يقول ذهبي الفم:
هناك أسباب كثيرة تنجم عنها الصداقة:
تنشأ الصداقة الطبيعية عن العلاقات في الحياة. فمن الناحية الاجتماعية مثلًا نرى من ينال إكرامًا، أو يجد صديقًا قديمًا في العائلة، أو يكون زميلًا على المائدة أو في أسفار كثيرة، أو جارا لآخر.
ومن الصداقة ما يكون من ذات المهنة وهذه الأخيرة ليست دائمًا خالصة، لأنها قد تتأثر ببعض المنافسة والغيرة. بخلاف الصداقة الطبيعية كصداقة الآب لابنه، والابن لأبيه، والأخ لأخيه، والجد لأحفاده، والأم لأبنائها، وأيضًا صداقة الزوجة زوجها، لأن كل الارتباطات الزوجية هي أيضًا من سنة الحياة.
ومن الصداقة ما هو أقوى، حتى بالنسبة للصداقة الطبيعية، فيظهر الأصدقاء أحيانًا استعدادًا أفضل ونبلا أكثر مما يظهره الأخوة أو الأبناء نحو آبائهم، فبينما نرى من أنجبه الإنسان لا يريد أن يعينه، نجد من لم يعرفه يقف بجانبه.
المحبة الروحية أعلى من الكل، هي مملكة تحكم كل رعاياها، وفيها يكون الطهر واضحًا، لأنها لا ترتبط بأي شيء أرضي، أو علاقة عادية، أو مكاسب... أنها نازلة من فوق، من السماء...
يقول القديس بولس الرسول: "فلأني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروما من المسيح لأجل أخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 9: 3). أي أب يود لو تكون حالته كهذه؟ وقوله انه محصور من الاثنين: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدًا. ولكي أبقى في الجسد ألزم من أجلكم" (في 1: 23-24).
وأيضًا: "وأما نحن أيها الأخوة فإذ قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم" (1تس 2: 17).
حقًا أنه هنا، حينما تلحق الأب إهانة قد تبرد محبته، لكن ليس هكذا الحال بالنسبة للمحبة الروحية، لقد ذهب القديس بولس إلى الذين رجموه ساعيًا في عمل الخير لهم. لأنه لا شيء أقوى من رباط الروح. لأن من يصبح صديقًا من جراء تسلمه أرباحًا، سوف يصبح عدوا إذا انقطعت عنه. والذي جعلته العلاقة العادية غير مفترق، سوف يترك صداقته تنطفئ حينما تنقطع العلاقات، وإذا حدث خلاف تترك الزوجة زوجها وقد تنطفئ محبتها، والابن حينما يرى أن أباه وصل إلى شيخوخة كبيرة يصبح غير راض. لكن في المحبة الروحية ليس شيء من هذا، لأنها لا يمكن أن تنحل لسبب من هذه الأسباب نظرا لأنه لا تدخل فيها عناصر الزمن وطول السفر، ولا تتأثر بالكلام السيئ ولا الغضب ولا الإهانة، ولا شيء يقهرها أو يستطيع فضها.
وقد طلب موسى النبي من أجل الذين كانوا يريدون رجمه: فصرخ موسى إلى الرب قائلًا "ماذا أفعل بهذا الشعب. بعد قليل يرجمونني" (خر 17: 4) أي أب يفعل ذلك من أجل من يرجمه؟، كان يهم برجمه حتى الموت...
الرحمة بالفقراء:
لنتتبع إذن هذه الفضائل النابعة من الروح، لأنها قوية، وصعب إنهاؤها، ونترك تلك الصداقات أتى تقوم على المائدة...
اسمعوا السيد المسيح يقول في الإنجيل: "وقال أيضًا للذي دعاه إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا أخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع العرج العمى" (لوقا 14: 12-13).
حقًا، عظيمة هي مثوبة هذه الأعمال. أنك لا تستطيع ولا تحتمل أن تقيم وليمة للعرج والعمى، بل أنك تحسبها مهانة وشيئا مخزيا فترفض. وكان الأفضل حقًا ألا ترفض، على أي حال ليس ذلك ضروريًا. إذا كنت لا تجلسهم معك، فأرسل إليهم مما على مائدتك. أن الذي يدعو أصدقاءه، لا يأتي عملًا كبيرًا: لأنه أخذ أجره هنا، لكن الذي دعا الجدع والفقراء فله الله كمدين. فلا تتذمر إذن حينما لا تأخذ مكافأة هنا، فحينما نأخذ لا يكون لنا رصيد هناك، وبنفس الطريقة، إذا كان الإنسان يكافئ، فالله لا يكافئ، وان كان الإنسان لا يكافئ فحينئذ تكون المكافأة من الله. إذن فلا نبحث عمن لديهم المقدرة لأجل المنفعة فيردوا لنا ثانية، ولا نمنحهم رعايتنا متوقعين مثل هذا: إنها فكرة خاطئة أن تدعو صديقًا، فالعرفان بالجميل يبقى حتى المساء، والصداقة لظرف الدعوة تذهب بسرعة أكثر من تكفلك بالنفقات. لكنك إذا دعوت الفقراء والجدع، فلن يفنى عرفان الجميل أبدًا، لأن الله، الذي يذكر دائمًا لا ينسى أبدًا، لك هو نفسه كمدين. ما هذا التسرع في الاشمئزاز حتى لا تستطيع أن تجلس في صحبة الفقير؟ لعلك تقول أنه قذر غير نظيف؟ أعطه لكي يغتسل واقتاده إلى مائدتك. لا ثيابه قذرة؟ إذن فأبدلها وأعطه ملابس نظيفة. ألا ترى كم هو عظيم ذلك الربح؟ أن المسيح يأتي إليك عن طريقه، وأنت تحسب حسابا تافها لمثل هذه الأشياء؟ حينما تدعو الملك إلى مائدتك أتخشى أشياء مثل هذه؟!!
إننا إلى الآن لا نبحث عن الأشياء التي هي بعد الزمن الحاضر فلا زلنا نشتاق إلى الأمور التي ترى -الزمنية- ولا نتوق إلى التي لا ترى -الأبدية-... إلى مائدة الفقراء يكون المسيح جالسًا، والى المائدة الأخرى أناس جلوس. الأولى لها السيد وللأخرى الخدام.
وإذا ندع هذه الأمور الآن لنرى آية واحدة منها لها النصيب الأكثر من اللذة الحاضرة. أنه بالنسبة لهذا أيضًا فالأولى لها قسط أعظم، لأن الجلوس مع الملك له بهجة أكثر من الجلوس مع خدامه. في الأولى له أن يسمع ويرى كل شيء بحرية وبارتياح وفرح في المحبة الروحية... أما الآخرون فيتضايقون ويخافون ويخزون أمام الذين يجلسون معهم من الكبراء والعظماء. وكأنهم أمام سادة ويخشى بأسهم. لكن يقول أحد أن الشرف لعظيم. كلا، بل الآخرون في شرف أكثر، لأن حياة الأولين الوضيعة تظهر بالأكثر، حتى وهم مشتركون في نفس المائدة أيضًا، الكلمات أتى ينطقون بها كلمات عبيد، لأن العبد يظهر هكذا أكثر وضوحًا من أي وقت حينما يجلس مع سيده، لأنه في مكان لا يحب أن يكون فيه، وليس له أيضًا من جراء هذه القربى كرامة كثيرة بقدر ما له من الذلة... لأن الوضيع حينما يكون قريبًا من المتعالي يظهر وضيعًا أكثر لأن المقارنة تجعله كذلك ولن يظهر أعلى مما هو عليه.
نتبيَّن في هذين الأمرين إذن الأفضلية، الأفضلية في الحرية وفي الشرف الذي لا يعادله شيء، لأن لقمة يابسة مع الحرية أفضل من آلاف اللذات مع العبودية، والكتاب المقدس يقول: "أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة" (أم 15: 17)، لأنه مهما قال الكبير في هؤلاء يلزم على الحاضرين أن يمتدحوه، هم في درجة المتطفلين، أو بالحري منهم، لأن المتطفلين بالحقيقة هم في خزي ومهانة...
إن كثرة الأطعمة الفاخرة تبيد بالاهتمام الذي يسبقها وقد يلحقنا بسببها التخمة وهذه تهدم أجسادنا وتتلفها.
ويضار الإنسان بالتخمة أكثر مما بالجوع، فالجوع يمكن أن نتحمله بسهولة أكثر من التخمة، نستطيع أن نتحمل الجوع لمدة طويلة، أما التخمة فلها آثار سيئة على أجسادنا. ونرى سكان الريف الذين يجاهدون بصفة مستمرة أصحاء لا يحتاجون إلى أطباء.
الشرف خير من العار، والحرية خير من الخضوع، وثقة الرجل خير من الخوف. وإذا كان التمتع بما هو كاف خير من الانغماس في تيار الترف، فلذلك تكون هذه المائدة أفضل من الأخرى...
إن الداعي للولائم أو يدعو الأصدقاء يستعد لعدة أيام هو مضطر أن يتحمل الانزعاج وكثرة الاهتمامات والنفقات، وحينما يأتي يوم الوليمة يبدو على وجهه خوف أعظم من خوف الذين يذهبون إلى مباراة الملاكمة، لأنه يخشى أن يباغته من الأمور ما لا يتوقع، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. أما الآخر فبعيد كل البعد عن هذا التفكير المقلق والانزعاج المضني، لأن كل الأمور تسير في بساطة ويسر، وقد يخسر الأول عرفان أصحابه بالجميل، وكان الله للآخر كمدين. وهو في كل يوم يفرح لأن أجره في السماء باق لا يزول...
نسمع في ولائم الأغنياء أصوات المزمار والقيثارات والأعواد، أما هنا فلا توجد أصوات غير لائقة، لكن تراتيل وترانيم ومزامير. هناك بالحقيقة يرتلون للشياطين، أما هنا فلسيد الكل، الله تعالَى. ترى بأي عرفان للجميل تمتلئ الواحدة وبأي نكران وجحود تمتلئ الأخرى؟ نعم فحينما يكون الله قد غذاك بخيراته تقدم لجلاله الشكر وتقول: "مبارك أنت يا رب لأنك غذيتني بخيراتك".
أما بعد الترفيه الزائد يكون البطر وأيضًا التُّخْمَة والسُّكر وقد يجعلان صاحبهما مثل العُرج والقُطْع، وكما تكون أجساد هؤلاء العميان والقُطع والعُرج تكون أرواح هؤلاء في الكبرياء والبطر والسكر أشد قبحا. وأولئك الذين يبحثون عن الكفاف وحده ولهم فلسفتهم في ذلك في ضياء جزيل...
هناك مسرات الدنس والضحك الخليع والسكر والمجون والكلام القبيح، وأما هنا فيغلب حب الإنسانية والعطف والوداعة والتعفف.
هناك القساوة عن طريق الظلم والخطف وقد تنتهي إلى اختلال الوعي والهذر وسائر مخلفات المجد الباطل، أما هنا فيطيب تقديم الشكر والمجد لله.
إن الذي يرحم الفقراء ويجلسهم إلى مائدته ينجيه الرب من الشدائد والضيقات في هذا الدهر ويخلصه من العذاب الأبدي في الدهر الآتي حينما يأتي ليدين المسكونة بالعدل ويجازى كل واحد حسب أعماله. الأولون يدخلون إلى الفرح بعدما يسمعون أمام العالم أجمع، "لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني كنت غريبًا فآويتموني" (متى 25: 35). أما الآخرون فيسمعون العكس، العبد الشرير الكسلان، وأيضًا ويل لكم أيها "الْمُضْطَجِعُونَ عَلَى أَسِرَّةٍ مِنَ الْعَاجِ، وَالْمُتَمَدِّدُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ، وَالآكِلُونَ خِرَافًا مِنَ الْغَنَمِ، وَعُجُولًا مِنْ وَسَطِ الصِّيَرةِ، الْهَاذِرُونَ مَعَ صَوْتِ الرَّبَابِ، الْمُخْتَرِعُونَ لأَنْفُسِهِمْ آلاَتِ الْغِنَاءِ كَدَاوُدَ، الشَّارِبُونَ مِنْ كُؤُوسِ الْخَمْرِ، وَالَّذِينَ يَدَّهِنُونَ بِأَفْضَلِ الأَدْهَانِ وَلاَ يَغْتَمُّونَ عَلَى انْسِحَاقِ يُوسُفَ" (عا 6: 4-6).
وقد يقول قائل أني أريد أن أتخذ بعض الأصدقاء لكن مثل هذا الإنسان فأنه ليس أتفه من الرجال الذين يصيرون أصدقاء عن طريق المائدة والتخمة... أما موائد الفقراء فلا توثق عُرَى الصداقة مع الناس بل مع الله. أنها صداقة متينة، فأهتم أن توطدها...
إن الله لا يطلب منا أن نعطي كثيرًا أو قليلًا، لكن ما لا يقل عما في مقدورنا. انظر إلى صاحب الخمس وزنات والذي له الوزنتان. "فأعطى واحدًا خمس وزنات وآخر وزنتين وآخر وزنة. كل واحد على قدر طاقته. وسافر للوقت" (متى 25:15). ولنفكر في التي ألقت هذين الفلسين "فجاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع " (مر 14: 42). وتلك الأرملة التي كانت في أيام أليشع (1مل 17). هذه التي ألقت الفلسين لم تقل، وأي ضرر يكون إذا احتفظت بالفلس الواحد لنفسي، وأعطيت الآخر؟ بل أعطت كل معيشتها. فلننظر أنفسنا في العطايا التي نقدمها لله... ولا نهمل أمر خلاصنا، لنوطد أنفسنا على الإحسان، فلا شيء أفضل منه وسوف يظهره الدهر الآتي، ويظهر في الحاضر أيضًا.
لنحيا إذن لمجد الله، ونعمل الأمور التي ترضيه لكي نحسب مستحقين للخيرات المنتظرة، ليتنا ننالها جميعًا، بالنعمة ومحبة البشر التي للمسيح يسوع ربنا، الذي له المجد إلى الأبد آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/youssef-habib/mercy/mercy.html
تقصير الرابط:
tak.la/xwtj7s2