محتويات: | (إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب مكابيين ثاني: تفسير سفر المكابيين الثاني: سفر المكابيين الثاني كامل |
مع أن هليودورس وزير الملك سلوقس الرابع كان مكلفًا بشكل رسمي بنقل كنوز الهيكل إلى خزينة المملكة، إلاّ أن الله دافع عن الهيكل وعاقب هليودورس على نحو غير مسبوق، مما حدا به إلى تقديم ذبيحة سلامة لله في الهيكل ذاته، كما راح يشهد لإله السماء أمام الكل. وهي قصة ممتعة غنية بالصور المتعددة للتقوى والتوبة، وإن كان أجمل ما فيها هو أن الدموع والانسحاق يستدران عطف الله وحنوّه.
1 حين كانت المدينة المقدسة عامرة آمنة، والشرائع محفوظة غاية الحفظ، لما كان عليه أونيا عظيم الكهنة من الورع والبُغض للشر، 2 كان الملوك أنفسهم يعظمون المكان المقدس ويكرمون الهيكل بأفخر العطايا، 3 حتى إن سلوقس، ملك آسية، كان يؤدي من دخله الخاص جميع النفقات المختصة بخدمة الذبائح.
يعود بنا السفر هنا إلى ما قبل عصر أنطيوخس أبيفانيوس (وهو الشخصية الوثنية المحورية في كلا السفرين) في تلك المرحلة السابقة عليه كانت اليهودية تنعم بالحرية النسبية، وذلك نظرًا لرغبة كل من السلوقيين والبطالمة في استمالة اليهود إلى جانبهم، وهكذا فإن السلوقيين والذين آلت إليهم اليهودية على يد أنطيوخس الكبير سنة 200 ق.م. أظهروا تعاطفًا مع اليهود مانحين إياهم مزيدًا من الحريات.
هو الابن الأكبر لأنطيوخس الثالث الكبير، وشقيق أنطيوخس الرابع أبيفانيوس والذي خلفه على العرش، وأبو ديمتريوس الأول (1مكا 7: 2 و2 مكا 14: 1) وفي بداية حكمه شرع بطليموس أبيفانيوس المصري في محاربته، ولكنه قُتل بالسم على أيدي رجاله.
ويدعى سلوقس (في الآية 3) هنا: ملك آسية، وهو اللقب الذي أحبّ الملوك السلوقيين دومًا خلعه على أنفسهم، ذلك على الرغم من كثرة هزائمهم، والتي لم تترك لهم المساحة التي يطلق عليها آسيا كلها. هذا وقد حاول كل من أنطيوخس الكبير وسلوقس ابنه هذا، التصالح مع الحزب اليهودي المؤيّد للبطالمة، وهو الحزب الذي كان يرأسه أسرة أونيا رئيس الكهنة والذي يسمَّى اصطلاحًا "بيت أونيا" أو "أسرة أونيا" في حين كان الحزب المنافس له هو حزب طوبيا "بيت طوبيا" والذي يمثل الفكر الهيليني (الحضارة الهيلينية) وهو الحزب الذي سعى رجاله دومًا في شق الطريق إلى السلطة وذلك بكسب ودّ السلطات السلوقية، حتى وان كان في ذلك خيانة للشريعة والتقاليد والقيم اليهودية.
وكان من بين علامات الودّ بين سلوقس واليهود، تقديره لهيكلهم وشعائرهم، فقد كان يتكفّل بنفقات الذبائح والاحتفالات لا سيما في الأعياد الثلاثة الرئيسية، وكان مثل هذا المسلك بلا شك يشعر اليهود بالامتنان، فقد كانت كافة الشعوب وما تزال تُولي اهتمامًا خاصًا بالجانب الديني، وبالتالي يمكن كسب ودها من خلال ذلك، فالوطن والدين يُعدان من أقدس ما يخصّ الشعب. وكان أنطيوخس أبيه قد سبقه في هذا المسلك (1مكا 10: 39). إذ أغدق الكثير من الامتيازات على اليهودية وأورشليم إزاء تعاون اليهود معه.
كما قام كل من بطليموس الثاني الملك المصري ومن بعده بطليموس الثالث بتكريم الهيكل من عطاياهم وأموالهم، حيث احتاجت العبادة في الهيكل كميات كبيرة من الحيوانات والحبوب والخمر والزيت والبخور، وهي باهظة التكلفة لولا كرم أولئك الملوك.
ومن جهة أخرى كان هؤلاء الملوك يسرون بزيادة شعبيتهم من خلال إظهار كرمهم للمعابد، سواء اليونانية منها أو غير اليونانية، كلّما سمحت مواردهم بذلك، وأما سلوقس الرابع فربما يكون قد واصل ممارسات ملوك إسرائيل ويهوذا في القيام بنفقات الذبائح (حزقيال 45: 17) والملوك الفرس (عزرا 6: 9، 10 و7: 20-23) أما في أيام نحميا فقد قرّر اليهود أن يتحمّلوا النفقات الخاصة بتقديم الذبائح (نحميا 10: 33-34). ربما بسبب أن الملك قد توقّف عن تمويلها. وتشير بعض النصوص الربانية إلى أن الربيين أصروا على قيام الشعب بتحمل نفقات الذبائح، بينما رأى الصدوقيين أن يتحمل هذه النفقات بعض الأثرياء، ولكن وجهة النظر الفريسية هي التي سادت، وقد أشار يوسيفوس إلى ذلك (1).
أونيا: المقصود هنا هو أونيا الثالث Onias III ابن سمعان الثاني وحفيد أونيا الثاني (وليس ابنه) كان رئيسًا للكهنة في عهد سلوقس الرابع المذكور هنا، وهو ينتمي إلى ذرية صادوق (2صم 8: 17 و1أخ 5: 27) بل يرجع أصل هذه العائلة إلى أيام يشوع نفسه (نحميا 12: 10) وقد امتدحه يشوع بن سيراخ في سفره (50: 1) كما أثنى عليه السفر هنا كثيرًا (4: 5-6 و15: 12) ومن الصفات التي تُنسب إليه: الرجل الصالح / المحب لأمته / المحب للفضيلة / عديم الغِش / الساعي في خير أمته، وسوف تكتسب هذه الصفات بعدًا هامًا ومعنىً جليلا، إذا ما قُورن أونيا برؤساء الكهنة الثلاثة الذين أعقبوه على التوالي.
خدم أونيا في عهد سلوقس الرابع وأنطيوخس الرابع، وعندما رأى أونيا أن شر سمعان - الوكيل الخائن - يتزايد، أرسل إلى الملك يطلب إليه التدخل لسلام الأمة، ولكن الملك كان قد عَيّن ياسون للتو رئيسًا للكهنة، ولم يكن أونيا يعرف، فجاءه ردّ الملك بإعفائه من منصبه (7:4) وسريعًا ما أعقب ياسون، شخص آخر يدعى منلاوس حصل على رئاسة الكهنوت عن طريق الرشوة أيضًا، وبسبب الخوف من التنافس اتفق مع شخص يدعى أندرونيكس على قتل أونيا (4: 33-38) ومن بعد موته ظهر مع إرميا النبي ليهوذا المكابي يشجعه قبل حرب التحرير التي خاضها الأخير (15:12-14). بينما يرى يوسيفوس أن أونيا مضى إلى مصر حيث رحب به الملك هناك ومنحه مكانًا لإقامة هيكل لليهود على غرار الذي في أورشليم.
كان الأمن في البداية مستتبًا في المدينة، كما كانت الخدمة والاحتفالات تتم في الهيكل بصورة طبيعية، وكذلك الذبائح تقدم في مواعيدها بكمياتها التقليدية، وهكذا سادت هناك حالة من الرخاء والطمأنينة، ولكنها لم تدم طويلًا، فلم يهنأ اليهود كثيرًا على مدار تاريخهم طويلًا، إذ لا يلبثوا بين الحين والآخر أن يتعرضوا للاستعمار والقتل والنهب والقهر، بسبب مطامع الغرباء، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فكثيرًا ما كانت تنهشهم الخلافات الداخلية والصراعات على السلطة المدنية أو الدينية، غير أن أسوأ ما في الأمر هو وشاية البعض وخيانتهم لأمتهم كما سنرى.
يتحدث السفر هنا عن كرم سلوقس الرابع بهدف المقارنة ما بين أونيا الثالث وأعدائه، فإن تقوى أونيا تحثّ الملك ذاته على الإسهام بمبالغ كبيرة للهيكل، بينما يسعى سمعان الخائن إلى محاولة مَلَكِيّة للاستيلاء على الودائع التي بالهيكل (آية 5- 11) كما سعى ياسون رئيس الكهنة المرفوض إلى زيادة الضريبة المفروضة على اليهود للمملكة السلوقية (4: 7-9) مثلما زاده أيضًا منلاوس رئيس الكهنة المرفوض أيضًا، بقدر أكبر (4: 24) وسرق من الهيكل ليرشي موظفي الملك (4: 32-34 و39-46) وكان دليلًا لأنطيوخس الرابع عندما سلب مقتنيات الهيكل.
4 وإن رجلًا اسمه سمعان، من سبط بلجة، كان مقلدًا الوكالة على الهيكل، وقع بينه وبين عظيم الكهنة خلاف في أمر المحافظة على أمن أسواق المدينة. 5 وإذ لم يمكنه التغلب على أونيا، ذهب إلى أبلونيوس، بن ترساوس، وكان إذ ذاك قائدًا في بقاع سورية وفينيقية، 6وأخبره أن الخزانة التي في أورشليم مشحونة بما لا يستطاع وصفه من الأموال، حتى إن الدخل لا يحصى لكثرته، وأن ذلك لا يتناسب مع نفقة الذبائح، فيمكن إدخال ذلك كله في حوزة الملك.
سمعان: هو شخص من سبط بلجة (بنيامين) وتأتي بلجة في بعض النصوص اليونانية واللاتينية والفولجاتا والسريانية: بنيامين Benjamin، بينما تأتي في اللاتينية القديمة Balcea، وفي النص الأرامي Balgei، وفي النص الماسوري Bilgah. وقد أُشير إلى بلجة في (نحميا 12: 5، 18 و1أخ 24: 12) وتأتس بمعنى عشيرة، كذلك تعني كلمة Trib سبط أو عشيرة Clan، وهكذا تعني كلمة "فيلي Phyle" سبط أو قبيلة (عشيرة). وهكذا فمن المرجّح أن يَكون سمعان من سبط بنيامين وعشيرة أو قبيلة بلجة، ومن المرجّح أيضًا أن يكون سمعان هو شقيق منلاوس رئيس الكهنة (الخائن) وهكذا فكلاهما ينتميان إلى بيت طوبيا، الممثل للاتجاه الهيليني في البلاد، وكان سمعان ينتمي إلى الطبقة الراقية في تلك العائلة. ولا يُعرف على وجه الدقة طبيعة وظيفته.
ولكن التعبير المستخدم هنا "وكالة" Chief guardian استخدم في المجال العسكري والديني، وقد استخدم في قصة البعل والتنين في تتمة سفر دانيال، وفي إحدى البرديات المصرية إشارة إلى كاهن هناك في سنة 164 ق.م. يُوصف بأنه "القائد المدبر للهيكل"(1)، كما جاءت أيضًا بمعنى "قائد" في (1أخ 27: 31؛ 29: 6؛ 2 أخ 8: 10) وأما في (2أخ 24: 11) فقد جاءت بمعنى "مراقب دواوين الملك". وهو نفس المصطلح (قائد) الذي ورد في (1مكا 14: 47) حين رضى سمعان المكابي أن يكون رئيس كهنة وقائد ورئيس لأمة اليهود والكهنة. ووردت في سيراخ (سي 45: 24) "رئيس للهيكل والشعب" وفي سفر العدد (عد 25: 22) وكذلك في إشارة رئيس حافظ الأبواب في (1 أخ 9: 20). كما شمل التعبير أيضًا في مواضع أخرى من الكتاب المقدس رئيس الكهنة، وكاهن ورئيس قبيلة، وأما بحسب يوسيفوس وأسفار العهد الجديد فقد يكون "قائد جند الهيكل" (أعمال 4: 1؛ 5: 24، 26) وهي الوظيفة التي تناسب المقام هنا.
إن اللقب المنسوب إلى سمعان هنا يأتي في اليونانية Prostates بمعنى حارس أو رئيس أو وصي، وقد ورد لقب مشابه في سفر دانيال لوصف كبار مديري الهيكل المسئولين عن العطايا من الأطعمة المقدمة للإله (بل / بعل) كما ورد المصطلح Prostates في إشارة كاهن مصري إلى نفسه باعتباره المدير الأعلى (رئيس الموكلين) لأحد المعابد، [راجع (أخبار الأيام الأول 27: 31 و29: 6) "رؤساء الأملاك أو أشغال الملك" وكذلك (2أخ 8: 10) "رئيس الموكلين"]. وغيره كثير من المواضع في الكتاب المقدس. وفي العهد الجديد يفيد المصطلح Prostates: "الآمر" في الهيكل، وفي الأدب العبري المتأخر يُمنح الكاهن التالي لرئيس الكهنة في الرتبة لقب (Segan الكهنة) ولا يمنح أبدًا لقب (Segan الهيكل).
إذن فقد كان سمعان كاهنًا بل وهو الرجل الثاني بعد رئيس الكهنة "Segan" ويرى يوسيفوس أن كلٍ من أونيا وياسون ومنلاوس وسمعان هم جميعًا أولاد سمعان الثاني رئيس الكهنة، ولا يُعرف على وجه الدقة طبيعة ذلك الخلاف الذي نشأ بين الاثنين، وما هي مهمة المحافظة على الأسواق في المدينة؟ هل كان بحكم وظيفته كقائد لكتيبة من الجنود تابعة للهيكل، مسئولًا عن حفظ النظام داخل الهيكل وحوله مثلما يحدث الآن في أغلب الكنائس والكاتدرائيات؟ ثم امتدت مسئوليته إلى الحِفاظ على أمن أسواق المدينة؟ وهل كان هناك كسب مادي من وراء ذلك؟ أيًا كان الأمر فإن سمعان عندما فشل في فرض سيطرته على رئيس الكهنة لجأ إلى الوشاية. وفي الأزمنة التالية أعتبر اليهود عشيرة بلجة خِزيًا بسبب أعمال العقوق التي اقترفها أفرادها خلال فترة حكم أنطيوخس أبيفانيوس الرابع.
ويأتي الاسم في ترجمات أخرى Tharsseas, Tharsai ومعناه: جريء أو شجاع، وقد ذُكر أبولونيوس في الأصحاح الرابع على أنه إبن مسنتاؤس (2مك 4:4)، ويرجّح الكثير من الشُّرّاح أن يكون اسمه: "أبولونيوس الطرسوسي بن مسنتاؤس" أو "أبولونيوس بن مسنتاؤس الطرسوسي" (4: 4، 21). وهو قائد إقليم البقاع (قول سوريا) وهي منطقة تشمل: اليهودية وإقليم سلوقية، ومناطق ما بين الفرات والمتوسط (الخاضعة لسلوقية) والمدن اليونانية في شمال سوريا. وقد ورد في الآية تعبير "إذ ذاك" (أو في ذلك الزمان) للتمييز بينه وبين كثيرين يحملون ذات الاسم.
وبقدر ما كانت وشاية سمعان رديئة وخطيرة، إلاّ أن سلوقس قد رأى فيها مخرجًا من المأزق الذي تركه له أبوه، بسبب الديون الثقيلة المستوجبة على المملكة للرومان بعد معركة مغنيسيا، بل وكثيرًا ما كانت خزينة المملكة تفرغ لأسباب مختلفة، راجع: (1مكا 3: 29 و8: 7 و2مكا 8: 10) أما الأموال التي كانت في خزانة الهيكل في ذلك الوقت، فقد كانت تفوق أي توقع، ما بين أموال سائلة وودائع لأرامل وأيتام ورجال أعمال، وسبائك ذهبية وأخرى فضية، وهو ما يعادل في مجموعة مليون جنيه إسترليني (سنة 1900) ([1]).
كما كان جزء من هذه الأموال عبارة عن صندوق خيري، إضافة إلى الودائع، لا سيّما ودائع بيت طوبيا، إذ يبدو أن هرقانوس المذكور هنا كان أحد أشراف ومليونيرات تلك العائلة. وهكذا كان في وشاية سمعان خيانة لرفقائه بني طوبيا وكذلك للفقراء!
وتشير المصادر اليهودية المتأخرة إلى أن المتبرع بأموال الذبائح، كان يفقد كل حق لاستعادة ما قد تبرع به منذ لحظة إعلانه عن ذلك بل منذ لحظة اتخاذه مثل ذلك القرار ذهنيًا، أما القانون اليوناني فقد نصّ على أن تكون مثل هذه الأموال غير قابلة للسلب أو الاسترداد، وإن كان ذلك يسري فقط منذ لحظة اتخاذ القرار بالتخصيص أو الاستلام الرسمي، مثل قيام كاتب الهيكل بتدوين المبلغ المتبرع به بدفتر حسابات الهيكل.
من هنا فإن أية أموال قُدمت من سلوقس الرابع لأجل الذبائح، لا بُد وأن يكون قد تم استلامها بطريقة رسمية من قبل الهيكل، وبذلك تصبح غير قابلة للاسترداد، ولكن الملك كان بمقدوره مقاضاة العاملين بالهيكل بما فيهم رئيس الكهنة إذا أُسيء استخدام تلك الأموال، ولكنه ليس هنا أي دليل على أن القانون اليهودي قد سمح للكهنة بالتصرف بحرية في الأرصدة الفائضة من الأموال المتبرَّع بها للذبائح.
كشف سمعان عن وجود ودائع خاصة، وبينما كان بوسع الشخص اليوناني تكريس أموال لأحد الآلهة لحفظها بهيكله والتعامل مع هذه الأموال وكأنها وديعة عادية، إلاّ أن اليهودي لم يكن يتاح له ذلك، فإذا كرس اليهودي مالًا يكون بذلك قد وهبه بصفة نهائية للهيكل.
وقد اعتبر سمعان أن الذبائح وهي أهم ما يحتاج إلى المال من خزانة الهيكل، هي ما يجب الاحتفاظ باحتياجاتها، ولكن ما هذا إلى جوار تلك الأكداس من المال، يضاف إلى ذلك أن الملك نفسه كان مهتمًا بذبائح الهيكل كما مر بنا (آية 2، 3) وبالتالي فمن حق الملك تحويل تلك الأموال إلى خزانته!
7 فقابل أبلونيوس الملك وأعلمه بالأموال التي وصفت له، فأختار الملك هليودورس، قيم المصالح، وأرسله وأمره بجلب الأموال المذكورة. 8 فتوجه هليودورس لساعته، قاصدًا في الظاهر تفقد مدن بقاع سورية وفينيقية، وكان في الواقع يقصد تنفيذ إرادة الملك. 9 فلما قدم أورشليم، أحسن عظيم الكهنة في المدينة استقباله، ففاتحه بما كشف، وصرح له بسبب قدومه، وسأله هل الأمر في الحقيقة كما ذكر له.
هليودورس Heliodorus: اسم يوناني معناه "عطية الشمس" وهذا الاسم كان منتشرًا في سورية نظرًا لانتشار عبادة الشمس هناك، ويذكر في النقوش الأثرية أنه وزير للملك سلوقس الرابع، وبالتالي فهو يفوق أبولونيوس في المكانة مما يجعله يشرف على أعمال الأخير (آية 8). وقد نشأ هليودورس منذ طفولته مع سلوقس وظل يعمل معه حتى موته سنة 175 ق.م. وُيقال أنه هو المتسبّب في موته، وقد اتبع أسلوبًا دبلوماسيًا في محاولته تنفيذ أمر الملك، وبالرغم من أنه قام أولًا بجولة تفقدية روتينية، فقد كان ذلك إجراءًا تكتيكيًا ربما لكسب الوقت وإعطاء مزيد من الوقت لنجاح المهمة، ربما حتى لا يحتاط رئيس الكهنة والشعب للحيلولة دون مصادرة أموال الهيكل.
وقد كان هليودورس واضحًا وصادقًا عندما فاتح رئيس الكهنة في الهدف من مأموريته، شارحًا له موقف المملكة وحاجتها الماسة إلى المال مهوّنًا عليه أمر التنفيذ، ومن المنطقي أيضًا أنه طمأنه بتعهد الملك -كعادته- في القيام بنفقات الذبائح في الهيكل. هذا وتشير (الآية 9) إلى أن رئيس الكهنة هو أكبر شخصية في المدينة "رئيس كهنة في المدينة" وإلاّ لكان هليودورس قد لجأ إلى الحاكم لإرغام رئيس الكهنة على تلبية أمر الملك.
ولكن لماذا بدأ هليودورس مهمته مهادنًا ملاطفًا..؟ لقد عُرف عن اليهود طاعتهم للملك، ولكن الذرائع والمبررات التي ساقها هليودورس لرئيس الكهنة لتبرير حمل أموال الهيكل كانت بسبب الخوف من المتشددين والمتهورين اليهود والذين سيعتبرون مهمته إهانة للهيكل، حيث كان الاستيلاء على أموال الهيكل: "خطية تدنيس" في نظر اليهود.
وكان مجيء هليودورس المفاجئ قد جعل من الصعب على الثوريين اليهود الوقوف قدامه، وكذلك حتى لا تكون هناك فرصة لأحد المودعين أن يسحب أمواله..
10 فذكر له عظيم الكهنة أن المال هو ودائع للأرامل واليتامى، 11 وأن قسمًا منه لهرقانس بن طوبيا، أحد كبار الأشراف، وأن الأمر ليس على ما وَشَى به سمعان الكافر، وإنما المال كله أربع مئة قنطار فضة ومئتا قنطار ذهب، 12 فلا يجوز بوجه من الوجوه هضم حقوق الذين ائتمنوا قداسة المكان ومهابة وحُرمة الهيكل المكرم في المسكونة كلها.
كان رئيس الكهنة في المقابل حكيمًا رصينًا، فقد أكرم وفادة الموظف الكبير بما يليق بمكانته كممثل للملك، ثم شرح طبيعة ما تحتويه خزانة الهيكل، وأما هرقانوس بن طوبيا (من بيت طوبيا) فهو والى أرض بني عمون والتي سُميت في (1مكا 5: 13) "أرض طوب" وكانت تحكمها أسرة بني طوب (نحميا 2: 6 و6: 17 و13: 8).
إن ذكر هرقانوس هنا بمثابة مفتاح هام لهذه الواقعة، فقد كان يمكن لسمعان وجماعته وكذلك الحكومة السلوقية، اعتباره متمردًا وأن أمواله مصادرة، بينما اعتبره حونيا وجماعة اليهود المؤيدين له ليس متمردًا بل حاكمًا مستقلًا، فإننا لم نسمع أن سلوقس قد فكر في شنّ حرب على هرقانوس، كما لم نسمع أن حونيا مهتم بمساعدة أحد العصاة أو المتمردين من خلال قبول ودائعه، ومع ذلك فإن الحكومة المدفوعة بشدة الاحتياج إلى المال، أسرعت منتهزة الفرصة لمصادرة ثروة هرقانوس، بينما رأى اليهود أن محاولة مصادرة ودائع هرقانوس والذي لم تشن عليه الحكومة حربًا هي إهانة للهيكل وإلههم.
قيمة المال الموجود في الخزانة: تُعادل كمية الفضة الموجودة في ذلك الوقت عشرة آلاف وخمسمائة كيلوجرامًا، بينما تعادل كمية الذهب خمسة آلاف ومئتين وخمسون كيلوجرامًا، ويساوي الذهب وحده الآن حوالي ستة عشر مليونًا من الجنيهات المصرية، بينما تساوي الفضة 8930000 جنيهًا مصريًا، وهو ما يعادل (1300,000 جنيه إسترليني ذهب + 725,000 فضة).
وقد اعتبر اليهود أنه من العار التفريط في الودائع، إذ ينظر المودعين إلى الهيكل باعتباره أأمن وأقدس مكان وبالتالي تجب المحافظة عليه ضد أية محاولات لنهبه أو الإساءة إليه، ولعلنا نجد إشارة إلى ذلك في حديث السيد المسيح عن الفريسيين الذين يأكلون بيوت الأرامل والأيتام، حيث يرى الكثير من المفسرين أن المقصود هنا هو تبديد الأموال الممنوحة للهيكل لحساب هذه الطبقة من المجتمع اليهودي أو الودائع التي تستأمن الأرامل الهيكل عليها (متى 23: 14).
وكان يمكن لأرامل اليهود في ذلك الزمان امتلاك مهورهن والأملاك الممنوحة لهن من أزواجهن، وربما قُصد بالأرامل والأيتام هنا: أتباع هرقانوس نفسه. ولقد كان سلب الودائع أمرًا خطيرًا في القانون اليوناني، والأكثر خطورة هو الاستيلاء على أموال مودعة بالهياكل، ولقد اعتبر كل من اليهود واليونانيين أن الودائع المحفوظة بالهيكل غير قابلة للنهب أو السلب في الأحوال العادية.
كوّن يوسف والد هرقانوس Hyrcanous ثروة من عمله كمزارع وجامع ضرائب للبطالمة في فلسطين وسوريا في الربع الأخير من القرن الثالث ق.م. وكان هرقانوس المولود بين عاميّ 226 و223 أصغر ثمانية أبناء، وإذ كان ذكيًا متميزًا منذ الصغر فقد أثار حسد أشقاؤه. وفي عام 210 ق.م. فاز هرقانوس برضى بطليموس الرابع بذكاءه وهداياه الثمينة إلى الملك والملكة، وبذلك أبعد حتى والده عن عطف بطليموس، وقد أشعل نيران الغيرة في أشقائه لدرجة أنهم حاولوا قتله، ولكنه وما أن نجح في قتل اثنين منهم، حتّى فر إلى قلعة العائلة في منطقة عبر الأردن في الموقع المعروف باسم: "عرق الأمير" حيث أصبح جابي ضرائب للحكومة البطلمية. غير أن البطالمة سريعًا ما فقدوا سيطرتهم على فلسطين وسوريا عندما فتح أنطيوخس الثالث المنطقة بين عاميّ 202-197 ق.م. فتحوّل عندئذ ولاء سمعان رئيس الكهنة والطوبيين إلى السلوقيين، باستثناء هرقانوس والذي واصل ولائه للبطالمة منصّبًا نفسه حاكمًا شبه مستقل في منطقة عبر الأردن، وأما السلوقيين فلم يعيروا الأمر اهتمامًا وكذلك لم يعادِ هرقانوس السلوقيين.
"المكان": اصطلاح كتابي اسُتخدم للدلالة على "المكان المقدس" مثل قولنا "الكتاب" في إشارتنا إلى الكتاب المقدس "بل المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه سكناه تطلبون وإلى هناك تأتون" (تثنية 12: 5). وهكذا حاول رئيس الكهنة تفنيد وشاية سمعان ومنع هليودورس من المضى قُدمًا في تنفيذ مخطط الملك معتبرًا أن سمعان الواشي: "كافرًا" إذ كفر بالشريعة والهيكل والفقراء واليتامى، بل وبعشيرته هو (بيت طوبيا) بسبب الضرر الذي يعرف مسبقًا أنه سيلحق بـ"هركانوس".
13 لكن هليودورس، بناء على أمر الملك، أصر على مصادرة الأموال إلى خزانة الملك. 14 وعين يومًا دخل فيه لوضع قائمة عن هذه الأموال. فساد كل المدينة ضيق شديد. 15وانطرح الكهنة أمام المذبح بحُللهم الكهنوتية، يبتهلون إلى السماء التي سنت في الودائع أن تُصان لمُستودعيها. 16 وكان من رأى وجه عظيم الكهنة يتقطر فؤاده، لأن منظره وامتقاع لونه كانا يُنبئان بما في نفسه من الضيق، 17 إذ كان الرجل قد داخله الرعب والقشعريرة، فكانا يدلان الذين ينظرون إليه على ما في قلبه من الألم. 18 وكان الناس يتبادرون من البيوت أفواجًا ليصلوا صلاة عامة، لسبب العار الذي يُهدد المكان المقدس. 19وكانت النساء يزدحمن في الشوارع، وهن متحزمات بالمسوح تحت ثديهن، والفتيات الملازمات البيوت يركضن بعضهن إلى الأبواب، وبعضهن إلى الأسوار، وغيرهن يتطلعن من النوافذ، 20 وكلهن باسطات أيديهن إلى السماء يتضرعن بالابتهال. 21 فكان إعياء الجمهور وانتظار عظيم الكهنة، وهو في ضيق شديد، مما يثير الشفقة. 22 وكانوا يتضرعون إلى الرب القدير أن يحفظ الودائع سالمة وفي أمان لمستودعيها. 23أما هليودورس، فكان يُنفذ ما قُضى به.
على الرغم مما بدا عليه هليودورس من الحياد والطاعة لملكه والذي أمره بمصادرة أموال الهيكل، مما يعني أنه لا نفع شخصي له، إلاّ أن ذلك لم يعفيه من العقاب، وكما كان هليودورس ممثلًا عن سلوقس الملك، فقد كان العقاب بالتالي موجهًا للملك من خلال مندوبه. وفي أيام داود النبي لم يَنج عُزّة من العقاب الصارم بسبب لمسه لتابوت الرب عندما انشمصت البقر التي تحمله رغم أنه كان بدافع الغيرة المقدسة يفعل ذلك، فقد مات في الحال وهو اليهودي الغيور الذي أراد الحيلولة دون سقوط تابوت عهد الرب (2صم 6: 3-7) فكم يكون عقاب ذلك الأممي الذي يود إهانة الموضع المقدس، كما عوقب الخمسين رجلًا الُمرسلون من قبل أخزيا الملك إلى إيليا للقبض عليه إذ نزلت نار من السماء وأكلتهم مع قائدهم، وتكرر الأمر ثانية مع المجموعة الثانية، بالرغم من أنهم كانوا ينفذون أمر الملك فحسب، فقد كانت الرسالة من خلال العقاب موجهة إلى الملك أولًا ثم إلى كل من تسول له نفسه المساس برجال الله أو بيته (2مل 1: 9-14).
بدا هليودورس مستمرًا في إجراءاته لتنفيذ أمر الملك، فحدد يومًا لجرد الخزينة وعمل قائمة بمحتوياتها، حتى لا يبدو عمله وكأنه سطو ونهب بل مجرد تنسيق يتماشى مع سياسة الدولة وتدبيرها، ولم يلجأ إلى العنف أو السلاح لتحقيق غايته ولم يقبض على أحد ولم يهدّد رئيس الكهنة ويظهر ذلك جليًا في (آية 23). ولكن لماذا عيّن هليودورس يومًا لذلك ولم يستفد من عنصر المفاجأة، كما لم تكن الخزائن مخبأة في الداخل بل كان الدخول إليها متاحًا للوثنيين، ولكن الأمر كان يحتاج إلى فحص الودائع وهويتها وليس أموال الذبائح والتي من المرجح أنها كانت تحفظ في أوان تحمل علامات خاصة، أو على هيئة كومة على الأرض، وأما ودائع هرقانوس وجماعته فقد حفظت على الأرجح في أوان تحمل أسماؤهم.
ولكن اليهود والذين اعتادوا على مثل تلك النواكب والأطماع منذ زمن بعيد، كانوا أيضًا قد خبروا جيدًا الطريقة التي يدرأون بها الخطر عن أنفسهم وعن مقدساتهم وبلادهم، فهم يستطيعون استعطاف الله واستدرار مراحمه حتى يدافع عنهم، وفي المقابل كان الله في كل مرة رحيمًا بهم يدفع عنهم الخطر، رغم ما اقترفوه من شرور قدامه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). فبعد كسرتهم في عاي سمع لنحيبهم وتذلّلهم ونصَرهم من جديد (يش 7: 6-9) وعندما حاصر سنحاريب البلاد بجيوشه الجرارة، لجأوا إليه فدحر عنهم تلك الجيوش بعد الخسارة الفادحة في الأرواح بين جنود الأشوريين (2مل 19: 15-19) وفي أيام يهوديت سمع لصراخهم ونظر إلى دموعهم ومسوحهم وخلّصهم من أليفانا وطرد من قدامهم جيوشه (يهوديت 9).
وفي نفس هذه الحقبة المكابية تعرض الهيكل للإهانة، من قبل نكانور أحد قواد ديمتريوس الأول، حيث هدد بحرق الهيكل، وبكي الشعب قائلين "أنت يا من اختار هذا البيت ليدعى باسمك ويكون بيت صلاة وتضرع لشعبك، فانتقم من هذا الرجل وجيشه.." (1مكا 7: 37، 38). بشأن التضرع الجماعي. أنظر أيضًا (يوئيل 2: 15-17).
ورغم أن اليهود قد اعتادوا لبس المسوح في مثل تلك المواقف مع ما يرافق ذلك من حثو الرماد والجلوس في التراب، إلاّ أنهم هنا يُمعنون في إذلال نفوسهم قدام الرب، إذ ينطرح الكهنة بثيابهم الكهنوتية أمام المذبح بما فيهم الكهنة الذين ليست دوريتهم في الخدمة، في إشارة واضحة إلى العار والهوان اللذان سيلحقان بالكهنوت والهيكل، في حالة إذا ما نجحت خطة هليودورس، مما يشكك في مصداقية المكان في حماية أموال المودعين، وأما النص الكتابي الذي يوصى بضرورة صيانة الودائع فقد ورد في سفر الخروج (22: 7-15).
وأما رئيس الكهنة فقد أظهر حزنه وضيقه ومرارة نفسه: مدى أمانته لدوره وعمله، ومقدار محبته للهيكل وحفظه للمقدسات، ذلك مقارنة بشخصية سمعان ومن بعده رؤساء الكهنة الثلاثة الذين أعقبوا أونيا والذين اتّخذوا منهجًا عكسيًا لمنهجه، بل أن واحدًا منهم نهب الهيكل بنفسه وباع نفائسه في الأسواق الوثنية (4: 32، 33) كما قام آخر هو ليسيماخوس شقيق منلاوس بنهب الهيكل (4: 39-42).
ومما يثير العجب تفاعل الشعب كله من إكليروس وعامة، مع الضيقة التي تمر بها أمتهم مما يعكس إيجابية يفتقر إليها الكثيرون من الأفراد والشعوب، فلم ينظروا إلى المأساة باعتبارها أمرًا يخص الكهنة القائمون على الهيكل، كما لم يقف تفاعلهم عند حد الصلاة في المخادع ولكنهم تخطوا ذلك إلى الشوارع والطرقات والأسوار والأبواب مستعطفين الرب بدموع سخيّة، بل أنهم لم يعتبروا الهيكل مكانًا يخص الله وهو كفيل بالدفاع عنه، ولكنهم عبروا عن محبتهم لإلههم وكنيستهم مسكن الله. لقد كان الأمر في أيام سنحاريب ويهوديت يتعلق بحياة الشعب بشكل مباشر، عندما كانوا معرّضون للقتل والسبي والنهب، ولكنه هنا يخص جزءا في الهيكل، وما أشبه أولئك النسوة والفتيات في ذلك الموقف، بأولئك اللائي خرجن خلف الرب يسوع يبكينه حين كان في طريقه للصلب.
لم يكن من المألوف رؤية النساء اليهوديات في الشوارع (سيراخ 9: 7) ولكن يبدو هنا أنه ليس جميع العذارى كن يلزمن خدورهن (سيراخ 7: 24 و42: 10-12) أمّا الُكوى والأبواب التي ظهرت العذارى من خلالها فلا بُد أنها أبواب المنازل وليس المدينة أو الهيكل، كما يقصد بالأسوار: أسوار الشرفات أو أسطح المنازل.
24 وحضر هناك مع شرطة عند الخزانة، فتجلى رب الأرواح وكل سلطان تجليًا عظيمًا، حتى إن جميع الذين اجترأوا على الدخول صرعتهم قدرة الله، ففقدوا كل قوة وشجاعة. 25وذلك بأنه ظهر لهم فرس عليه راكب مُخيف وجهازُه فاخر، فوثب وهدد هليودورس بحوافره الأمامية. وكانت عدة الراكب الحربية كأنها من ذهب. 26 وتراءى أيضًا لهليودورس فتيان عجيبا القوة رائعا الجمال حسنا اللباس، فوقفا على جانبيه يجلدانه جلدًا متواصلًا ويوسعانه ضربًا 27 فسقط لساعته على الأرض وغشيه ظلام كثيف، فرفعوه وجعلوه على محمل، 28فإذا به، بعد أن دخل الخزانة المذكورة في موكب حافل وكل حرسه، قد أصبح محمولًا وغير قادر على الاستعانة بنفسه، بأيدي أناس يعترفون علانية بسيادة الله. 29 وبينما هو مطروح بالقوة الإلهية، أبكم، لا رجاء له ولا خلاص 30 كان اليهود يباركون الرب الذي مجد مكانه المقدس تمجيدًا رائعًا، وقد امتلأ المقدس ابتهاجًا وتهللًا إذ تجلى فيه الرب القدير، بعد ما كان قبيل ذلك مملوءًا خوفًا واضطرابًا.
عندما ينسحق الإنسان قدام الله معلنًا عن ضعفه، فإن الله يتدخل بقوته (..لأنه تعلق بي أنجيه.. مزمور 92: 14) فالإنسان يعمل ما يستطيعه بينما يعمل الله ما لا يستطيعه، يقول القديس يوحنا ذهبي الفم أن الله لا يعطي للكسلان ولكنه يعطي لمن لا يستطيع، هكذا استطاع الكهنة والشعب جلب مراحم الله، وقد كان لتدخل الله أهمية بهذه الكيفية. فما أن تجاوز هليودورس فناء الهيكل وشرع في دخول الخزانة حتى تجلّت قوة الله رب الجنود ومالك الكل "رب الأرواح"(1) في مشهد عسكري أيضًا، فهوذا قائد يمتطي جوادًا واثنان من الفتيان يجلدان الرجل والذي تلاشت قوته وسقط مغشيًا عليه وبالتالي فقد أصاب الجنود الرعب.
في عصر السيد المسيح كانت الخزانة عبارة عن فناء مربع يصل طول ضلعه حوالي الستين مترًا، في جانب منها رُصَت ثلاثة عشر صندوقًا لإبقاء التبرعات كتب على كل منها النحو الذي سينفق فيه المال، فهذا لضريبة نصف الشاقل وهذا لأدوات الخدمة مثل الخشب والبخور، وغيره للمال المتبقي بعد شراء الذبائح وغيرها، وكان شكل الصندوق مثل القمع أو البوق ويسمى في التلمود "بوق" وبجوار الخزانة حجرة صغيرة تسمى (حجرة السكون) فيها يتم تفريغ تلك الصناديق، لعلها هي الخزينة المعنية هنا كهدف للنهب، وفي تلك الخزينة كانت توضع أيضًا عطايا ونذور يهود الشتات، والتي تُحضر بواسطة وفد من الهيكل مدعّم بالجنود، وكانت أكثر العطايا تأتي من بابل حيث كان أكبر تجمع يهودي منذ سبي بابل، وتحتوي على المال وسبائك المعادن الثمينة والمشغولات.
وعندما أراد بيلاطس البنطي الاستعانة بأموال الهيكل للإنفاق على مشروع المياه الضخم الذي اضطلع به، ماطله الكهنة وتمنّعوا كثيرًا، مما اضطره إلى الاستيلاء على صناديق العطايا الآتية من بابل، وهو الأمر الذي أثار حفيظة اليهود، وحدا بيهود الجليل إلى القيام بتظاهرة في الهيكل عند زيارتهم له، وعندئذ طاردهم الجنود الرومان حتى المكان الذي تباع فيه الذبائح حيث قُتل عدد منهم، وهو الأمر الذي أشير إليه في (لوقا 13: 1) حين كان هناك قوم يخبرون السيد المسيح عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم. (1).
وأماّ الشابّان البهيّان فقد كانوا بمثابة جنود الملك السمائي، وفي ذلك تقابل ما بين القائد هليودورس وجنوده من جهة، والفارس والشابين من جهة أخرى، حيث أرسل الملك السمائي رب الجنود، وشتان ما بين الفريقين، وعندما يتجلّى الله في مجده فمن يستطيع الوقوف (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 6: 17).
ولما بلغ الإعياء بهليودورس مبلغًا كبيرًا، احتاج الأمر إلى يحمله رجاله وكان ذلك اعترافًا بقدرة الله وسيادته، فهوذا الطالب أصبح مطلوبًا والطارد مطرودًا، وكان يعانى من الرعب والصدمة واللذان أفقداه الحركة والنطق معًا. في تلك الأثناء قام الكهنة والشعب بعمل ما يسمىّ في الكنيسة الآن "تمجيد" للإله القوي الذي تجلت قدرته مستجيبًا لتوسلاتهم.
31 وبادر بعض من أصحاب هليودورس وسألوا أونيا أن يبتهل إلى العلي ويمن بالحياة على من أصبح على آخِر رَمَق. 32 وخاف عظيم الكهنة أن يتهم الملك اليهود بمكيدة كادوها لهليودورس، فقدم ذبيحة من أجل خلاص الرجل. 33 وبينما عظيم الكهنة يقدم ذبيحة للخطيئة، عاد الفتيان أنفسهما فتراءيا لهليودورس بلباسهما الأول، ووقفا وقالا له: "عليك بجزيل الشكر لأونيا عظيم الكهنة، فإن الرب قد من عليك بالحياة من أجله. 34 وأنت الذي جلدته السماء، أخبر الجميع بقدرة الله العظيمة". قالا ذلك وغابا عن النظر.
ولم يترك الله نفسه بلا شاهد في جميع الأزمات وبين مختلف الطبقات والعقائد، لقد كان عجيبًا حقًا أن يفكر رجال هليودورس بهذه الطريقة التقوية، فبدلًا من استدعاء مزيدًا من القوات أو محاولة الانتقام، يطلبون التوسط لدى الله لإبراء قائدهم، وأمَّا رئيس الكهنة فلم يكن خوفه ضعفًا بل حكمة وُبعد نظر، ولا ننسى أنه كان قائدًا مدنيًا لليهود أيضًا (رئيس كهنة وشعب) ومن هنا فقد راعَى الجوانب الأمنية والسياسية لخير أمته أيضًا، وهكذا سلك على المستويين الروحي والدبلوماسي بنجاح.
ولم يكن القصد من الصلاة والانسحاق أولًا الانتقام من هليودورس، كلاّ بل نجاه خزينة الهيكل من النهب، وهكذا قدّم أونيا ذبيحة إلى الله متوسّلًا من أجل شفاء الرجل.
كانت هذه الذبيحة تقدم للتكفير عن خطايا السهو والجهل، سواء صدرت عن كاهن أو عن الجماعة أو عن أحد القادة (لاويين 4: 22-26) كما هو الحال هنا، أو عامة الناس، وفي حالة هليودورس، كان يجب أن يقدم رئيس الكهنة عنه ذبيحة عبارة عن تيس من الماعز صحيحًا، وكان على المخطئ أن يضع يده على رأس الذبيحة حسبما قضت الشريعة(1)، وكان الدم يوضع منه على قرون مذبح المحرقة (وليس مذبح البخور) ثم يُصبّْ الدم إلى أسفل مذبح المحرقة، بينما يوقد الشحم كله فوق المذبح، ثم يؤكل لحمها في مكان مقدس أيضًا (لاويين 6: 26).
عند ذلك ظهر الشابان من جديد ليطلبا إلى هليودورس تقديم الشكر لأونيا الكاهن، وتمجيد الله الذي منّ عليه بالشفاء وليؤكدا له أن الأمر كان من قبل الرب (أنت الذي جلدته السماء آية 34) سواء جلده أو شفاءه، وذلك في إشارة إلى إعفاء اليهود من تهمة سيوجهها سمعان الخائن لاحقًا إلى اليهود. حقًا إن الله "يجرح ويعصب. يسحق ويداه تشفيان" (أيوب 5: 18)، "يُمِيتُ وَيُحْيِي" (1 صم 2: 6)، "يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ" (رؤ 3: 7).
35 فقدم هليودورس ذبيحة للرب وصلى صلوات عظيمة إلى الذي مَنَّ عليه بالحياة، وودع أونيا ورجع بجيشه إلى الملك. 36وكان يشهد أمام الجميع لما عاينه من أعمال الله العظيم. 37وسأل الملك هليودورس من ترى يكون أهلًا لأن يعود فيرسله إلى أورشليم، فقال: 38 "إن كان لك عدو أو صاحب دسيسة في المملكة، فأرسله إلى هناك، فيرجع إليك مجلودًا، إن نجا. فإن في ذلك المكان المقدس قدرة إلهية حقًا، 39 لأن الذي مسكنه في السماء هو يسهر على هذا المكان ويدافع عنه، فيضرب الذين يقصدونه بالشر ويهلكهم". 40 هذا ما كان من أمر هليودورس وحماية الخزانة.
كانت هذه الذبيحة تقدّم كتعبير عن الشكر لله، وبينما كان يرش دمها مستديرًا على المذبح، فقد كان شحمها مع الكبد والُكلى واللِّيَة تحرق على المذبح، ثم يأكل لحمها هو وعائلته، وكان يقدم مع الذبيحة فطير ورقاق مع خبز عادي مختمر (لاويين 3: 1-17).
وكان يمكن للغرباء أيضًا تقديم ذبائح السلامة، أو دفع ثمنها مثلما كان الكثير من الملوك يفعلون مع هيكل أورشليم، حين كانوا يقومون بنفقات الذبائح التي تقدم عن سلامتهم، لا سيّما عقب انتهاء وإحراز الانتصارات.
هكذا قدم هليودورس ذبيحة سلامة كما أشار عليه "الفتيان البهيان" شكرًا لله على نجاته، هذا وقد تأثّر الرجل كثيرًا بما حدث ومن ثم فقد راح يشهد للهيكل ولله وقدرته أمام الجميع، مما يؤكد لنا من جديد أنه شخص غير شرير. حتى أنه عندما تغاضى الملك عن فشله في المهمة وطلب مشورته فيمن يرسل لإتمامها، نصحه بعدم تكرار المحاولة حتى لا يواجه القائد الآخر المصير ذاته، وعندئذ كان هليودورس ما تزال المشاهد والأحداث التي جرت في الهيكل ماثلة قدامه، وكان التعليل الذي ساقه والذي يعكس خبرته هو أن إله السماء هو الذي يحرس الموضع. جدير بالذكر أن الأمم الساكنين حول اليهودية كانوا يطلقون على يهوه "إله السماء".
لقد اعترف هليودورس من جديد أن ما حدث كان من الله وليس من صنع بشر، حيث سيدّعى البعض لاحقًا بأنها كانت مجرد مؤامرة أو تمثيلية!
_____
(1) Jonathan Goldstein, II Macc.
(1) The Tebrunis Papyri, vol. IV, part 1 , London 1933.
([1]) Korposhly, II Macc.
(1) وجد تعبير إله الأرواح أو رب الأرواح في (عدد 16: 22 و17: 17) كما وُجد مصطلح "رب الأرواح" في نقشين معاصرين لياسون القيريني (الكاتب الأصلي لمكابيين ثان) ضمن صلوات يهودية طلبًا للانتقام، وجدا في جزيرة Rheneia اليونانية، كما ورد في بعض كتب الطقوس اليونانية، كما ورد في نبوات أخنوح (كتاب أبوكريفي) وكذلك في نص فارسي يرجع إلى عصر الإسكندر الأكبر. II Macc. Jonathan A. Goldsten,
(1) راجع كتاب بيلاطس البنطي للمؤلف.
(1) لم يكن نظام وضع اليد منطبقًا على غير اليهودي.
← تفاسير أصحاحات مكابيين ثاني: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15
تفسير المكابيين الثاني 4 |
قسم
تفاسير العهد القديم الأنبا مكاريوس الأسقف العام |
تفسير المكابيين الثاني 2 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/y4g55yv