محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
مكابيين ثاني: |
أراد يهود أورشليم أن يشركوا أقرانهم في مصر فرحتهم في الاحتفال بالتدشين، فأرسلوا لهم يحثّونهم على ذلك شارحين الظروف والملابسات المتعلقة بهذه المناسبة التاريخية العظيمة، والتي لا يزال الاحتفال بها سارياً حتى اليوم وإن اتخذ مظاهرًا مُغايرة لما كان يجري في السنوات الأولى بعد تدشين الهيكل.
1 إلى إخوتهم اليهود الذين في مصر سلام من إخوتهم اليهود الذين في أورشليم وبلاد اليهودية أطيب السلام. 2 وليحسن الله إليكم ويذكر عهده مع إبراهيم وإسحق ويعقوب، عبيده الأمناء. 3 وليؤتكم جميعًا قلبًا لأن تعبدوه وتعملوا بمشيئته بقلب كريم ونفس
راضية، 4 ويفتح قلوبكم لشريعته ووصاياه ويحل السلام. 5 وليستجب لصلواتكم ويصالحكم ولا يخذلكم في أوان السوء. 6 ونحن الآن ههنا نصلي من أجلكم. 7 كنا نحن اليهود قد كتبنا إليكم في عهد ديمتريوس، في السنة المئة والتاسعة والستين، ما يلي: "في أثناء الضيق والشدة التي نزلت بنا في تلك السنين، بعد ارتداد ياسون والذين معه عن الأرض المقدسة والمملكة، 8 فإنهم أحرقوا الباب وسفكوا الدم الزكي، فابتهلنا على الرب فاستجاب لنا، وقربنا الذبيحة والسميذ، وأوقدنا السرج وقدمنا الخبز". 9 فنكتب الآن إليكم بأن تعيدوا أيام الأكواخ التي في شهر كسلو.
تبدو الرسالة هنا مثل الرسائل الفصحية التي بدأ البابا أثناسيوس الرسولي في توجيهها إلى كنائس العالم لتحديد عيد الفصح، حيث كانت تلك الرسائل السنوية فرصة لمعالجة بعض الخلافات أو تصحيح بعض المفاهيم. هناك أمثلة لمثل تلك الرسائل اليهودية في (أخبار الأيام الثاني 30: 1-9؛ استير 9: 20-32) حيث ربطت الرسالتان بين الدعوة إلى التوبة ومراعاة الاحتفال بالعيد(1)
كانت الجالية اليهودية في مصر أكبر الجاليات التي تسكن خارج أورشليم، ويرجع وجودها هناك إلى ما قبل القرن السادس، وقد جاء تعبير: اليهود الذين في مصر (آية 1): في اليونانية τοιςκατ Αιγιπτον ويعني: المبعدين في مصر. غير أن وجودهم في مصر تأكد وتثبّت في عهد البطالمة والذين منحوهم العديد من الامتيازات ليشجعونهم على الاستقرار هناك، فقد قام بطليموس فلادلفوس بترجمة التوراة إلى السبعينية، كما سمح بطليموس السادس لحونيا بن حونيا الثالث ببناء هيكل في مصر سنة 150 ق.م. على غرار هيكل أورشليم، وكما شغل اليهود ثلاثة أحياء سكنية في الإسكندرية من مجموع ثمانية أحياء، فقد شغلوا كذلك المناصب الرفيعة في الجيش والبلاط الملكي، إضافة إلى وجود شريحة كبيرة منهم من الموسرين.
فقد كان من اليهود بعض من رجال البلاط سواء في العاصمة أو الأقاليم، مثل أرسطوبولس المذكور في هذا الأصحاح ودوسيتيوس Dositheos بن دريميلوس Drimylos والذي كان يشغل وظيفة مرموقة في بلاط كل من بطليموس الثالث وبطليموس الرابع، فقد عمل كسكرتير للملك في سنة 240 ق.م.، وكما كان أونياس موظفًا كبيرًا ربما قائدًا Strategos في إقليم هليوبوليس . وقد سجّلت إحدى البرديات خطابًا رقيقًا موجهًا إليه من هيرودس وزير مالية بطليموس السادس فيلوميتور الذي عرف عنه ميله إلى اليهود، حيث يبدو من الرسالة وكأن هذا القائد في هليوبوليس يمت لهيرودس بصلة قرابة (1) كما كان رئيس الشرطة في "أتريب" يهوديًا في الغالب، وبعض رجاله كذلك.
كما شغل اليهود وظائفًا كبيرة في الإدارة المالية مثل مديري البنوك في عهد بطليموس السادس وبطليموس الثامن، وكان أحد أولئك المديرين اليهود في طيبة وآخر في قفط. كما تولى أحدهم الأشراف على "مخزن التبن" ومنهم من كان جابيًا للضرائب، ومع أن جمع الضرائب كانت مهنة تثير الكراهية ولا تمثل كسبًا ماديًا، إلاّ أنها تقرّب إلى الحكام، ومن هؤلاء اشتهر سمعان بن ألعازر. وكذلك شغل اليهود الكثير من المهن مثل النسيج والنجارة والفخار والنبيذ والزراعة وغيرها.
وبرغم تخوف اليهود من بطليموس الثامن (يورجيتيس الثاني) إلا أن الأخير أصدر عفوًا عامًا، فعمّ السلام في البلاد حتى موته سنة 116 ق.م. ومن بعد وفاته ازداد نفوذ كليوبترا الثانية المناصرة لليهود، ومن بعد موتها استولت كليوباترا الثالثة ابنة السابقة وأرملة يورجيتيس على الحكم، حيث أعلنت تعاطفها مع اليهود وتحالفها مع الحونيين (نسل حونيا) رغم كراهية بطليموس التاسع -ابنها- لهم، وهكذا استمرّ دعم الحكام المصريين لليهود زمنًا طويلًا.
كل ذلك يؤكد لنا اندماج اليهود في المجتمع البطلمي، مما حدا بالبطالمة منحهم العديد من الامتيازات، منها الحق في أن يعيشوا طبقًا لشريعتهم وتقاليدهم Tois patrias namois chresthai، ويشير المؤرخ استرابون إلى أنه كان على رأس الجالية اليهودية هناك رئيس Ethnarches يباشر سلطات قضائية وإدارية، كما يرجّح أنه كان لهم "سنهدريم" على غرار الموجود في أورشليم(1) ومع كل ذلك فإنه من المستبعد أن يكونوا قد حصلوا على حقوق "المواطنة" إذ كان ذلك يلزمهم بالاشتراك في العبادة الوثنية والتخلي عن تمسكهم بإلههم (يهوه) ويرد في كتاب المكابيين الثالث (سفر غير قانوني) أن بطليموس الرابع عرض على اليهود الحصول على المواطنة شريطة أن يعبدوا "ديونيسيوس" فلما رفضوا ذلك اضطهدهم كثيرًا، غير أنه ندم في وقت لاحق وسمح لهم بقتل كل يهودي استجاب لدعوته السابقة على الوثنية!
وكما كان في مصر هيكلًا كبيرًا -كما سبق- فقد أقام اليهود أيضًا العديد من المجامع في أقاليم مصر، فيما يشبه الجاليات والتي كان يطلق عليها "بوليتوما" ولكن أكثر الأسماء التي أُطلقت على دور العبادة Synagoague, proschoche (2) ومع عدم اعتراف اليهود بهيكل مصر المقام في "لينتوبوليس" سنة 150 م. إلاّ أنهم يرسلون إليهم يعزونهم ويشجعونهم، بسبب الاضطهادات التي يلاقونها على يد بطليموس الثامن(3).
استخدمت هذه التحية من زمن بعيد "شالوم" أي سلام، وفي السبت سلام خاص "شالوم شبات" أي سلام السبت، وهي التحية الكتابية الضاربة في القدم، والتي تعني السلام الآتي من الرب، فهو مصدر السلام الحقيقي، ويسأل يعقوب أب الأسباط أهل حاران عن لابان خاله قائلًا: "هل له سلامة فقالوا له سلام" (تكوين 29: 6) وكان السلام هو عطية الله لشعبه متى ساروا في طرقه (لاويين 26: 6) هكذا يقول هرون للشعب "فيرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا (العدد 6: 26) في حين يقول الرب "لا سلام قال الرب للأشرار" (إشعياء 48: 22). غير أن السلام الحقيقي قد تحقق للبشرية عندما صالحها الله بدم ابنه "وصار لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح" (أعمال 10: 36) بل صار هو نفسه "سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا" (أفسس 2: 14). هذا وقد أرفق القديس بولس الرسول سلامه في الرسائل بالنعمة فصارت تحيته للأمم عبر الرسائل، نعمة وسلام، حيث كانت النعمة هي تحية الرومان، راجع (رومية 1: 7 وكورنثوس الأولى 1: 3 وغلاطية 1: 3) وكانت تحية الرب يسوع لتلاميذه "سلام لكم" (لوقا 24: 36 ويوحنا 20: 19، 21، 26). وقد التقطتها الكنيسة لتبدأ بها كل صلاة وكل خدمة ليتورجية، وفي كل مرة تسحب الكنيسة من ذلك الرصيد الذي تركه الرب يسوع لها "سلامًا أترك لكم سلامي أنا أعطيكم" (يوحنا 14: 27) وهكذا صارت التحية التقليدية بين الناس: "السلام والنعمة".
وفي الآيات العشر الأولى من هذا الأصحاح ترد كلمة السلام أربع مرات، فقد كان كل من يهود مصر وأورشليم أحوج ما يكون إلى هذه العطية في تلك الأيام، مُلحّين على الله أن يذكر عهده مع إبراهيم واسحق ويعقوب فيحميهم ويزيد من رقعة أراضيهم ويكثر من نسلهم.
وجاءت في اليونانية καρδια μεγαλη وهي ترجمة حرفية من الأصل العبري (بقلب كامل ونفس راضية)(1).
عندما تنحصر الصلاة في تحريك الشفاه ورفع اليدين، فهي بذلك مازالت عند مستوى الفريسية وإتمام القانون فحسب، وأما العبادة الحقيقية فيعمل الحب كدافع خلفها. إن العبادة المقبولة هي تلك التي تأتي كتعبير عن الحب الموجود بالداخل من نحو الله مما يهبها الحرارة والفرح والسخاء..! وبالتالي فهي ليست بدافع الخوف أو الرغبة في العطايا أو جريًا لعادة "وأنت يا سليمان ابني اعرف إله أبيك واعبده بقلب كامل ونفس راغبة لأن الرب يفحص جميع القلوب ويفهم كل تصورات الأفكار.. " (أخبار الأيام الأول 28: 9). ويمكننا أن نجد صدى لمضمون هذه الآية في (تثنية 5: 26؛ إرميا 32: 39).
إنه القلب الذي تجد فيه وصايا الرب الطريق ممهدًا، تسكن فيه فتطهره وتتخذ لها فيه مكانًا، أنه القلب الذي يجد فيه الله راحته قائلًا ههنا أسكن لأنّي اشتهيتها" (مزمور 132: 14) وهو القلب الذي يوجد مستعدًا دائمًا ليفتح للرب حالما يطرقه فيدخل إليه وفيه يصنع منزلًا "إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلًا" (يوحنا 14: 23) وهكذا يحل السلام في القلب. ويبدو هذا التحوّل في المصطلح من "العينين" إلى "القلب" في (مزمور 119: 18) والأذنين (هوشع 13: 6-8) "أشق شغاف قلبهم" ويظهر هذا الُمصطلح في العهد الجديد في (أعمال 16: 14) وبعض الصلوات اليهودية. وقد تحقق ذلك ليهود الإسكندرية وهم أول جماعة مسيحية في مصر - منذ حضورهم يوم الخمسين ثم بشارة القديس مرقس بينهم بالإنجيل.
يأتي تعبير يتصالح هنا ترجمة للكلمة العبرية "يغفر". والتعبيرات في هذه الآية نجد لها شبيهًا في: (ملوك أول 8: 30، 34، 36، 39، 49-50) راجع أيضًا: (أخبار الأيام الثاني ص 6). لقد تراءف الله في ملء الزمان على البشرية الصارخة إليه عبر آلاف السنين، وتمّت المصالحة الحقيقية بدم يسوع المسيح فبعد هذا الزمان الذي تُقرأ فيه هذه الرسالة بقليل: ولد المسيح الحقيقي ليتم هذه المصالحة الفريدة، بعدما بدا أن الخصومة قد استحكمت ما بين السماء والأرض "ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة" (كورنثوس الثانية 5: 18). وها نحن نطلب كل يوم من صلاحه ألاّ يخذلنا وألاّ يعاملنا بحسب خطايانا، وإنما بحسب بره وخيريته، وأن كنّا في احتياج إلى ذلك كل يوم فكم بالأحرى في زمن السوء، عندما تهبط العزائم وينشب اليأس مخالبه ويشتكي الشيطان على بني الإنسان "الرب الإله إلهي معك. لا يخذلك ولا يتركك.." (1 أخ 28: 20).
إنها وصيّة الرب نفسه "صلوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفوا" (يعقوب 5: 16) وفي العهد القديم يطلب الشعب إلى موسى أن يتوسّل إلى الرب عنهم ليرفع الحيات (العدد 21: 7) وفي سفر صموئيل يرد: "وقال جميع الشعب لصموئيل صل عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت" (صموئيل الأول 12: 19) وقد طلب الله من أصحاب أيوب أن يلتمسوا صلاته لأجلهم (أي 42: 8).
إن محبتنا لبعضنا البعض وصلاة أحدنا عن الآخر تفرّح قلب الله فيستجيب الطلبة، بل يقول الآباء: (أنه من أجل محبة الذي لم يخطئ غفر الله للذي أخطأ) ذلك أن أحد الرهبان سقط في خطيئة فلم يرد العودة إلى الدير إذ كان في القرية لقضاء بعض الشئون، ولكن راهبًا آخر من ديره قابله في القرية وعرف منه ما حدث وعدم رغبتة في العودة، فشجعه بأنه خاطئ مثله ولكنه ليس في مثل اتضاعه لأنه أخطأ هو الآخر ولكنه لم يعترف بخطيئته كما فعل هو، وأشار عليه بالعودة معًا إلى الدير ليطرحا أمرهما قدام الشيوخ، والذين وضعوا على الاثنين قانونًا صعبًا من الأصوام والميطانيات metanoia. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). وكان الراهب الذي لم يخطئ يقول أمام الله: يا رب أنت تعرف أنه لا ذنب لي في ذلك، ولكن احسب تعبي هذا لأخي. وقد ظهر الله لأحد الشيوخ معلنًا له أن الله قبل توبة الخاطئ من أجل محبة الذي لم يخطئ.
الضيق والشدة:
εν τη θλιψει και τη ακμη استخدم كاتب السفر هنا الأسلوب الكتابي في (صفنيا 1: 15): يَوْمُ
ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، ووردت في الترجمة السبعينية θλιψις και αναγκη
وفي الآرامية: (بعَقتا وبأولِصتانا)، وفي الفولجاتا اللاتينية: (in
angustiis et pressuris)،
وقد أوضح العالم جريتس أن الكلمة اليونانية ακμη
من αναγκη.
كتب اليهود لإخوتهم في مصر في السنة المئة والتاسعة والستين، أي عام (144 - 143 ق.م) يتحدثون عمّا حدث في عهد أنطيوخس أبيفانيوس في سنة (168 - 165 ق.م).أمّا ديمتريوس المقصود في هاتين الآيتين فهو ديمتريوس الثاني الملك السلوقي (145-125 ق.م.) وهو ابن ديمتريوس الأول، استردّ عرش أبيه من الإسكندر بالاس حيث عضده في ذلك بطليموس فيلوميتور ملك مصر، ولكن ديمتريوس الثاني هذا أساء إدارة البلاد وكان حكمه فاسدًا، مما دفع بأحد قواده المقربين وُيدعى تريفون إلى المناداة بأنطيوخس الخامس ملكًا وكان ما يزال صبيًا (1مكا11) وقد استمر ديمتريوس وهو بعيدًا عن العرش في محاولات متكررة لاسترداد عرشه غير أنه لم يفلح في ذلك، بل حوصر في النهاية في صور من قِبل كليوباترا حيث أعدم هناك. وقد لاقى اليهود اضطهادات شديدة منه ولم تفلح المعاهدات المتعددة فيما بينه وبينهم في اتقاء شروره، كما اتّسمت خطاباته إلى اليهود -حتى تلك المعتبرة وديّة- بالعجرفة والتعالي.
بعد أن استولى منلاوس على رئاسة الكهنوت فرّ ياسون إلى أرض بني عمون (2 مك 4: 26) إلى حصن ابن عمومته "هركانوس الطوبى" ويرى بعض العلماء أمثال بول لاب Paul Lapp أن قصر هركانوس والذي يُعرف الآن بـ"قصر العبد Qasr-el-Abd" كان هيكلًا وأن هناك وجه شبه بينه وبين هيكل مصر الذي شيّده حونيا الرابع (ابن شقيق ياسون)، فإذا كان هناك "هيكل انشقاقي" في المكان المُسَمَّى "عرق الأمير" في أرض بني عمون فسيكون ذلك شرحًا لتمرد ياسون على الأرض المقدسة.
وقد يؤيد هذا الرأي الفكرة القائمة حينئذٍ من حيث أن هيكل أورشليم لم يصر بعد "الموضع الذي اختاره الرب" -وذلك منذ السبي البابلي- ومن ثم يمكن أن تنتشر هياكل عدة في أنحاء مختلفة من البلاد، بل ربما اعتقد معارضي منلاوس في أورشليم أن العبادة الانشقاقية في أرض طوب هي شرعية، لا سيما وأنه يخدم فيها واحد من سلالة رؤساء الكهنة (ياسون).
ولكن مرسلو الخطاب هنا يؤكدون على شرعية هيكل أورشليم وبالتالي فقد وقع ياسون في خطية العصيان إذ أقام عبادة انشقاقية. وفي سفر التثنية يرد التحذير من إقامة هيكل آخر للمحرقات غير الذي يختاره الرب: "بَلِ المَكَانُ الذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِكُمْ لِيَضَعَ اسْمَهُ فِيهِ سُكْنَاهُ تَطْلُبُونَ وَإِلى هُنَاكَ تَأْتُونَ، وَتُقَدِّمُونَ إِلى هُنَاكَ مُحْرَقَاتِكُمْ وَذَبَائِحَكُمْ وَعُشُورَكُمْ وَرَفَائِعَ أَيْدِيكُمْ وَنُذُورَكُمْ وَنَوَافِلكُمْ وَأَبْكَارَ بَقَرِكُمْ وَغَنَمِكُمْ" (تثنية 12: 5، 6) كما يشير سفر يشوع إلى أن إقامة مذبح للمحرقات في عبر الأردن عمل من أعمال التمرد على الله (يشوع 22: 9-29).
في هاتين الآيتين إشارة إلى رسالة سابقة أرسل بها يهود أورشليم إلى أقرانهم في الإسكندرية سنة 142 ق.م. وفيها أطلعوهم على الشر الذي لحق بالأمّة من جراء ارتداد ياسون وأتباعه عن الشريعة وعن التقليد، كما سيجيء في (2مكا 4: 7، 23-26 و5: 5-7) حيث امتد خطرهم وأذاهم إلى القدس ذاته، من جهة أعمال التدمير والحرق التي شرعوا فيها(1)، مما نتج عنه تعطّل العبادة في الهيكل.
ولقد أساء ملوك اليهود إلى بلادهم وأنزلت خطاياهم البشعة الضيقات بالشعب. راجع (إرميا 19: 4) ولاسيّما يربعام بن ناباط، والذي يُطلق عليه "خاطئ خطاة إسرائيل" (الملوك الثاني 17: 21-23 وأخبار الأيام الثاني 13: 6). فقد أقام هياكلًا انشقاقية (منشقة) انظر (ملوك أول 12: 27-33) كما كان تمرد صدقيا على ملك بابل السبب المباشر في كارثة يهوذا وأورشليم النهائية (الملوك الثاني 24: 20 وأخبار الأيام الثاني 36: 13-19 وإرميا 52: 3 وحزقيال 17: 15). بل ومنسّى أيضًا الذي دنّس الهيكل بأن أقام فيه مذابحًا وثنية، ووضع تمثال السارية هناك وسفك دماءً زكية كثيرة (الملوك ثاني 21: 10-17 و24: 3، 4).
وهكذا وعلى نفس القياس نزلت الشدائد بالبلاد بسبب تمرد ياسون.
كان العام 143 ق.م. هو أول فرصة مناسبة لدعوة يهود مصر إلى الاحتفال بعيد التدشين، حيث لم يستطع اليهود إرسال مثل هذه الرسالة في سنة 164 عقب انتصارات يهوذا المكابي، ثم انكمشت القوة العسكرية لليهود بحلول صيف 163 عقب هزيمة يهوذا المكابي، أعقب ذلك حصارهم في الهيكل حتى يناير أو مارس 162 ق.م. وبذلك كان من المستحيل إرسال خطاب عيديّ إلى يهود مصر في نوفمبر أو ديسمبر 163. وقبل انتهاء الحصار أو عند نهايته أصبح ألكيمس رئيسًا للكهنة، وبسبب موالاته للسلوقيين، كان يعارض الاحتفال بذكرى الثورة المكابية. وفي سنة 150 ق.م. حظى حونيا الرابع برضى بطليموس السادس، وأصبح من ثمّ زعيمًا ليهود مصر حيث بدأ في التفكير في إقامة الهيكل الانشقاقي، ومن ثم لم يكن يهود مصر متحمسين للتعييد بعيد التدشين لهيكل أورشليم، لا سيما ولم يكن له رئيس كهنة، ولكنه ما أن تقلّد يوناثان المكابي رئاسة الكهنوت في خريف سنة 152 (1 مكا 10: 21) حتى تحمس اليهود في اليهودية للاحتفال بعيد التدشين. من جهة أخرى وعلى الصعيد المصري فإنه بعد موت بطليموس السادس تعاطف الأونيين واليهود مع قضية شقيقته الأرملة كليوباترا الثانية، ضد شقيقها بطليموس الثامن (يورجيتيس الثاني) ورغم معاناة الفريق التابع لكليوباترا في سنة 145 إلاّ أن قائديها اليهوديين حونيا ودوسيتيوس تمكنا من تحقيق تسوية سلمية لها، بحلول ربيع سنة 144، غير أن سلطتها تراجعت بحلول ربيع 142 ق.م. وربما بلغت اليهودية أخبار تراجع مكانة راعية الأونيين (الحونيين) مما أتاح للمناهضين لهم والمتحمسين للاحتفال بالعيد أول فرصة حقيقية لإرسال خطابهم إلى يهود مصر.
وفي عجالة سريعة وعلى سبيل التذكرة بعناوين الرسالة السابقة، يشيرون كيف تضرعوا إلى الرب من أجل نجاة الهيكل وإعلاء كلمة الشريعة واستئناف الخدمة والعبادة، وقد سمع الله لهم، فباشروا تقديم المحرقات والذبائح والتقدمات (1).
وعادت المنارة الذهب من جديد لتنير بالزيت المقدس، وُشوهد خبز الوجوه فوق مائدته من جديد. وكان إيقاد السرج (خروج 27: 20-21 ولاويين 24: 2، 3) وتقديم الخبز (خروج 25: 30 ولاويين 24: 5-9) من الطقوس الدائمة والتي أُشير إليها أيضًا في (أخبار الأيام الثاني 13: 11) وأن كان خبز التقدمة يتغيّر كل سبت وليس يوميًا (لاويين 24: 8).
أما تقديم البخور والذي لم يرد ذكره هنا والمنصوص عليه في (خروج 30: 7، 8 وأخبار الأيام الثاني 13: 11 و1مكا 4: 50 و2مكا 10: 3) فيرجع السبب فيه إلى أن أنطيوخس أبيفانيوس كان قد استولى على المجامر من الهيكل سنة 169 ق.م. (1مكا 1: 21) ولكن ذلك على ما يبدو لا يعني منع تقديم البخور. (راجع التعليق على 2مكا 2: 5 و10: 3 و1مكا 1: 45). هذا ويتفق ما ورد في (1مكا 4: 50-52 مع 2مكا 10: 3) في ترتيب مجموعة الإجراءات الطقسية: البخور، السرج، خبز التقدمة، كما يتفقان مع (الآية 8 هنا) باستثناء البخور.
ويعني هذا ضمنًا أن الله عاد فاختار هيكل أورشليم من جديد بعد رفضه عند سبي بابل في سنة 586 ق.م. وبالتالي يؤكد يهود أورشليم في رسالتهم هذه على أن الهيكل المركزي في أورشليم، ومن ثم فإن الهيكل الحوني (الأوني) في مصر ليس شرعيًا، وهو الأمر الذي طلبوا المغفرة من الله ليهود مصر بسببه (آية 5).
ومن المؤكد أن حونيا (أونيا) الرابع والموالين للهيكل الذي في لينتوبوليس Lentopolis لم يعتمدوا فقط على ما ورد في (إشعياء 19: 18-19) بل اعتبروا اليهودية غير الآمنة، وكذلك الهيكل الذي في أورشليم يفتقر إلى الكثير(1) ومن ثم اعتبر حونيا هيكله في لينتوبوليس مساويًا في الشرعية لهيكل أورشليم (راجع تثنية 12: 8-14 وإرميا 7: 3-15 وحزقيال 24: 21 ومراثي 2: 7) بل ربما اعتبر أتباعه أن هيكلهم أكثر شرعية من هيكل أورشليم لأن فيه كرسي نسل رؤساء الكهنة الشرعيين. ولكن يهود أورشليم يؤكدون أنه بحلول زمن التطهير في سنة 164 كان الله بالفعل قد ردّ لإسرائيل الميراث الذي لأرض الموعد (2 مك 2: 4، 17).
جاء ذلك بعد الكفاح المقدس للمكابيين والذي أرغم الحكام على منح اليهود الحرية الدينية والتي من أجلها ثارت تلك الحرب، وقد تمّت أعمال التدشين في ديسمبر (كسلو) راجع (1مكا 4: 59).
عيد الأكواخ "أيام المظال" (آية 9): وقد سُمي بهذا الاسم (أو العيد الذي يشبه الأكواخ) أو المظال، نظرًا للتشابه في مظاهر الاحتفال بين كلا العيدين، هذا ويقع عيد المظال أساسًا في أكتوبر / تشرين (10: 6، لاويين 23: 34 وما بعده) ففي عيد المظال توقد الشموع ثمانية أيام وهكذا عيد التجديد والذي سُمي بعد ذلك عيد الأنوار، وفي عيد المظال يحملون السعف والثمار وكذلك في عيد التجديد وغيرها من المظاهر المشتركة (كما سيجيء لاحقًا) (1).
هذا وتشير الرسالة الأولى (آية 2-6) إلى أن أحد الكهنة الأونيين (أتباع حونيا هو الذي أسس الهيكل المنشق في مصر، بينما توضح الآيات (7-9) أن خطية العصيان هي خطية
ياسون الأوني Jason the Oniad)).
10في السنة المائه والثامنة والثمانين من الذين في أورشليم واليهودية، والشيوخ ويهوذا، إلى أرسطوبولس مستشار بطليمس الملك والذي من ذريّة الكهنة المسحاء، وإلى اليهود الذين في مصر سلام وعافية.11بعد أن أنقذنا الله من أخطار جسيمة، نشكره جزيل الشكر على وقوفنا في وجه الملك، 12فهو الذي دحر الذين قاتلونا في المدينة المقدسة. 13فإن قائدهم ذهب إلى فارس في جيش يقال إنه لا يقاوم فسُحقوا في هيكل النّناية، بحيلة احتالها عليهم كهنة النّناية. 14 وذلك أنه جاء أنطيوخس ومن معه من أصدقاء إلى هناك متظاهرًا بأنه يريد الزواج من الآلهة، وفي نفسه أن يأخذ الأموال على سبيل المهر. 15 كان كهنة النناية قد عرضوا الأموال، فدخل هو مع نفر يسير إلى داخل المعبد، فلما دخل أنطيوخس، أغلقوا الهيكل 16وفتحوا بابًا سريًا في السقف وصعقوا القائد راجمين إياه بالحجارة. ثم قطعوه قطعًا وحَزّوا رأسه وألقوه إلى الذين كانوا في خارج الهيكل. 17 ففي كل شيء تبارك إلهنا الذي أسلم الكفرة إلى الموت.
هذه الرسالة والتي تبدو أقدم من السابقة بأربعين عامًا، هي دعوة للاحتفال بعيد التدشين (آية 18) والذي تم في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 164 ق.م، وفي هذه الرسالة يعرضون لملابسات هذا الاحتفال حتى يقف إخوتهم في مصر على جميع ما جرى في أورشليم من أحداث مثيرة، وكيف وقف الله معهم وعضدهم في جهادهم لمباشرة العبادة في الهيكل، هذا وقد أرسلت هذه الدعوة باسم يهود أورشليم واليهودية ثم مجلس السنهدريم (الشيوخ) ويهوذا المكابي والذي تدور أحداث السفر الثاني كله حول دوره هو في الأحداث المكابية(1).
وقد جاء تعبير "من الذين في أورشليم" في الأصل العبري (الشعب الذي في أورشليم) وفي اليونانية هكذا: (oi en IeosalumoiV = من أورشليم) وجاءت في اللاتينية كالأصل العبري (populus qui est jerosalim = الشعب الذي في أورشليم). وأمّا كلمة "الشيوخ" فقد جاءت في اليونانية (gerousia) وفي اللاتينية (سيناتوس).
أرسطوبولسAristobolus: اسم يوناني معناه (خير مشير) وهو يهودي سكندري من نسل كهنوتي، وبحسب ما أورده القديس كليمندس السكندري والمؤرخ يوسابيوس، فهو أرسطوطاليا (يتبع فلسفة أرسطو)، وقد عمل كمستشار لبطليموس السادس فيلوميتور (180-145 ق.م.) قام أرسطوبولس بكتابة تفسير رمزي للتوراة وأهداه لبطليموس، ويبدو أنه كان أكبر شخصية يهودية في مصر في ذلك الوقت (عميد اليهود) إذ عُنونت الرسالة باسمه(2)، وإذا كان فيلوميتور قد ملك حتى سنة 145 فإن هذه الرسالة ستكون سابقة على هذا التاريخ.
سلام وعافية: لعلها المرة الأولى التي يرد فيها لفظة عافية كتحية، وقد أتت بعد ذلك في (أعمال 15: 19) " فنعمًا ما تفعلون.. كونوا معافين" وأيضًا في (أع 23: 30) " كن معافى.. " وهي التحية التي أصبحت دارجة بين الكثيرين لا سيما عامة الناس..
بينما يدور نقاش كبير حول هويّة الملك المقصود في هذه الفقرة، تبرز عدة اقتراحات، فمن قائل أن المقصود هنا هو أنطيوخس الكبير الثالث، حيث يذكر له التاريخ حادثة محاولة نهب هيكل وموته بسبب ذلك، ومن قائل أنه أنطيوخس أبيفانيوس إذ أنه هو المَعْنِي بالرسالة وهو صاحب الدور الرئيسي في اندلاع الثورة المكابية. والأرجح هو الرأي الأخير ويؤكد ذلك العالم "كنابينباور Knabenbauer" ويقول أن الوصف يخصّ أنطيوخس أبيفانيوس، وإن كان الكاتب يعتمد على رواية أنطيوخس الكبير لا سيما بالرجوع إلى (2مكا 9: 2) وقد يكون في ذلك نوع من التمويه على غرار ما حدث في سفر الرؤيا، حيث أحسن أنطيوخس الكبير معاملة اليهود، وبالتالي فإن القراء سوف يستنتجون الشخص الآخر المقصود، بمعنى أنه: هكذا يعاقب الله كل من يناهض شعبه.!
وكان من الممكن أن تتشوّه الأنباء الأولى عن موت الملك والتي وصلت إلى أورشليم بفعل الشائعات، خاصةً في ظل موت أنطيوخس الثالث السابق له، ويجب أن يُؤخذ في الاعتبار دقة التواريخ للأحداث وترتيبها وفقًا لتسلسلها الزمني، فقد توفى أنطيوخس أبيفانيوس قرب أصفهان سنة 164/163 ق.م. وأعلنت وفاته في بابل في الشهر التاسع من السنة البابلية (فيما بين 20 نوفمبر و18 ديسمبر سنة 164 ق.م.، ومن المنطقي أن يكون خبر وفاته قد أعلن في أورشليم في وقت لاحق لإعلانه في بابل، ومن المؤكد أيضًا أن ليسياس -الحاكِم في ذلك الوقت- وأتباعه قد حجبوا خبر موته لأسابيع.
أما عن وصول الرسالة إلى مصر، فقد كانت المسافة بين أورشليم والإسكندرية 350 ميلًا تقطع في ظروف صعبة، وكانت العلاقات بين الإمبراطوريتين السلوقية والبطلمية سيئة خلال عام 164 ق.م. كما لم يكن من الممكن ليهود مصر أن يعبروا "أدومية" (2مكا 12: 32-37 و1مكا 5: 58-66) كذلك لم تكن لهم وسيلة للوصول إلى أيّ من الموانئ البحرية، إذ كانت هناك عداوة بينهم وبين أهل يافا (2 مك 12: 3-7) ويمنيا (12: 8، 9) وأشدود (1مكا 5: 68) والبطالمة (2مكا 6: 8). وعلى ذلك لم تكن هناك خدمة بريدية سريعة ما بين أورشليم والإسكندرية (كانت سرعة الرسول العادي تبلغ 60 كم/يوم (37.5 ميل) وبالتالي كانت الرسالة ترسل قبل موعدها بأسبوعين.
الله الذي يستحق كل الشكر.. فهو سيد التاريخ، والتاريخ الكتابي يمكن تسميته: "عمل الله مع شعبه" فهو السيد المطلق، وجميع الأحداث تجرى بسماح منه وهو مع ذلك يمنح شعبه الحرية الإرادية ويستخدم كل شيء لخير شعبه، والله لا يمكن أن يترك مصير شعب أو حتى شخص في يد أي شخص آخر أو قُوى أخرى، لقد مات جميع المضطهِدين بينما بقيت الكنيسة وبقى الكتاب المقدس علمًا وصخرة تتحطم فوقها جميع الآلات التي صُورت ضدهما على مر التاريخ.. وجدير بأولاد الله ألاّ يستسلموا للإحباط أو يتشككوا في تدخله، فإن خلاصه قريب.. ويؤمن الشعب أن كل ما يتعرض له من ضيق واضطهاد هو لتأديبه وسيؤول إلى خلاصه.
ورد هذا الاسم في المخطوطات اليونانية هكذا Νανναια وهي الإلهة الفارسية أناهيت أرطاميس أو أفروديت والهيكل المقصود هنا هو هيكل "برسابوليس persepolic" وهو هيكل أشوري كان يعبد فيه إله سومري قديم يدعى "إله المحبة" ثم أطلق عليه بعد ذلك "عشتار" السورية وهي تقابل ديانا "أرطاميس" في أفسس أو أفروديت، هذا وقد عرف الفينيقيون "عشتار" بأنها إلهة الخصب والحب، وقد سَمَّى الإيرانيين (الفارسيين) هذا الإله " أنوهيت" كإله للحب والجمال أيضًا، وأسماه الرومان: "فينوس" إله الحب والجمال، وعرف الهيكل في برسابوليس خلال القرن الثاني قبل الميلاد بهيكل "أرطاميس" (1).
أقيم الهيكل على هضبة تسمى "بيلوس" بالقرب من ألمايس (عيلام)، وكان أنطيوخس الكبير قد خضع لجزية ثقيلة وضعها عليه الرومان ضمن شروط الصُلح عقب هزيمتهم له، ولذلك فقد قضى السنوات التالية لهزيمته باحثًا عن المال أينما وجد لتأدية تلك الجزية السنوية، فلما سمع بما في ذلك الهيكل من كنوز وهو في نطاق مملكته سعى للاستيلاء عليها، وكان الهيكل زاخرًا بالفعل بالأرفف الذهبية والثياب المرصعة بالجواهر وأسلحة كثيرة تركها هناك الإسكندر للذكرى.
ولكن كنوز الهياكل والمعابد تحرسها ضمائر الناس ويتولون الدفاع عنها بكل قوتهم، ولا يسمحون بإنفاقها في أي اتجاه، وقد تكررت مثل تلك المحاولات لنهب الهياكل أكثر من مرة في أورشليم ذاتها، وهناك دافع القائمون على الهيكل عن كنوزه حتى الموت. ومن هنا فقد احتال كهنة هيكل النناية عليه مثلما احتال هو عليهم.
فقد حاول إقناعهم بأنه يريد مصاهرة الآلهة، وقد كانت هذه الفكرة منتشرة على نطاق واسع في ذلك الزمان لا سيما في مصر ويظهر ذلك من الألقاب التي كانت تُنسب لبعض الملوك مثل بطليموس ثيوّس (أي المؤلّه) أو كليوباترا ثيا (أي المؤلّهة)، وعندما زار الإسكندر مصر قام كهنة معبد آمون بتنصيبه ملكًا في ذلك الهيكل باعتباره ابنًا لآمون: ومن هنا أيضًا جاءت فكرة عبادة الأباطرة والملوك باعتبارهم سلالة الآلهة، ولعل السبب الحقيقي وراء ذلك، أن يفرض الملك تقدير الشعب له خوفًا من الآلهة!
وكان زواج ملك من إحدى الإلهات طقس له تاريخ طويل في بلاد ما بين النهرين والمناطق المحيطة، وقد قيل عن أنطيوخس أبيفانيوس أنه تزوج على هذا المنوال في سورية وأنه أخذ كنوز المعبد.
كان طقس تمثيلية زواج الملك من الكاهنة العظمى للإلهة إنانا (عشتار) قديم جدًا جدًا وكان الملك يقوم فيه بتمثيل دور الإله (دموزي) والكاهنة العظمى (للإلهة إنانا) فإن الزواج المقدس في رأي بعض الباحثين لم يتخذ شكلًا واضحًا إلا في زمن الملك دموزي في حدود 2700 ق.م. رابع ملوك سلالة الوركاء الأولى.... يعتقد الأستاذ كريمر مؤلف كتاب "طقوس الزواج المقدس " أن فكرة الزواج المقدس كانت بدعة أوجدها كهنة الوركاء وذلك عندما جعلوا من ملكهم دموزي زوجا للإلهة إنانا التي كانت مركز عبادتها في مدينة الوركاء.
ولكن الزواج بين الآلهة في العقيدة الدينية لسكان وادي الرافدين كان معروفًا، وكان زواج دموزي من إنانا واحدًا من الأمثلة الشهيرة له، إذ من المعروف عن سكان وادي الرافدين أنهم جعلوا لكل مدينة إلهًا وجعلوا له زوجة، وأنهم كانوا يحتفلون سنويا بزواج الإله من إلهة مدينتهم وذلك إيمانا منهم بأن ذلك الزواج الإلهي سيحقق على غرار زواج دموزي من إنانا زيادة في العطاء والخيرات في مظاهر الحياة الطبيعية. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). وترجع أقدم الأدلّة المكتوبة على هذا الزواج الإلهي إلى زمن كوديا (في حدود 2150 ق.م) أمير سلالة لجش الثانية، والذي يتحدّث في أحد نصوصه عن زواج ننكرسو، إله مدينة لجش من الإلهة باؤو. وهناك إشارات كذلك إلى زيجات إلهية أخرى نذكر منها زواج الإله ننا من الإلهة ننجال في أور.....، إن هذه الأمثلة وغيرها تدل بوضوح على وجوب التمييز بين نوعيين من الزواج المقدس أولهما، ولا شك أنه الأقدم، وهو ما يمكن تسميته بالزواج الإلهي الذي يتعلق بزواج إله المدينة من إلهتها. والثاني هو صورة تقليدية للأول، وهو ما يسمى بالزواج المقدس (Heiros Gamos) والذي من خلاله يقوم الملك بدور الزوج - الإله، بينما تقوم الكاهنة بدور الزوجة - الإلهة. وُيظهر ذلك أن الزواج المقدس مع طقوس واحتفالات دينية أخرى صار في الألف الأول ق.م. جزءا من الأكيتو أي أعياد رأس السنة التي كانت تستمر مدة 11 يومًا. وكانت مراسم الزواج المقدس (الملك من الكاهنة) تقام عادة، مثل غيرها من الطقوس الدينية، في المعبد وتحت إشراف الكهنة(1).
هكذا يتضح أمامنا الآن أن حجة أخذ الأموال كانت: دفع المهر!! ولكن الكهنة والذين أدركوا مبكرًا نيته الحقيقية فطنوا لذلك، إذ بينما بقى الجيش بالخارج دخل الملك وحاشيته، وقد جعل الكهنة في عرض الأموال والكنوز الطُعم الذي يصطادونه به(2)، وأغلب الظن أن الملك وحاشيته قد دخلوا الحجرة (الخزينة) التي تحتوي على الكنوز والأسلحة، فلما أصبحوا داخلها، أغلق الكهنة الأبواب وصعدوا على سطحها حيث أمطروا الملك ورجاله بوابل من الأحجار، وتبعوا ذلك بقطع رأسه هو ومن معه وألقوها لرجاله من أعلى السور حتى يوقعوا الرعب في قلوبهم.. وهكذا انتقم الله لليهود من المضطهد الشرير(1).
18 إننا مزمعون أن نعيد عيد تطهير الهيكل، في اليوم الخامس والعشرين من شهر كسلو، فرأينا من واجبنا أن نعلمكم بأن تعيدوا أنتم أيضًا عيد الأكواخ والنار التي ظهرت حين أعاد نحميا بناء الهيكل والمذبح وقدم الذبائح. 19 فإنه حين جُلِى آباؤنا إلى فارس، أخذ بعض أتقياء الكهنة من نار المذبح، وخبّأوها سرًا في جوف أشبه ببئر لا ماء فيها، وحافظوا عليها بحيث بقى المكان مجهولًا عند جميع الناس. 20 وبعد انقضاء سنين كثيرة، حين شاء الله، أرسل ملك فارس نحميا إلى هنا فأرسل سليلي الكهنة الذين خبأوا النار للبحث عنها. إلا أنهم، كما شرحوا لنا، لم يجدوا نارًا، بل ماءً خائرًا. فأمرهم أن يغرفوا منه ويأتوا به. 21 ولما أحضر كل شيء للذبائح، أمر نحميا الكهنة أن يرشوا بهذا الماء الخشب وما وضع عليه. 22 فصنعوا كذلك، ولما أشرقت الشمس، بعد أن كانت حينًا محجوبة بالغيوم، اتقدت نار عظيمة، حتى تعجب جميع الحاضرين.
هذه القصة المثيرة والممتعة معًا عن تطهير الهيكل (في اليونانية: ton kaqarismon tou ierou وفي (1 مكا 2:16) ton katarismon) يرويها يهود أورشليم لنظرائهم في الإسكندرية، في إطار إطلاعهم على الظروف المحيطة بهذا الاحتفال، أي قصة العثور على النار المقدسة من بعد مرور فترة زمنية كبيرة عندما حدث السبي البابلي، وهي النار التي أُنزلت أولًا من عند الرب لتشتعل في الذبيحة فوق المذبح (لاويين 9: 24) حيث ظلت مشتعلة من خلال المنارة لتستخدم في إيقاد الذبائح، ولذلك فإن أية نار تؤخذ من مكان آخر لإشعال الذبيحة أو إيقاد المنارة تعد "نار غريبة" وفي بعض المواقف التالية حين لم يكن مذبح ولا خيمة وكانت الذبيحة مقدسة للرب، فإن الرب كان يرسل نارًا من عنده، كما حدث مع ذبيحة جدعون (قضاة 6: 19-21) وكذلك داود (1 أخ 21: 26) وسليمان (2 أخ 7: 6) وهكذا لم يفقد الهيكل أي من امتيازاته حتى بعد كل ما تعرض له من البابليين. وتعد ظروف تدشين الهيكل بعد تدنيسه نفس الظروف الخاصة بفترة ما بعد السبي كما يظهر ذلك من سفري (حزقيال ونحميا) ويرجح أن تكون الأخبار الواردة هنا في السفر عن نحميا واكتشاف النار، مأخوذة عن "سجلات وتذكارات نحميا" وهو كتاب تاريخي مفقود.
بالرغم من أن السبي قد تم في عهد البابليين، فإن السفر يشير إلى مكان السبي هنا باعتباره فارس، ولا غرابة في ذلك فإن المكان هو هو بينما تغيرت أسماء البلاد والملوك (من آشور إلى بابل إلى فارس..) ومن آشور بانيبال وسنحاريب إلى نبوخذ نصر إلى كورش المذكور هنا. كما أن منطقة بابل كانت قد دخلت ضمن الإمبراطورية الفارسية بزوال مملكة بابل، وحتى العصر الروماني كانت تلك المنطقة تعرف باسم فارس، وهو أسلوب معروف في الكتاب المقدس إذ يُنسب الحدث أحيانا إلى اسم المنطقة الجديد، على الرغم من أن ذلك الاسم لم يكن موجودا أو معروفا أثناء الحدث، كحبرون ولوز وبيت إيل....
ماءً خائرًا (آية20): أمّا ما أخذه الكهنة الأتقياء مادة للإشعال فقد سميت نفطار فيما يشبه المواد الملتهبة، وجاءت في كتاب يوسيفون(1) أنهم وجدوا: " ماء مشحم - ماء مزيّت " أي ماء ثقيل القوام، كثيف، غليظ. وجاءت في اليونانية (to udwr = كالنفط)، وهو ما يفسر لنا معنى الماء الثقيل القوام المشحّم. كما جاءت الكلمة في أغلب المخطوطات اليونانية الأخرى (Nefuqaei = نفطاي) وهي مأخوذة من الكلمة اليونانية (Nefqar) التي تعني نفط، (راجع التعليق على آية 36).
وهناك نص قديم منسوب إلى أونيا الرابع يُفيد بأن إرميا النبي أمر أولئك الذين اقتيدوا إلى السبي بأن يأخذوا معهم قدرًا من النار، وأنه أعطاهم نسخة من التوراة ثم حذّرهم ألاّ يغفلوا وصايا الرب وألاّ يسمحوا بأن تزوغ قلوبهم إذا ما رأوا تماثيل الذهب والفضة والزينة التي عليها، وألاّ تفارق الشريعة قلوبهم. ويذكر ذلك النص أن إرميا ما أن تلقّى الرؤية الإلهية حتى أمر بضرورة أن يأخذوا معهم الخيمة والتابوت، ثم خرج إرميا إلى الجبل الذي صعد عليه موسى ليرى أرض الموعد وهناك رأى حجرة كهفية فوضع داخلها الخيمة والتابوت ومذبح البخور، ثم سدّ مدخلها، ثم جاء بعض ممن كانوا معه ليضعوا علامات للطريق إلى تلك الحجرة ولكنهم لم يهتدوا إليها، فلما علم إرميا بذلك وبخهم بقوله "سوف يظل الموضع مجهولًا حتى يجمع الله شعبه معًا في زمن الرحمة، وعندئذ سوف يظهر الله هذه الأشياء ثانيةً وسوف يُرى مجد الله والسحابة كما كانا يظهران فوق موسى" (1).
المعروف أن زربابل هو الذي أعاد تدشين المذبح سنة 536 ق.م. ثم ترميم الهيكل سنة 515 ق.م. (عزرا 2: 1، 2 و3 و6: 14-17 وما يليه وزكريا 4: 8)(2) أما نحميا فقد قام سنة445- 425 ق.م. بالاشتراك مع عزرا بتأسيس الجماعة اليهودية الجديدة، وأوقف منع البناء في أورشليم بمقتضى الأوامر التي صدرت في عهد أرتحثشتا الأول، وُيعرّف ابن سيراخ نحميا بأنه المشيّد المجيد وذلك في سياق يوحي للقارئ الفطن بأنه يطابق نحميا ب زربابل (سيراخ 49: 11-13) بل لقد ظن بعض يهود مصر - حيث كان سفر ابن سيراخ منتشرًا بينهم في ذلك الوقت - أن زربابل هو اسم آخر لنحميا!
وبالرغم من وجود سجلات خاصة بنحميا والتي تُعد "سفرًا مفقودًا" يربط فيه ما بين نحميا وإعادة تدشين الهيكل، إلاّ أن نحميا ربما يكون قد اضطلع بمهمة مواصلة أعمال الترميم والتجديد في أورشليم والهيكل، من خلال مشروعه الضخم (هلمّ نبني أسوار أورشليم ولا نكون بعد عارا)(1).
ولما أرسل ملك فارس وهو في الغالب أرتحتشتا (464-424 ق.م.) نحميا، كلف هذا بدوره شيوخ الكهنة وهم أبناء وأحفاد الكهنة الذين كانوا موجودين في عهد السبي، وعرفوا من خلال التقليد المتوارث ذلك المكان الذي خبأت فيه بعض أدوات الهيكل ومنها "النار" غير أنهم لم يجدوا سوى ماءًا متخثّرًا، فأحضروا منه ورشّوه على خشب فوق المذبح، وظهرت الشمس - مكانها أيضًاَ بفعل إلهي لإتمام الطقس - لأنها كانت محتجبة خلف الغيوم لفترة، وقد أشعلت النيران فأكلت الذبائح الموضوعة، مما طمأن الشعب بأن الرب قد قبل ذبائحهم، وكان ذلك أيضًا إيذانًا ببدء استئناف الخدمة من جديد، وهكذا جاء اشتعال النار في هذه الحالة كمعجزة إلهية " فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة" (ملوك أول 18: 38).
كما تجدر الإشارة إلى أن اليهود يقيمون علاقة ما بين تدشين المذبح على يد زربابل وعيد الأكواخ.أمّا عن علاقة بين عيد المظال والنار مذكورة في العديد من الآيات منها "ملوك أول 8:2 " (فَاجْتَمَعَ إِلَى الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ جَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ فِي الْعِيدِ فِي شَهْرِ أَيْثَانِيمَ. هُوَ الشَّهْرُ السَّابِعُ) وفي (أخبار الأيام الثاني 1:7) (وَلَمَّا انْتَهَى سُلَيْمَانُ مِنَ الصَّلاَةِ نَزَلَتِ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَكَلَتِ الْمُحْرَقَةَ وَالذَّبَائِحَ وَمَلأَ مَجْدُ الرَّبِّ الْبَيْتَ).
23وعند إحراق الذبيحة، كان الكهنة يصلون، فكان الكهنة مع يوناتان يبدأون، والباقون يجيبون مثل نحميا. 24صلاة نحميا: أيها الرب، الرب الإله، خالق الكل، المرهوب القوي العادل الرحيم، يا من هو وحده الملك والصالح، 25يا من هو وحده الكريم، وحده العادل القدير الأزلي، يا من يخلص إسرائيل من كل شر، يا من جعل من آبائنا مختاريه وقدسهم، 26تقبل هذه الذبيحة من أجل كل شعبك إسرائيل، واحفظ ميراثك وقدسه، 27وأجمع شتاتنا واعتق المستعبدين عند الأمم، وانظر إلى المحتقرين والممقوتين، ولتعلم الأمم أنك إلهنا، 28وعذِّب الظالمين والشاتمين بوقاحة، 29وأغرس شعبك في مكانك المقدس، كما قال موسى.
يبدو لنا من السياق أن هذه الصلاة رتّبها نحميا، بينما يرتّلها الُمحتفلون هنا بالتبادل (أنتيفونال) وهي واحدة من خدمات التسبيح في الهيكل حيث كان الكثير من فقرات التسبيح تتم بالمبادلة.. (مثل مرد المزمور: لأن إلى الأبد رحمته) وقد مثل الفريق الأول يوناثان الكاهن ومعه بقية الكهنة، بينما كان الفريق الثاني هو نحميا وبقية المصلين، ويجدر بالذكر أن هناك اثنان باسم يوناثان في عهد نحميا الأول هو يوناثان بن مليكو (نحميا 12: 14) وهو المقصود هنا، والآخر هو يوناثان بن شمعيا وهو أحد نافخي الأبواق (نحميا 12: 35)(1).
غير أن بعض المفسرين يرون أن يوناتان المقصود هنا هو شخص معاصر ليهوذا المكابي، وأن خدمة التسبيح المذكورة هنا بالتالي هي التي تمّت خلال احتفالات التدشين، وكانت على طقس التسبيح الذي تمّ في أيام نحميا، لأن "مثل نحميا" لا تعني أنه كان في أيامه بل أنهم ساروا على نفس ترتيب نحميا الذي وضعه، إذ جاء تعبير "مثل نحميا" في الأصل العبري: " كما صنع نحميا" وهذا مذكور في حانوكا حوما (كتاب طقسي يهودي عن عيد الحانوكا)، وفي التلمود الأورشليمي أيضًا: أن نحميا أوقف خورسان عظيمان يجيبان بعضهم بعضًا بهذا النشيد (نحميا 12: 27 - 31). بل قال رابي كاهانا في تفسيره لهذا الجزء من السفر أن المقصود هنا هو يوناتان أخو يهوذا، لأنه كان يقوم بدور الكاهن الأعظم، ولكنه بالطبع ليس يوناتان المكابي لأنه لم يكن حتى ذلك الوقت قد أصبح رئيس كهنة بعد.
تأكيد على وحدانية الله، أو استخدام أداة التعريف هنا تفيد أنه هو الإله الوحيد والرب الوحيد، وقد قيل ذلك في وقت كانت تنتشر فيه عبادات وثنية كثيرة وآلهة من الأصنام (راجع إرميا 10: 16 و51: 19 وإشعياء 45: 9). إنهم هنا يؤكدون ولاءهم لله وإيمانهم به.
من الطريف أن نذكر هنا أن الصيغة التكرارية الرب الرب.. (خروج 34: 6، 7 ومتى 7: 21، 22 ولوقا 6: 46) والتي تأتي للتأكيد والترجّي.. استخدمها الفريسيون في أيام المسيح على نحو ترديد الكلام باطلًا، مما استوجب توبيخهم من الرب باعتبار أن ذلك لن يكفي لدخول الملكوت، كما استخدمت بكثرة في صلوات يوم الكفارة. ومن هنا تُصلي الكنيسة في مدخل الأجبية: "ابشويس ناي نان. ابشويس ناي نان Poc? nai nan.. يا رب ارحم. يا رب ارحم" أي أنها تلتمس الملكوت من خلال رحمة الرب لا البر الذاتي..!!
هذا التعبير الموسيقي المبهج يعكس تكامل صفات الله الذي نعبده، فهو قوي مثلما هو رحيم، وهو لا يستخدم قوته بالبطش بالناس، فهو رحيم بهم من أجل عدله استخدم رحمته وهذه الصفات الأربع موجودة في صلاة نحميا (9: 31-33) راجع أيضًا: (تثنية 10: 17 وإرميا 32: 18).
بل لقد تغلبت رحمته على عدله والحديث معه بدالة، بل أن رهبته وقوته هي لتهذيبنا وخيرنا، وفي المقابل لدفع شر الأشرار عنا. وفي ذلك إشارة غير مباشرة إلى المضطهِد القاسي الذي يدّعى الألوهية: أنطيوخس أبيفانيوس ثيوس (أي المؤلّه) وكم كان عنيفًا مرعبًا للشعب، بينما ترفق الله بهم. وتؤكد هذه الفكرة الآية التالية "يا مَنْ هو وحده الملك والصالح" فهو صالح بقدر ما هو مالك الكل (كل أحد وكل شيء) ولم يمنعه سلطانه كملك من إفاضة الحب وممارسة الصلاح، بل أن الصلاح هو صفة لملكه فهو الملك الصالح.
هو وحده الكريم: فهو يعطي بسخاء ولا يعيّر، وهو يتميز بهذه الفضيلة وحده بشكل مطلق، كما أن عطاياه لا تتوقف على بر الشعب أو شره، بل يعطي على أساس تحننه وصلاحه، كما أن خطايانا مهما بلغت فإنها لن تقدر أن تحجب عنا عطاياه ومراحمه.
يخلص إسرائيل من كل شر: ليس لنا خلاص إلاّ به، فإنه وحتى الانتصارات التي حققها المكابيين في مطلع جهادهم، كانت بمؤازرة الله وليس بقوتهم الجسدية أو حكمتهم البشرية فقط، كانت الحرب مقدسة لأنها تهدف إلى العودة إلى العمل بالشريعة وممارسة الليتورجية، في حين أخفق المكابيون بعد ذلك مرارًا عندما انحرف الركب عن هدفه. لقد اختار الله أصفيائه من اليهود وجعل من جدودهم نواة لشعب دون غيرهم من الأمم، راجع: (تكوين 48: 16) ومازال اليهود يفتخرون بهذا الامتياز، وإن كانوا قد فقدوه برفضهم للمسيح المخلّص صالبين إياه.
اختيار الآباء وتقديسهم: يقصد بالتقديس هنا التخصيص لله، راجع: (إشعياء 41: 8؛ 44: 1، 2؛ نحميا 9: 7) كما يعني تخلصهم من المؤثرات الوثنية، ويتنبأ حزقيال النبي بأن الناس سوف يتقدسون ثانية، راجع: (حزقيال 20: 12 و37: 8 وخروج 31: 13 ولاويين 20: 8؛ 22: 32؛ إرميا 2: 3).
ولتكن الذبيحة مقبولة (آية 26): هكذا نصلي مرارًا في القداس الإلهي خلال الصلوات السرية " لتكن ذبيحتنا مقبولة أمامك.. عن خطاياي وعن شعبك..." إن قيمة الذبيحة المقدمة، لا في ثمنها أو نوعها وإنما قيمتها الحقيقية مكتسبة من قبول الله لها، فقد رفض الله الكثير من الذبائح لأنها لم تقدم باتضاع وقلب نقي، كما لم تعبّر عن حب وخضوع حقيقي لله باتضاع.
احفظ ميراثك وقدسه: إن الميراث الحقيقي للشعب، نصيبي هو الرب قالت نفسي.. إسرائيل هو نصيب الرب.. والتقديس هنا يعني التنقية والتبرير بقدر ما يعني التخصيص.. أي ليكن الشعب هو "خاصة الله".
الشتات والعتق (آية 27): يطلب اليهود هنا عن إخوتهم المُسْتَبعدين عند الأمم(1) وقد بدأ شتات اليهود منذ السبي الأشوري واشتد في عهد نبوخذ نصر ثم وصل إلى ذروته في سنة 70م. تحقيقًا لنبوة المسيح حتى أنه يندر أن توجد دولة لم يصل إليها اليهود في شتاتهم، وناهيك عن تشتتهم فقد لاقوا آلامًا واضطهادات لا توصف في أكثر الأماكن التي استقروا فيها بقدر ما سبّبوا لتلك البلاد من متاعب، والصفات الثلاث الواردة في الآية (الاستعباد - الاحتقار - المقت) واردة في: (إشعياء 49: 7) وفي أقدم وثيقة ليتورجية صلّى اليهود قائلين: وكما كان هذا الخبز قمحًا مبعثرًا على التلال والجبال ثم جُمع في واحد هكذا اجمع شتات شعبك.." والآن تضم إسرائيل ثلث عدد يهود العالم ويتبقى الثلثين خارج إسرائيل إذ يصل العدد الكلي خمسة عشر مليونًا، راجع (تثنية 30: 11؛ نحميا 1: 5، 8 ومزمور 147:؛ إشعياء 49: 6).
وتشير (الآية 28) إلى الذين تفوّهوا على الموضع المقدس مثل أنطيوخس أبيفانيوس ثم نكانور، وغيرهم من الجنود السلوقيين الذين أقاموا في "قلعة عكره". وعندما يطلب اليهود هنا العذاب لأولئك المجدفين فإن ذلك مرتبط بالنهاية الرهيبة التي لحقت بأنطيوخس.. فليكن كأنطيوخس جميع أعداء اليهود " فليكن كنابال أعداؤك والذين يطلبون الشر لسيدي" (1صم 25: 26) أنظر أيضًا (إشعياء 49: 25، 26 وقارن مع 29: 5 وإرميا 50: 33).
إغرس شعبك في مكانك المقدس: طلبة تقليدية في صلوات اليهود من قديم الزمن، إنها شهوة قلوبهم على مرّ الوقت، وكان موسى النبي قد طلبها من الرب عقب عبور البحر الأحمر ونجاة الشعب من العبودية المرة، وكما رفعهم (نزعهم) من أرض الغربة والشقاء فليغرسهم في جبل قدسه"..تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك المكان الذي صنعته يا رب لمسكنك المقدس الذي هيأته يداك يا رب" (خروج 15: 17) وها نحن نصلي كل يوم.. كما رتبت الكنيسة والتي التقطت هذه الآية منذ البداية لتجعلها ضمن التسبحة اليومية.. فنصلي أن يغرسنا الله في مسكنه المقدس هنا كنيسته، وأخيرًا في أورشليم السمائية(1).
30 وكان الكهنة يرنمون بالأناشيد. 31 ولما أحرقت الذبيحة، أمر نحميا بأن يريقوا ما بقى من الماء على حجارة كبيرة. 32 فلما فعلوا، اتقد لهيب امتصه النور المماثل المنبعث من المذبح. 33 فشاع ذلك وأخبر ملك فارس أن المكان الذي خبأ فيه الكهنة النار حين جلائهم قد ظهر فيه ماء طهر به نحميا والذين معه تقادم الذبيحة، 34 فسيجه الملك بعد التحقيق وجعله مقدسًا. 35وأعطى الملك الذين سلمهم إياه نصيبًا من الدخل الذي كان يجنيه منه. 36 وسمى نحميا والذين معه هذا السائل "نفطار" أي تطهير. ولكنه يعرف عند كثيرين بالنفط.
مازال الكهنة هنا يسبحون في غمرة من الفرح والرضى وجو من العاطفة الروحية الجياشة، وفي أثناء ذلك أمر نحميا بسكب ما تبقّى من الماء الذي أخذوه من البئر ليسكبوه فوق حجارة كبيرة في القدس، وعند ذلك إذا بنار عظيمة تتقد ولكن النور المنبعث من نار المذبح طغى عليها! هكذا يخطف المذبح والذبيحة الأضواء والاهتمام، ولعل في ذلك إشارة وتعليم هام حول ضرورة الانتباه إلى الذبيحة والالتفات إليها وعدم الانشغال بشيء آخر حتى ولو كان ظهورًا أو نورًا.. حيث كثيرًا ما ينشغل المصلى بأشياء أخرى غير الذبيحة.
أما الملك (وهو في الغالب ارتحثشتا) والذي سمع بأُعجوبة البئر والماء المعجزي، أرسل ليتحقق الأمر فلما تحقّق تعجب لذلك وأمر بإقامة سياج حول البئر ليجعل منه مزارًا ويضع له رسومًا للزيارة والتبرك بحيث يوهبون القائمون عليه من الحراس نسبة من الدخل بينما يورّد الباقي (أغلب الظن) إلى الملك في فارس. ولا شك أن الملك والذي كان يعرف عبادة النار والتي كانت منتشرة في أكثر من مكان (لاسيّما لدى الفرس)، كانت مثل هذه البئر والماء المعجزي الذي في باطنه كفيلة بأن تبهره.
يتحدث سترابو المؤرخ عن سائل يدعى نفثا إذا قرب من النار اشتعل، وأصل الكلمة "ظلمة"، وربما كانت فارسية الأصل، كما تدعى أيضًا "نفطار" حسبما يرد في النص هنا (أسموه نفطار أي تطهير).
وهكذا وبحسب ما ورد في هذا النص، فإن الاسم الشائع للبترول وهو النفط هو عبري الأصل عُرف من واقعة نحميا العجيبة، فإن نفطار جاءت في العبرية (نطهار = مُطهّر - تطهير) وهكذا هي في المدراش إذ يكتب بجانبه (kaqarismoV) أي (المّطَهِر)، وهناك الكلمة الأكادية Naptu والتي تحوّلت في العبرية إلى نفط Nepht وفي الأرامية نفتا Nephta أو Naphta أو(جونفطار)، وكتبت أحيانا (نفطاي). والمعنى الحرفي للكلمة هو "طليق" أو "أعلن خُلوه من أي التزام" ومنها جاء المعنى "طاهر أو تطهير"(1).
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُكتشف فيها النفط، بل لقد عُرف البترول عند السامريين والبابليين والمصريين وذلك بحلول عام 2000 ق.م.
_____
(1) بحلول زمن كتابة هذه الرسالة كان يهود مصر قد كفّوا عن استخدام اللغتين العبرية والأرامية في وثائقهم، إلاّ أن الرسائل العيدية كانت ترسل لهم بالعبرية.
(1) يهود مصر من عصر الفراعنة حتى سنة 2000م / عرفه عبده على. ص 05225
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق، الموسوعة اليهودية / د. عبد الوهاب المسرى / ج 4 البطالمة.
(3) يعتبر ايليا بيكرمان Elias Beckerman اول من لفت النظر إلى صحة هذه الوثيقة الصحيحة غير العادية، والتي شك بعض النقاد في صحتها، انظر: Jonathan Goldsten II Macc.p.138
(1) = كارديا καρδια: تعني أصلا قلب وهكذا في الآيات التي وردت فيها في العهد الجديد واستخدمت مرة كقاعدة للحياة الطبيعية (يملأ قلوبنا طعاما أع 14: 17) ومرة أخرى كقاعدة للطبيعة الأخلاقية والحياة الروحية (يو 4: 21، رو 9: 2، 2كو2: 4).
(1) أحرقوا الباب (آية 8): جاءت الكلمة في الأصل العبري بالجمع (الأبواب) وجاءت في اليونانية τον πυλωνα أي مفرد وليست مسبوقة بـπολη وهي أداة الجمع، لكنها في الأصل العبري (شعاريم = أبواب) أنظر: (1مك 4: 38).
(1) الذبيحة والسميذ: جاءت في الأصل العبري (زِبَح ومِنحاه = الذبيحة والتقدمة)، وفي اليونانية (σεμιδαλιν = ذبيحة ودقيق) والسميذ Tamid هو"التقدمة اليومية المستمرة" والتي كانت تتألف من المحرقات وتقدمة الخضروات. أنظر)أخبار الأيام الثاني 13: 11 وخروج 29: 38-42 وعدد 28: 3-8. (
(1) قائمة الحاخامات بالأشياء الناقصة في الهيكل تشمل كل شيء.!
(1) أيام الأكواخ:لم يكن للعيد حتى ذلك الوقت اسم عيد الحانوكا "عيد التجديد" (1مك 56:4). ويقول عنه يوسيفوس في (الآثار اليهودية 12: 325): "يدعى الحانوكا باسم عيد الأنوار φωτα".
(1) ليس هناك إخلال بالترتيب هنا، إذ ذكر مجلس الشيوخ بعد الشعب، فكلا الترتيبان موجود في كثير من الوثائق.
(2) فُقد هذا التفسير وإليه أشار كليمندس السكندري، باستثناء بعض اقتباسات أخذها عنه بعض الكتاب المسيحيين. وقد أجاب أرسطوبولوس - وقد لُقب بـ"معلم الملك" - في كتابه على استفسارات مليكه فيما يتصل بالشريعة، وكان في طريقة عرضه الفلسفي للشريعة متحفظًا ووسيطًا لدى المتهللنين، وربما مبكتًا لتشدد ياسون الهيللينى، انظر: Jonathan A. Goldsten, II Macc.
(1) النّناية: هي إلهة سومرية بابلية الأصل، لها العديد من النقوش على مختلف القطع فخارية والخواتم وتحت صورتها كتب (نانا - نانيا) وهي زوجة الإله بيل في ميثولوجيا آسيا الصغرى، ومن هذه الآية ومن مصادر عديدة أخرى نرى علاقة عيلام (ألمايس) بالإله بيل نفسه، إذ كان هيكل النناية في مدينة ألمايس المقدسة للإله بيل. راجع (بوليبيوس 31: 2 ويوسيفوس 12 فصل 1:9). ويقدم الدكتور فاضل عبد الواحد على في كتابه عشتار ومأساة تموز (الفصل الأول صفحة 22 - 29) بحثًا قويا في أصل تسمية الإلهة نانا بهذا الاسم. وراجع أيضا: كريمر، صموئيل نوح: الأساطير السومرية 1979م.وبالنسبة للاسم الفارسي القديم أناهيت: هو اسم الإلهة عشتار (إنانا: ربة الخصب والجنس قديما)، وما زال هذا الاسم منتشرًا بكثرة عند الأرمن، إذ أنهم يطلقونه على البنت الجميلة جدًا.
(1) انظر كتاب: "عشتار ومأساة تموز" للدكتور فاضل عبد الواحد على، وأيضا: " الأساطير السومرية" كريمر، صمؤيل نوح 1979م.
(2) كان أنطيوخس قد عمل مكيدة أيضًا في هيكل الإلهة ديانا في سوريا لكي يسرق أمواله على سبيل المهر (وهذا ما أكده جرانيوس ليسانيوس - إصدار بليسيس 1904م / الجزء الأول xxviii).
(1) وحَزّوا رأسه: جاءت هذه الترجمة في الأصل العبري بالجمع (وحزوا رؤوسهم) وليس (رأسه) أي رجال أبيفانيوس الذين قُتلوا في هذا المكان لأن أبيفانس نفسه لم يقتل في هذا المكان ولكنه أصيب بشدة وكان في خطر عظيم، ونرى أنه مات في طريق عودته عندما كان يعبر النهر (1مكا 6).
(1) كما ورد في أعمال جينزبورج/ باب الكهنة 48.
(1) Jonathan A. Goldsten, II Macc., p. 156
(2) يرد في سفر عزرا الأول (سفر غير قانوني) كيف استطاع زربابل إنهاء إعاقة بناء الهيكل، وذكر كاتب السفر أن زربابل وأتباعه قد نفذوا في عهد داريوس، أوامر كورش التي لم تكن قد نفذت حتى ذلك الوقت، ويورد ما جاء في عزرا 2: 1- 4: 5، 4: 24 إلى عهد داريوس (أنظر عزرا (أسدراس) الأول 5: 7-71) راجع Jonathan A. Goldcten, II Macc. P. 175. يلاحظ أيضًا أنه قد ورد ذكر شخص اسمه نحميا معاصر لزربابل في (سفر عزرا الأول 5: 8) (راجع عزرا 2: 2 ونحميا 7: 7) وهو غير نحميا المعروف لنا (المرجع السابق).
(1) حين أعاد نحميا بناء: جاءت في اليونانية (οικοδομησας = عندما بنى)، وورد نفس الشيء عن يهوذا المكابي: "بنوا على جبل صهيون" (1مكا 4:6) حيث جاءت في النسخ اليوناني ωκοδομησαν.
(1) ظن البعض أن المقصود هنا هو متنيا بن زبدي بن آساف (كاتب المزامير) وأنه كان مرتلًا في الهيكل، لا سيما وأن معنى اسم يوناثان هو "الرب أعطى" في حين أن معنى اسم متنيا هو "عطية الرب"! وبذلك يرى أن الاسمان هما لشخص واحد: Jonathan A. Goldsten, II Macc. P. 178
(1) جاء التعبير" المستعبدين عند الأمم" (آية 27) في النسخ اليونانية εν τοις εθνεσιν، وهي تورية ذات معنيين 1- الموجودين كعبيد في أراضي الأمم 2- الذين يعبدون آلهة الأمم، وفي المخطوطة اللاتينية L جاءت هكذا: qui serviunt gentilus contemnetntibus et abominandis)respice) وفي بعض النسخ اليونانية جاءت هكذا: οις εζουθενουσαι και βδελυκτοις.
(1) مثل هذه الصيغ من الصلوات كانت مستخدمة بالفعل في الطقوس اليومية بأورشليم.
(1) Jonathan A. Goldstain, II Macc. P. 181.
← تفاسير أصحاحات مكابيين ثاني: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15
تفسير المكابيين الثاني 2 |
قسم
تفاسير العهد القديم الأنبا مكاريوس الأسقف العام |
مقدمة سفر المكابيين الثاني |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/fb8qfbx