في بدء السنة الجديدة وقف كثيرون يصلون، وارتفعت أكف الضراعة إلى الله...
ووسط صلوات الكثيرين، نريد أن نتحدث اليوم عن الصلاة: ما هي صلوات مقبولة، وأخرى غير مقبولة؟
وما شروط الصلوات المقبولة؟
إن الصلاة جزء من طبيعة الإنسان، كأنها غريزة... ومن هنا كان جميع الناس يصلون... حتى أن الوثنيين أيضًا يعرفون الصلاة... إن القلب بدون الله يشعر بفراغ كبير. فالله له وجود في حياتنا، ليس هو معتزلًا عنا، يسميه الكتاب المقدس: "عمانوئيل" أي الله معنا... ونلاحظ أن الطفل يقبل فكرة الله وفكرة الصلاة، بدون شرح، إنها فيه...
إن قلنا إن الإنسان اجتماعي بطبعه، نستطيع أن نطبق هذه القاعدة جسديًا وروحيًا أيضًا... فروح الإنسان تشتاق إلى الروح الكلي، وتجد لذة في الالتقاء به والجلوس إليه...
الصلاة إذن هي اشتياق إلى الله... روح الإنسان تشتاق إلى عِشرة أخرى غير عِشرة المادة... وفي داخل كل منا اشتياق إلى غير المحدود. واشتياق آخر إلى مثالية عالية غير موجودة في هذا العالم... ومِن هنا يلجأ الإنسان إلى الله ليشبع شوقه الروحي...
الصلاة هي أعمق ما في الروحيات... هي تَفَرُّغ القلب لله... هي عمل الملائكة، وعمل الإنسان عندما يتشبَّه بالملائكة... هي عمل النساك والمتوحدين الذين تركوا كل شيء من أجل محبتهم لله، ووجدوا في هذه المحبة ما يكفيهم وما يغنيهم.
الصلاة هي راحة النفس. هي الميناء الهادئ الذي ترسو عنده النفس بعيدًا عن أمواج العالم المتلاطمة. الصلاة هي واحة خضراء في برية العالم القاحلة... هي الوقت الذي تلتقي فيه النفس بِمَن يريحها. تجد القلب الكبير الذي تأتمنه على أسرارها وتستطيع أن تحدثه بكل صراحة عن متاعبها وعن ضعفاتها وسقطاتها. وهي موقِنَة تمامًا أنه لن يحتقر سقوطها، بل يقابلها بكل حنو، ويعينها على القيام، ويشجعها...
الصلاة هي خلوة النفس مع الله، هي لقاء مع الله، لقاء حب. هي التصاق بالله. هي تلامس قلب الإنسان مع قلب الله. هي تمتع النفس بالله... وفي هذا قال داود النبي: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب"، وقال أيضًا: "أما أنا فخير لي الالتصاق بالرب"...
الصلاة هي صلة بالله، وربما من هذا المعنى اشتق اسمها (اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)... وهكذا يكون الإنسان في حالة صلاة، إن وجدت هذه الصلة، وإن شعر بالوجود في حضرة الله، وإن أحس القلب أنه قائم فعلًا أمام الله، يتحدث إليه... ليس المهم هو طول الصلاة ونوع الكلام بقدر ما تتركز الأهمية في وجود صلة مع الله... إن لم توجد هذه الصلة لا يعتبر الإنسان مصليًا، مهما ركع ومهما سجد ومهما ظن أنه كان يتحدث مع الله... إن اللمبات الكهربائية مهما كانت قوية وجميلة، فإنها تكون عديمة الفائدة ما لم يَسِر فيها التيار... هكذا الصلاة...
الصلاة هي تقديس للنفس، هي رفع الفكر إلى الله، ورفع القلب إلى الله. وعندما يرتفع الفكر إلى الله، يبعد عن المادة وعن محبتها والانشغال بها، ويكون في مستوى أعلى، في مستوى روحي، وهكذا يتطهر الفكر بالصلاة ويتنقَّى، وكذلك القلب... ويدخل كلاهما في جو آخر له سموّه، يدخلان في عشرة الملائكة وأرواح الأبرار. وبمثل هذه الصلاة تبطل الأفكار الرديئة، وتبطل طياشة الأفكار، ويتجمع العقل في الله.
وبالصلاة يصل الإنسان إلى ما يسميه القديسون" استحياء الفكر" أي أن الفكر الذي يتقدس بالصلاة يستحى من التفكير في شيء رديء. وهكذا يخجل الإنسان من أن يستضيف في ذهنه فِكرًا شريرًا في الموضع الذي كان يوجد فيه الله في العقل في وقت الصلاة... وبهذا تساعد الصلاة على حياة التوبة والنقاوة...
لكل هذا كانت الصلاة رُعبًا للشياطين... فالشياطين يخافون جدًا من عمل الصلاة، ويرونه سعيًا لإمدادات إلهية ومعونات سماوية تصل إلى النفس، فتحطم قوَى الشياطين التي تحاربها. لذلك فإن الشياطين تحاول بكل قوتها أن تعطل الإنسان عن عمل الصلاة، ونقصد الصلوات الروحية التي تخيفهم... أما الصلوات الفاترة أو السطحية فلا يهتم الشيطان بمقاومتها. إنها لا تؤذيه...
إن الصلوات الروحية تسبب حسد الشياطين وتذكرهم بما فقدوه. وتشعرهم بالدالة الموجودة بين الله والإنسان فيتعبون... ويحاولون أن يمنعوا الصلاة. فإذا أصرّ الإنسان على الصلاة، يحاول الشياطين أن يشتتوا فكره، ويقدموا له تذكارات ومشاغل وأفكارًا ليجذبوه إلى شيء آخر بعيدًا عن الحديث مع الله.
الصلاة هي طعام الروح، هي غذاء الملائكة. هي عاطفة مقدسة تُغَذّي القلب... بل في أثنائها قد ينسى الجسد أيضًا طعامه، ولا يشعر بجوع. ومن هنا كان ارتباط الصوم بالصلاة. فعندما تتغذَّى الروح بالصلاة. ويمكنها أن ترفع الجسد معها وتشغله عن التفكير في طعامه، وتعطيه طعامًا آخر. وبهذا تستطيع الروح أن تحمل الجسد... الصلاة هي حركة القلب، حتى بدون كلام... إن الصلاة ليست مجرد حديث؛ فقد تكون خَفْقَة القلب صلاة، وقد تكون دمعة العين صلاة، وقد يكون رفع البصر إلى فوق، أو رفع اليدين نوعًا آخر من الصلاة... إن الله يفهم اللغة التي نخاطبه بها خارج حدود الألفاظ، كالأب الذي يدرك مشاعر ابنه وطلباته دون أن يتكلم... وهكذا يقول داود النبي لله: "أنصت إلى دموعي". ذلك لأن دموعه كان لها صوت خفي يسمعه الله...
الصلاة هي تسليم حياتنا لله، هي إشراكه في حياتنا، هي رفض من الإنسان أن يستقِل بحياته بعيدًا عن الله. فبالصلاة نطلب من الله أن يتدخل في حياتنا، ويدبرها حسب مشيئته الصالحة الطوباوية، معلنين في اتضاع أمام الله أننا لا نستطيع أن نعتمد على أذهاننا وحدها، وأننا لا نقدر أن نعمل شيء.
إن الصلاة شرف عظيم، بها نصعد إلى الله، وبها نتلاقَى معه، نحن التراب والرماد. وبالصلاة تتحول النفس إلى سماء وتتمتع بالوجود في حضرة الله والعجيب أنه مع هذا الشرف العظيم الذي للصلاة يمتنع البعض عن الصلاة، يمتنع التراب عن مخاطبة رب الأرباب خالق السماء والأرض الكلي القدرة...
ليست الصلاة تَفَضُلًا مِنَّا على الله، كما لو كنا نعطي الله شيئًا من وقتنا أو من مشاعرنا. وليست هي ضريبة يفرضها الله علينا. وليست هي عملًا نُغْصَب عليه بأمر سماوي. كلا، إنما الصلاة هي أخذ لا عطاء. بها نأخذ من الله بركات وعطايا ومواهب دون أن نعطيه شيئًا. وإن كنا نقدم لله وقتًا أو نقدم له قلبًا، فإنما لكي يملأ هذا القلب من محبته، ويقدس هذا الوقت ببركته... إن اعتقادنا الخاطئ في أن الصلاة إعطاء هو الذي يجعلنا في كبرياء وَتَمَنُّع. نُقَصِّر في أدائها، أقصد: نُقَصِّر في حق أنفسنا أولًا وقبل كل شيء، لأننا نحن المستفيدون من الصلاة وليس الله. فلنحاول أن نصلي، لكي نأخذ بركة ومعونة، ولكي نتمتع بالله، ولكي تتقدس قلوبنا وحياتنا كلها. وإن صلينا، ليتنا نعرِف كيف نصلي، وكيف نخاطب الله الذي له كل مجد وكرامة وعزة إلى الأبد آمين.
* من قسم كلمة منفعة: صلاة في بدء العام الجديد - الصلاة 2 - ليالي الصلاة - الصلاة المنسحقة - تدريب الصلاة في كل حين - لماذا نصلي؟ - كيف تصلي؟ - الصلاة 1
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/zjp9qba