حدثتكم في مقال سابق عن التواضع، وأهميته في الحياة الروحية، ومركزه بين الفضائل.
وأريد في هذا المقال أن أتابع هذا الموضوع، بالتحدث عن حرب عنيفة تقف في سبيل الاتضاع، وهي:
أول ملاحظة أقولها في هذا الأمر هي أن:
التعرض لمديح الناس شيء، ومحبة هذا المديح شيء آخر. قد ينال الإنسان مديحًا من الآخرين ولا يخطئ، ولكنه إن أحب هذا المديح قد أخطأ. إن الرسل والأنبياء والقديسين والشهداء والقادة الفضلاء، كل أولئك مدحهم الناس ولم يخطئوا... إنما الخطأ أن يحب الإنسان ألفاظ المديح ويشتهيها وتشكل جزءًا من رغباته.
والقديسون في كل جيل كانوا يهربون من المديح أيًا كان مصدره، سواء أتاهم المديح من الناس أو من داخل أنفسهم.
وبعضهم كان يتمادَى في هذا الهروب، ويبعد عن كل أسباب المديح وكل مناسباته، حتى وصل الأمر إلى أن كثيرًا من هؤلاء المتواضعين كانوا ينسبون إلى أنفسهم عيوبًا، وكانوا يتحدثون عن نقائصهم وأخطائهم أمام الناس، ولا يدافعون عن خطأ ينسب إليهم حتى لو لم يكن فيهم.
أما محبو المديح، فإنهم أنواع ودرجات:
1 أقلهم خطأ هو الإنسان الذي لا يسعى إلى المديح، ولكن إن سمع مديحًا من الناس فيه، فإنه يسر بذلك في داخله ويبتهج، وقد يبدو صامتًا لا يشعر أحد بما في داخله من إحساسات.
2 نوع أخطر من هذا، وهو حالة الإنسان الذي إذ يبتهج في داخله من ألفاظ المديح التي يسمعها، ويحاول أن يستزيد منها. كأن يقول عبارات تجلب له مديحًا جديدًا، أو يجر الحديث إلى موضوعات مشرفة له، أو يتمنع عن سماع المديح بألفاظ متضعة تجلب له المزيد من الثناء.
3 نوع ثالث أخطر من هذين هو حالة الإنسان الذي إذ يشتهي المديح، يحاول أن يعمل أعمال بر أمام الناس لكي ينظروه فيمدحوه. وهذا النوع هاجمة السيد المسيح، وقال عنه إنه: "استوفَى أجره" ولم يعد له أجر في السماء. ودعا الناس أن يصلوا في الخفاء، وأن يخفوا عن أعين الناس صومهم وصدقتهم وكل أعمال برهم.
والله الذي يرى في الخفاء، هو يجازيهم علانية. هؤلاء الذين يعملون البر في الخفاء، إنما يفعلون الخير حبًا في الخير، وليس حبًا في المديح.
4 هناك نوع رابع في محبة المديح، وهو أصعب من كل ما سبق، وهو حالة الإنسان الذي لا يكتفي بالوصول إليه، وإنما يتطوع لمدح نفسه، ويتحدث عن أعماله الفاضلة. وهكذا يقع في الزهو والتباهي والخيلاء... وقد يتمادَى في هذا الأمر فيمدح نفسه بما ليس فيه.
5 نوع خامس أسوأ من كل ما سبق، وهو حالة الإنسان الذي يشتهي المديح وينتظره، إذا لا يصل إليه، يكره من لا يمدحه، ويعتبره عدوًا قد قصر في حقة فلم يقدره ولم يعترف بفضله كما ينبغي. وقد يتمادَى في هذا الأمر فيتضايق أيضًا ممن يمدحه ولكن ليس بالقدر الذي كان ينتظره، وليس بالأسلوب الذي يشبع نهمه إلى العظمة والفخر...
مثل هذا الإنسان الذي يكره من لا يمدحه، ماذا تراه يفعل بمن ينتقده؟! إنه ولا شك لا يمكن أن يحتمل النقد ولا النصح ولا التوجيه، وطبعًا التوبيخ ولا الانتهار حتى ممن هو أكبر منه كأب جسدي، أو أب روحي، أو معلم أو مرشد أو رئيس (اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)... ويعتبر كل نصح أو توبيخ يوجه إليه، كأنه لون من الاضطهاد يقابله بالتذمر أو بالاحتجاج أو بالثورة والغضب.
6 على أن أسوأ درجة لمحبة المديح في نظري، هي حالة الإنسان الذي من فرط محبته للمديح يريد أن يحتكره لنفسه فقط، فلا يطيق أن يسمع مدحًا في شخص آخر، وإلا فإنه يكره نفسه ويحسد الممدوح.
وهكذا يعتبر من يمدح شخصًا غيره عدوًا له منحرفًا عن طريق صداقته، يشبه بحالة زوجة تحب رجلًا آخر غير زوجها... وفي الوقت نفسه يحاول أن يقلل من شأن الشخص الآخر الذي سمع مدحًا فيه، وربما يتهمه بتهم ظالمة ويسيء إلى سمعته، لكي يبقى وحده، ولا شيئًا له في عذاب الناس. من كل هذا نرى أن محبة المديح تقود إلى رذائل عدة نذكر هنا بعضًا منها...
أولًا – لا شك أن مُحِب المديح يقع في الرياء، ويحاول أن يبدو أمام الناس في صورة مشرفة نيرة خيرة غير حقيقته الداخلية، وقد يتظاهر بفضائل هو بعيد عنها كل البعد... قد يتظاهر بالصوم وهو مفطر، وقد يتظاهر بالصفح وهو حاقد، وقد يتظاهر بالحب وهو يدس الدسائس...
ثانيًا – قد يقع محب المديح في الغضب وعدم الاحتمال: فيغضب من كل من يوجه إليه نقدًا، ومن كل من يخطئ له رأيًا، كما يغضبه من يمدح غيره أو يفضل أحدًا عليه. وتكون الكرامة صنمًا يتعبد له في كل حين... وقد تراه ثائرًا في أوقات كثيرة يصيح صارخًا: "كرامتي... ومركزي...".
ثالثًا – قد يقع محب المديح في الحسد وفي الكراهية، ولا يكون قلبه صافيًا تجاه من يظن أنه ينافسه، أو من يظن فيه أنه نال كرامة أو منصبًا أو مديحًا هو أولى به منه... وقد تعذبه الغيرة والحسد إلى أخطاء أخرى عديدة...
رابعًا – قد يقع محب المديح في حالة عدم الاستقرار، فلا يثبت على حالة، وإنما يختار لنفسه في كل مناسبة الوضع الذي يجلب له مديحًا في نظر من يقابله حتى لو كان عكس موقف سابق له أو ضد رأى أبداه من قبل لنوال مديح من آخرين.
خامسًا – كثيرًا ما يقع محب المديح في الكذب أو المبالغة: فهو على الدوام يحاول أن يغطي أخطاءه ونقائصه بأكاذيب أو ألوان من التحايل، أو ينسب أخطاءه إلى غيره، ويظلم غيره لكي يتبرر هو... وقد يكذب أيضًا حينما ينسب إلى نفسه مفاخر وفضائل ليست له، أو عندما يبالغ في وصف ما يرفعه في نظر الناس، محاولًا في كل ذلك أن يخفي الآخرين لكي يظهر هو.
سادسًا – وقد يقع محب المديح في رذائل أخرى، كأن يدبر دسائس لمنافسيه في الكرامة، أو يشتهي موت أحدهم لكي ينال مركزه، أو يسلك في أسلوب التشهير بالغير لكي يبقى وحده في الصورة...
وعمومًا فإن محب المديح يخسر محبة الناس، لأن الناس تحب الإنسان المتواضع الذي يقدمهم على نفسه في الكرامة، والذي يختفي هو لكي يظهروا هم، والذي يمدح كل أحد، ويحب كل أحد، ولا يعتبر أحدًا منافسًا له...
ومحب المديح لا يخسر الناس فقط، وإنما يخسر أيضًا أبديته، ويبيع السماء وأمجادها بقليل من المجد الباطل على هذه الأرض الفانية... وكل الفضائل التي يتعب في اقتنائها، يبددها بمحبة المديح، ويأخذ آجر تعبه على الأرض، ولا يستبقي له أجرًا في السماء...
ومحب المديح قد يقع في خداع الشياطين التي إذ تراه مستعبدًا لهذه الشهوة، تضلله برؤى كاذبة وبأحلام كاذبة وبظهورات خادعة، وتوحي إليه بأشياء تضيع نفسه... أو قد تحاربه من جانب آخر فتدعوه بالغرور إلى درجات أعلى من مستواه يحاول إدراكها فلا يستطيع... وتضربه بضربات يمينية وتشتت هدوءه، وتجعله يعيش في قلق وفي جنون العظمة...
نطلب إلى الرب أن يعطينا جميعًا نعمة الاتضاع، فالمجد لله وحده، وله العظمة وله القدرة... وما أجمل قول المرتل في المزمور: "ليس لنا يا رب، ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس أعط مجدًا"... له المجد الدائم إلى الأبد آمين.
المقال مع بعض التعديلات نُشِر مرة أخرى في وقتٍ لاحق في جريدة الأهرام يوم 18 ديسمبر 2011
التعرض لمديح الناس شيء، ومحبة هذا المديح شيء آخر. فقد ينال الإنسان مديحًا من الآخرين ولا يخطئ. ولكنه إذا أحب هذا المديح واشتهاه، وأصبح جزءا من رغباته. فحينئذ يكون قد أخطأ. وهكذا نقول: إن الرسل والأنبياء والقديسين والشهداء والقادة الفضلاء... كل أولئك مدحهم الناس ولم يخطئوا.
† على أن القديسين في كل جيل كانوا بقدر إمكانهم يهربون من المديح أيا كان مصدره. سواء أتاهم المديح من الناس، أو من الشيطان، أو من داخل أنفسهم. وبعضهم كان يتمادَى في هذا الهروب. وبعيد عن كل أسباب المديح وكل مناسباته. حتى وصل الأمر إلى أن بعضًا من هؤلاء القديسين المتواضعين كانوا يتحدثون عن نقائصهم وأخطائهم أمام الناس، ولا يدافعون عن خطأ ينسب إليهم. حتى إن لم يكن فيهم.
† أما محبو المديح فإنهم أنواع ودرجات: وأقلهم خطأ هو الذي لا يسعى إلى المديح. ولكنه إذا سمع مديحًا فيه من غيره، فإنه يسر بذلك في داخله ويبتهج. وقد يبدو صامتا لا يشعر أحد بما في داخله من إحساسات.
† نوع آخر، هو حالة الشخص الذي يبتهج في داخله بسبب ألفاظ المديح التي يسمعها. ثم يحاول أن يستزيد منها. كأن يقول عبارات تجلب له مديحًا جديدًا. أو يجر الحديث إلى موضوعات مشرفة له. أو يتمني عند سماع المديح بألفاظ متضعة تجلب له المزيد من الثناء.
† نوع ثالث هو حالة الشخص الذي إذ يشتهي المديح، يحاول أن يعمل أعمال بر أمام الناس لكي ينظروه فيمدحوه! وهذا النوع هاجمه السيد المسيح وقال عنه إنه قد استوفي أجره على الأرض... ودعا الناس أن يعملوا الخير في الخفاء. والله الذي يرى في الخفاء يجازيهم علانية.
ولا شك أن الذين يعملون البر في الخفاء، إنما يفعلون الخير حبًّا في الخير، وليس حبًّا في المديح.
† هناك نوع رابع لمحبة المديح، وهو أصعب من كل ما سبق. وهو حالة الشخص الذي لا يشبع مديح بعض الناس له، فإذا به يتطوع لمديح نفسه! وتحدث عن أعمال فاضلة له... وبهذا يقع في الزهو والتباهي والخيلاء... وقد يتمادَى في هذا الأمر فيمدح نفسه بما ليس فيه.
† نوع خامس أسوأ مما سبق. وهو حالة الشخص الذي يشتهي المديح وينتظر. وإذا لا يصل إليه، يكره من لا يمدحه، ويعتبره عدوًا قد قصر في حقه، فلم يقدره حق قدره، ولم يعترف بفضله... وقد يتمادَى في هذا الأمر، فيتضايق أيضًا ممن يمدحه، ولكن ليس بالقدر الذي كان ينتظره، وليس بالأسلوب الذي يشبع فيه نهمه إلى العظمة والفخر.
† مثل هذا الشخص الذي يكره من لا يمدحه، ماذا تراه يفعل بمن ينتقده؟! إنه ولا شك لا يمكن أن يحتمل النقد ولا النصح ولا التوجيه. وطبعًا لا يقبل التوبيخ ولا الافتقاد حتى ممن هو أكبر منه كأبيه بالجسد، أو أبيه الروحي، أو أي معلم أو مرشد أو رئيس! ويعتبر كل نصح أو توبيخ يوجه إليه، كأنه لون من الاضطهاد، يقابله بالتذمر أو بالاحتجاج أو بالثورة والغضب.
† على أن أسوأ درجة لمحبة المديح في نظري، هي حالة الشخص الذي من فرط محبته للمديح، يريد أن يحتكره لنفسه فقط، فلا يطيق أن يسمع مدحا لشخص آخر. وإلا فإنه يكره المادح ويحسد الممدوح! وهكذا يعتبر من يمتدح غيره، بأنه منحرف عن طريق صداقته. كما لو يشبهه بحالة زوجة تحب رجلًا آخر غير زوجها! ومحب المديح هذا يحاول أن يقلل من شأن الشخص الآخر الذي سمع مدحا له. وربما يتهمه ظالما ويسيء إلى سمعته. وكل ذلك لكي يبقى وهو وحده، ولا شريك له، في إعجاب الناس.
† من كل ما سبق نرى أن محبة المديح تقود إلى رذائل عدة نذكر من بينها: فقد تقود من يحب المديح إلى الوقوع في الرياء، محاولا أن يبدو أمام الناس في صورة مشرفة نيرة خيرة غير حقيقته الداخلية، وقد يتظاهر بفضائل هو بعيد عنها تمامًا كأن يتظاهر بالصفح وهو حاقد، أو بالحب وهو يدس الدسائس، أو يتظاهر بالصوم وهو مفطر.
† وقد يقع محب المديح في الغضب وعدم الاحتمال. فيغضب من كل من يوجه إليه نقدًا، أو يخطئ له رأيًا. كما يغضبه من يفضل أحدًا عليه. وتكون الكرامة صنمًا يتعبد له محبو المديح في كل حين. وقد تراه ثائرًا في أوقات كثيرة يصيح صارخًا: كرامتي كرامتي.
† وقد يقع محب المديح في الحسد وفي الكراهية. ولا يكون قلبه صافيًا تجاه من يظن أنه ينافسه، أو في من يظن أنه نال كرامة أو منصبًا أو مديحًا هو أولى به منه! وقد تعذبه الغيرة والحسد بسبب كل هذا، وقد يجره الحسد إلى أخطاء أخرى عديدة.
† وقد يقع محب المديح في حالة عدم استقرار. فلا يثبت على حاله، وإنما يختار لنفسه في كل مناسبة الوضع الذي يجلب له مديحًا في نظر من يقابله حتى لو كان في عكس موقف سابق له، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى... وكثيرًا ما يقع محب المديح في الكذب أو المبالغة. وكثيرًا ما يغطي أخطاءه أو نقائصه بأكاذيب أو ألوان من التحاليل، أو ينسب أخطاءه إلى غيره، ويظلم غيره لكي يتبرر هو، أو يشتهي موت غيره مما نال مركزًا يشتهيه هو.
† وعموما فإن محب المديح يخسر محبة الناس. لأن الناس تحب الإنسان المتواضع الذي يقدمهم على نفسه في الكرامة، والذي يختفي لكي يظهروا هم، والذي يمدح كل أحد، ويحب كل أحد، ولا يكره منافسا له.
ومحب المديح لا يخسر الناس. إنما يخسر أيضًا أبديته. ويبيع السماء وأمجادها بقليل من المجد الباطل على هذه الأرض الفانية. وكل الفضائل التي يتعب في اقتنائها، يبددها بمحبة المديح.
ومحب المديح قد يقع في خداع الشياطين، التي تضلله برؤي وأحلام كاذبة وبظهورات خادعة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/q35dhyn