محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16
بولس هنا يُظهر أنه منقاد بالروح القدس، ويدعونا أن نعطي فرصة للروح القدس أن يقودنا ويعلمنا ويعمل فينا.
آية 1:- "وَأَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ الْكَلاَمِ أَوِ الْحِكْمَةِ مُنَادِيًا لَكُمْ بِشَهَادَةِ اللهِ،"
سبق في (1: 28) أن قال أن الله اختار المزدرى وغير الموجود ليعمل بهم. وهو هنا يحسب نفسه من بين المزدرى وغير الموجود الذي أرسله الله ليكرز. وبولس لم يأتي بفلسفات عالية عالمية أو بشرية، فأية حكمة أو فلسفة عالمية هذه القادرة أن تجعل أحداُ يؤمن بإله هو نجار صُلِبَ ومات ويقول بولس أنه قام. هذا يحتاج لقوة عمل الله الذي عمل في بولس فتكلم، وعمل في أهل كورنثوس فتحركت قلوبهم وآمنوا. ولاحظ أنه يكلم اليونانيين وهؤلاء قد اشتهروا بالفلسفة والحكمة. وهناك أنواع من الحكمة:-
حكمة عالمية: يحصل عليها الإنسان من خبراته في هذه الحياة وهي تفيد في هذه الحياة لكنها لا تصلح للكرازة.
حكمة شيطانية: وهذه نجد الإنسان فيها يكذب ويحتال ويغش ليصل إلى ما يريده، والحكمة التي تستخدم في الشر تسمى خبث، وهذه مرفوضة تمامًا.
حكمة يعطيها الروح القدس: وهذه هي التي تكلم بها بولس في كرازته وهذه الحكمة طالما هي من الروح القدس تكون مصحوبة بقوة تؤثر في السامع.
آية 2:- "لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا."
الصليب هو علامة حب الله غير المحدود لنا "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو 15: 13). والتأمل فيه يلهب النفس بحب الله إذ نكتشف محبته. لذلك كان موضوع كرازة بولس هو الصليب ولم يترك هذا الموضوع، فجوهر الحياة المسيحية هو الصليب، والمسيح المصلوب الذي دفع ثمن خطايانا... "بموتك يا رب نبشر" (البشارة بالصليب ليست كلام وعظ بل قبول صلب الجسد وتقديمه ذبيحة حية، وقبول الصليب الذي يسمح به الله بشكر) ولذلك نجد الصليب في كل مكان في الكنيسة. ومن ينشغل بحب المسيح الظاهر على الصليب فهو لن يلتفت لشيء آخر مثل الخصومات، وهذه ناشئة عن الأنا، بل أن الصليب له قوة تأثير على النفس فينسى الإنسان كل ما عداه. إذ لا يؤثر في الخاطئ فلسفات الكلام ولا السفسطة(1) بل أن الله أحبه ومات لأجل أن يغفر له. وصليب المسيح عكس الأنا تمامًا.
آية 3:- "وَأَنَا كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ، وَخَوْفٍ، وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ."
الرسول كان في ضعف وخوف.. (1) واجه مقاومة شديدة من اليهود واليونانيين دون أي حماية مادية.
(2) كان خائفًا على من آمنوا أن يضعفوا فيتركوا الإيمان "مَنْ يضعف وأنا لا أضعف؟" (2كو 11: 29).
(3) كان خائفًا أن لا تنجح رسالته. ولكنه لم يأتي بشجاعته الشخصية ولا معتمدًا على فلسفته أو قوته، بل كان معتمدًا على قوة الله، فالقوة والشجاعة تناسب إنسانًا يعتمد على نفسه. ولذلك نجد في (أع 18: 9) أن الله يشجعه قائلًا "لا تخف بل تكلم ولا تسكت لأني أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك " (أع 18: 9، 10). والخوف طبيعي ناشئ من ضعف الطبيعة البشرية.
آية 4:- "وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ الْحِكْمَةِ الإِنْسَانِيَّةِ الْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالْقُوَّةِ،"
لم أعتمد في كلامي وكرازتي على إثباتات عقلية بل على عمل الروح القدس الذي أقنع السامعين فتركوا شهواتهم الماضية وتابوا بل صارت لهم مواهب وعمل عجائب. وعلى كل منهم أن ينظر داخله ليرى ثمار الروح = برهان الروح والقوة = قوة تغييرهم من حال إلى حال. فإذا كان الله هو الذي عمل فيه وفيهم فلماذا يتحزبوا له أو لغيره ويكون هناك شقاق.
آية 5:- "لِكَيْ لاَ يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ النَّاسِ بَلْ بِقُوَّةِ اللهِ."
لم يستعمل بولس الحكمة البشرية لئلا يُنْسَبْ إيمانهم لفضل بشري فيتعطل صليب المسيح. فكل حكمة بشرية هي متزعزعة غير ثابتة. بينما قوة الله فثابتة، والروح القدس يُعطي الإقناع للسامع، ويُعطي الكارز قوة عمل المعجزات.
آية 6:- "لكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ الْكَامِلِينَ، وَلكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هذَا الدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، الَّذِينَ يُبْطَلُونَ."
الكاملين = الناضجين روحيًا أي المتقدمين في حياتهم الروحية، الذين اختبروا المسيحية كقوة تغيير في حياتهم تجعلهم مولودين من جديد بحياة جديدة وليس كعلم ونظريات فقط. لكننا نتكلم بحكمة = سبق في آية 4 وقال أنه لا يتكلم بحكمة وكان يقصد بذلك الحكمة الإنسانية. وهنا يقول أنه يتكلم بحكمة أعطاها له الروح القدس. وهذه الحكمة يفهمها الكاملين.
حِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هذَا الدَّهْرِ
= حكمة هذا الدهر لا تستطيع أن تقنع أحد بالمسيحية، بل لها ميول واتجاهات خاطئة من غش وتحايل وكذب وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ = مثل مجمع السنهدريم ورؤساء الكهنة عند اليهود ومثل هيرودس وبيلاطس وملوك الرومان، وعظماء الفلاسفة اليونانيين، فهؤلاء قادتهم حكمتهم لأن يصلبوا الرب يسوع، وهؤلاء العظماء يُبْطَلُونَ = مصيرهم الزوال وسلطانهم مؤقت، لذلك ففي كرازتي أنا بولس لا أعتمد على هؤلاء بل على قوة الله.
آية 7:- "بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ اللهِ فِي سِرّ: الْحِكْمَةِ الْمَكْتُومَةِ، الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا،"
بِحِكْمَةِ اللهِ فِي سِرّ
= حكمة الله هي تدبير الله للخلاص أي تجسد وفداء المسيح، وبالصليب تم خلاص اليهود والأمم، وصار لهم ميراث السماء وحصولهم على أجساد ممجدة = لِمَجْدِنَا. وهذا هو الإنجيل الذي يبشر به بولس. وما كان بولس الرسول يبشر به كان مخفيا وفي سر = وكان هذا سرًا مكتومًا منذ الأزل، وتدبير حصول الإنسان على كل هذا كان بحكمة لكنها غير معلنة = الحكمة المكتومة، لم يُكشف لا لليهود ولا للأمم بل ولا للملائكة. وإحتفظ به الله سرًا حتى لا يفسد الشيطان خطة الصليب (آية 8). وما زال هذا الأمر سرًا على غير المؤمنين وعلى الأشرار والأطفال في الإيمان. هو سر لا يدركه العقل البشري وحده دون أن يستنير بنعمة الروح القدس. وبالروح نكتشف ما أعده الله لنا من مجد. وتدبير الخلاص أزلي أي أنه غير مُسْتَحْدَث. والله كضابط الكل يجعل الأمور تسير بحرية الناس ولكن يتم من خلال هذا قصد الله.
آية 8:- "الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ."
هنا مقارنة بين الكاملين الذين انكشفت لهم أسرار المجد الأبدي، وبين عظماء هذا الدهر الذين في عماهم الروحي لم يكتشفوا شخص المسيح فصلبوه. وهذه لنا دعوة للتواضع وعدم الشعور بالعظمة، فهذا يطمس العيون، ونعيش في حسد وخصام. لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد = هذه تنطبق أيضًا على الشياطين، إذ أنهم لو عرفوا حقيقة الفداء، ومن هو المسيح لما حركوا يهوذا ولا رؤساء الكهنة ولا اليهود، بل لحاول الشيطان أن يوقف الصليب. ولاحظ أن المسيح قال عن الشيطان " رئيس هذا العالم" (يو 14: 30) فهم عظماء هذا الدهر.
آية 9:- "بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ»."
هذه راجعة لآية7 - فقد قال الرسول "الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا" = وهذا المجد الذي أعده الله، نفرح بأن نتكلم عنه، بينما عظماء هذا الدهر المتكبرين مشغولين بأمجادهم الزمنية. فكانت لهم أمجاد السماء التي نتكلم عنها بالنسبة لهم سرا = نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ اللهِ فِي سِرّ (آية7).
كانت حكمة الله المكتومة في سر ليست فقط في الفداء بل في أنه أعد أمجاد أبدية للإنسان. هنا يظهر الرسول أن حكمة الله التي وهبها لنا، بها نعرف الأمجاد التي أعدها الله لنا في المسيح يسوع. وما أعده الله لنا كان سرًا مخفيًا قبل المسيح، والآن فالروح يعلنه لنا. ولا توجد آية صريحة اقتبسها بولس الرسول بهذا المعنى. ولكن بولس فهم هذا من (إش 64: 4 + 65: 17 + إر 3: 16). أضف لهذا ما ذكره الكتاب عن المجد الذي فيه الملائكة (ويكفي الأوصاف التي قالها الله نفسه عن الكاروب الذي سقط وصار شيطانًا (إش14، حز28)، ويقول داود النبي في المزمور عن الإنسان أن "الله أنقصه قليلا عن الملائكة وبمجد وبهاء تكلله" (مز8: 5) وما حدث مع موسى إذ رأى النذر اليسير من مجد الله. فبولس استعان بهذه الآيات وأعاد صياغتها بإرشاد الروح القدس. وإذا كنا لا يمكن أن نتصور ما فيه الملائكة من مجد إذ هم يرون الله، فقطعا لن نتصور ولا يمكن أن يخطر على بالنا ما سنكون عليه حينما نرى الله.
آية 10:- "فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ."
الله أظهر لنا هذه الأشياء المكتومة بواسطة روحه الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله = وقوله يفحص إشارة للمعرفة الدقيقة الكاملة، فهو يعرف الأشياء العميقة والسرية التي تختص بالله، وبالتالي يعرف مقدار حب الله لنا وما أعده لنا من أمجاد، هو يعرف فكر الله وقصده وتدبيراته. هنا نرى تمايز الروح القدس عن الآب كأقنوم. والله يعلن لنا هذه الحقائق السماوية حتى نشتهيها. ونحن في المسيح اقتنينا حواس روحية يفتحها الروح القدس ويدربها (عب 5: 14) وهذه غير الحواس الجسدية، وبهذه الحواس تكون لنا القدرة أن نلتقط ونعرف إعلان الروح لنا. والخطية تطمس هذه الحواس الروحية، لذلك فالإنسان الطبيعي (المولود بحسب الجسد) (يو 1: 12، 13) لا توجد له هذه الحواس الروحية، وبالتالي لا يستطيع أن يحكم على الروحيات، أمّا المولود من الله فله هذه الحواس. ومن طمست الخطية حواسه الروحية يقول عنه الكتاب " لك اسم أنك حي (بحواسك الجسدية) ولكنك ميت (بدون حواس روحية) (رؤ 3: 1).
أمثلة للحواس الروحية:-
النظر:- "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8).
السمع:- "مَنْ له أذنان للسمع فليسمع ما يقوله الروح للكنائس" (رؤ 3: 6).
التذوق:- "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مز 34: 8).
اللمس:- "جاءت من ورائه ومست هُدْب ثوبه" (مت 9: 20) + قال يسوع "مَنْ الذي لمسني" (لو 8: 45) "هذه لمسة كلها إيمان" لذلك قال "قوة خرجت مني" (لو 8: 46).
وما يكشفه الروح القدس من خلال هذه الحواس الروحية قال هو عنه "أننا ننظر كما في لغز أو مرآة" (1كو13: 12) ولكن ما يكشفه كافٍ جدًا أن نقول معه "لي إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح فذاك أفضل جدًا.." (فى1: 23).
آية 11:- "لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ."
نستطيع أن نفهم أن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله بالنظر لأنفسنا فلا يوجد من يعرف ما في داخلي سوى نفسي، خفايا قلبي لا يعلمها سواي، هكذا لا يعلم أمور الله سوى روح الله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). لذلك نفهم أننا بالعقل يستحيل أن ندرك أمور الله أو نعرف الله، ما لم يعلن الروح القدس لنا "ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاّ بالروح القدس" (1كو 12: 3).
آية 12:- "وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ،"
روح العالم = قد تعني الروح التي اتخذت معرفتها وحكمتها من هذا العالم الغريب عن الله. وقد تعني الروح التي لم تتجدد بعد ويسود عليها الشيطان الذي يطمس بصيرتها فلا يمكن أن تفهم أو تقبل البركات الروحية المذخرة لنا في الصليب (2كو 4: 4 + أف 6: 11، 12). وقد تعني روح العالم روح إبليس الذي قيل عنه "الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أف 2: 2). بل الروح الذي من الله = نحن أخذنا نعمة الروح الذي أعطى لنا من الله لكي نعرف ما وهبه لنا الله، بل أصبحنا نفهم أسرار الله بسهولة كسر الفداء والتجسد
آية 13:- "الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضًا، لاَ بِأَقْوَال تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ."
الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا
= الروح القدس ليس فقط يفتح أعيننا على ما أعده الله لنا في السماء، بل هو الذي يعطينا ما نتكلم به، فبحكمة من الروح القدس نتكلم في الروحيات وليس بحكمة بشرية كالتي يستخدمها البشر في تعاليمهم. الأشياء التي وهبت لنا من الله هي التي نفتخر بها ونعلم بها، ولكن طالما هي روحيات فالأمر متروك لا لحكمتنا البشرية، بل لما يرشدنا إليه الروح القدس ويضعه في أفواهنا. قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ = بالروح القدس ننعم بمقاييس روحيه صادقة فلا نحكم على الروحيات بمقاييس بشرية زمنية، بل نقارن الأفكار الروحية بأفكار روحية والحقائق الروحية نفسرها بحقائق روحية بإرشاد الروح القدس. فبالمقاييس البشرية فمن يترك العالم ويبيع كل ما يملك ويوزعه على الفقراء ويذهب للدير، هذا يعتبر نوع من الجنون، ولكن بالمقاييس التي يعطيها الروح القدس أن مثل هذا الإنسان، إذ عرف الرب يسوع ومحبته حسب كل الأشياء نفاية (في 3: 8). وبالمقاييس البشرية فلا أحد يقبل الآلام والصليب، أما بالمقاييس الروحية فالمؤمن يفرح بها فهي الطريق الوحيد للكمال، ولنتشبه بالمسيح (عب2: 10) وليحيا فيَّ المسيح (غل 2: 20). ومن هذه الآية نفهم خطورة استخدام الآية الواحدة. فإن أردت أن تفهم موضوع اجمع كل الآيات حول هذا الموضوع، فمقارنة آية بآيات أخرى هي مقارنة روحيات بروحيات فكل الآيات موحى بها من الروح القدس.
آية 14:- "وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا."
الإنسان الطبيعي = هو الإنسان المولود بحسب الطبيعة من أب وأم، وُلِدَ من دم ومن مشيئة جسد، مشيئة رجل (يو 1: 13). مثل هذا الإنسان يقول عنه (المزمور 51: 5) " هانذا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي " ويسميه الرسول هنا " الجسدي" (1كو 3: 1-4) ويسميهم في (رو 8: 5-8) الذين هم حسب الجسد. والإنسان الجسدي هو من لم تتجدد طبيعته ولم يولد من جديد، ولم يحل عليه الروح القدس، ولم تعمل فيه نعمة الروح القدس فلم يتجدد قلبيًا وذهنيًا، يعيش فقط لحياته الجسدية وشهواته، مثل هذا الإنسان تكون كل مقاييسه مادية ولا يفهم الروحيات. لا يقبل التعاليم الروحية التي يعلم بها روح الله، بل تبدو أمامه كما لو كانت غير منطقية أو كأنها جهالات (1كو 1: 23). فالمرأة ساكبة الطيب تصور البعض أن ما عملته هو إتلاف. والولادة الثانية من الماء والروح لم يستطع نيقوديموس أن يفهم معناها. هذا الإنسان الجسدي لا قدرة له على فهم الأمور الروحية فهذه لا يمكن فهمها إلاّ بواسطة الاستنارة التي يعطيها الروح القدس وهذه ليست موجودة عند الإنسان الطبيعي. مثل هذا الإنسان الطبيعي من طبيعته أنه بسبب الأنا الموجودة فيه يدخل في خصومات وشقاقات ويكون كثير المشاكل (1 كو 3: 1-4). هذا الإنسان يكون غير خاضع لعمل الروح القدس الذي يملأ القلب محبة. هذا الإنسان الطبيعي يريد إثبات ذاته فيتشاجر ويحسد، والحسد فكر داخلي يترجم لعمل خارجي هو الخصومات. لأنه عنده جهالة = الإنسان الطبيعي يعتبر التجسد والفداء والقيامة جهل. يحكم فيه روحيًا = كل مالروح الله لا يميزه إلاّ من يسكن عنده روح الله فيعطيه استنارة ويحرك ذهنه ليقتنع، وحينئذ يطيع الإنسان الوصية بالفكر والإرادة والعاطفة.
آية 15:- "وَأَمَّا الرُّوحِيُّ فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ."
وأمّا الروحي = الإنسان الروحي هو من آمن واعتمد وحل عليه الروح القدس، ويحيا في توبة ونقاوة، فتكون حواسه الروحية مفتوحة. هذا الإنسان الروحي لم يعد إنسانًا طبيعيًا بل صار مولودًا من الله (يو 1: 12). هذا عملت فيه النعمة فجددت ذهنه وفتحت حواسه، صار خليقة جديدة في المسيح (2 كو 5: 17). لقد أعاد الروح القدس تشكيله من جديد. وهناك مشكلة فإن بعض المؤمنين إذ يسقطون في خطايا كثيرة يعطون لأنفسهم العذر، أنهم مثل باقي البشر، وهذا فيه إنكار لعمل الفداء وتجديد الروح القدس. ولنعلم أن من لا يصير خليقة جديدة تختلف عن العالم فلا نصيب له في السماء (غل 6: 15). الإنسان الروحي لو أهين سيسمع صوت الروح القدس " لا تنتقم لنفسك " فيقول لمن أهانه " الله يسامحك". مثل هذا الإنسان يسمع عظة أو يقرأ في الكتاب المقدس فيتزلزل داخله، صارت له حساسية لصوت الله، ولو دعاه أحد لخطية ينفر نفورًا شديدًا.
وكيف نكون روحيين؟ بأن نمتلئ من الروح. وكيف نمتلئ من الروح؟ بالصلاة والطلب بلجاجة أن نمتلئ (لو 11: 13،9 + لو 18: 1 – 8 + أف 5: 18-21) ولاحظ أن الإنسان الطبيعي أقصى ما يصل إليه أن يعيش بحسب حكمة هذا العالم، لكنه لا يستطيع أن يمتد ببصره إلى السماء، يفرح بها أو يشتهيها أو يراها. أما الروحي فيستطيع أن يرى السماويات ولكن قطعًا كما في لغز كما في مرآة (1كو 13: 12). فالروحي حصل على الروح القدس الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله. ولكن عمل الروح القدس يبدأ بالتبكيت على الخطية وعلى البر.. ومن يستجيب يبدأ الروح يعلمه، فهو يعلم ويذكر بما قاله المسيح وبعد هذا يخبرنا عن المسيح فنحبه ومن يمتلئ قلبه حبا تنكشف له السماويات (يو 16: 8 – 10) + (يو 14: 26) + (يو 16: 14) + (1 كو 2: 10). هذا أسماه الرسول "محبة المسيح الفائقة المعرفة" أي الدخول في علاقة محبة متبادلة مع المسيح، فيعرفنا المسيح أسرار فائقة لا يدركها الإنسان الطبيعي (أف3: 19).
ولاحظ أن الرسول هنا يعاتب أهل كورنثوس على التحزبات والشقاقات بينهم (من يتبع بولس ومن يتبع أبلوس، ولكن وراء كل هذا الأنا). ومعنى كلام الرسول أن من لا يزال في شقاق فهو جسداني. أمّا الروحاني الذي انكشفت له أمجاد السماء، فهو في فرح بما انكشف له، وما عاد منشغلًا بأي تفاهات في هذا العالم، بل ما عاد منشغلًا بذاته ولا بهذه الأنا.
ولاحظ السلم الروحي الذي في هذه الآيات. فقاع السلم، من فقدوا الحواس الروحية، ولم يعرفوا المسيح فصلبوه. ومثل هؤلاء اليوم من لا يوافق على أحكام الله ويصطدم به. وقمة السلم الإنسان الروحاني وعينه مفتوحة على السماء، أحب المسيح وشبع به، ورأى أمجاد السماء.
هذا الإنسان الروحي الذي تجدد بالروح القدس ويقوده روح الله. فهذا تكون له الإمكانية أن يحكم في كل شيء، فهو يستطيع أن يحكم على الأشياء المادية بحكم أنه إنسان. ويستطيع أيضًا أن يحكم في الروحيات بفاعلية الروح القدس الذي يسكن فيه. لقد صار له روح التمييز، فالروح القدس يفتح الحواس الروحية. أما الإنسان الطبيعي فلا يُدرك حقيقة الإنسان الروحي ولا الأمور الروحية.
آية 16: - "«لأَنَّهُ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ فَيُعَلِّمَهُ؟» وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ."
لأن من عرف فكر الرب فيعلمه = الاقتباس من (أش 40: 13) أي الإنسان الطبيعي لا يُدرك ولا يستطيع أن يدرك الإنسان الروحي، فهو غير مستنير بروح الله، وهذا لا يستطيع أن يعرف فكر الله ومشيئته. مثل هذا الإنسان ليس من حقه أن يحكم علينا أو يعلمنا لأنه لا يعرف فكر المسيح. ما يُريد الرسول أن يقوله أن حُكم الفلاسفة على تعليمي باطل فهم لا يعرفون فكر الله. أمّا من عَرِف فكر الرب فهذا يستطيع وله الحق أن يُعَلِّمَهُ للناس، وهذا ما يعمله الرسول. وأمّا نحن فلنا فكر المسيح = الله في محبته حين رآنا غير قادرين أن نقترب إليه بسبب آثامنا، اقترب هو إلينا ليخلصنا، ووضع فينا أن نثبت في المسيح وتكون لنا الحياة هي المسيح (في 1: 21) (راجع في المقدمة - نقطه (Ι) في "كيف فهم بولس الرسول أهمية الألم والصليب") وبهذا وضع الله فينا كل ما للمسيح حتى فكر المسيح، وفكر المسيح هو فكر باذِل(2) وليس فكر شقاق وخصومات. وإن كان الله يعطينا فكره فكيف ننحاز لأشخاص. وهذا هو موضوع الإصحاح القادم الذي يتكلم عن الشقاقات.
ملحوظة:- مَنْ له فكر المسيح كيف يحكم فيه من أحد.
ولا يعني هنا أننا صرنا نعرف كل ما يعرفه المسيح، بل أن ما نعرفه هو من عنده. وأيضًا نفرح بعمله وندرك مقاصده ولا نعترض عليها، ناسبين له الحكمة المطلقة في كُل مَا يعمله.
← تفاسير أصحاحات كورنثوس الأولى: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير كورنثوس الأولى 3 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص أنطونيوس فكري |
تفسير كورنثوس الأولى 1 |
_____
(1) إضافة من الموقع: السفسطة: "(سفسط) أي غالَط وأتى بحكمة مضللة (من اليونانية: σόφισμα) - (السفسطة) قياس مركب من الوهميات والغرض منه إفحام الخصم وإسكاته - (السفسطي) المنسوب إلى السفسطة - (السوفسطائية) فرقة ينكرون الحسيات والبديهيات وغيرها (الواحد سوفسطائي). المرجع: كتاب المعجم الوسيط - إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، محمد النجار - تحقيق: مجمع اللغة العربية.
(2) إضافة من الموقع: باذِل، أي يبذل نفسه عن الآخرين ويضحي من أجلهم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/5f55wv4