه. لذلك إنسَ الخير الذي تعمله. وإن ألحّ عليك الفكر في تذكره، أنسب ذلك إلى عمل نعمة الله معك، وليس إلى إرادتك الخيرّة. واشكر الله الذي هيّأ لك الظروف التي ساعدتك. واذكر أيضًا أن ذلك العمل كان يمكن أداؤه بطريقة أفضل من التي عملته بها...
من فوائد النسيان أيضًا أن ننسى المتاعب والضيقات:
أحيانًا يكون التفكير في متاعب الضيقة أشد إيلامًا وضررًا من الضيقة ذاتها. لذلك من الخير لك أن تكون الضيقات خارجك وليست داخلك. أي لا تسمح لها بالدخول إلى فكرك، ولا الاختلاط بمشاعر قلبك لئلا تتعبك. أي حاول أن تنساها. وإن ألحّ عليك الفكر ولم تستطع أن تنسى، حاول أن تنشغل بالقراءة أو بالعمل أو بالحديث مع الناس، لكي تبعد الفكر عنك وتنسى..
وعندما تنسى ضيقاتك ومتاعبك وآلامك، ستدرك أن النسيان نعمة وهبها الله. وستشكر الله الذي جعلك تنسى... أليس في معالجة المرضى المتعبين بأفكارهم ومشاكلهم النفسية، يقدم لهم الأطباء أدوية لكي تشتّت تركيز أفكارهم، فينسون! وبهذه الطريقة يحاول الإنسان أن يشترى النسيان بالطب والدواء والمال... إذن مبارك هو الله أن يهب النسيان مجانًا لمن يحتاجونه.. إذن إنسَ المتاعب والهموم، لأن تذكرها يجلب الأمراض النفسية والعصبية وأمراضًا أخرى. وهنا ندرك فوائد النسيان.
من فوائد النسيان أيضًا، أن ينسى الإنسان الأسباب المعثرة التي تجلب له الخطية... فقد يقرأ شاب قصة بذيئة، أو يرى منظرًا خليعًا، أو يسمع كلامًا مثيرًا... وإن لم ينسى كل هذه الأمور، تظل تشغل فكره وتحاربه روحيًا، فتضيّع نقاوة قلبه. ولذا من الخير له أن ينسى... وقد يقع شاب آخر في مشكلة عاطفية، ويحاول من أجل إراحة قلبه أن ينسى. وإذا استطاع ذلك، يعترف إن النسيان نعمة عظيمة..
لذلك حاول أن تنسى كل ما يعكر نقاوة قلبك. لا تجلس وتفكّر في أي شيء ينجس فكرك أو مشاعرك. وإن عبر أيّ من هذه الأمور على ذهنك، فلا تستبقه، بل اطرده بسرعة، ولا تعاود التفكير فيه، لكيما تنساه...
من فوائد النسيان أيضًا أن تنسى كل الأمور التافهة، لكي تُبقى في ذهنك الأمور النافعة لك ولغيرك...
تصوّروا مثلًا لو أن إنسانا تذكرّ كل ما يمر عليه طوال يومه، أو طوال أسبوع أو شهر، من كل الأمور التافهة التي تختص بالأكل والشرب وأحاديث الناس ومناظر الطريق، وأيضًا كل القراءات وكل الأحداث... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). هل مثل هذا الشخص تحتمل طاقة فكره وذاكرته أن تخزن فوق ذلك كله، المعلومات اللازمة له والأساسية؟! لا أظن ذلك... من أجل هذا يسمح الله -لفائدتنا- أن ننسى التافهات، لكي تتبقى في ذهننا الأمور الهامة فقط. أما الذين يتذكرون كل الأمور التافهة، أو يهتمون بها فلا ينسوها... هؤلاء ستكون أحاديثهم تافهة أيضًا..
كذلك تصوّروا مثلًا إن أراد أحد أن يصلى. ووردت في ذهنه وذاكرته كل الأخبار والأحاديث التي عبرت به في يومه... أتراه يستطيع أن يركز في فكره في الصلاة؟! أم يسرح فيما يتذكره!
وأيضًا إن أراد أحد أن يذاكر درسًا، أو أن يكتب بحثًا، أو أن يناقش موضوعًا هامًا، أتراه يستطيع ذلك، بينما في ذهنه كل التافهات التي مرّت به طوال يومه؟ أليس من المفيد له أن ينساها، ولو إلى حين!
إن النسيان إذن هو عملية غربلة حيوية، تغربل في الذهن وفي الذاكرة جميع المعلومات والمعارف والمناظر والسماعات، التي وردت إلى العقل، فتستبقى النافع منها، وتطرد ما لا يفيد، عن طريق النسيان...
لذلك فلنحاول جميعًا أن نتحكم في ميزان ذاكرتنا. فلا نستبقى فيها إلا كل ما يفيدنا. أما الباقي فننساه. من أجل هذا، سمح الله بوجود النسيان. على أنه يجب أن نكون حكماء في معرفة ما يفيدنا نسيانه. وما يجب علينا أن نتذكره.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7w78y3f