← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23
الله الذي يجد مسرَّته في أن ينسب نفسه للأيتام والأرامل والمطرودين والمرذولين، يقدِّم شريعته من أجل تحويل حياة كل إنسان إلى حياة سبتيَّة، أي يصير كل عمره "سبت للرب". يود أن يحوِّل حياتنا إلى الراحة الحقَّة فيه. يجد الفقير في الله راحته، ويتمتَّع الغني بذات الحياة. وقد تحدَّث الكتاب المقدَّس قبلًا عن السنة السبتيَّة (خر 23: 10، لا 25: 1-7).
أوضح في هذا الأصحاح أن المدينين العاجزين عن سداد ديونهم لا يُحرمون من الانتفاع بالسنة السبتيَّة. هذا لا يعني أن الدين قد أزيل تمامًا، لكن المدينين يصيرون غير ملزمين بإيفاء الديون، أمَّا من كان عاجزًا عن الدفع فيُعفى منه. كما تحدَّث عن تحرير العبد العبراني (خر 21: 2-10) وعن ثقب أذن العبد الذي يقبل العبوديَّة بإرادته.
[1 -6]. |
||
[7 -11]. |
||
[12 -18]. |
||
[19 -23]. |
||
العبوديَّة في الكتاب المقدَّس وفكر الآباء |
1 «فِي آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تَعْمَلُ إِبْرَاءً. 2 وَهذَا هُوَ حُكْمُ الإِبْرَاءِ: يُبْرِئُ كُلُّ صَاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمَّا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ. لاَ يُطَالِبُ صَاحِبَهُ وَلاَ أَخَاهُ، لأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ بِإِبْرَاءٍ لِلرَّبِّ. 3 الأَجْنَبِيَّ تُطَالِبُ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَكَ عِنْدَ أَخِيكَ فَتُبْرِئُهُ يَدُكَ مِنْهُ. 4 إِلاَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيكَ فَقِيرٌ. لأَنَّ الرَّبَّ إِنَّمَا يُبَارِكُكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا لِتَمْتَلِكَهَا. 5 إِذَا سَمِعْتَ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِكَ لِتَحْفَظَ وَتَعْمَلَ كُلَّ هذِهِ الْوَصَايَا الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ الْيَوْمَ، 6 يُبَارِكُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ كَمَا قَالَ لَكَ. فَتُقْرِضُ أُمَمًا كَثِيرَةً وَأَنْتَ لاَ تَقْتَرِضُ، وَتَتَسَلَّطُ عَلَى أُمَمٍ كَثِيرَةٍ وَهُمْ عَلَيْكَ لاَ يَتَسَلَّطُونَ.
إن كانت الحياة المقدَّسة لا تقف عند ممارسات معيَّنة بل تمس علاقاتنا بأنفسنا والله والناس، لذا جاءت شريعة "سنة الإبراء" تكشف عن اهتمام الله، وبالتالي اهتمام أبنائه، بالمدينين غير القادرين على الإيفاء وإبرائهم من أجل الرب نفسه، وأيضًا بالمعدمين، والعبيد الذين لم يجدوا من يهتم بشأنهم.
"في آخر سبع سنين تعمل إبراء.
وهذا هو حكم الإبراء.
يبرئ كل صاحب دينٍ يده ممَّا أقرضه صاحبه.
لا يطالب صاحبه ولا أخاه،
لأنَّه قد نودي بإبراء للرب" [1-2].
أولًا: الله هو إله الكل، ينسب نفسه للمحتاجين والمتألِّمين، لذا قدَّم لهم شريعة سنة السبت (السنة السابعة) كسنة إبراء. يظهر مدى اهتمام الله بأولاده، إذ يحسب أن من كان مدينًا لأخيه، كأن الرب نفسه هو المدين. لهذا إذ يصر على إبراء الإخوة المحتاجين من ديونهم في السنة السبتيَّة "في آخر سبع سنين"، يدعو هذا الإبراء "إبراء الرب" [2].
ثانيًا: يريد الله أن يقيم من كل أيَّام حياتنا سبتًا مفرحًا، وراحة فيه. ففي كل أسبوع يقيم سبتًا للرب، أو "يوم الرب"، الذي فيه يعلن راحته بخلقته للعالم في الأيَّام الستَّة الأولى، وإذ خلق الإنسان في اليوم السادس استراح، مشتهيًا أن يقدِّم راحة الحب لمحبوبه الإنسان في اليوم السابع. أمَّا وقد جاء الكلمة الإلهي وأعاد خلقتنا، بإقامتنا معه من الأموات، وسكنى روحه القدُّوس فينا فجعل من يوم الأحد سبتًا له ولنا، صار هذا اليوم "يوم الرب" الذي يحوِّل كل أيَّام حياتنا إلى حياة مقدَّسة ومُقامة في الرب.
كل سبعة سنوات يقيم في السنة السابعة سنة للرب ليبارك كل سنين عمرنا، وكل خمسين عامًا، أي بعد سبع سنوات سبع مرات (7 × 7 = 49) يقيم لنا يوبيلًا مفرحًا في الرب. بمعنى آخر يقدِّم لنا الله على الدوام كل فرصة ممكنة لكي نتمتَّع بحياتنا كعيدٍ وراحةٍ في الرب. بقوله "إبراء للرب" يُعلن أن كل ما يمارسه المؤمن من عبادة أو احتفالات بأعياد أو عطاء أو تنازلات، جميعها باسم الرب ولأجله؛ وكأن المؤمن في كل أفكاره الداخليَّة وسلوكيَّاته إنَّما يحيا في الرب.
حقًا ما أروع تعبير "سنة إبراء للرب"، فإنَّها تشير إلى عمل السيِّد المسيح الذي كرز "بسنة الرب المقبولة" (لو 4: 19)، فقد جاء ليُبشر المساكين، وبالعتق للمسبيِّين (إش 58: 6؛ لو 4: 18). جاء إلينا نحن الفقراء، المثقَّلين بالديون ليقدِّم لنا المصالحة مع الله مجَّانًا بدمه (2 كو 5: 20).
كان جميع أولاد الله منذ آدم يتطلَّعون إلى سنة "الإبراء للرب"، وإذ نزل مسيحنا إلى الجحيم التقى بهم ألوف ألوف وربوات من الآباء والأنبياء والكهنة الشعب، من كبار وصغار يترقَّبون ذاك الذي وحده يفي دينهم، ويدخل بهم إلى التمتُّع بسنة الإبراء للرب.
ثالثًا: كما أن سبت الرب أو راحته هي في إبراء نفوسنا من الدين الذي كان علينا من جهة خطايانا، فدفع الثمن ببذل حياته من أجلنا، يليق بنا أن نرد هذا الحب بالحب نحو اخوتنا، فنغفر لهم أخطاءهم من نحونا، ونبرئهم من كل دين.
رابعًا: عدم إساءة استغلال الإبراء، إذ يقول: "الأجنبي تطالب، وأمَّا ما كان لك عند أخيك فتبرِّئه يدك منه" [3]. مطالبة الأجنبي بالدين ليس فيه إحجامًا، فإنَّه كغريبٍ يعيش في كنعان لا يملك أرضًا بل يعيش على التجارة أو الصناعة، فهو لا يفقد دخله في سنة الإبراء كما بالنسبة لليهودي. لهذا فهو مُطالب بتسديد ما اقترضه. يرى البعض أن الإبراء عن السنة السبتيَّة وحدها، يعود فيسدِّد المدين الدين بعد ذلك. وعلَّة ذلك في نظرهم أولًا أنَّه في السنة السبتيَّة لا يُمارِس أحد زراعته، وبالتالي لا توجد محاصيل يمكن بيعها لتسديد الديون. ثانيًا لو أن الدين يُمحى تمامًا، هذا يدفع الكثيرين إلى عدم إقراض الآخرين حتى لا تضيع قروضهم عليهم متى حلَّت السنة السبتيَّة.
جاءت كلمة "يبرئ" في العبريَّة تعني "يترك"، أي يترك الدائن الدين بين يديّ المدين، كما تُترك الأرض بلا زراعة في تلك السنة.
خامسًا: يسمح الله أن يوجد فقراء ومدينون بين شعبه، لكن إلى حين وفي حدود معيَّنة. "إلا أن لم يكن فيك فقير" [4]. فإذ يتم الإبراء كل سبع سنوات لا يوجد بينهم فقير مدقع، ولا من يحل به البؤس الشديد. يسمح بالفقر المؤقَّت وفي حدود معيَّنة، فيمارس الفقير مع الغني حياة الشكر؛ ويفرح الغني حين يُعطي ويبرِّئ، إذ يحسب أن ما يقدِّمه هو لشخص الرب نفسه، ويفرح الفقير والمدين إذ يرى الرب المحب معلنًا ومتجلِّيًا في سلوك الأغنياء والدائنين.
يرى البعض أن بقوله: "إلا أن لم يكن فيك فقير" [4]، يؤكِّد أن الإبراء ليس عامًا، بل هو إبراء للمحتاجين الفقراء، فإن غاية السنة السبتيَّة ليس أن يستغل المدينون دائنيهم، وإنَّما حفظ المؤمنين من الفقر المدقع.
سادسًا: إن كان الله قد طالب الدائنين أن يبرِّئوا المدينين، فقد قدَّم نفسه ملتزمًا أن يعوِّضهم عن الخسارة بنفسه:
"لأن الرب إنَّما يباركك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا لتمتلكها.
إذا سمعت صوت الرب إلهك لتحفظ وتعمل كل هذه الوصايا التي أنا أوصيك اليوم.
يباركك الرب إلهك كما قال لك،
فتقرض أممَّا كثيرة وأنت لا تقترض،
وتتسلَّط على أممٍ كثيرة،
وهم عليك لا يتسلَّطون [4-6].
عوض كونهم دائنين لاخوتهم يجعلهم دائنين لأممٍ كثيرة، ويهبهم قوَّة وسلطانًا على أممٍ كثيرةٍ. وكأنَّه لا يأمر الأغنياء بالإبراء مجانًا، لكنَّه يطلب لهم الغنى الأعظم والقوَّة والسلطة، لكن ليس على حساب اخوتهم بل بالنسبة للغرباء.
يبرز الرسول بولس اهتمامه بالمعطي كما بالشخص الذي يأخذ، قائلًا: "فإنَّه ليس لكي يكون للآخرين راحة ولكم ضيق، بل بحسب المساواة.. كما هو مكتوب الذي جمع كثيرًا لم يفضل، والذي جمع قليلًا لم ينقص" (2 كو 8: 13-15).
سابعًا: إن كانت الأرض التي أعطيت للشعب هي هبة مجانيَّة من قبل الله الذي يريد لهم الغنى والحريَّة، فإنَّه يليق بهم ألاَّ يتركوا الفقراء المقترضين في حالة فقر ومذلَّة، إذ قيل: "الغني يتسلَّط على الفقير، والمقترض عبد للمقرض" (أم 22: 7).
ثامنًا: لئلاَّ يتوقَّف الأغنياء عن إقراض الفقراء طالبهم بالإبراء في السنة السابعة فقط بعد التأكَّد من عجز المدين عن السداد. هذا وقدم الله نفسه ضامنًا للتعويض عن كل خسارة.
تاسعًا: جاءت الشريعة الخاصة بالسنة السبتيَّة التي فيها يتم "الإبراء للرب" درسًا عمليًا في التخلِّي عن محبَّة المال أو الطمع الذي يسيطر على القلوب بكونه عبادة أوثان. وكما يقول الرسول بولس: "فإنَّكم تعلمون هذا أن كل طمَّاع الذي هو عابد للأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح والله" (أف 5: 5). "فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ.. الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ" (كو 3: 5).
يليق بالإنسان أن يعمل لا ليجمع لنفسه بل ليُعطي الآخرين: "بِالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلًا الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ" (أف 4: 28).
في الواقع هذه الشريعة الخاصة بإبراء المدينين الفقراء كانت أشبه بإعلان "الاخوة" بين جميع المؤمنين في الله الواحد. يقوم الإبراء على أساس الله أب للجميع، طبيعته غافر الذنوب، فمن يعفو عن أخيه يستحق أن ينال العفو من الله. وقد قدَّم السيِّد المسيح توضيحًا لذلك بمثل المدين بعشرة آلاف وزنة الذي أبرأه الدائن، لكن إذ رفض أن يعفو عن العبد رفيقه المدين له بمائة دينار عاد الدائن يطلب منه أن يفي بالعشرة آلاف وزنة. يقول سليمان الحكيم: "المروي هو أيضًا يُروى" (أم 11: 25)، من يروي الآخرين بالحب إنَّما يروي نفسه بحب الله الأعظم.
7 «إِنْ كَانَ فِيكَ فَقِيرٌ، أَحَدٌ مِنْ إِخْوَتِكَ فِي أَحَدِ أَبْوَابِكَ فِي أَرْضِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، فَلاَ تُقَسِّ قَلْبَكَ، وَلاَ تَقْبِضْ يَدَكَ عَنْ أَخِيكَ الْفَقِيرِ، 8 بَلِ افْتَحْ يَدَكَ لَهُ وَأَقْرِضْهُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. 9 احْتَرِزْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ قَلْبِكَ كَلاَمٌ لَئِيمٌ قَائِلًا: قَدْ قَرُبَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ، سَنَةُ الإِبْرَاءِ، وَتَسُوءُ عَيْنُكَ بِأَخِيكَ الْفَقِيرِ وَلاَ تُعْطِيهِ، فَيَصْرُخَ عَلَيْكَ إِلَى الرَّبِّ فَتَكُونُ عَلَيْكَ خَطِيَّةٌ. 10 أَعْطِهِ وَلاَ يَسُوءْ قَلْبُكَ عِنْدَمَا تُعْطِيهِ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هذَا الأَمْرِ يُبَارِكُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فِي كُلِّ أَعْمَالِكَ وَجَمِيعِ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ يَدُكَ. 11 لأَنَّهُ لاَ تُفْقَدُ الْفُقَرَاءُ مِنَ الأَرْضِ. لِذلِكَ أَنَا أُوصِيكَ قَائِلًا: افْتَحْ يَدَكَ لأَخِيكَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ فِي أَرْضِكَ.
"إن كان فيك فقير أحد من اخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك، فلا تقسِ قلبك، ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير.
بل افتح يدك له واقرضه مقدار ما يحتاج إليه.
احترز من أن يكون مع قلبك كلام لئيم قائلًا قد قربت السنة السابعة سنة الإبراء وتسوء عينك بأخيك الفقير ولا تعطيه.
فيصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطيَّة.
اَعطه ولا يسؤ قلبك عندما تعطيه،
لأنَّه بسبب هذا الأمر يباركك الرب إلهك في كل أعمالك وجميع ما تمتد إليه يدك.
لأنَّه لا تفقد الفقراء من الأرض،
لذلك أنا أوصيك قائلًا:
افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك" [7-11].
إن حسبنا أن ما ورد في هذا الأصحاح هو جزء من البرنامج الذي وضعه الله بخصوص الفقراء "Program for the poor"، كما تفعل الآن أغلب بلاد العالم، فإن الله قد دخل بنا إلى جذور المشكلة. فقد قامت أنظمة كثيرة تَدَّعي أنَّها "اشتراكيَّة" وظنَّت أنَّها تقضي تمامًا على وجود فقراء مدقعين في المجتمع، كما وضعت البلاد الرأسماليَّة المتقدِّمة برنامج خاص بالمحتاجين، ومع هذا نجد في كل الصنفين في المدينة الواحدة أغنياء غنى فاحشًا وفقراء مدقعين تمامًا(149). أمَّا الله فقد أعلن: "لا تقسِ قلبك... احترز من أن يكون مع قلبك كلام لئيم" [7-8]. فإن مشكلة التفاوت الخطير في الطبقات ماديًا ترجع إلى القلب الذي أفسدته الخطيَّة، ولا علاج بالأنظمة الخارجيَّة ما لم يتغيَّر القلب ويتجدَّد، رافضًا الخطيَّة.
أولًا: يلزمنا خلال الحب أن نعطي أو نقرض حسب ظروفنا وحسب احتياج الغير. "لا تقسِّ قلبك" [7]، فالإحسان ينبع من القلب، كما أن إحسان الله من قلبه المحب.
ثانيًا: يهتم الله بتقديسنا، وتشكيل أعماقنا مع سلوكنا الظاهري، لهذا يوصي: "فلا تقسِ قلبك، ولا تقبض يدك على أخيك الفقير" [7]. عندما تقبض اليد أو تغلق عن العطاء إنَّما تكشف عن قسوة القلب الداخليَّة. لأنَّه "إذا امتلأت السحب مطرًا تريقه على الأرض" (جا 11: 3). إذ يكون لنا الإيمان نبسط أيدينا للعطاء بسخاء، وكما يقول: يعقوب الرسول: "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي، فقال لهما أحدكم: أمضيا بسلام استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد، فما المنفعة؟!" (يع 2: 15-16).
يحذِّر الأغنياء لا من الامتناع عن إعطاء قروض فحسب، وإنَّما عما هو أهم وهو فساد القلب ولؤمه:
"احترز من أن يكون مع قلبك كلام لئيم، قائلًا:
قد قربت السنة السابعة سنة الإبراء وتسوء عينك بأخيك الفقير ولا تعطيه" [9].
يحذِّرنا من الأفكار الخفيَّة النابعة عن قلبٍ فاسدٍ، فلا يكفي الحذر من التصرُّف الخاطئ فحسب، وإنَّما من الأعماق الفاسدة. أمَّا العين السيئة أو الشرِّيرة هنا فهي ضدّ العين البسيطة التي طوَّبها السيِّد المسيح (مت 6: 22؛ لو 11: 34).
* هذه هي قمَّة الفضيلة، أساس كل وصايا الله، أن يرتبط حب الله بحب القريب (مت 22: 39، مر 12: 31، لو 10: 27). من يحب الله لا يستخف بأخيه، ولا يحسب المال أفضل من العضو الذي له، بل يظهر له سخاءً عظيمًا، مهتمًا بذاك القائل: "بما أنَّكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 40). أنَّه يدرك أن رب الكل يحسب أن ما يُفعل بسخاء للفقير لإراحته قد فعل معه هو. فلا يتطلَّع الشخص إلى مظهر الفقير البسيط بل إلى عظمة ذاك الذي يعد بأن يقبل ما يقدَّم للفقير كأنَّه مقدَّم له(150).
ثالثًا: بقوله "يباركك الرب" [10] يؤكِّد أن الدائن الذي يتنازل عن الدين للمدين الفقير بقلبٍ نقيٍ مملوء حبًا لله لا يفقد شيئًا، بل وتصير كل حياته "بركة". تتبارك كل أعماله، وكل ما تمتد إليه يده. إذ يرى الدائن في مدينه الرب نفسه يتقبَّل إيفاء الدين، ويصير كَمَنْ هو حامِل الرب فيه، يصير مُباركًا به، ويصير كل ما يلمسه مباركًا. أينما حلَّ، حلَّت بركة الرب العاملة فيه على كل ما حوله!
رابعًا: قد يمتنع الإنسان عن الإقراض خاصة عند اقتراب السنة السابعة، حاسبًا ذلك نوعًا من الحكمة، فيطلب ما لنفسه متجاهلًا ما هو لله وللغير. وكما يقول المرتِّل: "لأنَّه في حياته يبارك نفسه، ويحمدونك إذا أحسنت إلى نفسك" (مز 49: 18). الله يريدنا أن نعطي بسرور (2 كو 9: 7)، أمَّا عطيَّته للسخي فهي كما يقول في إشعياء النبي: "يقودك الرب على الدوام، ويشبع في الجدوب نفسك، وينشط عظامك فتصير كجنَّة ريَّا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه" (إش 58: 11).
خامسًا: تحذّرنا الوصيَّة الإلهيَّة من تجاهل الفقراء والمعتازين، فإنَّهم إذ يصرخون يسمع الله أصواتهم المملوءة مرارة. وقد حذَّرنا العهد الجديد من هذا الأمر: ففي (مت 25: 31-46) حسب الله من يتجاهل الفقراء يفقد الميراث الأبدي، لأن التجاهل موجَّه ضدّ الله نفسه. ويحذِّرنا يعقوب الرسول من الظلم الساقط على العمال الفقراء قائلًا: "هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحصَّادين قد دخل إلى أذنيّ رب الجنود" (يع 5: 4). جاء في (1 يو 3: 17) "وأمَّا من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجًا وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبَّة الله فيه؟!"
أحد الهبات التي يقدِّمها الله لشعبه أن يوجد بينهم فقراء حتى تمتد أيديهم بالحب والعطاء، فينالون بركة العطاء، ويتمتَّعون بعمل الله معهم: "لأنَّه لا تُفقد الفقراء من الأرض" [11]، فيحنو الرب علينا بحبُّه. وجود فقراء بيننا أو معتازين إلى شيء ما هو إلاَّ فرصة لكي نفتح قلوبنا بالحب وأيادينا بالعطاء (تث 15: 11). يقول السيِّد المسيح: "لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ.. كُلِّ حِينٍ" (يو 12: 8). أنَّها بركة لكي يجد الأغنياء الصالحين فرصة العطاء بكل القلب، ويرفع الفقراء قلوبهم بالشكر لله واهب الحب. لكن التفاوت الخطير ووجود فقراء مدقعين هو ثمرة من ثمار خطايانا وفساد قلوبنا. وإذ يعلم السيِّد أن الخطيَّة لا تفارق العالم الحاضر أكَّد أن الفقراء معنا في كل حين. إذن الحاجة هي إلى تقديس القلب، فنعمل ما استطعنا مع الفقراء، ونرفع بالحب هذا التفاوت بصورته القاسية.
12 «إِذَا بِيعَ لَكَ أَخُوكَ الْعِبْرَانِيُّ أَوْ أُخْتُكَ الْعِبْرَانِيَّةُ وَخَدَمَكَ سِتَّ سِنِينَ، فَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ تُطْلِقُهُ حُرًّا مِنْ عِنْدِكَ. 13 وَحِينَ تُطْلِقُهُ حُرًّا مِنْ عِنْدِكَ لاَ تُطْلِقُهُ فَارِغًا. 14 تُزَوِّدُهُ مِنْ غَنَمِكَ وَمِنْ بَيْدَرِكَ وَمِنْ مَعْصَرَتِكَ. كَمَا بَارَكَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ تُعْطِيهِ. 15 وَاذْكُرْ أَنَّكَ كُنْتَ عَبْدًا فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَفَدَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. لِذلِكَ أَنَا أُوصِيكَ بِهذَا الأَمْرِ الْيَوْمَ. 16 وَلكِنْ إِذَا قَالَ لَكَ: لاَ أَخْرُجُ مِنْ عِنْدِكَ. لأَنَّهُ قَدْ أَحَبَّكَ وَبَيْتَكَ، إِذْ كَانَ لَهُ خَيْرٌ عِنْدَكَ، 17 فَخُذِ الْمِخْرَزَ وَاجْعَلْهُ فِي أُذُنِهِ وَفِي الْبَابِ، فَيَكُونَ لَكَ عَبْدًا مُؤَبَّدًا. وَهكَذَا تَفْعَلُ لأَمَتِكَ أَيْضًا. 18 لاَ يَصْعُبْ عَلَيْكَ أَنْ تُطْلِقَهُ حُرًّا مِنْ عِنْدِكَ، لأَنَّهُ ضِعْفَيْ أُجْرَةِ الأَجِيرِ خَدَمَكَ سِتَّ سِنِينَ. فَيُبَارِكُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فِي كُلِّ مَا تَعْمَلُ.
"إذا بيع لك أخوك العبراني أو أختك العبرانيَّة وخدمك ست سنين ففي السنة السابعة تطلقه حرًا من عندك" [12].
لقد دُعي الشعب للحريَّة، فإن اضطرَّ إنسان ما أن يبيع نفسه عبدًا يلزمه ألاَّ يُترك في عبوديَّة دائمة بل يتحرَّر، إمَّا في السنة السابعة أو سنة اليوبيل أيُّهما أقرب (خر 21: 2).
علَّق جون نيوتن الذي كان سابقًا تاجرًا للعبيد قبل تجديده على هذه الآية في مكتبه لتُذكِّره بالدين الذي كان عليه بصفة خاصة.
إذ دافع القديس جيروم عن بتوليَّة القدِّيسة مريم أوضح أن الذين دُعُوا اخوة يسوع كانوا أبناء خالته من مريم أخت أمه، وذلك حسب عادة اليهود، إذ يدعون اليهود اخوة، خاصة الأقرباء. وقد اعتمد على سفر التثنية (تث 15: 12؛ 17: 15؛ 22: 1)(151).
"وحين تطلقه حرًا من عندك لا تطلقه فارغًا.
تزوِّده من غنمك ومن بيدرك ومن معصرتك كما باركك الرب إلهك تعطيه.
واذكر أنَّك كنت عبدًا في أرض مصر ففداك الرب إلهك، لذلك أنا أوصيك بهذا الأمر اليوم.
ولكن إذا قال لك لا اخرج من عندك لأنَّه قد أحبَّك وبيتك إذ كان له خير عندك.
فخذ المخرز واجعله في آذنه وفي الباب،
فيكون لك عبدًا مؤبَّدًا، وهكذا تفعل لأَمتك أيضًا.
لا يصعب عليك أن تطلقه حرًا من عندك لأنَّه ضعفيّ أجرة الأجير خدمك ست سنين، فيباركك
الرب إلهك في كل ما تعمل" [13-18].
حين يُطلب من السيِّد أن يطلق عبيده يليق به ألاَّ يظن أنَّه فعل أمرًا عظيمًا، إنَّما يرُدّ الدين الذي عليه عند الرب. فالرب أخرجه من أرض مصر حين أخرج آباءه ووهبهم عند خروجهم ذهبًا كثيرًا مع بركات لا حصر لها، لذا يرُدّ المؤمن هذا الدين الإلهي لدى أخيه العبد، فيُطلقه ويهبه مع الحريَّة عطايا كثيرة.
إبراء العبد في السنة السابعة من عبوديَّته ليس منحة من السيِّد نحو عبده أو أَمَته، إنَّما هو حق لكل إنسان أن يعيش حرًا، لا يجوز لأحد أن يغتصب منه هذا الحق. فإن السنوات الست التي يعمل فيها العبد هي التزام بالعمل، وليس بفقد الحريَّة التي وهبها الله للإنسان.
أمَّا إن أراد العبد أن يبقى في بيت السيِّد، ليس عن عوز أو احتياج أو عدم وجود فرصة عمل له بل "لأنَّه قد أحبَّك"، فتثقب أذنه عند الباب كعلامة لا للعبوديَّة، بل للحب الفائق. فبكامل إرادته فضَّل العبوديَّة الملتحمة بالحب، عن الحريَّة التي تصاحبها انفصال عن المحبوب! الحب يعطي العبوديَّة الاختياريَّة عذوبة فائقة.
مع أن عدديّ [16-17] يُظهران لنا أن الرق كان مباحًا في إسرائيل إلاَّ أن حالة العبيد كانت سعيدة في غالب الأحيان، وكانت القوانين تساندهم.
"أَمتك" [17] ينطبق هذا على السيِّدات اللاتي قدَّمن أنفسهنَّ للخدمة باختيارهنَّ، كما ينطبق على الرجال المذكورين آنفًا، ولا ينطبق على من بُعن كسراري (خر 21: 7).
19 «كُلُّ بِكْرٍ ذَكَرٍ يُولَدُ مِنْ بَقَرِكَ وَمِنْ غَنَمِكَ تُقَدِّسُهُ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَشْتَغِلْ عَلَى بِكْرِ بَقَرِكَ وَلاَ تَجُزَّ بِكْرَ غَنَمِكَ. 20 أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ تَأْكُلُهُ سَنَةً بِسَنَةٍ، فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ، أَنْتَ وَبَيْتُكَ. 21 وَلكِنْ إِذَا كَانَ فِيهِ عَيْبٌ، عَرَجٌ أَوْ عَمًى، عَيْبٌ مَّا رَدِيءٌ، فَلاَ تَذْبَحْهُ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. 22 فِي أَبْوَابِكَ تَأْكُلُهُ. النَّجِسُ وَالطَّاهِرُ سَوَاءً كَالظَّبْيِ وَالأُيَّلِ. 23 وَأَمَّا دَمُهُ فَلاَ تَأْكُلُهُ. عَلَى الأَرْضِ تَسْفِكُهُ كَالْمَاءِ.
"كل بكر ذكر يولد من بقرك ومن غنمك تقدِّسه للرب إلهك،
لا تشتغل على بكر بقرك ولا تجز بكر غنمك.
أمام الرب إلهك تأكله سنة بسنة في المكان الذي يختاره الرب أنت وبيتك.
ولكن إذا كان فيه عيب عرج أو عمى، عيب ما رديء فلا تذبحه للرب إلهك.
في أبوابك تأكله: النجس والطاهر سواء كالظبي والآيل.
وأمَّا دمه فلا تأكله، على الأرض تسفكه كالماء" [19-23].
سبق الحديث عن ذلك في (خر 13: 2، 15؛ 34: 19؛ عد 18: 17-18)(*).
إن كان الله قد فدى كل بكر من شعبه، فلم يهلكوا مع أبكار المصريِّين أثناء الضربة العاشرة (خر 13: 11-16)، لهذا يليق بهم أن يقدِّموا بكور حيواناتهم علامة الرغبة في تكريس كل ما لهم للرب [19-23].
الله الكُلِّي النقاوة والقداسة لا يقبل من أيدي شعبه ذبيحة بها عيب، خاصة وأنَّها ظل لذبيحة المسيح الذي بلا خطيَّة. كل عيب في أيَّة ذبيحة أو تقدمة لا تكون لمغفرة الخطايا، بل تضيف إلى الخاطئ خطيَّة العصيان للوصيَّة.
قيل عن ذبيحة المسيح: "لأنَّه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجَّسين يقدِّس إلى طهارة الجسد، فكم بالأحرى يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب يظهر ضمائركم من أعمال ميِّتة لتخدموا الله الحيّ؟!" (عب 9: 13، 14). يقدِّم السيِّد المسيح نفسه ذبيحة بلا عيب لكي يحضر لنفسه كنيسته المفديَّة بدمه "كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو أي شيء من مثل ذلك بل تكون مقدَّسة وبلا عيب" (أف 5: 27). لهذا يوصينا بطرس الرسول: "اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنسٍ ولا عيبٍ في سلام" (2 بط 3: 14). هذا هو عمل المخلِّص نفسه كقول يهوذا الرسول: "القادر أن يحفظكم غير عاثرين ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج" (يه 24). كما قيل عن المفديِّين في مجدهم السماوي: "في أفواههم لم يوجد غش لأنَّهم بلا عيب قدام عرش الله (رؤ 14: 5).
إذ نتَّحد بالمسيح يسوع ربنا الذبيح الذي بلا عيب نحمل برّه، فنصير في عينيّ الآب بلا عيب، مقدِّمين حياتنا مبذولة مع مسيحنا كذبيحة حب وشكر متَّحدة بذبيحة المسيح.
عندما سألت لائيته القديس جيروم أن يقدِّم لها نصائح في تربيتها لابنتها باولا Paula (على اسم جدَّتها)، قدم لها هذا النص ليوضِّح لها أنَّه يجب ألاَّ تهمل في تقديم ابنتها تقدمة طاهرة للرب بلا عيب. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). [أتحدَّث بصفة عامة لأنَّه بخصوص حالتك ليس أمامك اختيار، إذ قدَّمتي طفلتك حتى قبل الحبل بها. من يقدِّم ذبيحة فيها عيب عرج أو عمى، عيب ما رديء يكون قد ارتكب جريمة دنس. كم بالأكثر تعاقب من صارت مستعدَّة لتقديم جزء من جسدها ومن نقاوة نفسها التي بلا لوم لقبلات الملك ثم تعود فتهمل في تقدمتها؟(152)].
نهتم بالأرض (الزراعة) والفقراء والعبيد، هكذا يلزمنا أن نهتم ببيت الله فنقدِّم البكور التي بلا عيب للرب (راجع خر 13: 1-2؛ 34: 19-20؛ لا 27: 26-29؛ عد 18: 15-19). تقدَّم بكور البقر والغنم التي بلا عيب لله كذبائح سلامة، أمَّا التي بها عيب فيذبحونها في منازلهم. ما هذه البكور إلاَّ ظلال للبكر الحقيقي يسوع المسيح الذي هو بلا عيب، قُدِّم عن البشريَّة كلَّها ذبيحة سلام لله أبيه، يشتمها رائحة رضًا عنَّا جميعًا.
* إذ خلقت الإنسان في اليوم السادس،
صار اليوم السابع سبتًا لك.
وجدت في الإنسان راحتك من أجل مسرَّتك به.
ووهبت الإنسان سبتك راحة له.
لتكن حياتي كلَّها سبتًا لك يا مصدر كل راحة!
* إذ تجد راحتك في المحتاجين والمتعبين،
سألتني أن اهتم بكل محتاج ومتألِّم!
لأترفَّق بهم من أجلك.
لأبرئ كل مدين محتاج!
أنت تفي، أنت تُعوِّضني عن كل تنازل من جانبي!
وفَّيتَ بدمك الثمين كل ديون نفسي،
هب لي أن أتنازل عن كل دين مادي من أجلك!
* صرت أخًا لي أنا غير المستحق أن أكون لك عبدًا،
هب لي أن أقبل كل فقير أخًا لي في الرب.
إذ قبلت أن أكون لك عبدًا،
أخذتني إلى أبواب سمائك وفتحت أذني لسماع صوتك.
قبلتني ابنًا مباركًا، شريكًا لك في المجد الأبدي!
* وهبتني كل شيء،
لأقدِّم لك ممَّا لك العشور والبكور.
اقبل تقدمتي التي هي عطيَّتك!
إنِّي أخجل إذ أرى واهب الكل يمد يده ويقبل تقدمتي!
لك المجد يا من تنازل ليقبل تقدمتي!
ملحق الأصحاح الخامس عشر عن
العبد هو شخص ملتزم بالاستعباد لكائن بشري آخر، ملتزم أن يعمل لحسابه حسبما يأمره، ليس له أيَّة حرِّيَّة، ويكاد يفقد كل حقوقه الإنسانيَّة. يُوصف العبد بأنَّه "شيء مملوك" (خر 21: 21)، أشبه بقطعة أثاث لسيِّده حق التصرٌّف فيه كيفما يشاء، ويسلٍّمه مِلكًا لأبنائه من بعده ميراثًا يقتنوه (لا 25: 45-46)، تقدَّر قيمته بمبلغ ما من المال.
عرفت الشعوب الوثنيَّة نظام الرق، يستوي في ذلك الشعوب المتخلِّفة مع المتحضِّرة كالإغريق والرومان. وقد أيَّد بعض فلاسفة العالم الوثني هذا النظام، كنظام طبيعي وضروري، وأعلن أرسطو أن جميع البرابرة (غير المتحضِّرين) عبيد بالمولد، ولا يصلحون إلا لهذا العمل. ولم يعطِ القانون الروماني للعبيد أي حق مدني أو إنساني، إذ لا يعاقب السيِّد أو يُحاسب إن عذب عبدًا (أو أَمَة) أو قتله أو صنع معه الفحشاء أو اغتصب منه زوجته لتكون إحدى سراريه أو لتصير عاهرة!(154)
إن قورن نظام العبوديَّة عند اليهود بالأنظمة التي كانت لدى الأمم الأخرى يُحسب نظامًا معتدلًا وفيه رحمة. لا يمكن القول أن الشريعة الموسويَّة قد قبلت هذا النظام، إنَّما إذ كان النظام سائدًا في العالم. لم يكن ممكنًا للشريعة اليهوديَّة أن تمنع هذا النظام دفعة واحدة، لهذا التزمت بتقديم قواعد ونظم لتحِد من قسوة النظام، وتحفظ للعبد حقُّه الإنساني، وتنزع عنه -إلى حد كبير- جانب الإذلال، ليعيش كإنسان وأخ تحت ظروفه القاسية. وتعطي حقوقًا للعبيد كما للسادة قدر ما يمكن تنفيذه في ذلك الحين. وقد عرف اليهود نوعين من العبوديَّة: عبوديَّة العبرانيِّين، وعبوديَّة الأمميِّين.
لقد حرمت الشريعة سرقة البشر أنفسهم بقصد تجارة الرقيق، وجعلت عقوبتها الإعدام؛ فبالنسبة للتجارة بالإسرائيليِّين قيل: "إذا وُجد رجل قد سرق نفسًا من إخوته بني إسرائيل واسترقَّه وباعه يموت ذلك السارق فتَنزع الشرّ من وسطك" (تث 24: 7). أمَّا بالنسبة لتجارة الرق عامة، سواء أكان الشخص إسرائيليًا أو أجنبيًا قيل: "ومن سرق إنسانًا وباعه أو وُجد في يده يُقتل قتلًا" (خر 21: 16).
يعود نظام العبوديَّة إلى عصر نوح، فاللعنة التي حلَّت بكنعان بن نوح بسبب تشهيره بوالده هي: "عبد العبيد يكون لإخوته" (تك 9: 25). وقد ظهرت أنظمة العبوديَّة المتنوِّعة منذ القدم، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أصناف.
1. عبوديَّة منزليَّة (لدى أهل البيت): وهو النوع الذي كان أكثر شيوعًا من غيره. فمع وجود أشخاص يعملون كأجراء لكن وُجد أشخاص عبرانيُّون أو أجانب من الجنسين يعملون كخدم، يملكهم صاحب البيت. ولعلَّ هاجر التي كانت تخدم إبراهيم وسارة تعتبر مثلًا لذلك (تك 16: 1). وكما أشار السيِّد المسيح في أمثاله إلى "عبيد رب البيت" (مت 13: 27؛ 21: 34).
2. عبيد لحساب الدولة (نظام السخرة): نوع آخر من العبوديَّة كان شائعًا، الأمر الذي سقط فيه الإسرائيليُّون حيث كانوا يعملون تحت مسخِّرين مصريِّين (خر 3: 6-19؛ 13: 3). كما جعل سليمان الشعوب الكنعانيَّة عليهم "تسخير عبيد" (1 مل 9: 20-21)
3. عبيد لخدمة الهيكل: قام موسى ويشوع بتعيين أناس كعبيدٍ لخدمة العاملين في الهيكل، منهم من كان يحتطب حطبًا أو يستقي ماء لبيت الله (عد 31: 25-47؛ يش 9: 21-27).
وُجد مصدران رئيسيَّان لجلب العبيد، هما الفقر في أوقات السلام، والأسر في أيَّام الحرب. وكان يمكن اقتناء العبيد بالطرق التالية:
1. بالشراء: يمكن للشخص أن يشتري عبدًا، كما حدث بالنسبة ليوسف بن يعقوب، إذ باعه إخوته بعشرين شاقلٍ من الفضَّة عبدًا (تك 37: 28). يمكن للإسرائيلي أيضًا أن يشتري عبدًا (لا 25: 39، 44). يمكن أن يبيع إنسان ما المقرَّبين إليه جدًا، كأن يبيع الأب ابنته (خر 21: 7؛ نح 5: 5)، ويمكن بيع أبناء الأرملة لسداد دين أبيهم (2 مل 4: 1)، ويمكن للرجل المدقع في الفقر أن يبيع نفسه للعمل من أجل تسديد ديونه حتى يحل اليوبيل فيُعتق من عبوديَّته (لا 25: 39، 47)، وأيضًا المرأة تبيع نفسها (تث 15: 12، 13، 17).
لم يكن ثمن العبد محدَّدًا. كان السعر السائد حسب ما ورد في (خر 21: 32) هو 30 شاقلًا عن العبد، وجاء في (لا 27: 3-7) أن الثمن يتراوح من 3-50 شاقلًا حسب عمر العبد وجنسه مع الالتجاء إلى الكاهن في حالة عدم القدرة على تحديد الثمن (لا 27: 8). وكان ثمن الصبي 20 شاقلًا. هذا يُطابق ما دُفع ثمنًا ليوسف (تك 37: 28). لكن جاء في (2 مك 8: 11) أن ثمن العبد حوالي 90 وزنة، أي 40 شاقلًا.
في حالة بيع إنسان ابنته بسبب فقره فإنَّه ليس من حق السيِّد أن يبيعها لرجل أجنبي، وإن زوَّجها لابنه يُفعل لها كل ما يُفعل لفتاة مخطوبة، وإن تزوَّجها هو ثم تزوَّج أخرى فلا يُنقصها حقَّها من جهة الطعام أو الكسوة أو المعاشرة الزوجيَّة، وإلاَّ تتركه مجَّانًا.
2. تبادل العبيد: يمكن للعبراني أن يستبدل العبد الأجنبي بعبدٍ آخر أو بقطيعٍ أو بأيَّة مئونة.
3. كسدادٍ لدين: الفقراء العاجزون عن سداد ديونهم يمكن أن يقدِّموا أنفسهم عبيدًا مقابل الدين (خر 21: 2-6؛ نح 5: 1-5)، غير أنَّه يجب ألاَّ يستغل الدائن فقر المدين بل يُعامله كأخ. "وإذا افتقر أخوك وقصُرت يده عندك فأعضده غريبًا أو مستوطنًا فيعيش معك. لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة، بل اخش إلهك فيعيش أخوك معك... وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبيد، كأجير كنزيل يكون عندك" (لا 25: 35-40).
4. هديَّة: يُمكن أن يُقدَّم العبد كهديَّة (تك 29: 24).
5. بالميراث: يُمكن للأبناء أن يرثوا العبيد الغرباء كممتلكات لهم (لا 25: 46).
6. العبوديَّة بحرِّيَّة الإرادة: عند إبراء العبد في السنة السابعة له حق الخيار بين التحرُّر أو البقاء كعبدٍ كل أيَّام غربته من أجل حبُّه لسيِّده (خر 21: 6). غير أن التاريخ لم يذكر حالة واحدة عن عبدٍ قبِل باختياره أن يبقى في العبوديَّة بإرادته الحرَّة.
7. اللص العاجز عن رد ما سرقه: "إن لم يكن له يُبع بسرقته" (خر 22: 3)، ويمكن بعمله أن يسدِّد ما سرقه مع الجزاء عن سرقته.
8. بالميلاد: أبناء العبد العبراني بحكم الميلاد يصيرون عبيدًا للسيِّد، إن تحرَّر الأب وكان قد تزوَّج بأَمَة (عبدة) لدى السيِّد، فتبقى السيِّدة وأولادها عبيدًا. كان عدد العبيد يتزايد بسبب الأطفال المولودين في البيت من العبيد.
9. أسرى الحرب: غالبًا ما يصير أسرى الحرب عبيدًا (تك 14: 21). يقتل العدو بعض الرجال ويتركون البعض الآخر الرجال والنساء والأطفال ويجعلون منهم عبيدًا ومن النساء سراري لهم (تث 21: 10-11، 14).
صار كثير من الإسرائيليِّين عبيدًا لدول غريبة حين سقطوا أسرى حرب في فترات مختلفة، بواسطة الفينيقيِّين [(يؤ 3: 6) أكثر الدول شهرة في تجارة العبيد قديمًا]؛ والفلسطينيِّين (عا 1: 6) والسوريِّين (قض 3: 8؛ 1 مل 20: 1-3؛ 2 مل 8: 12)(**)، والمصريِّين(155) والرومانيِّين.
كان غالبيَّة العبيد لدى اليهود هم أسرى حرب، إمَّا عن بعض الشعوب الكنعانيَّة التي تبقَّت في البلاد أثناء استيلاء يشوع عليها، أو من الأمم المحيطة حيث انتصرت إسرائيل عليهم (عد 31: 26-28). كما اشتروا كثيرين عبيدًا غرباء (لا 25: 44-45)، وصار البعض عبيدًا بسبب الفقر أو لجرائم ارتكبوها.
بالنسبة للخدمة التي يلتزم بها العبيد نحو سادتهم العبرانيِّين، فإنَّها تختلف إن كان العبد عبرانيًا بكونه أخًا للسيِّد العبراني أو كان أجنبيًا.
أ. يتمتَّع العبد العبراني لدى سيِّده العبراني بما لا يتمتَّع به العبيد اليونانيُّون أو الرومان أو غيرهم. يعامل العبد العبراني كأخٍ، ليس في مذلَّة. لما كان الإسرائيليُّون هم خدَّام الله فإنَّهم إذ يصيرون عبيدًا لدى اخوتهم، يُعاملون كخدم أجراء، شركاء معًا في رحلتهم، ويترفَّق بهم السادة (لا 25: 39؛ تث 15: 14). "لا تستعبده استعباد عبدٍ، كأجيرٍ كنزيلٍ يكون عندك... لأنَّهم عبيدي الذين أخرجتهم من أرض مصر، لا يباعون بيع العبيد. لا تتسلَّط عليه بعنف، بل اخشَ إلهك" (لا 25: 39-43). بذلك قدَّمت الشريعة نظرة جديدة للعبد، إنَّه شريك في العبوديَّة لله الواحد.
على أي الأحوال فإن التعامل مع العبيد يتوقَّف غالبًا على شخصيَّة السيِّد (تك 24؛ 39: 1-6). كان رجال الله الحقيقيِّين يخشون الله في معاملتهم للعبيد والأمة، فيقول أيوب: "إِنْ كُنْتُ رَفَضْتُ حَقَّ عَبْدِي وَأَمَتِي فِي دَعْوَاهُمَا عَلَيَّ، فَمَاذَا كُنْتُ أَصْنَعُ حِينَ يَقُومُ اللهُ؟ وَإِذَا افْتَقَدَ، فَبِمَاذَا أُجِيبُهُ؟ أَوَلَيْسَ صَانِعِي فِي الْبَطْنِ صَانِعَهُ، وَقَدْ صَوَّرَنَا وَاحِدٌ فِي الرَّحِمِ" (أي 31: 13-15). لكن بالتأكيد كان العبد عبدًا في مذلَّة، وكثير من السادة كسروا الناموس وأساءوا إلى إخوتهم العبيد. وللأسف كان نصيب النساء من العنف أكثر، إذ كنَّ يعاملن بكل ملء القسوة التي لا تعرف الإنسانيَّة.
ب. من حق العبيد أن يقتنوا مالًا أو تكون لهم ممتلكات، لهذا فإن العبد الفقير متى صار له مال يقدر أن يفدي نفسه بماله (لا 25: 49). جاء في قصَّة شاول إنَّه سأل الغلام (عبد) إن كان معه مالًا ليقدِّمه هديَّة لصموئيل رجل الله؟ فقال: "بيدي ربع شاقل فضَّة" (1 صم 9: 8).
ج. للعبد حق أخذ زوجته وأطفاله معه متى تحرَّر، إن كان قد تزوَّج وهو حرّ.
د. يمكن أن يتمتَّع العبيد بكرامة خاصة، كما حدث مع أليعازر الدمشقي وهو عبد أجنبي سلَّمه إبراهيم تدبير بيته، ويوسف العبد العبراني جعله فرعون الرجل الثاني في كل مصر بعده (تك 15: 2؛ 39: 4).
ه. لا يخرج العبد فارغًا بعد تحرُّره، بل يأخذ معه من الغلال والقطيع ومن البيدر والمعصرة (لا 25: 43)، هكذا لم يحرِّرنا السيِّد المسيح فحسب، لكنَّه وهبنا غنى روحه القدُّوس، فننطلق حاملين برُّه وقداسته فينا.
و. يمكن للعبد أن يتزوَّج ابنة سيِّده (1 أي 2: 35)، كما يمكن للسيِّد أن يتزوَّج الأمَة أو يعطيها زوجة لابنه، ولا يحق له أن يبيع العبد العبراني أو الأَمَة لسيِّد أجنبي (خر 21: 7-11). بهذا تصير الأَمَة من أهل البيت لها كل الحقوق كأحد أفراد الأسرة. هذه صورة حيَّة لعمل الله معنا الذي قدَّمنا نحن عبيده كعروس لابنه، فصار لنا شركة أمجاده السماويَّة.
ز. إن أهمل السيِّد أو ابنه في حق الأَمَة التي تزوَجها، من جهة الطعام أو الملابس أو حقوقها الزوجيَّة تصير الأَمَة حرَّة!
ح. إن ختن العبد (تك 17: 12) فمن حقُّه أن يشترك في ذبيحة الفصح (تك 17: 12) وفي الاحتفالات الدينيَّة الأخرى (تث 12: 12، 18؛ 16: 11، 14)، وأن يتمتَّع بالسبت (خر 20: 11؛ تث 5: 14).
أخيرًا، فقد ألغيت عادة العبيد العبرانيِّين وحرِّمت بعد العودة من السبي.
يتم تحرير العبيد بأحد الوسائل التالية:
1. بالفداء: يمكن لإنسانٍ ما أن يفدي عبدًا بأن يدفع ثمنه للسيِّد ويطلق حرِّيَّة العبد.
2. بعد إتمام فترة العبوديَّة: حسب الشريعة الموسويَّة لا يمكن أن يستعبد عبراني أخاه العبراني على الدوام. إنَّما يحرِّر العبد بعد ستَّة أعوام من العمل. "إن اشتريت عبدًا عبرانيًا فست سنين يخدم وفي السابعة يخرج حرًا مجَّانًا. إن دخل وحده فوحده يخرج. إن كان بعل امرأة تخرج معه. إن أعطاه سيِّدة امرأة وولدت له بنين أو بنات فالمرأة وأولادها يكونون لسيِّده وهو يخرج وحده". يتمتَّع العبد بالعتق من العبوديَّة في السنة السابعة من عبوديَّته، أي إن صح التعبير، في السنة السبتيَّة، سنة الراحة. هذه إشارة إلى الحرِّيَّة التي صارت لنا جميعًا بمجيء الرب في السنة السبتيَّة، أي في ملء الزمان وقدَّم لنا ذاته "سرّ الراحة الحقيقيَّة"، واضعًا حدًا لعبوديَّة الخطيَّة. في هذا يقول: "إن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 36).
للعبد حق الخيار أن يترك بيت سيِّده أو يطلب أن يبقى معه كل أيَّام حياته، فإن كان العبد يحب سيِّده وزوجته وأولاده عليه أن يستعبد نفسه لسيِّده بمحض إرادته إلى النهاية، فيقدِّمه سيِّده إلى الباب ويثقب أذنه، علامة الطاعة الكاملة، كقول داود المرتِّل: "أذني فتحت (ثقبت)" (مز 40: 6). هذا ما صنعه السيِّد المسيح الذي وهو الابن صار من أجلنا عبدًا، أحبَّ أباه وعروسه وأولاده (أف 5: 25-27) فحمل في جسده جراحات الصليب لأجل خلاصنا. صار عبدًا لكي يرفعنا من العبوديَّة إلى البنوَّة لله.
3. حسب شريعة اليوبيل: سنة اليوبيل هي كانت السنة العظمى حيث يتحرَّر جميع العبيد بغض النظر عن عدد السنوات التي خدمها. "إلى سنة اليوبيل يخدم عندك. ثم يخرج من عندك هو وبنوه معه ويعود إلى عشيرته، وإلى ملك آبائه يرجع" (لا 25: 40-41). لأن اليوبيل يتم في السنة الخمسين، رمزًا لعمل الروح القدس الذي يهب الكنيسة كمال الحرِّيَّة في استحقاقات دم المسيح. وبالروح القدس ننال غفران الخطايا، ونتمتَّع بالشركة مع الله في ابنه، ونحمل روح التبنِّي الذي به ننادي الله كأب لنا.
4. إن أصاب العبد ضرر: كان في ذلك الوقت يحسب هذا هيِّنًا، كأن يفقد العبد عينه أو إحدى أسنانه، يُعوَّض عن هذا بتحريره من العبوديَّة (خر 21: 26-27). إن ضرب إنسان عبده أو أمَته بالعصا فمات تحت يده يُنتقم منه (خر 21: 20).
5. الهروب: يلجأ بعض العبيد إلى الهروب للتحرُّر من العبوديَّة.
6. إصلاح الموقف: إذ صار إنسان عبدًا بسبب السرقة، فإنَّه متى سدَّد ما يلتزم به خلال عمله كعبدٍ يطلق حرًا (خر 22: 1-4).
7. موت السيِّد دون أن يوجد وارث: كقول إبراهيم في (تك 15: 2). هذه العبارة أثارت التساؤل: هل من حق العبيد أن يتمتَّعوا بالحرِّيَّة ويرثوا ما قد تركه السيِّد إن مات ولم يكن من يرثه، أم ذكر إبراهيم ذلك لكونه يخشى بعد موته أن يستولي رئيس العبيد على ذلك بحكم الظروف وليس حسب القانون.
8. بأمر إلهي مباشر كما جاء في إرميا: "الكلمة التي صارت إلى إرميا من قبل الرب بعد أن قطع الملك صدقيا عهدًا مع كل الشعب الذي في أورشليم لينادوا بالعتق، أن يطلق كل واحد عبده وكل واحد أَمَته، العبراني والعبرانيَّة حرّين حتى لا يستعبدهما" (إر 34: 8-9).
إذا بيعت أَمَة عبرانيَّة لدى عبراني كمدبِّرة منزل أو إحدى السراري، فإنَّها لا تستطيع أن تترك المنزل في السنة السابعة بعد عملها ولا في سنة اليوبيل ما دام الرجل قد اشتراها لهذا الهدف (خر 21: 7). لكنَّها تنال كمال الحرِّيَّة مجَّانًا في الحالات التالية:
إن لم يُسر بها سيِّدها، فإنَّها لا تُباع لأجنبي (خر 21: 8).
إن خُطبت لابنه ولم يُفعل معها ما يُفعل مع المخطوبات (خر 21: 9).
إن تزوَّج هو أو ابنه بها ثم تزوَّج بثانيَّة وأهمل في حقِّها من جهة الطعام أو الكسوة أو العلاقات الزوجيَّة معها (خر 21: 11؛ تث 21: 14).
1. أن يقتني عبيده غير العبرانيِّين كمِلك دائم له (لا 25: 45).
2. أن يقدم عبيده غير العبرانيِّين ورثًا لأبنائه (لا 25: 46).
3. أن يُبقي الزوجة والأطفال الذين لكل العبيد، بالنسبة للذين صاروا عبيدًا وهو غير متزوِّجين (خر 21: 4).
4. أن يتعقَّب العبيد الهاربين ويردُّهم إليه (1 مل 2: 39-41).
5. من حقِّه منح الحرِّيَّة لأي عبد في أي وقت يشاء، بجانب التزامه بحق تحرير العبيد حسب الشريعة في السنة السابعة وسنة اليوبيل كما سبق فرأيناه.
6. من حقِّه أن يختن عبيده اليهود والأمميِّين الذين في بيته (تك 17: 13، 23، 27).
7. أن يبيع العبيد أو يستبدلهم (تك 29: 24). بالنسبة للعبد العبراني فتوجد شروط خاصة ببيعه.
8. أن يؤدَّب العبد - ذكرًا أو أنثى - لكن ليس إلى حد الموت (خر 21: 20).
9. أن يتزوج الأمة أو يقدمها زوجة لغيره (1 أي 2: 35).
10. من حق السيِّد أن يتزوج ابنة عبده (1 أي 2: 35 إلخ.).
11. أن يشتري عبيدًا من أسواقٍ أجنبية (لا 25: 44).
12. أن يحتفظ بعبدٍ هارب من سيِّد أجنبي (قاسي) ولو يحتفظ به ليس كعبدٍ (تث 23: 15-16).
13. أن يستعبد أو يبيع لصًا مقبوض عليه (تك 44: 8-33؛ خر 22: 3).
14. أن يطلب مشورة عبيده (1 صم 25: 12-14).
15. أن يطلب من عبيده القيام بالخدمة (تك 14:14؛ 24).
غالبًا ما كانوا من أسرى الحرب (عد 31: 9، 2 مل 5: 2)، أو مُشترين (تك 17: 27، 37: 28، 36؛ حز 27: 13؛ يؤ 3: 6، 8)، أو بالميلاد (تك 17: 12). لكنَّنا لا نشتَمّ من الكتاب المقدَّس ولا من التاريخ أنَّه وجد سوق للرق عند اليهود(156).
قبل الشريعة الموسويَّة قدَّم لنا إبراهيم أب الآباء مثلًا حيًا في التعامل مع العبيد، فقد وضع في قلبه إن لم ينجب أن يترك ميراثه لأحد عبيده "اليعازر الدمشقي" (تك 15: 2)، الذي جعله وكيلًا على كل أمواله. وفي زواج اسحق برفقة (تك 24) ظهرت ثقة إبراهيم في عبده، وكان العبد في تصرُّفاته يكشف عن استحقاقه أن يكون موضع هذه الثقة.
وإذ جاءت الشريعة الموسويَّة قدَّمت للعبيد حقوقًا تحفظ لهم آدميَّتهم، منها:
1. من يسرق إنسانًا ويبيعه أو يوجد في يده يقتل (خر 21: 16).
2. جريمة قتل العبد تتساوى مع قتل الحرّ (لا 24: 17، 22).
3. أعطت الشريعة للعبيد أن يعبدوا آلهتهم الخاصة، أي حرِّيَّة العقيدة حتى وإن كانوا مخطئين، لكن من حق السيِّد العبراني أن يختن عبيده.
4. أعطتهم حق الاشتراك مع سادتهم في الأعياد (خر 20: 10، 23: 12).
عالجت المسيحيَّة مشكلة نظام الرق بطريقة موضوعيَّة، إذ لم تشأ إثارة العبيد ضد سادتهم، الذين كانوا يمثِّلون في المملكة الرومانيَّة نصف تعدادها، ويذكر بليني أن أحد الأثرياء الرومان يدعى كلوديوس أسيدورس في أيَّام أغسطس ترك بين ممتلكاته 4116 عبدًا(157).
لم يأتِ العهد الجديد بأمر يمنع نظام العبوديَّة، ولا أصدرت الكنيسة في بدء نشأتها قوانين تُحرِّم العبوديَّة. لكن استطاعت المسيحيَّة بما قدَّمته من مفاهيم قويَّة وحيَّة عن الحب أن تهز كيان هذا النظام وتحوِّله من نظام يتَّسم بالظلم والعنف مع المذلَّة لتحمل السادة نحو الحب والترفُّق والحنو، كما رفعت من شأن العبيد لا ليثوروا مستخدمين العنف ضد سادتهم إنَّما طالبتهم بالطاعة (أف 6: 5-8، كو 3: 22-25، 1 تي 6: 1-2؛ 1 بط 2: 18-21)، فيشهدوا للمسيح الساكن فيهم.
جاءت حياة السيِّد نفسه ثورة عمليَّة ضد نظام العبوديَّة. صار كلمة الله الخالق عبدًا، لكي يحمل العبيد إلى البنوَّة. لقد أُسلم السيِّد المسيح مقابل ثلاثين من الفضَّة، بيع كعبد، فدخل إلى زمرة العبيد ولم يأنف منهم، بل قدَّس حياة المؤمنين منهم. هكذا إذ يرى العبيد في سيِّدهم إنَّه صار شريكًا لهم، يعيش بينهم كواحدٍ منهم، لا يستسلموا في مذلَّة، بل يروا أنَّه لن يستطيع أحد مهما بلغ غناه أو سلطانه أو عنفه أن يحطِّم نفسيَّتهم، إنَّهم شركاء السيِّد المسيح في حياته وآلامه. يحملون الحرِّيَّة الداخليَّة، لن يقدر كائن ما أن يحطِّمها أو ينزعها عنهم.
وإذ قبل كثير من السادة أصحاب العبيد الإيمان بالخالق المتجسِّد، الذي بإرادته ومسرَّة أبيه صار عبدًا، أخذوا أحد موقفين إمَّا تحرير العبيد أو التعامل معهم كاخوة أحباء حتى يقتنوا كل نفس لحساب ملكوت الله. كلا الاتِّجاهين دفع العالم نحو تحرير العبيد.
جاء السيِّد المسيح يوجِّه البشريَّة كلَّها نحو العبوديَّة الداخليَّة التي حطَّمت حرِّيَّة إرادتهم، قائلًا: "وتعرفون الحق والحق يحرِّركم... إن كل من يعمل الخطيَّة هو عبد للخطيَّة... إن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 31-36).
في اعتزاز يدعو الرسول بولس نفسه عبدًا (رو 1: 1؛ تي 1: 1)، إذ يؤمن أنَّه قد بيع لمخلِّصه، وهو يقود حياته وكل تصرًّفاته حسب إرادته الإلهيَّة، يشعر المؤمن الحقيقي أنَّه بكامل حرِّيَّته يلقي بكل كيانه بين يديّ محبوبه ليُحرِّكه كيفما يشاء.
آمنت الكنيسة بإمكانيَّة تأثير حتى العبد على سيِّده خلال الحياة المقدَّسة في الرب. فلا نعجب إن رأينا القديس يوحنا الذهبي الفم يقول للمستمعين في اجتماعاته: [إن كل واحد منهم يُعلِم الذين في الخارج أنَّه كان في صحبة السيرافيم. فالأب يعلِّم ابنه والأم ابنتها، وأيضًا العبد سيِّده. طالب مجمع غنغرا gangra أن يخضع العبيد لسادتهم في الرب، ويشهدوا للإنجيل الحيّ فيهم، ولا يحاولوا الهروب من السادة ولا استخدام العنف معهم(158)].
لقد أكَّد الرسول بولس أنَّه ليس عبيد ولا سادة في المسيح يسوع (غلا 3: 28). لقد طالب كل من السادة والعبيد أن يتشبَّهوا بالسيِّد المسيح (أف 6: 5-9). عالج القدِّيس بولس الرسول مشكلة العبيد بمنظار إيماني، ففي الوقت الذي فيه طالب العبيد أن يُطيعوا سادتهم في الرب، وليس على حساب إيمانهم وخلاصهم، طالب السادة أن يحملوا نظرة جديدة نحو عبيدهم، بكونهم أخوة مساوين لهم، شركاء معهم في العبوديَّة لله سيِّد الجميع. طالبنا الرسول بولس بالخضوع للنظام البشري لكن في حدود إيمانيَّة، فيحمل العبد الشجاعة للاستشهاد إن طالبه سيِّده بما يُضاد خلاصه، ويُطالب السيِّد بتقدير العبد كأخ له.
لقد بدأ نظام الرق ينهار من جذوره، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسيَّة لهياج الدولة الرومانيَّة على الكنيسة المسيحيَّة(159)، أمَّا سرّ اِنهياره فيكمن في الأسباب التالية:
أ. ألزمت الكنيسة أولادها أن يعاملوا العبيد كأخوة لهم (1 كو 7: 21-22، فل 1: 16؛ كو 3: 11).
ب. قدَّم لنا الرسول بولس مثلًا عمليًّا في رسالته إلى تلميذه فليمون، فقد ردَّ العبد الهارب أنسيمُس إلى سيِّده فليمون. وبعث معه رسالة تعتبر أروع ما يمكن أن يُكتب من رسول بخصوص عبدٍ هاربٍ سارقٍ، حيث اعتبر العبد الهارب اللص أنسيمُس بعد توبته أخاه، وابنه الذي ولده في القيود، وأحشاءه، ونظيره، والمعين له في الخدمة، كما سيم أسقفًا. كما جاء في الرسالة: "لأنَّه ربَّما لأجل هذا افترق عنك إلى ساعة لكي يكون لك إلى الأبد، لا كعبد في ما بعد بل أفضل من عبد أخًا محبوبًا ولا سيما إليَّ".
ج. إذ عاش بعض السادة بروح الإنجيل التزموا بتحرير عبيدهم بوازعٍ داخلي، دون وجود أمر صريح بذلك.
د. كثيرون ممَّن كانوا عبيدًا نالوا رتبًا عالية أو كرامة كنسيَّة سامية، من هؤلاء من هم شهداء مثل بلاندينا وبإبليس وفليكتاس، الذين تذكرهم الكنيسة كأبطال إيمان(160). ومن العبيد أيضًا سيم أساقفة مثل أنسيموس تلميذ القدِّيس الرسول بولس، إذ صار أسقفًا على Borea بمكدونيَّة(161)؛ وكالستوس أسقف روما في القرن الثالث.
ه. شجَّعت الكتابات الكنسيَّة الأولى على اِنهيار هذا النظام. نذكر على سبيل المثال ما جاء في الديداكية: [لا تنتهر (بمرارة) عبدك أو أَمَتك اللذين يترجَّيان الله إلهك، لئلاَّ يفقدا مخافة الله، الذي هو فوق الكل، وليس عنده محاباة الوجوه(162)].
يقول القدِّيس أكليمندس الإسكندري: [العبيد هم أناس مثلنا(163)].
ويقول الأب لاكتانتيرس: [العبيد ليسوا عبيدًا لنا، لكنَّنا نحسبهم اخوة في الروح، وهم عبيد شركاء معنا في الدين(164)].
كما جاء في كتابات القدِّيس أغناطيوس الأنطاكي: [لا تحتقر العبيد، ولا تدعهم ينتفخون في كبرياء، بل بالأحرى يتَّضعون لأجل مجد الله(165)].
واعتبر القديس أغسطينوس أن ظهور العبوديَّة إنَّما هو ثمرة الخطيَّة، فإن المقاصد الإلهيَّة لا تقبل أن يملك إنسان على زميله الإنسان ويسيطر عليه(166). ونادى القديس يوحنا ذهبي الفم بذات الفكرة(167)، حيث قال: [إن العبوديَّة ظهرت فقط حينما سقط كنعان تحت اللعنة (تك 9: 25)].
حثَّ القديس يوحنا الذهبي الفم، وهو معاصر القديس غريغوريوس أسقف نيصص، المسيحيِّين ألاَّ يقتني أحد أكثر من عبدين لخدمة بيته وليس لإذلالهما(168). لقد تحدَّث القديس يوحنا الذهبي الفم عن عشرات السادة الذين اقتنوا ألفًا من العبيد(169)، وبعض السادة في إنطاكيَّة لديهم المئات منهم. ويوضِّح القديس يوحنا الذهبي الفم أن العبوديَّة ليست في خطَّة الله الأصليَّة(170).
يُعلن اللاهوتي الكبادوكي القدِّيس غريغوريوس النزينزي أن العبوديَّة هي تمييز أثيم، ومع ذلك فهي جزء من الواقع الحاضر(171).
وبنفس الروح يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [إنَّه ليس أحد بالطبيعة عبدًا. لكنَّه في نفس الوقت لم يطلب مقاومة نظام المجتمع، إذ يقول: [وإن كان إنسان ما يُجعل سيِّدا والآخر عبدًا، مع هذا فخلال نظرتنا الخاصة بالمساواة في الرتبة، نحن جميعًا قطيعًا لخالقنا، اخوة عبيد(172)].
يرى بعض الدارسين أن القديس غريغوريوس أسقف نيصص هو أول لاهوتي قام بثورة فكريَّة ضد العبوديَّة. قدم في منتصف عظته الرابعة على سفر الجامعة أساسًا لاهوتيًا لمقاومة العبوديَّة يتلخَّص في النقاط التالية.
أن يظن كائن بشري إنَّه سيِّد لجنسه، إنَّما يحسب في نفسه إنَّه مختلف عن الخاضعين له (كأنَّه من طبيعة غير طبيعتهم).
الطبيعة البشريَّة التي خلقها الله حرَّة، لكل منهم حق أخذ قراراته المصيريَّة بنفسه.
يجب التمييز بين الممتلكات والخليقة غير العاقلة، وبين صورة الله ومثاله الكائن العاقل الحرّ.
استحالة السيادة على صورة الله الحرة، فإنَّه لا يقدر إنسان أن يدفع ثمن آخر!
اللقب (سيِّد) لا يُعطي سيادة على الخاضعين له.
مَنْ أنت يا من تظن أنَّك سيِّد لكائن بشري؟
* جميعنا متساوون بالطبيعة(173).
* ليست الطبيعة بل (حب) السلطة هو الذي قسم البشريَّة إلى عبيد وسادة(174).
* وهب الله البشريَّة حق تقرير مصيرها (ليس للسيِّد أن يتحكَّم في حياة العبد)(175).
* هذا الذي يخضع لك بالعادة والقانون هو مساوي لك في كرامة الطبيعة(176).
* (خلقت البشريَّة في الأصل متكاملة) لكل واحدٍ سلطان أن يدير حياته بلا سيِّد، وأن يمارس حياة بلا حزن ولا تعب؛ فماذا يعني أن تُقاد إلاَّ أن تُستعبد(177)؟!
* أن تُقسَم الخليقة التي تحتفظ بحق الطبيعة في المساواة إلى عبيد وقوَّة حاكمة، قسم يأمر والآخر يخضع، هو طغيان واغتصاب للنظام الذي وضعه الله(178).
* (العبوديَّة هي) خصي لتكامل الكائن الحي(179).
* حالة الاستقلال والحرِّيَّة هي استدعاء الحكمة لإرادة الإنسان(180).
* أكبر مشكلة للحرِّيَّة هو أن يكون الإنسان سيِّد نفسه(181).
* يقول (السيِّد): لقد اقتنيت لي عبيدًا وجواري، وقد ولد عبيد في بيتي لأجلي. اُنظر مدى بشاعة العجرفة؟ مثل هذا النوع من الحديث هو تحدِّي لله. إذ نسمع من النبوَّة أن كل الأشياء عبيد للقوَّة التي تفوق على الكل. لذلك عندما يحوِّل أحد ممتلكات الله ليجعلها ممتلكاته، وينتحل لنفسه سلطانًا على جنسه ظانًا أنَّه يملك رجالًا ونساء، فإن ما يفعله ليس إلاَّ تخطِّي لطبيعته بالكبرياء، ظانًا في نفسه أنَّه شيء مختلف عن الخاضعين له(182).
* [اقتنيت عَبِيدًا وَجَوَارِيَ]. ماذا تُعني؟ تلزم إنسانًا بالعبوديَّة بينما طبيعته حرَّة وله إرادة حرَّة (له حق تقرير مصير نفسه)، وأنت تقدِّم تشريعًا فيه منافسة مع الله، محوِّلًا شريعته إلى شريعة بشريَّة. لقد وضع سمات معيَّنة ليكون الإنسان هو ملك الأرض، وأن تُدار حياته بواسطة الخالق، هذا الذي أنت تأتي به إلى نير العبوديَّة، وكأنَّك تتحدَّى القانون الإلهي وتحاربه(183).
* لقد نسيت حدود سلطانك، قانونك هو أن تسيطر على الأشياء غير العاقلة، فقد كتب: "لتتسلَّطوا" على الطيور والأسماك وذوي الأربعة أرجل والزحافات. لماذا تتعدَّى الحدود في ما يخضع لك وتقيم نفسك فوق من هم أحرار، حاسبًا من هم من جنسك كمن في مستوى ذوي الأربعة أرجل بل وفي مستوى من لا أرجل لهم؟
أخضعت كل الأشياء للإنسان، هكذا تعلن كلمة النبوَّة، وجاء في النص الأشياء الخاضعة: الغنم والثيران والقطيع. حقًا لم يولد الإنسان من قطيعك! لم تحبل البقر بقطيع بشري! الكائنات غير العاقلة هي وحدها العبيد للإنسان.
بتقسيمك البشر إلى "عبيد" و"مُلاَّك" تجعل من البشريَّة تَستعبد نفسها، وتملك نفسها!(184).
* "اقتنيت لي عبيدًا وجواري"
اَخبرني بأي ثمن؟ ماذا وجدت في المسكونة ما يُضاهي الطبيعة البشريَّة؟
أيّ ثمن تقدِّمه مقابل التعقُّل (لأن العبد إنسان عاقل)؟
كم obole يمكن دفعه مقابل التشبُّه بالله (لأن العبد على شبه الله)؟
كم staters أخذت عندما بعت كائنًا شكَّله الله؟
يقول الله: "لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا". فإن كان على شكل الله ويسيطر على الأرض، ووُهب سلطانًا على كل ما على الأرض من قبل الله، فمن يكون المشتري؟ أخبرني! من بائعه؟ الله لا يريد أن ينزل بالجنس البشري إلى العبوديَّة، إذ هو نفسه - عندما صرنا عبيدًا للخطيَّة - تلقائيًا دعانا إلى الحرِّيَّة. إن كان الله لا يستعبد ما هو حرّ، من هو ذاك الذي يجعل سلطانه فوق الله؟(185).
يرى البعض أنَّه بحسب القانون الروماني عندما يُباع عبد لا تشمل عمليَّة البيع ممتلكات العبد (مثل ثيابه)، لكن القديس غريغوريوس وهو يوبِّخ من يشترك في عمليَّات بيع أو شراء العبيد يتحدَّث بلغة الإنسان الروحي والواعظ لا المحامي ورجل القانون، إذ يرى من العار أن يباع الإنسان وهو كائن حرّ مع ما يملكه، فقد أقام الله الإنسان ليُسيطر على الأرض كلّها.
* كيف يُعرض للبيع صاحب السلطان على كل الأرض وكل الأمور الأرضيَّة؟ فإن ما يملكه الشخص المبُاع يرتبط به ويُباع معه أيضًا. ما هي قيمة الأرض كلّها؟ كم قيمة الأشياء التي على الأرض؟ إن كانت لا تقدَّر بثمن، فأي ثمن يُقدَّم عن ذاك الذي فوق الكل؟ اخبرني...
ذاك الذي يعرف الطبيعة البشريَّة بحق يقول إن كل العالم لا يستحق أن يُقدِّم مقابل نفسٍ بشريَّة. لذلك عندما يُقدَّم كائن بشري للبيع فإن مالك الأرض يُقدَّم إلى مزاد للبيع.
لنفرض إذن أن الأشياء التي يمتلكها تُقدَّم أيضًا للمزاد. هذا يعني أن الأرض كلَّها، والجزائر، والبحار وكل ما فيها مقدَّمة للبيع. ماذا سيدفع المشتري؟ ماذا يقبل البائع واضعًا في حساباته بالتفصيل كم هي الممتلكات موضوع الصفقة(186).
يرى القديس غريغوريوس أن الله الذي وهب الإنسان أن يسيطر على العالم كلُّه كيف يُمكن لورقةٍ وقلمٍ أن يُسجِّلا بيعه وشراءه!
* هل قطعة من الورق، والعقد المكتوب، وعدّ العملة يخدعك ظانًا في نفسك أنَّك صرت سيِّدا على صورة الله؟ أيَّة غباوة هذه؟! فإن فُقد العقد، إن أكل العث الكتابة، أو سقط عليها نقطة ماء فأفسدتها، أيّ ضمان لك من جهة عبوديَّتهم؟ ما الذي يُعضِّد لقبك كمالكٍ(187).
لم يتحدَّث القديس غريغوريوس صراحة عن الثمن الذي دُفع عن كل نفسٍ بشريَّة، وهو دم السيِّد المسيح الذي اشترانا، ولن تستطيع قوَّة أن تنتزع هذا الصك أو تفسده أو تمحيه. لقد اشترينا جميعًا بثمنٍ، ولا يستطيع أحد منا أن يشتري أخاه!
يرى القديس غريغوريوس أن الاختلاف بين السيِّد والعبد هو في اللقب لا غير، لكنهما شريكان في كل شيء.
* لا أرى أن لك سمو على الخاضعين لك سوى اللقب وحده.
ماذا يقدِّم لك هذا السلطان كشخص؟ لا يهبك طول عمرٍ ولا جمالًا ولا صحَّة، ولا سموًا في الفضيلة.
أصلك من نفس الأسلاف التي ينسب إليها، وحياتك من نفس نوع حياته، آلام النفس والجسد تحوط بك يا من تملكه وبالذي يخضع لملكيَّتك: من آلام ومسرَّات، مرح ومصائب، أحزان ومباهج، ثورات ومخاوف، أمراض وموت. هل يوجد خلاف في هذه الأمور بين العبد ومالكه؟ ألم ينسحب إلى ذات الهواء الذي يتنسمه؟ ألا يصير الاثنان ترابًا واحدًا بعد الموت؟ أليست دينونة واحدة للاثنين؟ ملكوت واحد وجهنَّم واحد!
إن كنتما متساويين في كل مثل هذه الأشياء ففي أي شيء أنت أعظم منه؟ أخبرني وأنت بشري تظن أنَّك سيِّد لكائن بشري؟ ويقول: "قَنَيْتُ عَبِيدًا وَجَوَارِيَ"، وكأنَّهم قطيع من الماعز أو الخنازير(188).
في عظة له على عيد القيامة المجيد حثَّ القديس غريغوريوس أسقف نيصص السادة على تحرير عبيدهم كما حرَّرنا السيِّد المسيح بقيامته من عبوديَّة الخطيَّة.
[الآن هل تحرَّر المسجونون، وعُفي عن المدينين، وعتق العبيد بإعلان صالح ولطيف من قبل الكنيسة؟!
لقد سمعتم أيُّها السادة، أعطوا اهتمامًا لقولي كقولٍ صادقٍ.
انزعوا الألم عن النفوس المتضايقة كما ينتزع الرب الموت عن الأجساد،
وحوِّلوا عارهم إلى كرامة،
وضيقهم إلى فرح،
وخوفهم من أن يتحدَّثوا إلى انفتاح.
احضروا المطروحين في الزوايا كما من قبورهم،
اجعلوا جمال العيد يزهر كزهرة فوق كل أحدٍ(189).
في موضع آخر يقول:
[اللطف يزهر في... تقديم يدٍ سخيَّة لعبيدٍ نالوا سعادة قليلة في بدء عبوديَّتهم، وعانوا مرارة في حياتهم بعد(190)].
وفي حديث آخر يعتقد القديس غريغوريوس أن المجتمع المسيحي يلزمه أن يلتزم بالمساواة، لذا يجب انتزاع العبوديَّة وكل ظلم من الجماعة الكنسيَّة.
[لتُمحى الاختلافات الاجتماعيَّة، فلا يوجد خضوع وسلطة، فقر وغنى فاحش، عامي منحط وأسرة مكرمة، ولا مجال لعدم المساواة... لنحكم بالمساواة السياسيَّة والتشريعيَّة، وتوزَّع على كل واحدٍ في كمال الحرِّيَّة وبطريقة مملوءة سلامًا ليختار ما يريده(191)].
_____
(149) J. Vernon MeGee: Deuteronomy, ch. 15.
(150) Homilies on Genesis, hom. 55.
(151) St. Jerome: The Perpetual Virginity of Blessed Mary, 10.
(*) توضيح من الموقع: كان مكتوبًا شواهد (خر 13: 1، 15؛ 11: 30؛ عد 18: 17-18)، ولكن ربما الأدق هو:
(152) St. Jerome: Letter 107:7.
(153) للمؤلف: من تفسير وتأمُّلات الآباء الأوَّلين: الخروج، أصحاح 21.
Nelson's Illustrated Bible Dictionary, article Slave, Slavery,
New Unger's Bible Dictionary, Moody Press of Chicago, Illinois, article Service,
International Standard Bible Encyclopaedia, article Slave, Slavery,
R. H. Barrow, Slavery in the Roman Empire (1928),
I. Mendelsohn, Slavery in the Ancient Near East (1949),
W. L. Westermann, The Slave Systems of Greek and Roman Antiquity (1955),
M. I. Finley, ed., Slavery in Classical Antiquity (1960),
J. Vogt, Ancient Slavery and the Idea of Man (1974),
N. Turner, Christian Words (1980), p. 389-90.
(154) القمص شنودة السرياني (نيافة الأنبا يوأنس): الكنيسة المسيحيَّة في عصر الرسل، 1971م، صفحة 41.
Schaff: History of the Christian Church, vol. 1, p. 445-6.
(**) توضيح من الموقع: كان مكتوبًا شواهد (1 مل 3: 41؛ 2 مل 8: 11)، ولكن تم تغييرها لشواهد قد تكون أقرب: (قض 3: 8؛ 1 مل 20: 1-3؛ 2 مل 8: 12): الأول (قض 3: 8) عن استعباد كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ مَلِكِ أَرَامِ النَّهْرَيْنِ لبني إسرائيل، والثاني (1 مل 20: 1-3) حول تهديد بَنْهَدَدُ مَلِكُ أَرَامَ بسبي نساء وبنو ملك إسرائيل، والثالث (2 مل 8: 12) عن حَزَائِيلَ مَلِكُ أَرَامَ (سوريا) الذي سيفعل الشر ببني إسرائيل، وضمنيًّا يحدث نهب وسبي في أوقات الحروب..
(155) Josephus: Antiq. 12:2:2-3.
(156) The New Westminster Dictionary of the Bible, p. 889.
(157) J. Hastings: Dictionary of the Apostolic Church, 1954, vol. 2, p. 509.
(158) Council of Gangra Canon 3.
(159) Fr. Tadros Malaty: The Coptic Church "Church of Alexandria,” Melbourne, 1975, p. 77.
(160) Frend: Martyrdom and Persecution in the Early Church, 1965, p. 297.
(161) قوانين الرسل القدِّيسين 4، 7، 46.
(162) فصل 4، (راجع للمؤلِّف: قانون الإيمان للرسل والديداكيَّة ص 36).
(163) Paedagogus 3:12.
(164) Lactantus: Instit. 5:16.
(165) Epistl. ad Polycar. 4.
(166) De Civ. Dei. 19:15.
(167) In Cor., hom. 40.
(168) In 1 Cor. hom 40:5.
(169) In Matt. hom 63:4.
(170) In 1 Cor. hom. 40:5, in Eph. hom 22:2.
(171) De rebus suis 80-82.
(172) De Spiritu Sancto 20:51.
(173) De Beatitudinibus,1.
(174) De Oratione Dominica, 5.
(175) Ibid.
(176) Ibid.
(177) De Beatitudinibus, 3.
(178) Contra Eunomium, 1:35.
(179) Antirrheticus adversus Apollinaruim, 23.
(180) De Hominis Oplficio 16:14 PG. 44:185 A.
(181) De Beatitudinibus, 8.
(182) In Eccles. Hom. 4.
(183) Ibid.
(184) Ibid.
(185) Ibid.
(186) Ibid.
(187) Ibid.
(188) Ibid.
(189) In Sanctum Pascha.
(190) Contra Usurarios.
(191) De Morstuis.
← تفاسير أصحاحات التثنية: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير التثنية 16 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير التثنية 14 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/s8krgf7