تحدثنا في المقال السابق عن تنوع النفسيات, وذكرنا بعضًا منها. واليوم نكمل هذا الموضوع بذكر أنواع أخرى , فمنها
هذه النفسية التي تتعب وتنهار في أية ضيقة تصادفها. وتبكى وتنهمر دموعها, وتستخدم العقاقير لكي تهدأ قليلًا أو تنسى. فتستخدم حبوبًا مهّدئة أو مسكنّة, وأحيانًا حبوبًا منّومة أو شبه مخدّرة, لكيما تخرج من المشكلة التي اصطدمت بها... أنها نفس مهزوزة غير قادرة على احتمال أية صعوبة في مسيرتها, وتحتاج إلى من يسندها باستمرار!
فإما أن يسندها معين يعينها, أو تسندها الأدوية!
إنها تُذَكَّرني بنوعين في زراعة العنب: هما العنب الأرضي, وعنب التكعيبة:
ففي العنب الأرضي تقلّم الشجرة, بحيث تقف وحدها...
بينما النوع الآخر يحتاج إلى تكعيبة يستند عليها! ولا يقوم إلا بها. وإن وقع من هذه التكعيبة, ينفرط على الأرض ويتلف...
وهكذا النفس الضعيفة المنهارة تحتاج إلى تكعيبة يستند عليها! وهذه التكعيبة إما أن تكون زوجًا, أو مرشدًا, أو تكون أبًا أو أمًا أو صديقًا وما أشبه ذلك, تستشيره وتطلب إرشاده, ولا تحيا بدونه...!!
هي نفس -في هدوئها- تشيع الهدوء في كل مكان توجد فيه... وهى أيضًا نفسية هادئة بشوشة تشيع الفرح بين الناس, حيثما وُجدت..
بالإضافة إلى كونها نفسية متعاونة مخدومة تساعد الكل وتريحهم..
وهى أيضًا نفسية هادئة شفافة. يمكن لأي شخص أن يطمئن إليها ويستريح.
كما يمكنك أن تستودعها أسرارك وأنت مطمئن, ويمكنك أن تسترشد بها, وأنت واثق بحكمة نصائحها...
وهى أيضًا نفسية فيها سلام داخلي مبنى على الإيمان, وفي داخلها اطمئنان حقيقي يجعلك مطمئنًا طالما أنت معها...
حساسيتها فوق الوصف, وهى حساسية من جهة ذاتها وراحتها وكرامتها. حيث أن أقل كلمة تتعبها وتجرح شعورها... وكأنها نوع من الحرير, إذا مرّ عليه أقلّ غبار يخدشه! إنها نفسية ناعمة إلى أبعد حد, لا تحتمل مرّ النسيم. فكم يكون الخطر إن هبّت عليها عاصفة!!؟
هذا النوع من النفسيات: إذا جلست إليها, فلا بد أن تتكلم بحرص, وأن تتعامل بحذر. وقبل أن تلفظ بكلمة, لابد أن تفكر جيدًا: هل هذه الكلمة تجرحها أم لا؟ وهل هي تشك فيها, أو أنها تفهمها بطريقة خاطئة!!؟ وبهذا الحرص تتجنب هذه النفسية خوفًا عليها!!
تشك في كل أحد, وتشك في زوجها إن كانت امرأة. وتشك في الزوجة إن كانت نفسية رجل. كما أنها تشك في رئيسها في العمل: أيريد ترقيتها أو يعطل ترقيتها أو يضطهدها بأية الطرق!!
بل أنها قد تشك في الله أيضًا, إذا تأخرت معونته, أو إن حدث ولم يستجب صلاة لها! أو إن ظنت أنه تخلى عنها في أي موقف!
وإن تكلمت مع هذه النفسية, قد ترى الشك في عينيها, وفي صوتها ولهجتها, وفي ملامحها. وتنظر إليك نظرة تشعر بها أنها تشك في كلامك...
وقد تطلب إليك أن تثبت كلامك ببراهين كثيرة. ويظهر الشك في نوع أسئلتها!.. أصحيح هذا؟ ولماذا؟ ومتى حدث؟ ولمن؟ ومن هو الشاهد على هذا؟ أسئلة كثيرة تحاصرك بها...!
وعلى رأى المثل "ما أسهل أن يدخل الشك إلى العقل وما أصعب خروجه"!
إنها تتشائم من كل شيء: من صوت الغراب, ومن صوت البوم, ومن وجوه بعض الناس إن اصطبحت بهم, وتقول حينئذ: يا رب استر. يا رب مرّر هذا اليوم على خير. ويدركها التشاؤم إن قرأت في إحدى الجرائد من طالعك في هذا اليوم, أو ماذا تقول النجوم..!
هذه النفس المتشائمة تشيع التشاؤم في عقول من يتعاملون معها من الناس. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ودائمًا تتوقع أسوأ النتائج وأسوأ الأحداث!! وإن سمعت عن حرب أو كارثة, تتوقع أن نهايتنا قد قربت..! وكذلك في المرض, تبالغ في مرضها! وتظن أنه سينتهي بكارثة أو بالموت! وإن حاول الطبيب أن يطمئنها, تشك في كلام الطبيب, وأنه يخفي عنها الحقيقة!
من الصعب أن تبتسم. زميلاتها في العمل يسمونها "كئيبة هانم"!
وقد تتحول الكآبة عندها إلى نكد. وتصبح شخصية نِكَدية, تشيع النكد في كل مكان تحل فيه, فتجدها دائمة العتاب, ولأي سبب. وتنظر إلى كل الأمور بمنظار أسود. وينطبق عليها قول الشاعر(1):
نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِينَا وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
إنها نفسية نقادة, دائمة النقد. وتصف كل شيء بالفساد, وتنادى بالإصلاح! ويُخَيَّل إليَّ إنها إذا نظرت أيضًا إلى المرآة, ستنادى كذلك بلزوم الإصلاح! وتقصد إصلاح المرآة طبعًا لتكون صادقة في تقديم صورة من ينظر إليها!!
مثل الأم القاسية أو الأب القاسي، في تربية الأبناء، إذ لا يجدان وسيلة لمواجهة أخطاء الصغار إلا بالقسوة. وكذلك كل من تكون له سلطة أو إدارة أو رقابة، ويستخدمها بقسوة في أحكامه...
إن النفس القاسية – ومثلها النقّادة، لا يسلم أحد منها، ومن لسانها "الذي تعود الشدة في التعامل مع غيره، صغيرًا كان أم كبيرًا... والعجيب أن هذا النوع يظن أن تصرفه سليم!!
هذه التي لا تكتفي, مهما نالت ومهما أخذت. ومنها يقول سليمان الحكيم "كل الأنهار تجرى إلى البحر, والبحر ليس بملآن"..!
مثال ذلك من لا يشبع من المال. بل يشتاق إلى المزيد, مهما كانت له من الثروة, ومن لا يشبع من المديح, ومن لا يشبع من النفوذ أو من الشهرة. وإنما يتطلع إلى ما هو أكثر...
والجشع قد يدفع صاحبه إلى طرق غير شرعية أو غير لائقة. وقد يلجأ إلى الغش أو التزوير أو الجريمة بأي نوع..
والعجيب أن هذه النفسيات لا تحب أن تتغير, ولا تقبل أي نصيحة. وهى لا تريد أن تتطور إلى أفضل. والحكيم من يفحص ذاته جيدًا.. ويحاول أن يرى العيوب التي فيها ويصلحها..
وبعد, وقد تحدثنا عن هذه النوعيات من النفوس, يُخَيَّل إليَّ أن هناك نوعًا نحتاج أن نكمل به موضوعنا, إن كانت هناك فرصة.
_____
(1) إضافة من الموقع: الشِّعر من كلمات أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي [الإمام الشافعي] (767-820 م.)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/ry2pxhm